إنسانويّة الأنوار وانبلاج الحداثة: قراءة أنتروبولوجيّة في مقوّمات الفردانيّة وتردّداتها
فئة : مقالات
إنسانويّة الأنوار وانبلاج الحداثة*
قراءة أنتروبولوجيّة في مقوّمات الفردانيّة وتردّداتها
كَتَبَ كانط مختصِراً "ماهيّة" الأنوار في مستهلّ نصّ شهير يحمل العنوان - السؤال عينه[1] قائلاً: إنّها تكمن في التجرّؤ على استعمال العقل وقرار التوكّل على قدراته في كلّ شيء والاحتكام إليه في كلّ الأمور كبادرةٍ لانعتاق الإنسان من قُصور مُزْمِن قبعَ خلاله في دياجير التبعيّة والخضوع لجهات خارجيّة سلطويّة وتسلّطيّة، من كلّ صوب دينيّ ودنيويّ، أَمْلَت عليه الضوابط المعرفيّة والأخلاقيّة التي تخطّ له عيشه في غايته ووجهته ومعناه ومضمونه. أمّا الانعتاق من القُصور فانخراط في عمليّة تحرّريّة تقوم على إصلاح منهجيّة الفكر والتفكّر وتدأب على قيام الإنسان الراشد الحرّ، وبالتالي المسؤول، فكراً وقولاً وفعلاً.
انتفاضة الأنوار إذاً تؤسّس أنتروبولوجيا الإنسان الجديد المتجدّد، ركن الحداثة الاجتماعيّة والثقافيّة والحضاريّة، صانع الطوباويّة الآتية. من هنا الولوج إلى الرؤية Weltanschauung التنويريّة يقضي بالتوقف عند مقوّمات الأنتروبولوجيا التنويريّة المتمثّلة بدَحْض التعليم الراسخ، موروث العصر الوسيط، القائل بتصوّر قائم لطبيعة إنسانيّة تشكّل في تحديدها وصفاتها المرجعيّة التقليديّة الثابتة والشرعيّة لمفهوم الإنسان في إنسانيّته والتي لطالما اقتضت فعل مطابقة adequatio هذا الأخير للمفهوم الذي أفرزه التنظير المدرسيّ بحيث يتقرّر مدى إنسانيّته وفقاً لصحّة مطابقته. فالمبدأ المركزي الذي يتمحور حوله فكر الأنوار هو أنّ الإنسان ليس مُعْطى، بل إنّه مشروع قيد الاكتمال في التاريخ بفعل تقدّمه، أي ارتقائه في العِلم المستتبِع ارتقاءه في الأخلاق. وتعكس فكرة الإنسان القابل للتطوّر والارتقاء، والمتطوّر في مساره الوجودي والتاريخي، قناعة تنويريّة راسخة لا يشوبها تحفّظ، تراهن على إنسان قادر على تحديد ذاته وبنائها في حركة تجاوزيّة للتعيّنات، مبنيّة على تفعيل وتفاعل ثالوث العقل والحريّة والمعرفة.
إنّ فكر الأنوار، برفضه الفلسفة المدرسيّة scolastique المتشبّثة بعقائديّة التقليد المتجمّد، وبرفضه مبدأ السلطة الكنسيّة والسياسيّة المهيمِنة على ضمير وقرار وقدر الجماعات والأفراد التي تفرض مقاييسها وشروطها في الثواب والعقاب على العِباد (كما لو أنّ هؤلاء نعاج منقادة لمن نصّبوا عليهم أنفسهم سادة وسلبوهم كلمتهم في ما يتعلق بمصيرهم الشخصي والجَماعي على السواء، باسم مُطْلَق يتوسّلونه أداة قمع وذريعة حكم وتحكّم)، إنّه بذلك يؤكّد أنّ الخيار الأول والأخير يبقى الإنسان الذي منه ينطلق وإليه يعود كلّ شيء.
في الواقع، يشكّل فكر الأنوار ثورة، ليس على الإيمان بل على الدين في تمظهره المؤسساتي، ويقظة نقديّة بامتياز لعقل اختبر قدرته على سنّ أخلاقيات مستقلّة عن الدين ومقابَلة منظومة البشريّة الساقطة التي سوّقها هذا الأخير لقرون، بمفهوم البشريّة السعيدة بفعل التقدم الحضاري الجاري. على هذه الخلفيّة يرتسم انفتاح الأنوار على المعارف وانكبابها النَّهِم على العلوم واستبدالها البُعد اللاهوتي القديم والغايات الماورائيّة بالبحث عن الحقيقة العلميّة المفيدة للإنسان في هذا العالم بالذات لا في عوالم الغيب.
مشروع الأنوار المعرفيّ ثأر للعقل من طاغوت عصر سُمّي وسيطاً ودام عشرة قرون، رزح فيه تحت نير مقدّسات ومعتقدات ومفاهيم أدّت إلى انسلابه من عقلانيّته، وانسلاب الإنسان من إنسانيّته. لذلك فإنّ الأنوار، بإعادتها الاعتبار إلى العقل، تُموقِع الإنسان في وسط العالم وتخصّه، إلى مركزيّته، بأولويّة أنطولوجيّة وإبستمولوجيّة لا سابق لها. ولعلّ أبلغ الأدلّة في هذا المضمار يطالعنا على المستوى التنظيري في ما حوته "الموسوعة" L’Encyclopédie من أفكار جديدة اختزلت مقالاتها في السياسة والدين والعلوم روحيّة الأنوار، وقدّمت بانوراما تكاد تكون كاملة لمعارف واهتمامات العصر، مستثيرة بذلك رياحاً تغييريّة، لا في فرنسا فحسب، بل في أوروبا كلّها.
