إقرار الشورى ونقد الديمقراطية في الفكر السياسي العربي المحافظ على الأصيل والمتحفظ على الدخيل


فئة :  مقالات

إقرار الشورى ونقد الديمقراطية في الفكر السياسي العربي المحافظ على الأصيل والمتحفظ على الدخيل

إقرار الشورى ونقد الديمقراطية في الفكر السياسي العربي

المحافظ على الأصيل والمتحفظ على الدخيل

إن الخلاف الذي طال مفهوم الشورى قد لفّه الغموض وغلفه الالتباس؛ إذ يصعب والحالة هذه أن نستقر عند تحديد واحد لهذا المفهوم لتعدد تفاسيره وتشعب الآراء حوله، فضلا عن ارتباطها بسياقات تاريخية تتصل بالحروب أكثر من اتصالها بشؤون حياتية أو سياسية أو اجتماعية، دون أن ننكر أنها قيمة أخلاقية قبل أن تكون سياسية، من حيث هي سلوك واجب عند اتخاذ القرار وطريقة إنسانية لطيفة في التعامل، والسلوك متعلق بالفرد لا بالمؤسسات أو الجماعات، زيادة على أن ارتباطها بالدين قد أجهز على مبادئ التشريع فيها، فهي لا تقوم على مبدأ فصل السلطات[1] لمونتيسكيو شأن الديمقراطية؛ لأن هذا المبدأ وجد بهدف التشريع والتنفيذ والمراقبة، والشورى طبقا لهذا المبدأ تنص على التنفيذ والمراقبة فقط. أما التشريع، فهو أمر مكفول من عند الله، لذلك يقول فهمي هويدي الذي يمثل الاتجاه الانتقائي: "الديمقراطية التي نقبلها ونعتبرها مقابلا للشورى، أو ترجمة معاصرة لها، هي تلك التي لا تحل حراما ولا تحرم حلالا"[2]، ولما كان الأمر كذلك، فإن الديمقراطية تتنافى مع تعاليم الإسلام، وأن محاولة غرسها في الأرض العربية الإسلامية لهو مخاطرة ومجازفة، وعلى هذا، نجد أن بعض السلفيين شن عليها حربا شعواء، فهذا الشيخ يوسف القرضاوي يقول: "لا يستحق حل شرف الانتساب إلى الإسلام، ما لم يكن مصدره الإسلام الخالص، لا الماركسية ولا المادية، ولا الديمقراطية ولا الرأسمالية، ولا الليبرالية وغيرها من مذاهب البشر، وفلسفات البشر أيا كانوا. الحل الإسلامي إذن هو أن يطوع كل الأوضاع، وكل الأنظمة لأحكام الإسلام، وليس هو الذي يطوع أحكام الإسلام لأوضاعه وأنظمته. فالإسلام يعلو ولا يعلى، يقود ولا يقاد، يوجه ولا يتوجه؛ لأنه كلمة الله، وكلمة الله هي العليا"[3]، ولو سلمنا بمسألة التطويع عند القرضاوي، وقلنا إن الديمقراطية يجب أن تخضع لمبادئ الإسلام فهذا ليس بالأمر السهل، فهو من قبيل الفوضى والعبث، بل والأكثر من ذلك، أراد القرضاوي أن يهول من قيمة الإسلام، ويهين قيمة الأنظمة المنقولة إلى الثقافة الإسلامية، والحقيقة أن هذا التطويع إنما يهدر المفهوم في جوهريته وينخر في مبادئه، ولو جاز للديمقراطية أن تشاكس الإسلام لما ارتضت أن تتخلى على مبادئها التي تتحدد في الحرية والمساواة والعدل والتشريع بواسطة فصل السلط. ولهذا الاعتبار، فقد استدرك القرضاوي ما زل فيه، فقلب حماسه وتسرعه تريثا وتؤدة، فرأى أن هناك بعض الأنظمة تستحق الاقتباس، كالديمقراطية، على أن يطلى هذا المفهوم بطلاء إسلامية عن طريق استنباط حكم شرعي حوله بما لا يتعارض مع التعاليم الإسلامية، "فلا يضرنا أن هذه الجزئية بالذات (اقتباس الأمور الدنيوية كالديمقراطية) أخذت من نظام غير إسلامي، فإنها باندماجها في النظام الإسلامي تفتقد جنسيتها الأولى، وتأخذ طابع الإسلام وصبغته"[4].

