ابن خلدون والتصوّف قراءة في "شفاء السائل لتهذيب المسائل"
فئة : مقالات
قد يبدو الموضوع الذي اخترنا النظر فيه حمّال مشكلة منذ عنوانه؛ فهو يبين نيّتنا في الحديث عن ابن خلدون وعلاقته بالتصوّف، وقد يرى البعض في هذا الجمع شيئا من التعارض، باعتبار ما عرف عن ابن خلدون من ميل إلى العقل والعقلانيّة، وهو ما أرادته له جلّ الدراسات المعتنية بفكره مع استثناءات قليلة جدّا[1]، وما نعت به التصوّف من إغراق في الروحانيّات وابتعاد عن العقل. ويتبادر إلى الأذهان أيضا أنّ ما يجمع ابن خلدون بالتصوّف هو الفصل الّذي خصّصه في المقدّمة لعلم التصوّف، بمناسبة تعرّضه لأنواع الصنائع وضروب العلوم المكوّنة للعمران البشري. وهذا، في نظرنا، راجع إلى سبب أساسيّ يتمثّل في أنّ الدراسات غير القابلة للحصر المهتمّة بابن خلدون وما أنتجه كانت مهتمّة، إمّا بالمقدّمة أو بدرجة أقلّ بكتاب العبر، ممّا جعل بقيّة مؤلّفاته قليلة الحظّ من جهة الدراسة.
ابن خلدون ألّف رسالة « شفاء السائل» في أواخر حياته أثناء إقامته في مصر، وهي كغيرها من الرسائل جواب عن سؤال
إنّ علاقة ابن خلدون بالتصوّف تتجاوز الفصل الّذي خصّصه له في المقدّمة إلى رسالة خاصّة بهذا العلم عنوانها «شفاء السائل لتهذيب المسائل».[2] ومن خلال هذه الرسالة، يمكننا الوقوف على نظرة ابن خلدون إلى التصوّف ومواقفه من أهمّ قضاياها، ومرجعيّاته الّتي استند عليها لبلورة آرائه حوله.
يبدو أنّ ابن خلدون ألّف رسالة « شفاء السائل» في أواخر حياته أثناء إقامته في مصر، وهي كغيرها من الرسائل جواب عن سؤال؛ فقد ورد سؤال من عدوة الأندلس يتعلّق بمدى ضرورة الشيخ بالنسبة إلى المريد، وهو ما صرّح به ابن خلدون في بداية الرسالة: « أمّا بعد، فقد وقفني بعض الإخوان أبقاهم الله على تقييد وصل من عدوة الأندلس [...] يخاطب بعض الأعلام من أهل مدينة فاس [...] طالبا كشف الغطاء في طريق الصوفيّة أهل التحقيق في التوحيد الذوقي والمعرفة الوجدانيّة، هل يصحّ سلوكه والوصول به إلى المعرفة الذوقيّة و رفع الحجاب عن العالم الروحاني تعلّما من الكتب الموضوعة لأهله [...] أم لابدّ من شيخ يبيّن دلائله...؟»[3].
ويبدو أنّ هذا التساؤل كان ناتجا عن جدل حادّ بين القائلين بضرورة الشيخ بالنسبة إلى المريد، والقائلين بعدم ضرورته، وهو ما أكّده ابن خلدون بقوله: « فطال في تلك المناظرة الجدال وجُلِبَ للاحتجاج العلماء والأبدال، وذهبت النصفة بينهما والاعتدال».[4]
ولئن كانت المسألة المتناظر في شأنها القادح على تأليف الرسالة، فإنّ ابن خلدون اتّخذها مدخلا لإبداء رأيه في التصوّف والمتصوّفة، وتمييز التصوّف المحمود عن المذموم، فكانت الرسالة في جوهرها فتوى فقهيّة. ولمّا كان الأمر على ذلك النحو، فإنّنا نتوقّع أن تكون نظرة ابن خلدون إلى موضوع رسالته؛ أي التصوّف، نظرة مختلفة عمّا أورده في المقدّمة، حيث كان يعالج التصوّف باعتباره ظاهرة عمرانيّة متحرّرا شيئا ما من القيود الدينيّة، فكان واسع الأفق. أمّا في "شفاء السائل"، فإنّ الأمر مختلف تماما؛ فالأمر يتعلّق بفتوى فقهيّة[5].