أمّا الغاية الرئيسة الكامنة في هذا الإنجاز فمزدوجة: أوّلاً: التأكيد على أهميّة وإمكانيّة التقدّم الإنساني باستقلاليّة تامّة عن كلّ عقيدة وسلطة، وبالتالي التأكيد على الإيمان بالإنسان وترسيم آفاق مستقبليّة متفائلة بقيام مجتمعات إنسانيّة سعيدة. ديدرو Diderot - الذي قاد مع دالمبير D’Alembert مشروع "الموسوعة" وأشرف عليه، فاقترن اسمه باسمها وبات العَلَم الطليعي في قافلة المفكّرين التنويريين- كتب في مقالة "الموسوعة" إنّ الغاية من إصدارها، رغم التحدّيات الجمّة، هي "من أجل أن يزداد الإنسان، بازدياده عِلماً، فضيلةً وسعادة، ومن أجل ألا نموت على غير استحقاق منّا للإنسانيّة"[2]. ثانياً: التأكيد على أنّه ما من مقدّسات ومحظورات عصيّة بعد اليوم على الفكر النقدي الحرّ، وأنّ المواضيع كلّها دون استثناء هي بالقوّة والفعل مادّة نقاشيّة ومساحة تفكّريّة للعقل. ففي المقالة المعنونة "السلطة السياسيّة" يعلن ديدرو فعل إيمان بالحريّة حين يكتب: "ما من إنسان أُعطي حقّاً طبيعيّاً في أن يتحكّم بالآخرين. الحريّة هديّة من السماء، وكلّ فرد له الحق أن يتمتّع بها تمتُّعَه بالعقل"[3].
غير أنّ إنسانويّة[4] الأنوار لم تنبت كالفطر، إذ إنّ التاريخ الذي لا يرتجل الظواهر ارتجالاً بل يمهّد لها في سياق الصيرورة التاريخيّة أرضيّة حاضنة تضرب لها فيها جذوراً، يقدّم منذ النهضة الأوروبيّة في القرنَيْن الخامس والسادس عشر بوادر تنبئ بالرياح التغييريّة التي سوف تجتاح الفضاء الأوروبي في القرن الثامن عشر. وإذا كانت إنسانويّة النهضة مؤشّراً أكيداً وبَيِّناً لانقلابٍ آتٍ، فإنها إذاً دون شك التحوّل التاريخي الذي يصكّ الخروج التدريجي من ذهنيّة العصر الوسيط المُغْرِقة للإنسان في ليل عميق بإلغائها الثلاثي لحريّته: حرّية العقل الذي وُظِّف حصريّاً لخدمة الدّين، حريّة القرار والفعل أو الإرادة في ما سوف يُعرف لاحقاً بالحياة العامّة القائمة على الشراكة والمواطنيّة، التي غابت في ظلّ الإقطاع السياسي الذي كرّس مفهوم السيّد والرعيّة أو الملك والحاشية والتي لن تتبلور قبل حلول فجر الأنوار، وحريّة الجسد وحقّ الإنسان في عيشه البعد العلائقي الجنسيّ خارج دائرة الترهيب. على ضوء ما حقّقته الأنوار، بعد أن كانت باشرت به النهضة، من استعادة للحقّ الطبيعي بالحريّة الشخصيّة رأياً وسلوكاً، بات المؤرخون يوصّفون المرحلة الوسيطة بالظلاميّة والنهضة استعاديّاً بالمدخل إلى الحداثة، لما تضمّنته من تكسير للأقفال وتقويض للمقولات السائدة واستكشاف لأنساق جديدة ليس أقلّها ثلاثة سوف تستكمل الأنوار تأسيسها: المجتمع المَدَني والديمقراطيّة والعلمانيّة.
خصوصيّة المشهديّة النهضويّة كفاتحة للعالم الحديث تُختَصَر، من وجهة نظر فلسفيّة، في ما غيّرته في رؤية الذات والآخر والعالم، وهو ما سوف تستكمله الأنوار لاحقاً وتُعَقْلنه في خطابها السياسي وتسنّه مبادئ تأسيسيّة لأنتروبولوجيا الإنسان الحديث.
وإذا كان التغيير في رؤية الذات والآخر والعالم إدراجاً لمفاهيمَ جديدة في قاموس المجتمعات الأوروبيّة آنذاك فلأنّه دون ريب وقبل كلّ شيء، ولعلّ هذا هو الأهمّ، إدراج لقِيَمٍ جديدة في حياة هذه المجتمعات. فمفهوم التسامح la tolérance مثلاً الذي كتب فيه أعلام الأنوار[5] بإسهاب، هو خلاصة تفكّريّة للمستجدّات الناتجة عن تلاقح الثقافات إثر أسفار المستكشفين وبدء حركة الاستعمار والاطّلاع على مضامين ثقافيّة وقِيَم أخلاقيّة غير مألوفة لدى الإنسان الأوروبي، فجاء طرحها لإشكاليّة الآخر والنسبيّة الثقافيّة جديداً ومثيراً لتعجّبٍ وإعجاب في آنٍ واحد، لتباينه والسلوكيّة الاضطهاديّة الرائجة، وكان في ما أثاره وثبّته مَظهراً مهمّاً من مظاهر التغيير الذي استكملته الأنوار وحجر زاوية في عمارة الحداثة. في هذا الإطار يبقى ما عُرِف بجِدال بلد الوليد Controverse de Valladolid (1550) خير نموذج لتفتّق الوعي الإنسانوي النهضوي الذي سيبلغ أوْجَه في إنسانويّة الأنوار. القضيّة، باختصار شديد، مواجهة حادّة بين خوان جينس دي سيبولفيدا Juan Ginès de Sepulveda وبارتولوميو دي لاس كاساس Bartolomeo de las Casas في محاجّة عنيفة حول الهنود سكّان القارّة الأميركيّة الأصليين والسلوكيّة الواجب اتّباعها في التواصل معهم. فبينما وقف دي سيبولفيدا مدافعاً عن السياسة الاستعماريّة الممعِنة في الإبادة الجسديّة والحضاريّة، مشكّكاً بإنسانيّة الهنود، واجهه دي لاس كاساس ناقداً شرساً، داعياً لاحترام السكّان الأصليين، متكلّماً عن كرامة المجتمعات، مندّداً بنَهْب كنوزها الثقافيّة، مستنكِراً الإكراه في الدين. والمُلفِت في الموضوع، والأمر طبعاً ليس من باب المصادفة، أنّ كتاب دي لاس كاساس بقي في الأدراج ممنوعاً من الطبع، حتى ما بعد عصر الأنوار مباشرة، فصدر للمرّة الأولى في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر (1875-1876).