لكن، نتيجة دمج هذه النظم الدخيلة في النظم الأصيلة هي نتيجة سلبية تنسف بالدخيل والأصيل معا، ومحاولة الدمج هي ما نسميها بالترقيع أو التلفيق دون التنسيق، وبرزت بشكل كبير بعد الغزو الفكري الغربي فتحولت إلى عدوى جثمت على العقول العربية، حيث استحسن المسلمون النظم الفكرية الغربية وأعجبوا بها إعجابا أعمى، ناسين أنها تتخالف مع الإسلام، وأكثرهم درج على المزج بينها وبين الدين تفاديا لأي حرج أو تكفير، وفي ذلك يقول تقي الدين النبهاني: "وكثير من كان يحاول أن يجعل الإسلام ديمقراطيا أو اشتراكيا أو شيوعيا مع أن الإسلام يتناقض مع الديمقراطية (...) فجعل الإسلام ديمقراطيا (...) استحسانا لتلك الأفكار هو تأثر بالثقافة الأجنبية، وليس انتفاعا بها"[5]. وهنا يميز النبهاني بين الانتفاع والتأثر، فالانتفاع يكون بالغرف من العلوم التي تحمل منفعة للناس أجمع، كالانتفاع من الطب أو الصناعة أو غير ذلك، فهذا مما لا حرج من الأخذ منه. أما التأثر، فيشمل المعارف النظرية التي تبنيها ثقافة معينة، وتتعلق بنمط الحياة والفلسفة والسياسة، فيجري التأثر بها والتقوقع حولها، وهذا ما نجده مثلا من تأثر الشباب العربي بالماركسية والأفكار الاشتراكية، فهذا لا يجوز، ومرد ذلك أن الإنسان الذي يتأثر بثقافة غير ثقافته هو إنسان مستلب، يتنكر لثقافته، ويتقنع للبنية التي كونته، ويظهر من ذلك أن النبهاني موقع الإسلام في المركز كمرجع، حيث إنه لا يريد أن يعالج نظام الحكم في الإسلام بحسب مشاكل العصر، بل معالجة مشاكل العصر وفق النظم الإسلامية؛ لأن الإسلام هو النظام الأصلح[6]؛ أي إنه ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله ونظام عالم[7].

ويؤيد حسن عبد الله الترابي طرح النبهاني مؤكدا أن الموقف الأوفق من استعمال المفاهيم الوافدة، هنا بحال العزة والثقة أو الحذر والفتنة. أما وقد تجاوزنا مرحلة غربة الإسلام وغلبة المفهومات الغربية بكل مضامينها، فلا بأس من الاستعانة بكل كلمة رائجة تعبر عن معنى، وإدراجها في سياق الدعوة للإسلام ولفها بأطر التصورات الإسلامية حتى تسلم لله"[8].

وردا كذلك على من يقارنون الإسلام بالأنساق الفكرية الغربية، منوهين بما حققته من نجاح باهر ارتقى بمستوى العقلية الغربية، فأمسوا يتحدثون عن أسلمة الحداثة أو الحداثة الإسلامية، أن هؤلاء في ضلال، وقد دغدغت مشاعرهم وروض عقلهم حتى أوردوا المقارنة، حيث لا يجب أن تورد، وأوجدوا الإبهار حيث لا يجب أن يوجد، فالإسلام لا يقارن إلا بنفسه والتأمل فيه لهو مصدر إبهار وإعجاب، وقد ينجح الاستعمار الفكري الغربي من إفساد عقل وتخليته من اليقين، بيد أن ذلك العقل المصاب يبقى كالبيت الخرب تصفر فيه الريح ولا يحتله ساكن جديد.

ومن الذين ناصروا الشورى واحتاطوا من الديمقراطية نجد محمد الغزالي؛ إذ يفصح بوضوح عن هذه المناصرة حين قال: "إنني أومن بالشورى، وأزدري الاستبداد السياسي من أعماق قلبي، وأرد إليه أغلب هزائم أمتنا خلال تاريخها"[9]، كما أنه لم يستطع إخفاء إعجابه بالديمقراطية؛ إذ يقول: "وأرمق الديمقراطية الغربية فأحسد أصحابها على مناقشة الآراء بحرية وعلى استكانة الحكام للحق، وعلى اعتزاز الأفراد بكراماتهم، وكنت أهمس إلى نفسي: أما يجيء يوم يظفر به المسلمون بهذه النعمة؟"[10]، ويظهر أن الغزالي انتقائي؛ أي إنه يرى أن اقتباس الديمقراطية يجوز ما إن لم تتعارض مع الدين نصا في الكتاب والسنة [11]، وما يكرس انتقائيته أنه أفحم كل من يحرم الديمقراطية، وقال في ذلك: "أحذر من عصابة تجحد الشورى، وترفض كل الضمانات التي استحدثها العالم الحر، وتجعل الاقتباس من الديمقراطية الغربية كفرا وحجتها أنها تجعل السلطة للشعب ولا توقفها أحكام الله"[12].

