ابن تيميّة: المرجعية الغائبة الحاضرة
فئة : مقالات
إذا كانت الإشارة إلى ابن تيمية قد أصبحت مما لا يمكن تفاديه في عموم الخطاب الإسلامي المعاصر[1] والخطاب المضاد له، فإنّ مكانته وسط المرجعيات التي يحيل إليها السلفيون تعدّ استثنائيةً، فقد كان ابن تيمية بالنسبة إلى هؤلاء الرمز الذي أعاد تأسيس الثقافة الإسلامية على المبادئ التي عُرفت في زمن ابن تيمية بعقيدة أهل السنة والجماعة، والتي ستعرف فيما بعدُ بالسلفية.
تلقّى ابن تيمية تعليمه في إحدى دور الحديث التي عرفت انتشارًا منذ أيام ابن حنبل، والتي كانت تلقّن نزعة حديثية مضادّة لكل الفرق الإسلامية التي اتخذت من المنطق السلاح الأول في الدفاع عن آرائها،[2] وقد تطورت هذه النزعة بتوالي الحقب التاريخية، إلى حقبة ابن تيمية حيث تمّ تحريم المنطق والتحذير من الاغترار بمقدراته.
لم يكتف ابن تيميه بالتأكيد على ضرر المنطق وذم المشغلين به كما فعل ابن حزم والنووي وغيرهما من خريجي المدارس الحديثية، بل اجتهد في إثبات عقم المنطق العقلي، فكان بذلك آخر من ناصر الاتجاه الحنبلي ضد المنطق الذي سيطر على عقليّة بعض علماء الإسلام مثل الغزالي والباقلاني والجويني، وكل الذين لهم صلة بالتيار الأشعري.
لقد تأثر ابن تيمية في بلورته للاتجاه السني الخالص بمعطيات اجتماعية وتاريخية، ذلك أنّ حركية المجتمع الإسلامي لم تتطور في عهده، في اتجاه حركة مدنية ذات درجة عالية من التحضر، بل كانت مدنية محاربة قليلة التحضر، حركة ناشئة في الصحراء وليس في مناطق العمران والمراكز التجارية حيث تكثر عمليات التلاقح الثقافي ويزدهر الفكر التوفيقي، وفي مثل هذه البيئة، نشأ الفكر المتصلب لابن تيمية ذي النظرة الازدرائية تجاه الآخر، وتجاه كل التراث الكبير الذي ساهم في الإنتاج الثقافي الإسلامي، والذي قاومه ابن تيمية بنعوت عقائدية (مبتدع، متزندق، رافضي، باطني، خوارجي..) مشددًا على تمسكه بالتراث الديني الموروث عن السلف ومحولاً إيّاه إلى عنصر مقاومة ثقافية.[3]
عاش ابن تيمية في زمن بدأت فيه قدرات المسلمين الخلاّقة في التراجع إثر مجموعة من الهزات التاريخية الضخمة (الانحسار الجغرافي للدولة الإسلامية، الغزو المغولي، الحروب الصليبية)، وقد عبّر فكر ابن تيمية عن هذا التراجع عبر وضع حنبلية جديدة تتّسم بمزيد من الانطواء على قواعدها المذهبية، بحيث اعتبر رجوع العزّة للمسلمين وإعادة الكبرياء لهم لا يتأتى سوى بسلسلة من عمليات الرجوع على تراث السلف واستحضاره لمجابهة التحديات الحاضرة[4].
كما تميزت الحياة الفكرية في عصر ابن تيمية بالتحيز الفكري والتعصب المذهبي، بحيث اشتد الخلاف بين الشافعية والحنفية، وبين الحنابلة والأشعرية وبينهما وبين المعتزلة، وبين كل هؤلاء وبين الشيعة،[5]فانتقل الجدل لنجده مدوّنًا في بطون الكتب والمجلّدات الضخمة التي تشرح الخلاف وتسجّل الجدل وتبين أوجه المتناظرين مع التعصب لواحد منها، وقد سرى ذلك على كتب ابن تيميه وعلى كتب معاصريه على حد سواء[6].