إذا اعتبرنا "شفاء السائل" فتوى فقهيّة، فإنّه يتحتّم علينا اعتبارها فتوى من نوع خاصّ لتعلّقها بالتصوّف. وقد أوردنا هذه الملاحظة لأنّ علاقة الفقه بالتصوّف شابها الكثير من التوتّر، ورأينا إبداء بعض الملاحظات حول تلك العلاقة، حتّى نتمكّن من وضع رسالة ابن خلدون في إطارها التاريخيّ العام.
يبدو أنّ الفقهاء لم يكونوا محترزين من الصوفيّة قبل القرن الثالث، بل كان الأمر على عكس ذلك تماما، حيث كان « علماء الدّين من الفقهاء والصوفيّة على جانب كبير من الوفاق المبدئيّ المؤسّس على قاعدة مشتركة من التقوى الإسلاميّة بمفهومها القرآني القائم على الجمع بين العلم و العمل»[6].
"شفاء السائل" فتوى فقهيّة، فإنّه يتحتّم علينا اعتبارها فتوى من نوع خاصّ لتعلّقها بالتصوّف
ولكنّ هذه العلاقة بين الفقهاء والمتصوّفة أخذت تتوتّر بداية من منتصف القرن الثالث؛ حيث «ازدهرت الحركة الصوفيّة ببغداد، وأضحى للمتصوّفة حلقات تعقد للتناظر في شؤون الدّين».[7] ولعلّ هذه الحلقات المخصّصة للتناظر في المسائل الدينيّة كانت البوادر الأولى لطرح مسألة المفاضلة بين أعمال الباطن وأعمال الظاهر، وهو ما جعل الفقهاء يعتقدون «أنّ النهج الّذي مضى فيه المتصوّفة سيفضي بهم إلى الزيغ، ما داموا يقولون بأنّ النيّة مقدّمة على العمل، وأنّ العبرة ليست بالعبادة في حدّ ذاتها، بل بما تتضمّنه من الخشوع والطاعة»[8].
لقد مثّلت ثنائيّة الظاهر والباطن إذن، نقطة الاختلاف المركزيّة بين الفقهاء والصوفيّة. والجدير بالملاحظة، أنّ نقطة الاختلاف تلك لم تبرز إلاّ بداية من منتصف القرن الثالث للهجرة، كما أشرنا إلى ذلك، وفي هذا التاريخ دلالة على أنّ الأمر يتعلّق بخروج الفقه من الممارسة العفويّة إلى مرحلة التنظير، عبر تركيز علم أصول الفقه مع محمّد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ)، وقبل تبلور مختلف المدارس الفقهيّة الّتي حوّلت الفقه إلى مؤسّسة تراقب السلوك الاجتماعي، وهي مراقبة لا يمكن تصوّرها إلاّ إذا كان الحكم على الفرد مبنيّا على ملاحظة أعمال الجوارح الظاهرة، فأصبحت الأعمال بالتالي المقياس الأهمّ للحكم على ما وقر في القلب من الإيمان، فتتحدّد تبعا لذلك المنزلة في الهيئة الاجتماعيّة، والحكم على المصير الأخروي. فلا سلطان إذن إلاّ على الأعمال الظاهرة، فكانت هي الأهمّ بالنسبة إلى الفقهاء، وهو ما عبّر عنه ابن خلدون بقوله: « إنّ الأعمال الظاهرة كلّها في زمام الاختيار، وتحت طوع القدرة البشريّة، وأعمال الباطن في الأكثر خارجة عن الاختيار، متعاصية على الحكم البشريّ، إذ لا سلطان له على الباطن، بل وترجع الأعمال الظاهرة إليه لأنّها تحت سلطانه، وطوع إشارته، وفي زمام اختياره»[9].
تقودنا القضيّة كما طرحناها إلى المسائل الكلاميّة المتعلّقة بالأسماء والأحكام، وبذلك تتقاطع ثلاثة علوم مهمّة، عندما نحاول النظر في ثنائيّة الظاهر والباطن في الفكر الإسلامي، وبالتالي لا يمكن دراسة هذه الثنائيّة من جهة علم واحد، وبذلك نتخلّى عن السمة التجزيئيّة الّتي نلمسها في كثير من الدراسات الحديثة للفكر الإسلامي، فيعزل البحث في التصوّف عن علم الكلام، ويدرس التفسير بمعزل عن الفقه، وتخصّص بحوث للحديث النبوي دون ربط بأصول الفقه، إلى غير ذلك من الاحتمالات؛ فهذه «النظرة التجزيئيّة كثيرا ما مثّلت عائقا أمام فهم نظام الفكر، الّذي يشدّ مختلف العلوم بنسيج مترابط، ومنعت من إعادة النظر، ومن تفحّص جديد لأحكام بقيت سائدة تاريخا طويلا»[10].