إلى القِيَم الجديدة التي اندرجت بعناء - والعناء ملازمٌ لكلّ تحوّلٍ حضاري كبير- في الفكر والأداء الأوروبيّين، تتميّز الحداثة ببزوغ الفردانيّة فكرةً مُلهِمةً لفلسفة الأنوار، تمدّ الحركة الأدبيّة والفنّية بدفع جديد وتحرّك الشعوب في صيرورتها التاريخيّة نحو نظام سياسي واجتماعي يكرّس الحريّات والمجتمع المدني والمواطنيّة. من العوامل الجمّة التي ساهمت في ظهور الفردانيّة، أي تفرّد وفرادة الإنسان الخارج من قمقمه بعد طول اختناق، أربعة شبه متزامنة، كان لها التأثير العميق في بلورة المفهوم الذي قام عليه مشروع الحداثة برمّته. أوّلها: اختراع الطباعة الذي كان من نتائجه المباشرة أن أتاح الولوج إلى المعارف للسواد الأعظم من الناس التي بات لها سبيل للاطّلاع بحريّة وبطريقة مباشرة ومن غير حاجة إلى وسيط، على النصوص الدينية والعلوم والآداب وإبداء رأيٍ فيها. تبعه بفترة وجيزة رواج الكتابة باللغات المحلّية كالفرنسيّة بدلاً من اللاتينيّة التي كانت حكْراً على النخبة المثقّفة دون غيرها لا سيما الإكليرس الممسك بزمام شؤون الدين والدنيا على السواء. ثانياً: الإصلاح البروتستانتي الرافض لتسلّط البابويّة الذي ركّز على حرّية الضمير، موطن القرار الشخصي، ورفعه فوق كلّ سلطة من أيّ نوع كانت. في هذا الخطّ يأتي فكر الفيلسوف التنويري بيار بايل Pierre Bayle ليعزل الحقائق الماورائية والدينيّة عن العقل، لا ليزلزلها بل ليثبّتها في ما هي عليه أصلاً ويجب أن تبقى عليه، أي قائمة على ركائز إلهيّة غير بشريّة، وبالتالي رهن خيار شخصيّ من الإنسان الذي يقبلها ليس لأنها موجبة، وهي ليست كذلك ولا تستطيع ان تكون، بل لأنّ إيمانه فعل إرادة وممارسة للحريّة الفرديّة في دائرة الحياة الخاصّة. في الواقع، ما يفعله بايل هو أنه يصيب عصفورين بحجرٍ واحد إذ إنّه من جهة، يحمي الإيمان كفعل حرّية بإخراجه للدين وللقناعات الدينيّة من فضاء الخلافات والنزاعات البشريّة المستفحلة معزّزاً بذلك فكرتي الخصوصيّة الشخصيّة واحترام الآخر في قناعاته بحيث يتقاطع عند هذه النقطة مفهوم الحريّة مع مفهوم التسامح، ويثبّت، من جهة أخرى وفي الوقت عينه، الإنسان سيّداً على نفسه لا يحتكم في مساره التاريخي لأيّة مرجعيّة متعالية بل لضميره فقط. أمّا العامل الثالث فهو تراجع مساحة هيمنة السلطة الدينيّة بالنسبة لما كانت عليه في العصر الوسيط وانحسار تأثيرها السياسي والاجتماعي ممّا وفّر متنفّساً للناس وهامش تحرّك وتعبير غير مسبوق. وبموازاة العامل الثالث وبأهميّة لا تقلّ عنه، تأتي قفزة العلوم الطبيعيّة، وهذا هو العامل الرابع، تأكيداً على أنّ العقل قادر على فكّ طلاسم الكون بأدواته الخاصّة، مستغنياً عن أسراريّة الغيب وتزامناً مع ازدهار المذهب التجريبي المبني على الإدراك الحسّي والمنحى الاختباري.
إنّ التجديد الإنسانوي النهضوي شكّل البيئة السياسية والثقافية الحاضنة للأنوار بانزياح الصورة القديمة للإنسان والعالم، المنتهيةِ الصلاحية لعَدَم توافقها والمستجدّات الحضارية والتاريخيّة. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ التعبير المناسب لتوصيف الصورة الجديدة هو الاتسّاع، والمعني به هنا الانفتاح في جميع أبعاده. يبقى أنّ أولويّة وأسبقيّة انفتاح الوعي الفردي بالنسبة إلى أي شكل آخر من الانفتاح لا يُقَرّ بأحاديّة. فالأجدر مقاربة الفردانيّة الصاعدة بموازاة الانفتاح المرافق لها في شتى المجالات، كظاهرة متكاملة تصلح قراءتها على ضوء الدائرة الفِساريّة أو انعكاس الإضاءات المتبادلة، ممّا يعني أنّ الفردانيّة لا تُفهَم إلا في إطار مشهديّة حضاريّة كاملة العناصر. وربّما كان مأزق الحداثة في مجتمعاتنا العربيّة الذي سوف نتطرّق إليه ختاماً عائداً إلى خلل في تكامل المشهديّة الحضاريّة وتناغم جميع عناصرها أكثر منه إلى أي سبب آخر. في أوروبا، يبقى بيك دي لا ميراندول Pic de la Mirandole أبرز المفكّرين الحاملين راية الحريّة الفرديّة المطْلَقَة فوق كلّ اعتبار. الرّجل دفع ثمن التزامه غالياً، سُجِن وأخضع للرقابة وأُلصِقت به تهمة الهرْطَقة. لكنه ترك، فيما ترك من كتابات، خطاباً تأسيسيّاً مهمّاً تحت عنوان "في كرامة الإنسان"[6] كتب فيه ما تصوّر أنّه جاء على لسان الله نفسه مخاطباً الإنسان بعد الخَلق: "أمّا الآخرون فطبيعتهم ملجومة بقوانين أمَرْنا بها، وأمّا أنتَ فما من قيْد يَلْجمك. أعهدُ بكَ لأحكامك الشخصيّة في تحديد طبيعتك. [أنتَ] تتمتّع إذاً بالقدرة التحكيميّة والفخريّة على قَوْلبة ذاتك وصنعها"[7]. الإنسان يقبل إذاً امتياز أن يكون ما يصيره وأن يصير ما يقرّر هو نفسه أن يصنع من ذاته. لقد شاءه الله مُبْدعاً لذاته، صانعاً لقدَره ومصيره. في القرن العشرين سوف يترجم سارتر هذا الطرح، من غير أن يسمّي بيك دي لا ميراندول، في مَقولته الشهيرة: محكوم على الإنسان أن يكون حُرّاً[8].
