ابن باجة: رحلة فيلسوف من مهد سرقسطة إلى لحد فاس
فئة : مقالات
ابن باجة: رحلة فيلسوف من مهد سرقسطة إلى لحد فاس
ملخص:
الورقة التي بين أيدينا موسومة بـ’ابن باجة: رحلة فيلسوف من مهد سرقسطة إلى لحد فاس‘، وهي محاولة الوقوف على سيرة الفيلسوف الأندلسي أَبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ بن باجة التجيبي، وتتبع بشكل ضمني مراحل تطور فكر وتعاقب الاهتمامات العلمية لديه.
وسيتضح على امتداد هذه السطور أن الرجل لم يبلور مشروعه الفلسفي بسير، فحياته بمثابة مغامرة يغمرها التناقض والصراع: المنح والمحن، التعاطف والنفور، الصداقة والعداوة، القرابة والغرابة، لتنتهي حياته في ريعان الشباب بالموت مسموما.
والغرض من هذه المقالة المتواضعة هو التنويه بمنزلة ابن الصائغ كمؤسس حقيقي للفعل الفلسفي العقلاني في الغرب الإسلامي، لتدارك الإهمال الذي مني به.
«أبو بكر محمد بن يحيى بن الصايغ، المعروف بابن باجة، ولد في سرقسطة قرب نهاية القرن الخامس الهجري، وعاش في تلك المدينة إبان حكم المستعين الثاني (478-503 هـ/ 1085- 1109م) آخر أمراء بني هود حكام سرقسطة [...]. ويبدو أن أسرته كانت تشتغل بالصياغة، صياغة الجواهر؛ لأن كلمة "باجّه" معناها: الفضة باللهجة العربية الأندلسية في ذلك العصر، ويبدو أن صاحبنا قد اشتغل بهذه المهنة. وبرّز في الكثير من العلوم: فكان لغويا وشاعرا وموسيقيا، وفيلسوفا. ولما غزا المرابطون سرقسطة في سنة 1110م كانت شهرته قد استقرت، بدليل أنه صار من المقربين إلى حاكم سرقسطة الذي ولاه المرابطون، وهو ابن تفلويت، الذي كان عاملا على سرقسطة من قبل علي بن يوسف بن تاشفين. وقيل إنه صار وزيرا لابن تفلويت هذا [...]. ثم ارتحل الى فاس، حيث نال رضا أبي بكر يحيى بن يوسف بن تاشفين وصار وزيرا له. وهناك توفي مسموما في سنة 1138م. وقيل إن خصمه أبا العلاء ابن زهر، الطبيب الشهير، هو من احتال ليوضع له السم [...] مما أدى إلى وفاته»[1].
وقد أشار إليه ابن طفيل في قصته الرمزية ’حي بن يقظان‘، فقال: «ولم يكن فيهم (في الخَلَف) أثقب ذهنا، ولا أصح نظرا، ولا أصدق رؤية، من أبي بكر ابن الصايغ (ابن باجة) غير أنه شغلته الدنيا، حتى اخترمته المنيَّة قبل ظهور خزائن علمه، وبث خفايا حكمته؛ وأكثر ما يوجد له من التآليف، فإنما هي غير كاملة ومجزومة من أواخرها، ككتابه في النفس وتدبير المتوحد وما كتبه في المنطق وعلم الطبيعة؛ وأما كتبه الكاملة، فهي كتب وجيزة ورسائل مختلسة، وقد صرح هو نفسه بذلك، وذكر أن المعنى المقصود برهانه في رسالة الاتصال ليس يعطيه ذلك القول عطاء بينا، إلا بعد عسر واستكراه شديد، وأن ترتيب عبارته في بعض المواضع، على غير الطريق الأكمل، ولو اتسع له الوقت، مال لتبديلها... فهذا حال ما وصل إلينا من علم هذا الرجل، ونحن لم نلق شخصه»[2].