ويذهب كذلك سيد قطب إلى اعتبار الشورى مسألة نظامية تتوقف على التنفيذ؛ إذ إن مبدأها مقرر في الإسلام تقريرا أصيلا واضحا، وهدفها أن تكسر القيود وتحطم الحواجز التي تجعل الانتخاب غير ممثل لحقيقة الرأي في الأمة؛ فالناخب والحاكم يستمدان حكمهما من إرادة المحكومين، وتحدد هذه الإرادة ما له وما عليه، ويتوجب عليه بعد تولي الحكم أن يوفي بوعوده التي قدمها للمحكومين لا أن ينكثها، لأن في نكث الوعود نكثا لعهد الله ومبدأ الاستخلاف في الأرض، فإذا لم ينفذ الشريعة سقطت طاعته عليهم. ويدحض سيد قطب الأطروحة القائلة إن حكم الإسلام هو حكم مستبد ينصب المشانق ويزج المخالفين له في ظلمات السجون، ويخنق الحريات ويكتم الأنفاس ويضيق الأفق ويجمد التفكير، مرجعا هذه الصورة السلبية عن الحكومة الاسلامية إلى محاكم التفتيش في العصور الظلمات، والتي قتلت العلماء بالخوازيق وحرقت المفكرين بالنار، وإن الحكم الإسلامي – بالنسبة إليه - مستثنى من هذه الأنواع من الحكومات، فهو يقف إلى جانب المحكومين إذا كانوا مظلومين ضد الحاكمين الظالمين، ويقف إلى جانب الحاكمين إذا كانوا مظلومين ضد المحكومين الظالمين [13]. وفي كلتا الحالتين، هناك مساوئ تسجل ضد الديموقراطية الدستورية البرلمانية كما يسميها، فلو التفتنا إلى الواقع السياسي في مختلف البلدان العربية (مصر خصوصا) سنجد أنها تعتمد هذا النوع من الديمقراطية بالاسم فقط، أما ما يرتكب من خروقات واعتداءات ومنكرات ضد المحكومين فيشطب عنها ويخسف بها، فلا معنى من تسمية بلد بأنه ديمقراطي وشريحة واسعة منه جائعة عارية ومريضة ومستغلة ولا حامي لها ولا نصير، ونقول مع سيد قطب إن "المرجع في الحكم على نظام ما يجب أن يكون هو قواعده وأصوله. فأما حين تخالف هذه القواعد والأصول، بسبب الجهل او الانحطاط، أو أي عوامل أخرى، فالذي يجب أن يقوله المخلصون للحق في هذه الحالة: أن أصول هذا الحكم ليست مرعية. وأنه يجب أن يرجع إلى هذه الأصول والدعوة إلى هذه الرجعة تكون إذن قوية؛ لأنها ترتكن إلى أصل معترف به، ولكنه مهمل التطبيق"[14]. ورادا على من يقر بأن الإسلام ضيق الأفق، يقول سيد قطب: "إن هذا الدين لا يدخل في الشؤون العلمية البحتة، ولا العلوم التطبيقية المحضة، باعتبارها من أمور الدنيا (...) فأما شؤون الاجتماع وشؤون العبادات، وسائر ما يتعلق بروح الإنسان وفكره"[15] فهو مما يتدخل الإسلام في تحديده، وتدخل الشورى في كلا الأمرين، فهي منصوص عليها بنص صريح في القرآن، لكن لم يأتي على ذكر تفاصيل وضوابط ممارستها وترك حرية تقريرها للمسلمين لوضع حدودها وقواعدها وطرائقها.