قبل الحداثة، لم يحظَ مبدأ الفردانيّة باهتمام، ولم تعرْهُ الطوباويات الفلسفيّة انتباهاً. هذه الأخيرة، منذ جمهوريّة أفلاطون حتى مدينة الشمس لكمبانيللا، مروراً بإيطوبيا توماس مور، قدّمت كلّها تصوّرات لمجتمع مثالي جَماعي بامتياز في بنيته وهيكليّته ونمط عيشه، لا يخصّ الفرد بموقع أو قيمة إلا من منظاريّة وظيفيّة نفعيّة تقضي بتسخير طاقاته وتوجيهها لخدمة الجماعة، ومن حيث لا معنى له ولا قيمة له في ذاته بل إنّ أهمّيته في كونه جزءاً من كلّ، وقيمته في نسبة مساهمته في إنجاح المنظومة الجَماعيّة من الموقع الذي أُسنِد إليه. الفردانيّة إذاً ظاهرة امتازت بها الحداثة حتى اقترن اسمها بها فصارت لها عنواناً. قبلها، تناول الفكر بالطبع موضوع الحريّة في معالجات متفاوتة الأهميّة، لكنّ الاعتراف بالحق في الحريّة الذاتية وإدراج الحريّة الشخصيّة في صلب الأداء السياسي والأخلاقي هو تحديداً اللحظة التاريخيّة المفصليّة التي تطوي نهائيّاً صفحة العالم القديم لتفتح باب الحداثة عريضاً. والحداثة، كاختبار غربيّ طليعيّ هي من وجهة نظر سياسيّة واجتماعيّة، تطوّر المجتمع المَدَني الليبرالي القائم بالمبدأ والفعل على الإرادة الفرديّة أساساً للحق والتشريع والسلطة كما نادت بها النظريّات التعاقدية للمجتمع. هذه الأخيرة تثبيت للفردانيّة وتأسيس لما سيُعرَف لاحقاً في العالم بـ"حقوق الإنسان". فحقوق الإنسان ما هي إلا مشتقّ من مشتقّات الفردانيّة وإنسانويّة الأنوار. هنا، تجدر الإشارة إلى أنّ الفردانيّة لم تكن يوماً لتعني، أقلّه في مفهومها الأوّل كما حدّدته الحداثة، فوضى أو استفحالاً للفرد على حساب الدولة، لكنها بالعكس دأبت على التوفيق بين الفرد والدولة باستنباطها تفاعليّة جديدة بينهما وسعيها إلى عَقْلَنة الحريّة.
من هذا المنطلَق، نتبيّن كم أنّ فلسفات الأنوار السياسيّة تتمتّع رغم تلوّناتها بقواسم مشتركة تشكّل الأرضيّة المعَقْلِنة لحريّة تفاعليّة لا سابق لها. كلّها تقوم على اعتبار الإرادة الفرديّة أساساً للسلطة والحكم. حتى هوبز Hobbes المدافع عن الملكيّة المُطلَقَة والمنادي بإحاديّة القرار والحكم، فإنّه، عكس ما توحي به المظاهر والقراءة التسطيحيّة للّيفيثان Le Léviathan، في الواقع حامل لفكرة الديمقراطيّة، لأنه يبني السيادة على موافقة كلّ فرد. فالأفراد بالتوافق المتبادَل - وفي هذا تكمن ماهيّة العقد السياسي- يتنازلون شخصيّاً عن حقّهم الطبيعي لمصلحة واحد. هذا "التنازل" في الحقيقة ليس استقالةً للفرد، لكنه خيار وبالتالي فعل إرادة. وفرادة هوبز تكمن دون شك في أنه عَقْلن ماهيّة السلطة، سلطة الدولة وسلطة الملك الذي يجسّدها، وهي مُطْلَقة، لا من خلال عقد شراكة ومشاركة ولا من خلال عقد خضوع، بل من خلال عقد تفويض يقوم به كلّ فرد بتخلّيه عن حقّه الطبيعي ليضعه بين يديّ ملكٍ تنصّبه إرادة الأفراد ويحظى بإجماع من يقولون له: من الآن وصاعداً، أنتَ تمثّلني. فالسيادة المُطْلَقة منبع النظام العام والقانون، وإن كانت قالَباً دولة توتاليتاريّة فإنها قلْباً ديمقراطيّة، طالما أنّ الفرد من خلال خضوعه لها يخضع في الواقع لسُلْطَة صنعها هو بإرادته. أساس المُلْك إذاً إرادة الفرد. من الواضح أنّه بالانتقال من الحرّية الطبيعية إلى الحرّية المَدنيّة لا يُلغي هوبز إرادة الفرد وقدراته بل يثبّتها.