نحن إذا أمام شهادة بالغة الأهمية تحتفي بأبي العقلانية العربية الإسلامية، وتنوّه بنبوغه الفكري كمدشن لقول فلسفي بليغ في الأندلس، لا تنمحي مضامين أسفاره في تقاليد الاستنساخ - الكتابة المتوارثة عن المشارقة - إذ لم يأبه بغاياتهم ومبتغاهم، فكانت متون تأليفه محطا للنقد والمؤاخذة، حيث احتل العقل في رحابها موقعا رياديا، ليزيغ عن مسالك التوفيق، ويدين كل الإدانة سبل المتصوفة. يقول ابن طفيل: «وقد عاب أبو بكر (ابن باجة) هذا الالتذاذ على القوم، وذكر أنه للقوة الخيالية، ووعد بأن يصف ما ينبغي أن يكون حال السعداء عند ذلك، بقول مفسر مبين [...] ولم يفعل الرجل (ابن باجة) شيئا من ذلك، ولا وفى بهذه العِدَّة (الوعد) وقد يشبه أن منعه عن ذلك، ما ذكره من ضيق الوقت [...]»[3].
انطلقت مغامرة البحث والاستكتاب الباجويين من مهازل اللهو والهزل إلى منازل الجد والجدّة، فالرجل اتخذ النظم والعزف هواية مزمع الطيش، ليجعل النظر الفلسفي علوما وتعاليم هويته الأبدية، وقد خطّ ودوّن في رسالة بعث بها لأبي جعفر عرضا كرونولوجيا لمراحل تطور فكره وتعاقب الاهتمامات العلمية لديه. «وأما صناعة الموسيقى، فقد زاولتها حتى بلغت فيها مبلغا رضيته لنفسي، ثم بعد ذلك صناعة الهيئة، فإني اكتملت النظر فيها الكمال الذي يقتضيه ما وجدته من مبادئها. وفي أثناء ذلك تحققت أن كل من يذكر في هذه الصناعة بالكمال لم يحط فيها إلا بالتافه اليسر، واتفق ذلك سفر إشبيلية؛ وذلك بعد إكمال نظر فيها، فإن كل من يدعي هذه الصناعة ففي إشبيلية مستقرة وإليها مصدر. وفي أثناء ذلك ما توضحت منحى أبي نصر في ضروب البرهان التي عددها، فإن ذلك كان بقى عليّ فقط فاستوضحته منذ قريب، ثم تجردت للنظر الطبيعي [...]»[4].
وقال عنه غيره «عطل بالبرهان التّقليد، وحقق بعد عدمه الاختراع والتّوليد»[5]. شهادة الفتح بن خاقان هاته لا يعول عليها، فلا تغذو أن تكون شهادة زور وتزوير، وللقائل بذلك حق، فهو يظل عاجزا عن الوفاء لما يخطّه، فالمكافأة بمثابة المحبرة التي تملأ البياض هجاء أو مدحا، ما دوّنه في ’مطمح الأنفس‘ ترجمة خائنة لما أورده في ’القلائد‘، وتبقى مسألة ترجيح واحدة على حساب أخرى مسألة مستعصية.
لا ثقة في أقوال غير تلك التي تأتي من الأعداء أو الأصحاب. شهادة أخرى ترتسم تفاصيل ومفاصيل فلسفة ابن الصائغ، أرّخت لها صداقة مثينة ومخلصة بين فيلسوف سرقسطة والحسين ابن الإمام بعدما «قام الاثنان بجولة بغرناطة وإشبيلية وعنّابة، وقد أصبح الحسن بن الإمام هذا من أشد المعجبين بابن باجة والمتحمّسين له»[6]، يشهد على نباهة فكر وعمق نظر، يقول فيه: «ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم، فإنه إذا قارنت أقاويله فيها بأقاويل ابن سِينا والغَزّالي، وهما اللذان فتح الله عليهما بعد أبي نصر في المشرق في فهم تلك العلوم ودونا فيها، بان لك الرّجحان في أقاويله وفي حسن فهمه لأقاويل أرِسطُو»[7].
