إضاءات في الفلسفة الصينية: كتاب التاو دليل الإنسان إلى الحكمة والحقيقة


فئة :  مقالات

إضاءات في الفلسفة الصينية: كتاب التاو دليل الإنسان إلى الحكمة والحقيقة

إضاءات في الفلسفة الصينية: كتاب التاو دليل الإنسان إلى الحكمة والحقيقة

لعل أهم الأسباب التي ساهمت في تماسك الحضارة الصينية ومجتمعها لعشرات القرون، هي القيم الروحية التي شكلت جوهرها الأخلاقي والفكري، والتي أصبحت فيما بعد ديانة انبثقت من الجذور الفلسفية الأولى في تاريخ الصين القديم. إن الحياة الروحية عند الصينيين قامت على أسس الفلسفات الأخلاقية، ومن هنا نستطيع القول إن الفرد الصيني إذا كان متديّناً؛ فإنه يأخذ دينه بصبغة فلسفية إنسانية قبل كل شيئ. لقد كان للفلسفة في الثقافة الصينية الدور الذي لعبه الدين في الثقافة الأوروبية والشرق أوسطية. وهذا ما سيقودنا إلى التأمل والتفكير في النشأة الأولى للفلسفة الصينية على يد أهم مؤسسيها، لاو تسو صاحب كتاب التاو الذي لم يترك شاردة ولا واردة إلا وذكرها ابتداءً من النشأة الأولى للكون إلى أدق التفاصيل وأصغرها في الأرض، وصولاً إلى الإنسان الذي يحيا حياة متوازنة وحكيمة. ثم الكونفوشوسية التي مثلت أساس الفلسفة الأخلاقية والسياسية في المجتمع الصيني منذ القدم إلى وقتنا الحالي.

وإذا كان ثمة طقوس دينية للتعبد والتأمل؛ فإن هذه الطقوس لم تتوجه إلى إله مستقل عن الخلق والكون، وإنما كان هدفها الإنسان قبل كل شيء؛ لأنه الجوهر الذي يستطيع أن يرتقي بتأملاته الباطنية إلى مستويات من الوعي تصله مع اللامتناهي الذي تتوحد بداخله الأضداد، وتولد منه دورات الحياة وتعود إليه مرة أخرى. وعلى الرغم من أن الميثولوجيا الصينية حافلة بالآلهة من شتى الأشكال والاختصاصات، إلا أن هذه الآلهة لم تكن في حقيقتها سوى عدد من الأسلاف الأسطوريين الذين رفعهم الخيال الشعبي إلى مراتب عليا. أما المصدر الحقيقي لقدرة الآلهة الصينية، فهو مفهوم مجرد عن الألوهة المفارقة الذي ينبع من تصور واضح لإله يتربع على عرش الكون، ويتحكم فيه عن بعد، بل يتمثل في قوة السماء التي يدعونها تي_ يين، والتي عبدت في الصين منذ أقدم عصورها. وقوة السماء كما يرى كونفوشيوس، هي عناية متضمنة في صلب النظام الطبيعي، وليس من خارجها.

مدخل إلى التاو

يعدّ "كتاب التاو" رغم صغر حجمه وكلماته التي لا تتجاوز عدد كلمات مقالة في صحيفة، دليلاً للإنسان في بحثه عن حياة حكيمة وذات معنى، وإذا كان التاو أراد أن يخبرنا عن شيء وبإيجاز شديد ومقتضب، فإنه سيخبرنا عن الإنسان الذي ولد وولدت حقيقته معه، بل حقيقة الوجود والكون برمته. يمثل "كتاب التاو"، والكتب التي تلته في الفلسفة الصينية لكونفوشيوس ومنشيوس الأسلوب المعبر عن الفلسفة من خلال قوة الشذرة في الفلسفة ومدى تأثيرها مقابل الأنساق الفلسفية الكبيرة ونظريات المعرفة؛ فالفلسفة الصينية تختلف عن غيرها من الفلسفات بأنها ليست قائمة على الجدل والبرهان والمقدمات كما في الفلسفة الإغريقية، وغير نسقية أيضاً كما في فلسفة عصر النهضة وبعده في أوروبا. لذلك، تعدّ الفلسفة الصينية من أقدم الفلسفات التي وصلتنا عن طريق الشذرات والومضات الشعرية المكثفة، والأقوال المأثورة التي تتصف بالإيجاز، وقوة الإيحاء، والدلالة. إن المتفحص والمتأمل بحدسه العميق لكتاب التاو وشذراته المكثقة، سيتوصل إلى نتيجة مفادها أن كل ما كتب من فلسفات ومعتقدات فكرية ونظريات في العلوم تفسر حركة العالم ونشأة الكون، ما هي إلا شروحات وهوامش ضخمة لكتاب التاو.