لم يوافق لوك Locke على نظريّة هوبز فكان ناقداً لها. يَعتبِر لوك، وبهذا يذهب إلى أبعد من هوبز حتى وكأنه في دفاعٍ عن الفردانيّة المُطْلَقة [9] في مقابل ما لحظه عند هوبز من تقصير في إعطاء الفرد ملء حقوقه السياسيّة أو من تقليصٍ لحقوقه. فاعتبر مثلاً، خلافاً لهوبز، أنّه ما من مبرّرٍ لتفويض واحدٍ وحَصْر الصلاحيّات كلّها بين يديه، كما أنّ هناك أفضل من المصلحة الفرديّة علّة للانتقال من الوضع الطبيعي إلى الوضع السياسي التعاقدي. ما يشدّد عليه لوك هو أنّ غاية الفرد الأولى والأخيرة هي حماية حقوقه الطبيعيّة من سعادة وحريّة ومساواة ومُلْكِيّة، والمحافظة عليها. لذا فإنّ شرط التعايش المتناغم الناجح بين الأفراد الأحرار والمتساوين في الحقوق، قانون وضعيّ واضح وقاضٍ كُفء وغير متحيّز وقوّة رادعة تضمن تطبيق القانون. فالأفراد لا يتعاقدون إلا للحفاظ على ممتلكاتهم أي حياتهم وحرّياتهم وثرواتهم بحيث تغدو السُّلطة نوعاً من دستور للمُلْكيّة أو لخصوصيّة الأفراد. إلى ذلك، فإنّ العقد الاجتماعي لا يقوم إلا على موافقة مجموع الأفراد، عِلماً أنّ الفرد، بموافقته على العقد، لا يرهن كلّ حقوقه لأنّه في الواقع لا يتخلّى إلا عن حقّه في المُعاقبة. أساس ليبراليّة لوك وعُصارة طرحه الأساسي يكمنان في أنّ الدولة في خدمة الفرد، وأنّ هذا الأخير ليس مَديناً للمجتمع بشيء، بل على العكس إنّ المجتمع مَدين له بكلّ شيء.
قد يكون فكر روسو Rousseau السياسي المُلْهِم للثورة الفرنسيّة ذروة الدفاع عن الفردانيّة والديمقراطيّة في مفهومها الحديث، لا سيّما في ما ورد في العقد الاجتماعي[10]. فرادة روسو في تبيانه أنّ الإرادة الفرديّة لا تعطّلها الإرادة العامّة ولا تعرّضها للخطر، وأنّها تجد لها أبلغ تعبير وأسماه في الإرادة العامّة. فالإرادة العامّة هي أساس ومبدأ ومُحرّك اللعبة الديمقراطيّة وعلامة نضج ورُقيّ في الوعي السياسي الفردي والجَماعي. كلّ فرد عنصر فاعل في قلب الإرادة العامّة التي تهدف إلى الخير العامّ الذي يلقى فيه خيره الشخصي. فالفرد المواطن، بمشاركته في السلطة العليا المتمثلة بالإرادة العامّة، إرادة الجسم الاجتماعي الذي تشدّ لحمته وتضمن وحدته مصلحة وطنيّة واحدة، إنما يكرّس انصهار السلطة العليا والإرادة العامة مع إرادته الفرديّة في إرادة واحدة، إذ إنّ الإرادة التي تسنّ القوانين هي عينها التي تخضع لها. فالمواطن الخاضع للقانون يخضع لقانون سَنَّه بنفسه، وهو بالتالي في خضوعه للقانون يخضع لإرادته الشخصيّة وفيه يجد ويجسّد منتهى الحريّة والاستقلاليّة. وهو، حتى في مسألة التجاذب بين الأكثريّة والأقلّية أو الأقلّيات ضمن الهيئة العامّة التمثيليّة، لا يَفقد حرّيته ولا يُنتَقَص من فاعليّة قراره شيء، إذا ما وَجَد نفسه في مواجهة أكثريّة ليس فيها ومنها. لأنّه طالما ارتضى الفرد أساساً الخضوع لسلطة عليا تعمل للخير العام وطالما أنّ الخير العام، وإن خالف أحياناً بعضاً من خيره الخاص أو مصالحه، يبقى في كلّ الأحوال خيره ومصلحته أيضاً، فإنّ خضوعه لكلّ قرار صادر عن السلطة العليا يندرج في منطق ممارسة هذه السلطة التي ارتضاها أساساً باسم المصلحة العامّة. الأمر إذاً لا يتعارض وإرادته الفرديّة، بل ينمّ عن وعي سياسي متقدّم ومستوى رفيع في تفكيك الفعل السياسي وقراءته، وانتماء وحسّ بالمسؤوليّة والواجب هما جوهر المواطنيّة.
إنّ الحداثة المتألّقة في فكر الأنوار السياسي لم تبدأ تحديداً في القرن الثامن عشر، ولم تنتهِ بانتهائه، ولم تقف عند حدّ الثورة الفرنسيّة (1789). وإنّ الفردانيّة الصاعدة التي ميّزت النهضة بعد عصر وسيط طال ليله، قد شكّلت القاعدة الفكريّة التي استكملتها الأنوار وشيّدت على مكتسباتها عمارتها الفلسفيّة ومشروعها الحضاري، كذلك كانت الأنوار بدورها منطلقاً لتحوّلٍ كبير ذي امتدادات وتأثيرات مصيريّة ضاربة في عمق القرن العشرين ما تزال تردّداتها تؤثّر على مسارات الفكر وعلوم السياسة والاجتماع حتى اليوم. فلسفيّاً، يمكن مطالعة التردّدات المذكورة من بابَيْن: باب التغيّرات الطارئة في المجتمع والثقافة بعد القرن الثامن عشر كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لانتشار مفهوم الفردانيّة في الأداء السياسي واندراجه في أعلى سلّم قِيَم الإنسان الحديث وقَوْلَبته لذهنيّة جديدة وتفجّره إبداعاً في الآداب والفنون والعلوم. هذا الباب يتيح مقاربة تاريخيّة أو فِساريّة أو تحليليّة أو قراءة جامعة لأكثر من منحى واحد. نذكر فيه على سبيل المثال وليس الحصر، في القرن التاسع عشر، الفلسفة الوَضْعيّة مع كونت Comte وتبلور معالم العلوم الإنسانيّة لا سيّما علم النفس وعلم الاجتماع بما لها من خصوصيّة في الموضوع والمنهجيّة والغاية. وأمّا الباب الثاني، وهو الذي يهمّنا في الكلام هنا على الفردانيّة في الحداثة، فمقاربة لما أفرزته من حماس أو تحفّظ ومن تأييد أو رفض لها، على أن يُصار إلى تناول المواقف التقييميّة للظاهرة من زاوية نقديّة تفكيكيّة.