ما يهمنا في هذه النصوص التي أوردناها كشهود عيان من زوايا مختلفة، علائقية وتاريخية وفلسفية، هو طرحها لمسألة أساسية، ألا وهي: استئناف ابن باجة لفعل فلسفي قائم على العقل في الأندلس، فعل منكب على الحكمة والإنسان والكون بدل الشريعة أو قضية المصالحة، وسيتجلى هذا في فلسفته.
انبلجت الفلسفة بصيغتها العربية الإسلامية في المشرق الإسلامي كسيرورة تاريخية لتفاعل الحضارة الإسلامية العريقة مع غيرها من الحضارات، وفي ظل هذا التفاعل الإيجابي والاتصال الحيوي نشطت حركة الترجمة في بيت الحكمة، بوصفها معلمة تاريخية أسهمت في تشييد صرح الفلسفات التي استقمت في صقع الغرب، آخذة من الزمان فرصة لكي تنيع وتقطف. فلقد «بدأت الحركة الفلسفية في بغداد والمشرق في أوائل العصر العباسي. ويعود الفضل في الدفع بهذه الحركة قدما إلى ثلاثة خلفاء عباسيين هم المنصور (754-775) وهارون الرشيد (786-809) والمأمون (813-833). ومع ذلك، فلم تؤتِ هذه الحركة ثمارها في أواسط القرن التاسع الذي شهد أول فيلسوفين مبدعين هما الكندي توفي (حوالي 866) والرازي (توفي حوالي 925)»[8].
إن السؤال الجوهري الذي كان يسكن الفلسفة العربية الإسلامية أثناء ظهورها في المشرق هو سؤال حول إمكانات التوفيق بين الحكمة وأختها بالرضاعة، كمخرج لاصطدام الفلسفة بالدين، وأمل تصالح العقل والنقل. ولكن هذا المطمح لم يستطع أن يبلغ المستوى المنتظر، مما أدى إلى ارتداد الفكر الفلسفي في المشرق وارتياد الفلاسفة على التفلسف، تنديدا بفشل مسعاهم التصالحي. ففي الوقت الذي انساق الفيلسوف وراء هذا المسعى، بقيت قضايا عديدة مسكوت عنها، وإشكالات مختلفة توارت، حيث ستظل تنتظر لحظة العودة إليها، لاستكناهها في مناسبات فلسفية خاصة، ومع فلاسفة أكثر جرأة ومجابهة لم يرضوا لا لأنفسهم ولا لأوطانهم - الفلسفة وطن الفيلسوف - بذم وذل تقرهما سياقات تاريخية وسياسية أو أيديولوجية.
وفي واقع الحال، هذا الأمر لا يقزم البحث الفلسفي المشرقي في قضية التوفيق، ولا ينكر تناوله لقضايا فكرية، وخوضه في إشكالات فلسفية ميتافيزيقية وأكسيولوجية، كما لا يتنكر كذلك لبعض الاجتهادات العلمية التي رسمت لنفسها هامشا للتفكير على أمل الاعتراف بشرعية ومشروعية فعل التفلسف، ولكن تم ذلك بكثير من التحفظات، بناء على رغبة اللامعترفين بشرعية ومشروعة الفلسفة لا على رغبة الأنا العنيدة المتفلسفة التواقة للتحرر الفكري المبدع.
هذا الحضور الهامشي للفكر الفلسفي، هو ما سيدفع به للانتقال إلى فضاء آخر، بحثا عن الاعتراف والحرية. عناد فلسفي سيسمح للمضمور من التجلي، ويمكن المخفي من الظهور، ويقترح البوح بدل السكوت بعيداعن الرقابة والمساءلة. والواقع أن هذه الشروط تجسدت إلى حد ما في الأندلس، وكانت في صالح الفلسفة والفيلسوف الذي سيمارس تفلسفه بكامل الحرية، ويعد ابن باجة نموذج الفيلسوف الجريء، والمدشن الحقيقي للفعل الفلسفي العقلاني بالغرب الإسلامي. توليه لمناصب سياسية، جعل فعله ينال حظوة الاعتراف والتقدير والتبجيل، ليكتسب كديبلوماسي مكانة مرموقة في الحياة العامة، ويحيا كفيلسوف حرية فكرية لا تعطلها أية سلطة.