فما هو التاو، وماهي الدائرة الفارغة التي انبثق منها التاو، وكل شيء في الكون والوجود؟

التاو في اللغة الصينية يعني الطريق، ولكن ليس الطريق الذي يتحدد بخط يربط بين نقطة وأخرى، بل الثابت الذي يؤدي إلى كل حركة، فالطريق لا ينتقل من مكان إلى آخر، لكنه يقود الأشياء في حركتها وتنقلها. الطريق هو أصل الحركة وجذرها الثابت في الوقت نفسه.

كان كتاب التغيرات هو النبع الذي نهلت منه الفلسفة الصينية بفرعيها التاوية والكونفوشوسية معينها. وأسست من خلاله الجذور الأولى لتلك الفلسفتين. تقوم حكمة التغيرات على عدد بسيط من المفاهيم الأساسية، فلدينا أولاً مفهوم التغيير الذي يشكل الأرضية العامة لفلسفة الكتاب. فكل شيء يجري ويجري دون توقف كماء النهر، لكن التغيير يحدث على أرضية ثابتة غير متغيرة، هذه الأرضية الثابتة هي التاو. والتاو ليس الاسم الذي يطلق على المبدأ الكلي في حالته الكمونية قبل صدور الموجودات عنه، بل على المبدأ الكلي بعد صدور الموجودات عنه وتخلله فيها. يرمز الفكر الصيني إلى المبدأ الكلي بدائرة فارغة، وفي حالته الثانية يرمز إليه بدائرة اليانغ _ ين. ففي البدء، صدرت الحركة عن المطلق الساكن، فأنتجت القوة الموجبة (يانغ)، وعندما وصلت الحركة إلى منتهاها انقلبت إلى سكون، والسكون أنتج القوة السالبة (الين)، وبهذه الطريقة أنتج السكون والحركة بعضهما بعضاً، ودار اليانغ على الين فأنتجا العناصر الخمسة: الماء، والهواء، والنار، والتراب، ومن العناصر الخمسة ولدت الآلاف المؤلفة من مظاهر الطبيعة في عالمنا المادي القائم على القطبية والتغيير المستمر.

إن الدائرة الفارغة تبقى بلا اسم. أما الدائرة يانغ _ ين التي أنتجت الكون يطلق عليها التاو؛ فالدائرة المنشطرة إلى قسمين يمثل فيها اليانغ الجانب المضيء، والين الجانب المظلم، وكل جانب منهما يحتوي على نقطة من الجانب الآخر. أي أن كل شيء يتحول إلى نقيضه في حركة عكوسية ترجع به إلى نقطة البداية، وكل شيء يحتوي في صميمه على بذرة من نقيضه تنمو تدريجياً. إذن، يمكننا القول إن التاو هو الوحدة الجوهرية لكل المتغيرات في الكون والعالم، وهو نتاج هذين القوتين القطبيتين المتمثلتين بالسلب والإيجاب، والتاو يحوي بداخله جميع الثنائيات والأضداد، لكن تلك الأضداد لا يلغي أحدها الآخر، ولا يحل محله، لكن الضدين يكمل كل منهما الآخر، فلا وجود للنهار بدون الظلام، ولا وجود للخير بدون الشر، ولا وجود للحياة بدون الموت. فالأضداد تنشأ معاً وكل ضد يتخذ معناه في ضده، حيث الوجود وكل مظاهره في حالة تناوب تلقائي. ينشأ النفي من الإثبات، والإثبات من النفي، وكلاهما يتمازجان في الواحد اللانهائي.