أثارت الفردانيّة التي شكّلت رأس الحربة في الإنسانويّة الحديثة ردود فعل كثيرة، وسال الحبر في الكلام عليها منذ القرن التاسع عشر. أهمّ ما يستوقفنا منها ثلاثة نختارها للمفارقة التي تجمع بينها، وهي أنّها كلّها تتناول الإنسانويّة التنويريّة باسم إنسانويّة أخرى إمّا لتنسفها وإمّا لتموقع نفسها في امتدادها الطبيعي وأوّلها الإنسانويّة الماركسيّة. يتّهم ماركس الأنوار بأنّها لم تفطن للبعدَيْن الاقتصادي والتاريخي المكوّنَيْن للإنسان فجاءت مقاربتها له مجزوءة ومغلوطة. يكتسب الإنسان له وجوداً وقيمة من عمله وإنتاجيّته ويعطيه معنى على ضوء النسيج العلائقي الذي يصنعه تداخل القوى وموازين القوى التي تفرزه على ما هو عليه كصراع الطبقات مثلاً، فهو يصنع ذاته بذاته في التاريخ انطلاقاً من المُعطى الاقتصادي ومن خلال عَقْلَنته وتدبّره لهذا المُعطى. الإنسانويّة الماركسيّة تقول إنّ القواعد الاقتصاديّة ليست نصوصاً، بل علاقات إنسانيّة يكفي أن يعمل الإنسان على تغييرها حتى يستنبط نظاماً جديداً تخضع فيه الضوابط للإنسان وليس العكس. الجدليّة الماديّة التاريخيّة حركة أَنْسَنة عِلْميّة المنحى، لا تفتكر الإنسان فرداً أو شخصاً إنّما تنظر إليه على أنّه جزء من كلّ. وهي لا تفتكره إلا في بُعده الجَماعي. فالبُعد الجماعي وحده حامل لمعنى وغاية وجود الإنسان. من الجليّ أنّ موضوع الحرّية الفرديّة الذي رفعتْ رايته الأنوار وتغنّت به لا يتوافق بتاتاً وتطلّعاتها. من هنا أنّ الماركسيّة التي فهمت ذاتها مشروعاً إنسانويّاً وثورة تأسيسيّة لإنسانويّة جديدة ولإنسانيّة سعيدة، واعتبرت أنّ التصوّرات الإنسانويّة السابقة لها عقيمة لأنها غرقت في التنظير بعيداً عن واقع المجتمعات ومسارها التاريخي، رفضت المكتسبات التنويريّة وأوّلها الفردانيّة، لكنها تبنّت مناهضة الأنوار للدين، لأنّ هذا الأخير هو العامل الأول لانسلاب الإنسان. كما التقت مع الأنوار في رفضها لمفهوم الطبيعة الإنسانيّة، إذ ما من تصوّر قَبْليّ للإنسان قادر على تحديده. الإنسان يحدّد ذاته بذاته من خلال فعله. هذا ما قصده ماركس عندما قال إنّه لا يقوم مفهوم للإنسان في ذاته. وحدها الحياة تحدّد الوعي.
هذه النقطة الأخيرة بالذات هي التي تستعيدها الإنسانويّة الوجوديّة السارتريّة عندما ترفض، على غرار التنويريين، أن يكون للإنسان مرجعيّة غير الإنسان. فهي وجدت في الإنسانويّة التنويريّة مدرسة في رفض التعيّنات اللاهوتيّة والأخلاقيّة والتأكيد على حرّيةٍ هي كلّ الوجود. في عالم يغيب عنه المعنى وتَسودُه العبثيّة يترجم الإنسان حرّيته التزاماً ومسؤوليّة. الحرّية الصعبة يحملها الإنسان عبءاً لأنه السفينة والشراع والقبطان في آن واحد، ولأنّ ما عنده في عُرْض البحر حيث انْوَجَد من أفقٍ أو قِبْلة أو بوصلة سوى نفسه. الحرّية الوجوديّة بنتُ وعي متقيّئٍ أمام المُعطى، وهي في خروجها من عبثيّة الواقع المُحبِط ومن دوّامة القلق الماورائي عبر الهروب إلى الأمام من خلال ما أسماه سارتر مشروع الإنسان، إنّما تبقى لعبة روليت أو نزهةً على شفير العدم. في الحقيقة، لم تذهب الأنوار يوماً في هذا الاتّجاه. كان خطابها في الحرّية والفردانيّة مؤطَّراً ضمن دائرة الحياة العامّة، سياسيّاً واجتماعيّاً. ما فعله سارتر هو أنّه تناول الفكرة واستغلّها في ما يناسب الطرح الوجودي فاحتفظ منها بالمفهوم، لكنه أضفى عليه أبعاداً لم يتضمنها في الأصل. الفردانيّة الوجوديّة والإنسانويّة الوجوديّة لا تتحدّران في الواقع من إنسانويّة الأنوار كما يبدو للوهلة الأولى لأنهما مغايرتان لها في الجوهر، تماماً مثل الإنسانويّة الماركسيّة، إنسانويّتان انتقائيّتان توسّلتا شيئاً من إرث الأنوار لتوظّفاه في رؤية ماركسيّة يذوب فيها الإنسان في منظومة ونظام يطحن فردانيّته، وأخرى وجوديّة تتعالى فيها الحرّية على مأساوية الوجود وتأبى أن تنكسر، لكنها بعنفوان سيزيفوس Sisyphe تجترّ خيبتها في دائرة الوجود المُفرَغة. في الحالتين، سؤال يفرض نفسه: ماذا يبقى من إنسان ذاب في الجماعة أو العدم؟ وإذا لم يبقَ من الإنسان شيء، فعلى أيّة إنسانويّة نتكلّم؟