ترافق ذلك مع فقدان ابن تيمية للأمل في العمل السياسي، فقد اقتنع بانعدام القدرة الإصلاحية في الحكم العباسي، فناضل على الجبهة الدينية بإصدار الفتاوى الصارمة على مظاهر "الانحراف الديني"، وخصوصًا ضد قداسة الأولياء وزيارة القبور وفي مسألة الطلاق، التي قادته إلى السجن ثلاث مرات بإيعاز من الأوساط الشافعية والشاذلية،[7]موسّعًا بذلك مفهوم الجهاد الإسلامي ومعطيًا إياه معنيين: إيجابي وهو مقاتلة العدو المعتدي،[8] وسلبي، ويتمثل في النضال ضد الإسلام الفرقي والانشقاقي وضد الممارسات والمؤسسات المنحرفة عن إسلام السلف الصالح.
جبهة نضالية أخرى لم يكن هذا الفقيه المتشدد ليتركها، وهي النقد الشديد لمواقف الفلاسفة التوفيقيين، وسعيه إلى محاجّتهم بموافقة ما هو معقول لما هو منقول، فقد هاجم ابن تيمية كل التيارات والفرق الإسلامية التي تمخض عنها تاريخ الإسلام في عصره من خوارج ومرجئة ورافضة وقدرية وجهمية ومعتزلة وأشعرية وإسماعيلية، واضعًا بذلك علمًا جديدًا هو "علم العقائد المقارن" الذي نجد نظائره عند المفكّرين المسلمين، وهو مجموعة مقارنات أجراها ابن تيمية بين التصوف والتشيع والفلسفة والمسيحية، في الموضوعات التي كانت تهمّه، وهي العصمة والكرامات والاتحاد والحلول، وهو بحث، وإن كان القصد منه النقض والتسفيه،[9] إلا أنّ تلك الموضوعات كانت تفيد حدة ذكائه وتَقصّيه وشمولية معرفته وكثرة اطلاعه، فعلى عكس مفكري الإسلام الذين اكتفوا بتسجيل المناظرات المذهبية بين الفرق مكتفين بتصنيفها وتسميتها، سجّل ابن تيمية علاقات التأثير والتأثر، وجوانب الوحدة المفهومية والتصورية لهذه الفرق، مدخلاً الفلسفة في هذا الإطار العام.[10] وهو ما مكّنه من الردّ المختصر والشامل على جوانب تلك الوحدة، بما يوافق تقريراته المنهجية.[11]
لم يكن ابن تيمية مهتمًّا بصياغة ردود تخص كل جبهة على حدة، بل نجد، في مساهماته على مستوى العقيدة والفقه والملل والنحل، نظرية جامعة في النص القطعي والمنهج الوثوقي[12] أوردها في صورة تقريرات منهجية نستعرضها كالتالي:
- تكريس الدعائم العقائدية لمفهوم التوحيد الإلهي مكرّرًا مقولات المذهب الحنبلي بهذا الخصوص.[13]
- التمسك بظاهر النص، بديلاً عن عقائد المتصوفة والمتكلمين.
- استخدام المنطق للدفاع عن سلطة النص وعن حجتيه الذاتية وعن نسبية الفهم الإنساني له.[14]
- حصر وظيفة التأويل في عدم تحريف الكلم عن مواضعه.
- إعلاء مقام الصحابة باعتبار فتاويهم مختومة بختم الحق والمنطق شأنهم في ذاك شأن كلام النبي[15].
- إبطال جميع أنواع الإجماع الراهن التي تزكي البدع، بحجة أنّها تفرض نفسها أمرًا واقعًا، بحيث لم يُزكّ نظرية إجماع الأمة الذي ليس سوى إجماع مضلل،[16] فالإجماع الصحيح بنظره هو إجماع السلف وحده الذي يستمد حجيته من اعتماده أسبقية النص المطلقة ولا يعمل من خلال الحالات الخاصة أو المستجدّة إلا على تحقيق مناطه.[17]
- إبطال التمييز الساري بين "البدعة المحرّمة" و"البدعة المستحدثة"، معتبرًا ذلك تمييزًا اعتباطيًّا، فليس سوى حيلة هدفها تهدئة ضمير المبتدعين.