وهنا يميز الشيخ محمد عبده في مسألة الشورى بين سيادتين: الأولى هي سيادة الله التي تتقرر بإرادته في الخلق والكون، وهو ما سيسمى فيما بعد توسيعا بالحاكمية[16]، الثانية هي سيادة البشر في تسيير شؤونهم ومعاملاتهم الدنيونية، ومنها علاقتهم الاجتماعية والسياسية فيما بينهم. لذلك يجري الخلاف بين الفقهاء في الثانية، ويجري الاتفاق المطلق في الأولى، ومصدر الخلاف أن الإسلام لم يحدد طريقة لتطبيق مفهوم الشورى ومنح الحرية للمسلمين في وضعها وفقا لما ينسجم مع مصلحتهم ولما فيه خير لهم. وعلى هذا الأساس حدد محمد عبده الشورى بنقيضها قبل تعريفها، فقال إنها نقيضة الاستبداد، وينتج من ذلك أنها تعرف بأنها ممارسة الحرية السياسية بين الأفراد، بما يكفل لهم حق المشاركة في صوغ آراء ونصائح تقدم للحاكم، فيما ينفعهم ويصلح لهم. وتقتضي الشورى وجود هيئة سياسية يسميها بـ "أهل الحل والعقد" بدلا من "أولي الأمر" أو "أهل العلم"[17]. ودعا محمد عبده إلى تأسيس الحكومة الإسلامية الحديثة على دعائم شورية، لأن هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، فما صدر عن الرأي العام للأمة هو الضمان الأساسي لحرية الأفراد، وهو اليافطة الكفيلة برفع سعادتهم، ويجب لتحصيل هذه السعادة مراعاة أحكام الشرع الإسلامي عند سن القوانين وإبداء الآراء، وتجنب الاقتباس الآلي والأعمى من الأمم الأخرى[18]؛ لأن طرائق تحصيل سعادتها تختلف عن طرائقنا، فسعادتنا في إسلامنا، واستقرارنا في تشاورنا، وهذا سبب تحفظه من الديمقراطية.

[1] هناك من يقول إن "مبدأ فصل السلط أساس نظام الحكم الإسلامي، على الأخص فيما يتعلق بالسلطة التشريعية؛ لأنها مستقلة تماما عن الخليفة، أما بالنسبة إلى السلطة القضائية، فرغم أنه يدخل ضمن اختصاصات الخليفة تولية القضاء، إلا أن الفقهاء قرروا أن القضاة لا تنتهي خلافتهم بوفاة الخليفة الذي عينهم، وعللوا هذا المبدأ بأن القاضي يستمد ولايته من الأمة لا من الخليفة، وأن الخليفة عندما عينه إنما كان رسولا للأمة وممثلا لها ... وهذا ما يؤكد بوضوح المبدأ الإسلامي أن الخليفة ليس إلا نائبا عن الأمة في مباشرة السلطة التنفيذية، وفي تعيين القضاة، معنى ذلك أن الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية ليس كاملا، إلا أنهما تشتركان في أنهما تقومان بتطبيق الشريعة".

انظر: عبد الرزاق أحمد السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، الهيئة المصرية للكتاب، ط 2 القاهرة، 1989، ص 52

[2] فهمي هويدي، الشورى والديموقراطية، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 1993، ص 5

[3] يوسف القرضاوي، الحل الإسلامي ... فريضة وضرورة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 14، 1993، ص 95

انظر أيضا: يوسف القرضاوي، من هدى الإسلام: فتاوى معاصرة، دار الوفاء، المنصورة، مصر، ج 2، 1993، ص 628

[4] المرجع نفسه، ص 104

[5] تقي الدين النبهاني، الشخصية الإسلامية، منشورات حزب التحرير، القدس، بدون تاريخ، ص 219

[6] تقي الدين النبهاني، نظام الحكم في الإسلام، منشورات حزب التحرير، القدس، 1953، ص 9

[7] سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، ط 6، 1979، ص 80

[8] حسن عبد الترابي، الشورى والديمقراطية: إشكالات المصطلح والمفهوم، المستقبل العربي، العدد 75، 1985، ص 9

[9] محمد الغزالي، الغزو الثقافي يمتد في فراغنا، دار الشروق، القاهرة – بيروت، بدون تاريخ، ص 42

[10] المرجع نفسه، ص 43

[11] المرجع نفسه، 44

[12] المرجع نفسه، ص 43

[13] سيد قطب، معركة الإسلام والرأسمالية، ص 73 – 74 - 75

[14] المرجع نفسه، ص 80

[15] المرجع نفسه، ص 81

[16] الحاكمية تعني أن مصدر الأحكام في الشريعة الإسلامية هو الله تعالى وحده، فلا حاكم سوى الله، ولا حكم إلا ما حكم به.

انظر: ابن منظور، لسان العرب (2 / 143 – 144)

انظر كذلك: الفيومي، المصباح المنير، المكتبة العصرية، ط 2، بيروت، 1997، ص 158

[17] محمد عبد العاطي، الفكر السياسي للإمام محمد عبده، ................، القاهرة، 1978، ص 265

[18] حورية مجاهد، الفكر السياسي من أفلاطون حتى محمد عبده، ...............، القاهرة، 1978، ص 242