الإنسانويّة الشخصانيّة تدعو إلى رفض الفرد. موقف مونييه Mounier[11] من الفردانيّة صريح، الفرد نقيض الشخص، إنّه وحدة بين وحداتٍ في مجموعة، رقم في منظومةٍ أو معادلة، لا وجه له ولا اسم ولا تاريخ ولا قصّة. مقفل على ذاته، مُكْتَفٍ بذاته، متقَوْقع على أناه. لا قيمة له لأنّه قابل للاستبدال. وهو خير عيِّنة تمثيليّة لإنسان المجتمع المادّي الاستهلاكي الذي سوف يكتب فيه بودريار Baudrillard وأللول Ellul وماركوز Marcuse رابطين انهيار الإنسانويّة بالفردانيّة المفرطة وما آلت إليه منذ عصر الأنوار. والسؤال المطروح هنا - ونتركه مفتوحاً لما يقتضيه من معالجة ومن إعادة نظر في مفهوم التقدّم وحقيقته -: هل مظاهر الفردانيّة المتفشّية في المجتمعات الغربيّة في القرن العشرين والمرتبطة ارتباط العلّة بالنتيجة بانهيار الإنسان ومعه بانهيار الثقافة، نتيجة طبيعيّة لفردانيّة الأنوار التي حَوَتْ منذ البدايات في طَيّات طرحها بذور التحوّلات التي لحقت بها وجميع أشكال تمظهرها؟ أوليس ممكناً أن تكون فردانيّة القرن العشرين تشويهاً لمشروع الأنوار وتراجعاً بالنسبة لمقصدها الأصليّ والأصيل؟ بالعودة إلى تمايز الفرد والشخص عند مونييه والسلبيّة التي تكتنف الفرد، يظهر الشخص بالمقارنة إنساناً مكتملاً في إنسانيّته، لأنّه نتيجة عمليّة تَشَخْصُن ونموّ في بعده العلائقي، الأفقي المتواصل والمتفاعل مع الآخر، والعامودي المرتبط بالإله، وفي تجذّره وانتمائه. الشخص قيمة في ذاته، حرّ كريم فريد. عند مونييه البُعد الجَماعي أساسي كما هو عند ماركس، لكنّه خلافاً لما هو عليه عند هذا الأخير، لا يستثني الأبعاد الأخرى بل يتكامل والبعد الباطني الروحي الحميم. في القرن العشرين يبدو أنّ فردانيّة الأنوار لم تعد تكفي، ويتبيّن أنّ الثقة بالتقدّم العلمي لحلّ مشكلات الإنسان أيضاً لا تكفي. خابت الانتظارات والآمال المعقودة على الحلم التنويري، لأنّ الفردانيّة وسائر الإرث التنويري ولّدا شعوراً بالعيش في عالم غابت عنه اليقينيّات والحقائق المُطلَقَة والمرجعيّات وتلاشى المعنى. فالإنسان أثبت أنّه، في عصر العلوم والإنجازات التكنولوجيّة الباهرة واليوم في زمن العَوْلمة، ليس سعيداً وليس بالضرورة أكثر تقدّماً أخلاقيّاً ممّا كان عليه قبل الأنوار. حاجته لرؤيةٍ تحوي بُعداً مثاليّاً يتخطّاه، الذي حذفَتْه فردانيّة الأنوار، حاجة أنطولوجيّة حيويّة، إن استمرّت غائبة أو مُغَيَّبة غاص الإنسان أكثر فأكثر في ما سمّاه ليبوفتسكي Lipovetsky "عصر الفراغ"[12].
عرف القرن العشرين أعمالاً نقديّة كثيرة تناولت روحيّة الأنوار، من أشهرها ما كتبه روّاد مدرسة فرانكفورت[13]. أمّا اليوم، في الربع الأوّل من القرن الجديد وعلى ضوء المستجدّات الكبيرة كالعَوْلمة أو تغلغل شبكات التواصل في السلوكيّة اليوميّة وتفشّي الوَرَم الفرداني في جسم المجتمعات بحيث لَحِقَ ويَلْحَق ببيئتنا وعيشنا وثقافاتنا تحوّلات ما زلنا أحياناً كثيرة لا نتقبّلها أو لا نفهمها، فالمُلفِت في الأمر أنّ الأدب النقدي ومعظمه أعمال فلسفيّة واجتماعيّة تتناول تردّدات الأنتروبولوجيا التنويريّة وتسلّط الضوء على الانحطاط الذي يصيب الإنسان والثقافة تدعو، لا من موقع ما بعد إنسانوي[14] بل باسم إنسانويّة مفقودة وإنسان برسم الانقراض، إلى إعادة نظر بمكتسبات الأنوار والموقف منها. الحافز ليس نوعاً من النوستالجيا أو الحنين إلى ما قبل الحداثة لأنّ إنجازات الأنوار مهمّة لدرجة أنّه ضرب من ضروب الغباء أن يحاول المرء إلغاء ما حصّلته وأفادت منه البشريّة جمعاء. يكفي أن نفتكر مدى وعمق ارتباط الديمقراطيّة الحديثة بالفكر التنويري. المطلوب كبح جماح الفردانيّة المتوحّشة السائدة والنمَط الفَرداني الذي يحبس الإنسان في فقاعة تكنولوجيّة ينقطع فيها عن الآخر والعالم ولا يعود يحسّ بهم. المطلوب قراءة الحداثة على ضوء ما بعد الحداثة التي أفرزَتْها. المطلوب إعادة إحياء الحسّ النقدي لدى إنسان خدَّرَه دوار اللامعنى. من مُنطلَق القلق على الإنسان يتشكّل اليوم رصيد أدبيّ مهمّ في موضوع نقد الحداثة والأنوار تحديداً. يقول ليبوفتسكي إنّ ثقافة ما بعد الحداثة دليل على توسّع مساحة الورم الفرداني، ويرى في التحوّل الأنتروبولوجي الذي يحدث أمامنا مرحلة خطيرة من تطوّر فردانيّة من نوعٍ آخر ليست امتداداً للأنوار لكنّها تدمير لها. فردانيّة ما بعد الحداثة نرجسيّة الأنا الخائب، المرتمي في خمولٍ باطل هو المكوّن الأساسي لما أسماه شخصيّة إنسان ما بعد الحداثة. هذه النرجسيّة الدّالّة على تَرَفٍ الديمقراطيّات الغربيّة، صارت حاضنة لما يسمّيه ماتيي Mattéi[15] البربريّات الحديثة من جراء دوران العالم حول أنا متضخّمة، منكفئة ومُشَظّاة في الوقت عينه. يدعو ماتيي إلى استرجاع التعيّن المتعالي الذي يتحدّر منه الإنسان والذي اختار هو نفسه أن يلغيه. إنّ تغييب الثابتة المتعالية الداعمة لكلّ حضارة وثقافة أدّى إلى انحطاط الثقافة المعاصرة ومأزق الإنسان المعاصر. نعم للأنوار، ولكن.... حول لفظة "الأنوار" المستعمَلة من الأنوار نفسها للدلالة على كيفيّة فهمها لذاتها يلجأ ليوباردي Leopardi إلى صورة لا تخلو من السخريّة استعارها منه براغ Brague وننقلها هنا لبلاغتها وإيجازها، يقول: "العقل نور، والطبيعة تريد أن يُنيرها العقل لا أن يحرقها"[16].