إن الآلاف المؤلفة من مظاهر الطبيعة والكون، ومن عمليات الموت والولادة والتبدل منشؤها التاو، وهو ليس قوة مفارقة، وإنما شبكة لا نهائية ينتظم عملها بصورة تلقائية وطبيعية في أصغر الأجزاء وأدقها في الوجود، حيث يتجسد الجزء في الكل، وتتحد الكثرة في الواحد. أما الواحد، فهو يفيض إلى مظاهر حية وجامدة إلى مالا نهاية، وفي أشكال وصور مستمرة. إن هذا الفعل لا ينشأ من خطة مسبقة أو من فعل إرادي في عقل مستقل مفارق، وإنما بطريقة عفوية من الفعل التلقائي، وهي أشبه باللافعل أو العدم الساكن. إن الفارق بين مفهوم التاو ومفهوم الإله الخالق، هو أن الإله خلق العالم بواسطة الفعل. أما التاو فبواسطة اللافعل. لأن الخلق الإرادي يتم فيه التشكيل من الخارج إلى الداخل، كما هو الحال تماماً في عملية صنع التمثال، حيث نقوم بإزالة الطبقات الخارجية للحجر وصولاً إلى الشكل الذي نريد. أما في الخلق غير الإرادي، فإن التشكيل يتم من الداخل نحو الخارج وبشكل تلقائي كما النبتة أو الزهرة، حيث تتشكل الأجزاء وتتكامل في كل موحد انطلاقاً من الباطن الذي يتجه نحو الظاهر.

إذن، فالأشياء في المفهوم التاوي تنشأ تلقائياً وبشكل متزامن معاً في معزل عن السببية، وكل عنصر في هذا العالم يبدو وكأنه مركز العالم. تماماً كما هو الحال في سطح الكرة، حيث تتخذ كل نقطة عليه دور المركز. فحياة أصغر الكائنات على الأرض تتطلب كوناً بأكمله ليسندها، وهذا الكون كان موجهاً منذ البداية لإنتاج هذه الحياة الصغيرة البالغة في التعقيد. ومن هنا، فكل عنصر من عناصر الكون يشبه الخلية الحية التي تتبادل الأثر والتأثير في سلسلة مترابطة لا تعرف العلة والمعلول، حيث التاو هو الخميرة الفاعلة في الباطن، والعمليات الجارية في العالم المادي هي الظاهر. فالتاو هو الظاهر والباطن، موجود في كل شيء ومستقل عنه في الوقت نفسه. لا يوجد فكر محرك في الكون ولا عقل مدبر، بل تلقائية وصيرورة طبيعية. إن عقل التاو متجلٍّ في كل مظاهر الوجود، لكنه لا يشعر بعقل خاص به، وحيطته تشمل كل شيء، ولكنه لا يشعر ب (أنا) خاصة به. لا يفرض التاو نفسه سلطاناً على العالم وكائناته، ومع ذلك فإن كل نفس حية منقادة بطبيعتها في مجراه ومتعلقة به. ومن هنا، فإن حريتها هي عين تماثلها مع التاو، وعبوديتها هي التنكر له، والتعلق بالأنا الوهمية الزائلة.

يعرف التاو بدون مفاهيم ولا تفكر عقلي، يمكن مقاربته بالفراغ أو باللاشيء، إذن فهو صامت وفارغ، ولكنه لاينضب، إنه الشكل الذي لا شكل له، والصورة التي لا صورة لها، بلا تحديد ويتجاوز كل خيال. يقول لا وتسو في كتاب التاو أيضاً: "أسبقه لا ترى له بداية، واتبعه لا ترى له نهاية، لا يمكن لنور أن يجعله أكثر وضوحاً، ولا لظلمة أن تجعله أكثر عتمة، يستمر بلا انقطاع، ولكنه يعود إلى العدم، عظمته امتداد في المكان، الامتداد في المكان يعني امتداداً بلا نهاية، الامتداد بلا نهاية يعني العودة لنقطة المبتدى"، رغم ذلك فإن هذا اللاتعريف واللاتوصيف لدائرة التاو، إلا أنه يعتبر منشأ كل الظواهر الحية والجامدة، إنه العدم الخلاق الذي يحوي في داخله جوهر الوجود، يمكننا مقاربته بالصفر الرياضي الذي لا تقوم للأعداد قائمة بدونه، فالواحد يليه اثنان ...ثلاثة..، لكن الواحد لا يوجد إذا لم يكن مسبوقاً بصفر.