وتجدر الإشارة إلى أن التجربة الباجوية التي شكلت فعلا فلسفيا استثنائيا نالت ميراثها من المعاناة ونصبيها من المأساة، كمقابل لرغبة صاحبها الملحة في ترسيخ فلسفة عقلانية على أقاويل برهانية. تعاطف الأصحاب لم يق حياته من مكائد ومصائد الأعداء، وخبثهم تجاوز حد الحسد وتمني دوام المصائب والمكاره حياة ومصيرا، إلى حد الجرم، «ليموت لا بتعب الحياة الذي ينهك وينخر قوى ورغبات الديمومة عند الواحد منا في آخر العمر، حينما تتغلب قوى الاستسلام على قوى الاندفاع، فتكون أرواحنا لقمة سائغة بين أصابع ملك الموت، ولكن بسم دسه له صديقٌ وزميل في حرفة من إحدى الحرف الكثيرة التي كان ابن باجّه يتقنها... يقول ابن باجة:
يا ملك الموت وابن زهر … جاوزتما الحد والنّهاية
ترفقا بالورى قليـــــــــلا … في واحد منكما الكفاية»[9].
عاش ابن الصائغ حياة يغمرها التناقض والصراع: الاستوزار والتنكيب، التعاطف والنفور، الصداقة والعداوة، القرابة والغرابة، مما قاده إلى بلورة فلسفة إنسانية بامتياز. تدبير المتوحد عنده بمثابة إصغاء لصخب حياته في كل تمفصلاتها، ومحاولة خلق مسارات ومسارب هروبية بديلة، لتوسيع رحبة الممكن الإنساني وفتح آفاق أخرى أمام الذات المتفلسفة، كمجاوزة للضيق الذي تئن تحت وطأته. كل إقبال على فعل التفلسف هو بشكل أو بآخر إقبال على مغامرة محفوفة بالعديد من المخاطر والشدائد، ومجازفة تجاه الذات والعالم، فيلسوفنا سرقسطي المهد وفاسي اللحد اختار المقاومة الدؤوبة لمختلف أشكال الرفض الذي يحصار كل محسوب على الفلسفة وحامل لهوية التفلسف، بدل الاستسلام؛ فهو على وعي أنه بقدر ما يتم التصدي لفكر ما ومحاولة اقتلاع جذوره بقدر ما يتجذر على نحو أعمق من الأول. والشارح الأكبر ممتن لجهد فيلسوفنا واجتهاده، «ولقد أعطى في زمنه دفعة كبرى لحرية الفكر وللبحث الفلسفي، وكان رائدا كبيرا للتيار العلمي العقلاني، حمل مشعله بعد أن أطفئ قهرا في المشرق العربي، فأضاء الحضارة العربية الأندلسية بنبراس الروح الفلسفية التي حمل رايتها كبير الفلاسفة العرب أبو الولد ابن رشد، وهذا ما يؤكد أن الفلسفة، مع ما كانت تحوي من علوم، لم تكن حدثا طارئا في تاريخ العرب، بل كانت زهرة أصيلة جاءت ثمرة نضال مستمر، كلما خبت في بقعة أبت أن تنبت من جديد، فتملأ بأريجها آفاق الحرية الفسيحة»[10].
إنه صاحب سيرة حافلة، وحياة فلسفية وعلمية متميزتين، ترك مؤلفات في مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية كإسهامات علمية وازنة، على الرغم من الإهمال الذي مني به. وسنكتفي بعرض بعض عناوين من مؤلفاته نظرا لتعددها: تدبير المتوحد، رسالة اتصال العقل بالإنسان، رسالة الوداع، كتاب النفس، مقالات السماع، كلامه في النبات، كلامه في الحيوان، كلامه في لواحق المقولات، كلامه في الألحان.