يظهر إذن أنّ مبحث العقائد كان الشغل الشاغل بالنسبة إلى ابن يتمية، بحيث أعطى القيمة القانونية والاجتماعية لمفهوم جوهري في المذهبية السلفية وهو العبادة الخالصة لله، فالغرض الذي يهدف إليه فعل الله التشريعي لا يمكن معرفته، أما من خلال القرآن فيمكن تعريفه للإنسان في صورة عمل ونشاط.[18]
في هذا الإطار، ومن إضافات ابن تيمية قياسًا على الحنبلية، إنّ التكفير لم يعد عقائديًّا وعامًا، وإنّما أصبح محددًا بمجموعة من الشروط النظرية الخاصة، ومن أهمها إقامة الدليل على النطق بما يوجب الكفر. وأهمها إنكار وجود الله، أو الشرك به، أو سبّ النبيّ أو زوجاته أو أصحابه، ومن إضافاته كذلك وضع وصف الفسق بديلاً عن التكفير الصريح، وهو شكل مخفّف من التكفير لا يؤدي إلى الطرد من الأمّة، وإنّما إلى نوع من الإبعاد المنهجي لكل من كانت عقيدته موضع شك، وهو ما ينسحب على المبتدعين في حالة بدئهم في الإعلان عن عقائدهم.[19]
وقد أدى التفصيل في الكفر ومراتبه إلى انطباع تراث ابن تيمية بنزعة تكفيرية واضحة تتجلى من خلال الحجم الذي تحتله الأحكام التي تفيد التكفير والمفردات التي تدور حوله في التراث التيمي.
وقد دفعت كثرة حديث ابن تيمية عن التكفير وغيره من الأحكام المفيدة له أعداءه إلى اتهامه بأنّه فتح الباب للدهماء والعامة، فمن خلال كلامه الكثير في العقائد انتقل بن تيمية في نظر أعدائه بالكلام عن التوحيد من اختصاص النخبة من العلماء إلى مجال العامة، أو من علم الكلام ذي السياق الاجتماعي الخاص إلى مقام الشأن العام بالتعبير المعاصر، في حين شدد المتكلمون على ضرورة إلجام العوام عن هذا الشأن.[20]
وبالفعل فقد كان مذهب ابن تيمية الديني والاجتماعي والسياسي في جوهره مذهب فقيه من عامة الشعب، وردَّ فعل على ما اعتبره جهلاً للعلماء الذين وُصموا بالخضوع السياسي وبالجمود الفكري، كان دعوة إلى الأمراء بالنزول عند حكم الشريعة التي شوّهها العلماء. وهو بهذا يحقق للنخبة المتعلمة من الطبقة الشعبية مشاركة أكثر استقلالاً في إدارة شؤون الجماعة.[21]
كان ابن تيمية، إذن، ممثلاً للاتجاه المُغالي في الإسلام السنّي، بحيث ساهم في التأسيس له ليصبح بعد ذلك تيارًا له مشايخه المتعددون وأتباعه المخلصون الذين ينهلون من هذا المعين العقائدي، مكتفين في غالب الأحيان بتكرار ردوده في معرض معاركهم العقائدية، فقد كانت توجهات ابن تيمية مصدرًا للحجاج الدائم ضد الأشاعرة والحنابلة الذين كان ابن تيمية ينتمي إليهم اجتماعيًّا ومذهبيًّا،[22] خصوصًا بعد اختفاء العديد من الفرق وتقلص دائرة الجدل الكلامي والأيديولوجي بين هاتين المدرستين.
[1]- حتى أنّ عبد السلام ياسين، وهو عدو لدود للسلفيين، كان دائم الإحالة على ابن تيمية لكن بمعان مستقاة من التجربة الصوفية، كما وُظّف ابن تيمية أيضًا، عند الحركات الإسلامية في التأسيس لفكرة العدل الاجتماعي والسياسي. في مثال على ذلك: راجع سعد الدين العثماني، المشاركة السياسية في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية (الدار البيضاء، منشورات الفرقان، سلسلة الحوار 29، 1997).
[2]- للاستزادة راجع، الحسين وجاج، دور الحديث في العالم الإسلامي (آكادير: منشورات كلية الشريعة، جامعة القرويين، رسائل وأطروحات جامعية، 1)، ص 105
[3]- حول ارتباط الفكر بالبيئات الجغرافية راجع، مايك كرانغ، الجغرافيا الثقافية، ترجمة، سعيد منتاق، (الكويت: عالم المعرفة، عدد 317، يوليو 2005).