العدم والفراغ واللاشيء

يقول لاوتسو في كتاب التاو: "الوجود واللاوجود ينجمان بعضهما عن بعض. والآلاف المؤلفة ولدت من شيء، والشيء ولد من لا شيء".

تؤكد الفلسفة الطاوية، أن الوجود والعدم يحيطان بالأشياء وبالعالم من حولنا. فقد لا يوجد شيء من لاشيء بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن الشيء لا يمكن أن يوجد بدون اللاشيء. تماما ً كالسلب والإيجاب، فقوة السلب هي القوة المحركة للوجود، وهذا ما سيأخذنا إلى الفضاء والمادة. فالفضاء هو الفراغ أو اللاشيء، لكنه لا يمكن أن يوجد بدون مادة. فكل فراغ أو فضاء يحيط بالمادة يساعد على إبراز حوافها وإظهار شكلها بطريقة منتظمة ومتناسقة. يعطينا لاوتسو أمثلة عملية عن وظيفة العدم أو الفراغ وضرورته بالنسبة إلى الوجود. فالدولاب لا يدور بدون الفراغ الموجود عند المحور، والإناء لا يصلح للاستعمال بدون الفراغ الذي يحتوي شكله الخارجي، كذلك المنزل ووما يحتويه من غرف لا يمكن أن يصير مكاناً بدون الفراغ المتسع بين الجدران، وينطبق هذا على كل شيء يتخذ هيئة وشكلاً في العالم الخارجي، فالشيء لايكون شيئاً ولا يكتسب وظيفته إلا بفعل اللاشيء أو الفراغ المحيط به. كذلك لا يوجد الفراغ إلا حيث يوجد الشكل، وكل الأشكال تقع في حيز الفراغ، ومن هنا يكتسب كل من الشيء واللاشيء معناه من الآخر على مستوى المادة والشكل والوظيفة.

مفاهيم تاوية لفن العيش الحكيم

أولاً:.. (العدم أو اللافعل)

تهدف الحكمة عند التاويين إلى معرفة كيف نستطيع العيش في هذا العالم؛ فالحياة هي الحفاظ على حالة من التوازن بين القطبين المتضاديين؛ لأنه لا قيام لأحدهما بدون الآخر. إن الحكيم هو الذي يدرك قطبية وجوده، ووجود العالم، وصيرورة الأحداث فيه، فيرى في كل مظهر (لليانغ) بذرة (ين) تنمو في أعماقه، وفي كل مظهر للين بذرة يانغ أيضاً. والحكيم هو من يماثل حركة التاو ودورانه. من خلال عملية تسمى باللافعل، وهذه العملية هي تلقائية التاو في مساره وحركته بين العدم والوجود، وبين السالب والموجب. يقول لاوتسو: "التاو ليس من شيمته الفعل، ولكنه لا يترك شيئا ًبحاجة إلى إتمام". ومن هنا، فإن الحكيم الذي يتحرر من أناه الفردية ومن رغباته، يستطيع أن يرى الثابت خلف كل المتغيرات، ورؤية الثابت خلف كل متغير هو بقاء في الأبدية، وهو بهذه الحالة يكون في تماثل مع اللافعل أو العدم، واللافعل ليس المقصود به الراحة أو الكسل، وإنما هو تناغم مع إيقاع الكون والطبيعة، وعدم التدخل في مسار الأشياء والأحداث. وهذا يعني أن ينجز الإنسان عمله دون قسر باستخدام أقل قدر ممكن من القوة، وذلك عن طريق السير مع التيار لا ضده. إنه أشبه بالملاحة الشراعية التي تستفيد من حركة الهواء واتجاهاته الطبيعية، وبالسباحة التي تستفيد من خصائص دفع الماء. كذلك تعلم التاوية التحرر من إغواء الحواس والبحث عن الحقيقة في المركز الداخلي الساكن، والتحرر من الحواس لا يعني كبتها أو قمعها قسراً، بل تركها حرة تنشط بتلقائية من خلال اللافعل وعدم التوقف عند الحدود السطحية لما تقدمه، بل الغوص نحو الهارموني الكلي الذي تتلاشى عنده مؤثرات العالم الخارجي. فعندما يكون الإنسان وصيرورة الطبيعة شيئاً واحداً، تذوب الحدود بين الذات والموضوع وتتجلى النفس العارضة في الأشياء، ومن خلال اللافعل وعدم التدخل في مسار الأشياء يكسب الإنسان العالم ويحقق حالة من التوازن مع الكون، لذا فإن الحكيم على حد تعبير لاوتسو هو من يعرف دون أن يتحرك خطوة، ويميز دونما حاجة إلى نظر، وينجز دونما حاجة إلى فعل.