على ضوء الاختبار الغربي، ولأنّ الحداثة والأنوار ظاهرتان غربيّتان[17]، ينتابني قلق حين أسأل نفسي: أيّة حداثة لمجتمعاتنا العربيّة؟ المطلوب ليس الغرق في التنظير العقيم واجترار مفاهيم مستورَدة ليست في معجمنا ولا ندرك كُنْهها. حداثتنا تفرزها ذهنيّتنا وتتمخّض عنها ثقافتنا. عربيّة هي، تشبهنا ولا نستنسخها، لأنّ الطُّعْمَ إن لم يجد له المناخ المناسب لا يُثمِر. الحداثة العربيّة الآتية طالعة من قلب التاريخ العربي والوعي العربي والرصيد العربي من الفكر المُستنير. هل ندرك كلّ هذا حين نخلط الأشياء ونظنّ أنّ الحداثة قشرة لمّاعة لمظاهر عُمرانيّة تغلّف ذهنيّةً عتيقة؟
في الموضوع ما يكفي للتحفيز على إعادة قراءة مساراتنا الرّاهنة، ورُبّما تصحيحها.
المراجع:
ـ Brague Rémi, Modérément moderne, Flammarion, Paris, 2014.
ـ Chassang A., Senninger Ch., Recueil de textes littéraires français XVIIIème siècle, Hachette, 1966
ـ Décote G., Sabbah H., XVIIIème siècle, Hatier, 1989
ـ Lipovetsky Gilles, L’ère du vide. Essai sur l’individualisme contemporain, Gallimard, Paris, 2013.
ـ Locke J., Deux traités sur le gouvernement civil, Garnier-Flammarion, Paris, 1984.
ـ Mattéi Jean-François, La barbarie intérieure, PUF, Paris, 2008.
ـ Mounier E., Qu’est-ce que le personnalisme?, PUF, Paris, 1965.
ـ Palayret Guy, Borenstein Pascale, L’esprit des Lumières, Sedes, 1998.
ـ Rousseau J.J., Du contrat social ou Principes du droit politique, Garnier-Flammarion, Paris, 2011.
ـ La Renaissance, les textes fondamentaux, le Point Références, mars-avril 2011
* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد الثامن، 2016، إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
[1]. kant e., Was ist Aufklärung? (1784)
[2]. [C’est pour que les hommes] “devenant plus instruits, deviennent en même temps plus vertueux et plus heureux et que nous ne mourions pas sans avoir bien mérité du genre humain » in Décote G. et Sabbah H., XVIIIème siècle, Hatier, 1989, p.200.
[3]. «Aucun homme n’a reçu de la nature le droit de commander aux autres. La liberté est un présent du ciel, et chaque individu […] a le droit d’en jouir aussitôt qu’il jouit de la raison» in Chassang A. et Senninger Ch., Recueil de textes littéraires français XVIIIème siècle, Hachette, 1966, p.200.
[4]- "إنسانويّة" ترجمة لكلمة: humanisme
[5]- راجع Voltaire في (1763) Traité sur la tolérance وMontesquieu في Lettres persanes (1721) وقبلهما John Locke في Lettre sur la tolérance (1689).
[6]. Pic de la Mirandole Jean, Oratio de hominis dignitate ou De la dignité de l’homme
[7]. “Pour les autres, leur nature définie est tenue en bride par des lois que nous avons prescrites: toi, aucune restriction ne te bride, c’est ton propre jugement auquel je t’ai confié qui te permettra de définir ta nature. [Tu es] doté pour ainsi dire du pouvoir arbitral et honorifique de te modeler et de te façonner toi-même» in De la dignité de l’homme, trad. Y. Hersant, Éd. de l’Éclat, 1993, cité dans La Renaissance, les textes fondamentaux, le Point Références, mars-avril 2011, p. 31.
[8]- انظر سارتر، الوجوديّة مذهب إنسانوي.
[9]- راجع Locke J., Deux traités sur le gouvernement civil
[10]- راجع Rousseau J.J., Du contrat social ou Principes du droit politique
[11]- راجع Mounier E., Qu’est-ce que le personnalisme?
[12]. Lipovetsky Gilles, L’ère du vide. Essai sur l’individualisme contemporain.
[13]- في الخمسينات من القرن الماضي وتحديداً في عام 1947 صدر "جدليّة الأنوار" Dialektik der Aufklärung الذي كتبه ماكس هوركهايمرMax Horkheimer وتيودور أدورنوTheodor Adorno معاً.
[14]. posthumaniste
[15]- راجع Mattéi J.F., La barbarie intérieure
[16]. «La raison est une lumière. La nature veut être éclairée par la raison, non pas incendiée par elle.» in Brague R., Modérément moderne, 191.
[17]- راجع Todorov Tzvetan في نصّه الرائع “Tous les matins du monde” في L’esprit des Lumières, Robert Laffont, Paris, 2006