[4]- هنري لاووست، الحنبلية تحت المماليك البحرية، ضمن
Revue des études musulmanes, N°28, 1960
[5]- يحيل السلفيون الجهاديون من أتباع الزرقاوي في العراق على نص الفتوى التي أصدرها ابن تيمية في حق الشيعة مستندًا للقتل الجماعي الذي يمارسونه ضد شيعة العراق، وهذا نص الفتوى: سئل الشيخ تقي الدين عمّن يزعمون أنّهم يؤمنون بالكتاب وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويعتقدون أنّ الإمام الحق بعد رسول الله هو علي بن أبي طالب، وأنّ رسول الله نصّ على إمامته فأجاب: أجمع علماء المسلمين على أنّ كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنّه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله، وقد ثبت عن علي أنّه حرّق غالبية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الألوهية، ورُوي عنه أنّه قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلاّ جلدته، وأنّه طلب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سبّ أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه، فهذه سُنّة أمير المؤمنين قد أمر بعقوبة الشيعة بأصنافهم الثلاثة، فأمر هو وعمر بجلدهم، والغالبية يُقتلون باتفاق المسلمين، فإنّ جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى، فإن لم يظهر عن أحدهم ذلك، كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرًا، فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا بذمة، ولا يحل نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم، لأنّهم مرتدون ومن شر المرتدين. فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون، وإن كانوا في قرى المسلمين فرّقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة، وألزموا بشرائع الإسلام التي تجب على المسلمين. يمكن الاستماع إلى نص الفتوى على موقع البيّنة الالكتروني: www.albainah.net
[6]- محمد أبو زهرة، ابن تيمية، حياته وعصره- آراؤه وفقهه. (القاهرة: دار الفكر العربي، بدون تاريخ)، ص 157
[7]- بنسالم حميش، التشكلات..، م. س، ص 156
[8]- اعتبر ابن تيمية هذا الجهاد أفضل ما يتطوع به الإنسان في سبيل طاعة ربه، فهو أفضل من الحج والعمرة، وأفضل من صلاة التطوع وصومه.
[9]- ألّف ابن تيمية "رسالة الصارم المشلول على شاتم الرسول" في كيفية التعامل مع المسيحيين أو أصحاب الديانات الأخرى بحيث أفتى بوجوب مخالفتهم مخالفة تامّة.
[10]- على خلاف التمييز بين علم الكلام والفلسفة المعمول به لدى مفكري الإسلام.
[11]- في هذا الإطار ومن إضافات ابن تيمية قياسًا على الحنبلية، أنّ التكفير لم يعد عقائديًّا وعامًا، وإنّما أصبح محددًا بمجموعة من الشروط النظرية الخاصة، ومن أهمها أنّ إقامة الدليل على النطق بها يوجب الكفر، كإنكار وجود الله، أو الشرك به، أو سب النبي أو زوجاته أو أصحابه. ومن إضافاته كذلك وضع وصف الفسق بديلاً عن التكفير الصريح وهو شكل مخفف من التكفير لا يؤدي إلى الطرد من الأمة، وإنّما إلى نوع من الإبعاد المنهجي لكل من كانت عقيدته موضع شك. وهو ما ينسحب على المبتدعة في حالة بدئهم في الإعلان عن عقائدهم. هنري لاووست، أصول الإسلام..، م. س، ص 177
[12]- لابدّ من تمييز هذه النظرية عن أخرى شبيهة بها تبناها ابن حزم الظاهري الذي نقد التأويل الباطني بمنطق برهاني، في حين فعل ابن تيمية الشيء نفسه لكن بمنطق الفطرة والحس السليم. بنسالم حميش، التشكلات..، م. س، ص 159
[13]- انظر دراسة مفصّلة لهذا الجانب في فكر ابن تيمية في القسم الأول من كتاب، هنري لاووست، أصول الإسلام..، م. س.
[14]- هنري لاووست، أصول الاسلام ونظمه..، ص 7
[15]- مع العلم أنّ ابن جنبل شغل في فكر ابن تيميه مقامًا أسمى من أصحاب المذاهب الأخرى بسبب تمسكه المتناهي باتباع الصحابة الراشدين. المرجع نفسه، ص 121
[16]- من المعلوم أنّ ابن تيمية عارض الإجماع الذي قال به معظم علماء الأصول، وهو أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه لكن برأي منهم أو بقياس منهم على منصوص.
[17]- عارض ابن تيمية الإجماع المنعقد في عصره في الفروع بشأن مسائل اجتهد فيها اجتهادًا مطلقًا.
[18]- هنري لاووست، أصول الإسلام ونظمه..، م. س، ص 38
[19]- هنري لاووست، أصول الإسلام ونظمه..، م. س، ص 177
[20]- عزيز العظمة، ابن تيمية (بيروت: رياض الرايس للكتب والدراسات، 2000)، ص 13
[21]- هنري لاووست، أصول الإسلام ونظمه..، م. س، ص 248
[22]- اتباع ابن تيمية للمهذب الحنبلي كان من دون التزام تام، فقد كان مجددًا مطلقًا لا مذهبيًّا في المعاملات.