ثانياً: معرفة الأنا والبراءة الأصلية للإنسان

يدعو لاوتسو أيضاً إلى الحفاظ على البراءة الأصلية التي يتصف بها الناس، وعدم تعريضهم إلى ذلك النوع من المعارف الذي يثير الرغبات ويفقدهم طبيعتهم النقية، فالناس وفقاً للاوتسو يتكئون على حواسهم، وعلى الحكيم ألا ينير عقولهم ويفسدها، بل أن يتعامل معهم جميعاً كالأطفال.

إن حالة الجهل التي يرى لاوتسو ضرورة إبقاء الناس فيها هي تلك التلقائية العفوية التي لم تفسدها مفاهيم المجتمعات المدنية وقيمها، تلك القيم التي تشجع على التنافس والتناحر والتفوق على حساب الآخرين.

أما بالنسبة إلى المعرفة، فإن التاوي يتجاوز المعارف التقليدية التي لا تنفع في التعامل مع الحقائق الكلية، ويواجه العالم بعقل فارغ؛ لأن التاوي لا يهدف إلى إقامة علاقة معرفية مع العالم، ولا يقوم بتكديس المعارف التقليدية من أجل تحليل وفهم ما يقع تحت بصره، بل إلى إقامة علاقة اختبارية مباشرة بهدف تذوق جمالية الأشياء واكتشافها في ذاتويتها. فالمعرفة عند التاوية هي استلهام الطبيعة الأصلية عند الإنسان قبل أن تشوهها المدنية والحضارة. والمعرفة الحقيقية هي معرفة الذات؛ فعندما يتوصل التاوي إلى معرفة ذاته يعيش في اللاإنية التي توحده بالآخرين والعالم.

ثالثاً: كن ليناً وضعيفاً

يتطرق لاوتسو إلى مفهوم اللين والضعف في الوجود، لكن ليس الضعف النابع من الفجوة النفسية التي تخلفها الأنا ورغباتها، وإنما ذلك اللين الذي يحوي في داخله طاقة الحياة المتفجرة وقوتها الخلاقة، وهو بهذا يشبه النهر الذي يشق الصخور، ويجري في منحدرات الجبال، ويصب في البحار والمحيطات. إن فورة القوة دائما ًما يتبعها الوهن، والجنوح إلى اللين هو ما يدعى قوة. يرى لاوتسو أن الرقة واللين هي من علائم الحياة، أما الصلابة والقسوة، فهي من علائم الموت. يقول لا وتسو: "الجسد الحي رقيق ولين، وكذلك العشب والشجر النامي. الجسد الميت صلب وقاسٍ، كذلك العشب الذاوي والشجر اليابس. ألين الأشياء في العالم يقوى على أقسى الأشياء في العالم، فلا مادة له ينفذ إلى ما لا ثقوب له. من هنا جدوى ألا تتدخل في مسار الأشياء، وأن تعلم دون كلمات".