«يجمع المؤرخون للحياة العقلية في الأندلس أن أبا بكر بن الصائغ استهل مرحلة التأليف الفلسفي الأصيل في الأندلس»[11]. وقد أدلى عبد الرحمن بدوي في موسوعته الفلسفية بملاحظة حول مؤلفات ابن باجة مفادها أن كل ما ورد إلينا يغلب عليه طابع الشذرات، وسوء التأليف وكأنه مجرد تعاليق شتى لا تضمها وحدة تأليفية. وكأنه يود تذكيرنا برأي ابن طفيل إزاء المشروع الفلسفي الباجي غير المكتمل بسبب وفاته في ريعان الشباب، ولكن هناك من يدحض هذه الفرضية كجورج زيناتي في كتابه القيم ’فلسفة ابن باجة وأثرها، ويبرهن على عكس ذلك، بشهادة تعود لابن باجة نفسه، يقول هذا الأخير في بداية رسالة الوداع التي بعث بها لتلميذه المتميز وصديقه الصدوق أبي الحسن علي بن العزيز بن الإمام: «إني قد تقدمت فسلكت من العمر القدر الذي بين سني وسنك»[12].
محمد ألوزاد هو الآخر كأحد الباجويين تفكيرا وكتابة وبحثا وتخصصا عمل قدر الإمكان على جعل تلك الشمس التي تشرق من المغرب ساطعة لامعة بعيدا عن أي كسوف يحجب ضياءها، ولا سيما أن الرجل من المتخصصين الذين لهم دربة ودراية برسائل وأقوال الفيلسوف العالم الطبيب الشاعر الموسيقي، إذ رهن على مراجعة تلك الملاحظة الشائعة بين الدارسين: «غياب تعريف دقيق بابن باجة، والنظر إلى موقعه العلمي والفلسفي نظرة ثانوية تقلل من قيمته، وتجعله مجرد معبر للحركة الفلسفية المشائية من الشرق إلى الأندلس»[13]، والاستراك عليهم مع حرصه الشديد على «تقليص الكسوف الذي أصابه في تاريخ الفلسفة والعلم في الغرب الإسلامي»[14]، مؤكدا «إن ابن باجة الذي فاخر به الأندلسيون ونجت حكمته بفضل سيوف المرابطين ودماءهم على أسوار سرقسطة. كان لحظة في مقاومة السياسي – الفقهي الذي تميزت به هذه الممارسة. كما كان لحظة انفصال وتحول في هذه الممارسة حينما اتخذ لنفسه طريقا في النظر تميز به في قراءة الأصول الأرسطية و[شرحها...] والفحص العميق لأقوال الشراح المتأخرين»[15].
يمثل «أول فلاسفة الإسلام - إذا اعتبرنا مدلول الفلسفة الصحيح – ومن أكثرهم شهرة، جعله أبي أصيبعة في العلوم الحكيمة (الفلسفية) من أجل نظار أهل زمانه (يعني علماء الكلام)، وكذلك قال عنه القفطي إنه عالم بعلوم الأوائل (أي الفلسفة). وعده ابن خلدون في أكابر فلاسفة الإسلام في الأندلس، وفي الذين بلغوا الغاية في العلوم واختصوا بالشهرة والذكر دون سوهم... (إنه) من الذين اتجهو في التفكير اتجاها عقليا محضا، وشق هذه الطريقة لمن عاصره ولمن جاء بعده، وكان أرسطو طاليسي النزعة على الحصر. ولقد كان نهجه العلمي هذا وتفكيره المطلق من الأسباب التي حملت العامة على تفكيره، وأدى ذلك إلى قتله»[16].
إن هذه الخطوط العريضة التي تتقاسمها جل الآراء المؤرخة لفلسفة ابن باجة، أرخت لخلاصة تؤول إلى اعتباره فيلسوفا مدشنا لفعل فلسفي عقلاني في الغرب الإسلامي، وهو فعل يختلف عن ذلك الذي كان في المشرق، حيث أعلن من خلاله على ولادة فلسفة جديدة، برهانات واضحة المعالم، ومتحررة من سطوة الفقهاء والساسا، ولكن هذا لا يعني أنها (الفلسفة الأندلسية) انفصال جذري أو اتصال تام بالفلسفة المشرقية، فـ «الصلات الثقافية بين الشرق والغرب الإسلاميين لم تنقطع ورحلات العلماء الأندلسيين شرقا في طلب العلم واقتناء الكتب طبعت الحياة العقلية في الأندلس»[17]؛ وذلك أن تاريخ الفلسفة شرط انخراط الفيلسوف، انخراط يتأسس على مبدأ الفصل والوصل، التفكيك والبناء في آن واحد.