الأخلاق والمجتمع في الفلسفة التاوية

لا تأبه التاوية للأخلاق المفروضة علي الإنسان من الخارج، ولا تستند إلى أي شريعة أو مرجع عقلي في الأخلاق، بل ترى أن السلوك التلقائي للأفراد سوف ينحو منحى أخلاقياً إذا تركوا على سجيتهم. فتعاليم الاستقامة وأفعال الخير لا ضرورة لها عندما يعيش الناس وفقاً لطبيعتهم الأصلية؛ فالمفكرون الذين يعملون على إصلاح المجتمع لا مكان لهم عندما يسود التناغم علاقات الأفراد والجماعات. فعندما يسود التاو في المجتمع مثلما يسود في الكون والطبيعة، تفقد التعاليم الأخلاقية ضرورتها؛ لأن مثل هذه التعاليم هي بنية مصطنعة مفروضة من الخارج ولا تنبع من داخل الإنسان. فالقطط التي ترضع صغارها وتعطف عليهم، والطيور التي تطعم فراخها، هي غرائز تلقائية تجري مع صيرورة الطبيعة وقانونها، ولا تنبع من التعلم أو السلوك، كذلك يجب أن تكون أخلاق الفرد في علاقته مع الأسرة والمجتمع. ومن هنا تصبح البراءة والبساطة صورة حقيقية للمجتمع الإنساني؛ لأنها في تناغم دائم مع إيقاع الطبيعة. فإذا عاد الجميع إلى طبيعتهم الأصلية غير المصقولة، تلمس كل واحد في صميمه ذلك المنبع الحقيقي للمحبة بشكل تلقائي، فأحب دون أن يسمي ذلك حباً، وتعاطف دون أن يسمي ذلك تعاطفاً.

إذا كان كل ما في الكون ينتظم من تلقاء ذاته وفق قوانين التاو الداخلية، ومن غير حاجة إلى تدخل قوة خارجة، فينبغي على المجتمع الإنساني أن يعي نفسه بالدرجة الأولى كظاهرة طبيعية، لا كظاهرة ثقافية، وألا ينسلخ عن التلقائية الكونية الفاعلة من الداخل.

إن القيام بعمل الخير دون قصد وتصميم على إتيان الخير هو شكل من أشكال اللافعل؛ لأن الخير هنا نابع من الذات الطبيعية وشامل لكل خطوة يخطوها الإنسان. أما القيام بالخير عن قصد وترقب للنتائج، مادية كانت أم معنوية فهو شكل من أشكال الفعل، فالفضيلة الناجمة عن الفعل تبقى غير كاملة، أما الفضيلة الكاملة فهي الناجمة في جوهرها عن اللافعل أو اللاجهد.

يقول لا وتسو: "رجل الفضيلة الكامل، لا يشعر بفضيلته...لذا فهو رجل فاضل، أما البعيد عن الفضيلة؛ فهو مشغول بها على الدوام. لذا، فهو رجل غير فاضل. رجل الفضيلة لا يفعل ومع ذلك لا يترك شيئاً بحاجة إلى إتمام، أما البعيد عن الفضيلة يفعل ومع ذلك يترك أموراً بحاجة إلى إتمام".

عندما تظهر الشرائع المفروضة من قبل أية سلطة، فإن ذلك مؤشراً على وجود خلل في المجتمع كما يذهب لاوتسو؛ لأن المجتمع السليم المتماشي مع سبيل التاو لا يتطلب شريعة أخلاقية تنظم علاقات أفراده، فالمجتمع الذي تسوده الشرائع والقوانين ولوائح العقوبات، والرغبات التي تتعدى الرغبات الجوهرية والأصيلة عند الإنسان، هو مجتمع يكثر فيه الفقر والمرض، واللصوص والمجرمون. فإذا أفلح الحاكم في خلق مناخ دائم يساعد كل فرد على أن يسلك سلوكه بحرية وتلقائية، وعلى تحقيق ذاته لا على توكيدها، ساد النظام من تلقاء نفسه، وغدا الحاكم نفسه بلا ضرورة.

ورد في كتاب التاو: "لا أقوم بأي فعل والناس يتغيرون من تلقاء ذاتهم...أميل إلى حالة السكون، والناس ينصلحون من تلقاء ذاتهم...متحرر من الرغبات والناس يصيرون بسطاء كالجلمود الخام".

الفن والشعر في الفلسفة التاوية

أنتجت التاوية مدرسة شعرية استمدت موضوعاتها من علاقة الإنسان بالطبيعة، سميت فيما بعد ببوذية الشان، والتي نتجت عن تمازج البوذية القادمة من الهند مع التاوية في الصين، وفي عصرنا الحديث أطلق عليها "بوذية الزن"، وهي الصيغة اليابانية لبوذية الشان الصينية. وتنتشر بوذية الزن على نطاق واسع في العالم من خلال الكثير من المدارس والمعابد. ولبوذية الزن دور كبير في علاج الاضطرابات النفسية، والاختلالات السلوكية، وهي تضاهي أحدث الأساليب العلمية المبتكرة في علم النفس الحديث وطب الأعصاب. لكن ما يهمنا في هذه الفقرة هي طريقة الزن التي تجعل الإنسان يتوحد مع الأشياء والعالم، فيخرج من كينونته الوهمية، ومن أناه الوهمية، ليتلاشى في الأشياء ويذوب فيها، فعندما يتأمل الإنسان الشجرة أو الزهرة بعمق، يصبح هو الشجرة والزهرة، وتنبض روح الطبيعة في أعماقه.

لقد كان للتاوية أثر بالغ على الفن الصيني الذي انطبع بروح التاوية بالدرجة الأولى، فاستمدت موضوعات هذا الفن من الطبيعة في تلك المشاهد الحافلة بالأشجار والأزهار والطيور، والتي غالباً ما نرى فيها رجلاً جالساً في سكينة وتأمل، يتفكر في المبدأ الكلي الذي يجاوز الإنسان والطبيعة، وهذا الرجل لا يشغل سوى مساحة ضئيلة من اللوحة، كما أنه ليس شخصاً بعينه؛ لأن حضوره ليس إلا تكميلاً للمشهد الطبيعي، عكس الفن الأوروبي الذي يشغل فيه الشكل الإنساني معظم اللوحة.

تقول أحد أشعار الزن التي تعبر خير تعبير عن روح التاوية: "ألبث في سكون...لا أفعل شيئاً.. الربيع يأتي والعشب ينمو من تلقاء ذاته".

"لا يوجد حولنا ما هو مخبوء وخاف.. منذ القدم كل شيء واضح كوضوح النهار ...الصنوبرة العتيقة تنطق بالحكمة المقدسة...وهذا الطير ينبىء بالحقيقة الخالدة".

الكونفوشوسية والقانون الأخلاقي

كان كونفوشيوس فيلسوفاً سياسياً وأخلاقياً، ورائداً في مجال التربية والتعليم، واستطاعت فلسفته أن تهيمن على الفكر الصيني حتى العصور الحديثة. يعتبر الصيني نفسه كونفوشوسياً حتى في حال انتمائه إلى الأديان الوافدة: كالبوذية، والمسيحية، والإسلام. وقد اعتبر كونفوشيوس نفسه معلما ًبالدرجة الأولى، ينقل إلى تلاميذه معارف الأولين، لكن إبداعه تجلى في تفسيره لما ينقل، وإضفائه بعداً أخلاقيا ًعليه.

لقد صاغ كل من لاوتسو، وكونفوشيوس تعاليمهما بطريقة حكيمة بعيدة عن الطابع الديني الذي يميز تعاليم أصحاب الرسالات الدينية، كما أن أيا منهما لم يعتبر نفسه رسولاً من قبل السماء، يوصل مشيئتها إلى عالم البشر، بل إنساناً يعمل على التلاؤم مع النظام الكوني الذي يعكس المشيئة التلقائية للسماء؛ فالإنسان ليس كائناً مستقلاً عن الطبيعة والكون.

يرى كونفوشيوس أن القانون الأخلاقي في حياة الأفراد والمجتمعات مرتبط ارتباطاً وثيقاً بقوة السماء وحضورها الروحي، وعلى هذا الأساس يجب أن يكون القانون الأخلاقي متناغماً مع الإنسان والطبيعة. لذلك يركز كونفوشيوس على ضرورة إدراك النظام الخفي للكون، وكيفية انسحاب هذا النظام على الإنسان والكائنات الحية؛ لأن مثل هذا الإدراك من شأنه أن يضع الفرد والمجتمع في حالة تامة من التناغم مع الكون والطبيعة، وهذا ما يهيئه لتبني السلوك الأخلاقي بشكل تلقائي من غير حاجة إلى تلقين أو اتباع لوائح أخلاقية موضوعة.

وبناءً عليه، يرى كونفوشيوس أن الإنسان مجبول على فعل الخير، وأن الطبيعة الأصلية للإنسان هي طبيعة خيرة بالدرجة الأساس، لذلك فعلى الإنسان أن يقوم بفعل الصواب دون إكراه خارجي أو التزام، ولا يجب أن يقوم به من أجل منفعة أو مصلحة؛ فالإنسان النبيل يدفعه الصلاح والمحبة التي تعتبر جوهر الفضيلة في الكونفوشوسية، فالإنسان المحب ينجز واجباته في حياته الخاصة والعامة، أما الإنسان الوضيع تدفعه الغاية والمنفعة.