لا مناص من القول إن اللحظة الباجوية لحظة استثنائية في تاريخ الفلسفة الإسلامية، في مشرقها ومغربها، لقد استأنف الفعل الفلسفي بالأندلس، ودشّن فلسفة حقيقية، وقد قطع بذلك مع تقليد فلسفي موروث عن التجربة المشرقية (الخلط بين الفلسفة وعلم الكلام والتصوف)، هو «العالم الطّبيب الشّاعر الموسيقي الذائع الصيت في زمنه، والذي وصف بـ’شمس تشرق من مغرب‘، وعدّ نظيرللفارابي وابن سينا ومنافسا لهما، (لو لا أن) قد كسفته الظاهرة الرّشدية بإنتاجها الضخم وامتدادتها وتفاعلاتها السكولائية»[18]. بنى صرح فلسفة عقلانية تحت نيران الأعداء، ورغم أنه اكتوى بها في مدينة فاس، إلا أنه استطاع أن يترك نصوصا مؤسِّسَة خلدت اسمه، ولم ينسل من قائمة الحاضرين، وإنما ظل حاضرا على نحو دائم.
إن ابن باجة السرقسطي المولد والفاسي المدفن شخصية متفلسفة استثنائية، مغرية ومثيرة لكل من اتخذ الفلسفة وطنا، والتفلسف موطنا، وليس في الإغراء مدعاة سلب، فالذي لا يغري يعيش انمحاء وجوديا، لا يأبه أحد لحضوره أو غيابه. «إننا لا ننتبه لغياب شخص لا نعرفه مسبقا»[19]. الغياب توأم الحضور، لا نعرف الحضور إلا بالغياب ولا الغياب إلا بالحضور، فالحضور الباجي استفز أعداءه وأحرجهم، الشيء الذي دفعهم للتخلص منه، ولكنه سيظل دوما آتيا، غيابه لم يلغ وجوده على امتداد الزمان. والمغامرة الفلسفية التي خاض غمارها في الغرب الإسلامي مهدت الطريق لمغامرات فلسفية كبرى مع ابن رشد والرشديين.
هذه السطور ليست تأبينا نثريا لتعداد الصفات الحميدة لابن الصائغ، أو رثاؤه بعد مماته كصيغة للبكاء عليه، أو تخليد ذكرى وفاته تمجيدا لشخصه، إنما هي محاولة التنويه بمنزلة فلسفته، وأصالة مسعاه التدشيني لفعل فلسفي عقلاني في الغرب الإسلامي. فإن احتوت مدينة فاس ركام جسده، فروحه تسكن العالم، وبنبرة شاعرية لمحمود درويش:
"لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً، تلك أَرواحٌ تغيِّر شَكْلها ومُقَامها".
قائمة المراجع:
- ابن باجة، رسائل ابن باجة الالهية، ماجد فخري، دار النهار.
- ابن طفيل، حي بن قظان، ضمن كتاب تراثنا حي بن يقظان النصوص الأربعة ومبدعوها، يوسف زيدان (محقق)، الطبعة الثانية، مصر: دار الأمين، 1998
- ابن باجة، رسائل فلسفية لأبي بكر بن باجة، جمال الدين العلوي (محقق)، الدار البيضاء: دار النشر المغربية.
- محمد ألوزاد، القول الإنسي لابن باجة، الدار البيضاء: مطبعة الأندلس.
- ابن ابي اصيغة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، نزار رضا (محقق)، بيروتدار مكتبة الحياة.
- عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، الجزء الأول، الطبعة الأولى، بيروت: المؤسسة للدراسات العربية، 1984
- الفتح بن خاقان الإشبيلي، مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأنْدلُس، محمّد علي شوابكة (محقق)، الطّبعة الأولى، دار عمار، مؤسسة الرسالة، 1983
- جورج زيناتي، الفلسفة في مسارها، الطبعة الثانية، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013
- محمّد ألوزاد، الدّيناميك في شروح السماع الطبيعي لابن باجّه السرقسطي: استدراك على مقال ساليمون بنيس S: Pinès، ضمن ندوة الحضارة الأندلس في الزمان والمكان، سلسلة أبحاث وندوات، رقم 1، جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، المحمّدية.
- عمر فرّوخ، ابن باجّه والفلسفة المغربيّة، الطبعة الثانبة، بيروت: منشورات مكتبة منيمنة، 2000.
- جيل دولوز، خارج الفلسفة: نصوص مختارة، عبد السلام بنعبد العالي وعادل حدجامي (مترجمين)، منشورات المتوسط، 2021
- محمد صلاح بوشتلة، ترجمة الفيلسوف المشوهة: عن ترجمة الفتح بن باجّه لأبي بكر بن باجّه، ضمن مجلة الراصد، المجلد 6، العدد 1، يناير.
[1]عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، الجزء الأول، طبعة 1، (بيروت: المؤسسة للدراسات العربية 1984)، ص 11.
[2] ابن طفيل، حي بن قظان، ضمن كتاب تراثنا حي بن يقظان النصوص الأربعة ومبدعوها، يوسف زيدان (محقق)، الطبعة 2، مصر: دار الأمين، 1998)، ص ص 62 - 63
[3] المرجع نفسه، ص 62
[4] ابن باجة، رسائل فلسفية لأبي بكر بن باجة، جمال الدين العلوي (محقق)، (الدار البيضاء: دار النشر المغربية)، ص ص 78 – 79
[5] الفتح بن خاقان الإشبيلي، مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأنْدلُس، محمّد علي شوابكة (محقق)، الطّبعة 1، (دار عمار، مؤسسة الرسالة، 1983)، ص 397
[6] جورج زيناتبي، الفلسفة في مسارها، الطبعة 2، (دار الكتاب الجديد المتحدة، 2013)، ص 62
[7] ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، نزار رضا (محقق)، (بيروت: دار مكتبة الحياة)، ص 516
[8] ابن باجة، رسائل ابن باجة الالهية، (محقق)، (بيروت: دار النهار، 1991)، ص 11
[9] محمد صلاح بوشتلة، ترجمة الفيلسوف المشوهة: عن ترجمة الفتح بن باجّه لأبي بكر بن باجّه، ضمن مجلة الراصد العلمي، المجلد 6، العدد 1، يناير 2019، ص ص 228 - 229
[10] زيناتي، ص 67
[11] فخري، ص 13
[12] ابن باجة، رسالة الوداع، ضمن رسائل ابن باجة الالهية، ماجد فخري (محقق)، ص 113
[13] محمّد ألوزاد، الدّيناميك في شروح السماع الطبيعي لابن باجّه السرقسطي: استدراك على مقال ساليمون بنيس S: Pinès، ضمن ندوة الحضارة الأندلس في الزمان والمكان، سلسلة أبحاث وندوات، رقم 1، جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، المحمّدية، ص 15
[14] المرجع نفسه، ص 50
[15] محمد ألوزاد، القول الإنسي لابن باجة، (الدار البيضاء: مطبعة الأندلس)، ص 3
[16] عمر فرّوخ، ابن باجّه والفلسفة المغربيّة، الطبعة الثانبة، (بيروت: منشورات مكتبة منيمنة، 2000)، ص ص 30 – 31
[17] فخري، ص 11
[18] ألوزاد، الدّيناميك في شروح السماع الطبيعي لابن باجّه السرقسطي: استدراك على مقال ساليمون بنيس، ص ص 15 – 16.
[19] جيل دولوز، خارج الفلسفة: نصوص مختارة، عبد السلام بنعبد العالي وعادل حدجامي (مترجمين)، (منشورات المتوسط 2021)، ص 21