كذلك يعتقد كونفوشيوس أن المرء معيار نفسه؛ فسلوكه الأخلاقي هو الذي يحدد علاقاته مع الآخرين، وهو القائل: "عامل الناس كما تحب أن يعاملوك".

تعتبر فلسفة كونفوشيوس فلسفة إنسانية أخلاقية قبل كل شيء، تركز على إصلاح المجتمع والفرد، لذلك لم يكن لديها متسع لعوالم الميتافيزيقيا والغيبيات، ولم يكن لدى كونفوشيوس نظرية في نشأة الكون والخلق، ولم يتطرق لذكر الآلهة التقليدية في الديانة الصينية.

الكونفوشوسية الجديدة عند منشيوس

ينتمي منشيوس إلى الجيل الخامس الذي تلا كونفوشيوس؛ أي بعد أكثر من مائة سنة على وفاته، وهو ينظر إلى نفسه كخليفة للمعلم الأول، وتلميذ غير مباشر له.

يعد منشيوس الأكثر تأثيراً في الفلسفة الكونفوشوسية بعد المعلم الأول، فقد كان يرى أن الطبيعة الخيرة الأصلية عند الإنسان منبعها في بداية الأمر من التعاطف، وهي ليست حكراً على الخير والشرير من البشر.

يقول منشيوس في كتابه: "كل البشر يتمتعون بقلب رحيم يأسى لعذابات الآخرين، فلو أن إنساناً رأى طفلاً رضيعاً على وشك السقوط في بئر، وهو يزحف نحوها، سيتحرك بداخله شعور بالجزع والتعاطف، لا طلباً للشكر والعرفان من أبوي الطفل، ولا طمعاً في المديح من جيرانه وأقربائه ولا لنفوره من سماع صراخ الطفل."

ومن هنا يرى منشيوس أن التعاطف الذي يحصل فجأة عند الإنسان؛ يحصل بدون تفكير أو تأمل، ولذلك فهو منبع الطبيعة الخيرة عنده، وبداية المروءة التي تشكل جوهر كل الفضائل الإنسانية الكبرى. وعلى الإنسان أن ينمي هذه الغرائز الأخلاقية الطبيعية التي تبدأ بالتعاطف، لتنمو وتتفتح كما تتفتح الزهرة من البرعم، وهذه الغرائز المتناغمة مع إيقاع الكون هي التي تجعل الإنسان إنساناً وتميزه عن الحيوانات، إلا أن منشيوس يعتقد أن من يهمل هذا الفارق بين الإنسان والحيوان، ليس فاقداً لطبيعته الأصلية، وإنما ضلًّ عنها بتأثير عوامل خارجية قاهرة.

يقول منشيوس: "لدى الإنسان استعداد فطري لأن يكون خيراً، وهذا ما أعنيه بقولي إن الطبيعة الإنسانية خيرة. أما إذا مال الإنسان لفعل الشر، فإنه لا يصدر في ذلك عن خصائص فطرية."

يحذو منشيوس حذو معلمه كونفوشيوس في نقد مبدأ المنفعة في الجانب الأخلاقي، لكنه يرى أنه لا يوجد تعارضاً بين المنفعة والدافع الأخلاقي، فالأخلاقي يعمل أحياناً بدافع المنفعة وحسابات الربح والخسارة، ولكن عندما تتعارض المنفعة مع الفضيلة، فإنه يضحي بالمنفعة لحساب الفضيلة.

 

 

مصادر ومراجع معتمدة في المقال:

ينظر:

1-لا وتسو، كتاب التاو تي - تشينغ إنجيل الحكمة التاوية في الصين، صياغة عربية للنص، تقديم وشرح وتعليق فراس السواح، دار علاء الدين للنشر والترجمة ولتوزيع، دمشق، ط1، 1998

2- فصول من الفلسفة الصينية مع النص الكامل لكتاب الحوار لكونفوشيوس وكتاب منشيوس، فراس السواح، مؤسسة هنداوي، 2022