من خلال التقاطع بين التصوّف والفقه وعلم الكلام، والتخلّي عن التجزئة الّتي أشرنا إليها، يمكننا النظر في ثنائيّة علم الظاهر وعلم الباطن كما طرحها ابن خلدون في «شفاء السائل».
يؤكّد ابن خلدون كغيره من أهل السنّة أنّ أجيال الصحابة والتابعين كانت الأجيال المحافظة على صلاح الباطن والظاهر[11]، ولكن بعد هذه الأجيال « اختلف النّاس، وتباينت المراقب، وفشا الميل عن الجادّة والخروج عن الاستقامة، ونسي النّاس أعمال القلوب وأغفلوها، وأقبل الجمّ الغفير على صلاح الأعمال البدنيّة، والعناية بالمراسم الدينيّة، من غير التفات إلى الباطن والاهتمام بصلاحه، وشغل الفقهاء بما تعمّ به البلوى من أحكام المعاملات و العبادات الظاهرة»[12]. ويضيف ابن خلدون سببا آخر لاهتمام النّاس بأعمال الظاهر على حساب الأعمال الباطنة، وهو «احتياج السلطان و الكافّة لمنصب الفتيا»[13]. ويبدو أنّ البلوى الّتي تحدّث عنها ابن خلدون كانت ممثّلة في نظره في شيوع المذاهب والمعتقدات المخالفة للفكر السنّي، وهو ما يتّضح من خلال قول ابن خلدون: «ثمّ طرقت آفة البدع في المعتقدات وتداعى العبادةَ والزهدَ معتزليٌ ورفضيّ وخارجيّ، لا ينفعه إصلاح أعماله الظاهرة ولا الباطنة، مع فساد المعتقد الّذي هو رأس الأمر. فانفرد خواصّ السنّة المحافظون على أعمال القلوب، المقتدون بالسلف الصالح في أعمالهم الباطنة والظاهرة، و سُمّوا بالصوفيّةِ»[14].
لم يكن قول ابن خلدون سوى تكرار شبه حرفيّ لما جاء في «الرسالة القشيريّة»، ونثبت هنا نصّ القشيري، وإن كان طويلا شيئا ما، فتستقيم المقارنة: «اعلموا رحمكم الله تعالى أنّ المسلمين بعد رسول الله (ص) لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله (ص)، إذ لا فضيلة فوقها فقيل لهم: الصحابة. ولمّا أدركهم العصر الثاني سمّي من صحب الصحابة: التابعين [...] ثمّ قيل لمن بعدهم أتباع التابعين. ثمّ اختلف النّاس وتباينت المراتب، فقيل لخواصّ النّاس ممّن لهم شدّة عناية بأمر الدّين، الزهّاد والعبّاد، ثمّ ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق، فكلّ فريق ادّعوْا (كذا) أنّ فيهم زهّادًا، فانفرد خواصّ أهل السنّة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوّف»[15].
إنّ ما يذهب إليه القشيري ويتبّناه ابن خلدون من بعده، يحصر لقب الصوفيّة في المنتمين لأهل السنّة، فيلتبس الأمر بالاعتقاد الكلامي، وقد بدا لنا الالتباس واضحا عندما سعى ابن خلدون إلى تنزيل الظاهر والباطن في إطار مفاهيم ثلاثة هي، الإسلام والإيمان والإحسان، ويعتبر هذه المفاهيم مقامات فيقول: «فإنّ مقام الإسلام هو العمل من حيث ظاهره، من حيث قبوله وسقوط التكليف به أو في ردّه. ومقام الإيمان هو اتّفاق الظاهر و الباطن في أداء العبادة مع تخلّل الغيبة، وفي هذا رجاء النجاة. ومقام الإحسان هو اتّفاق الباطن والظاهر مع المراقبة في جميع العمل [...]، وتجري هذه المقامات الثلاثة في جميع العبادات والتكاليف، وهذا هو معنى ما يقوله بعض الأكابر من أنّ للشريعة ظاهرًا وباطنًا»[16].
البلوى الّتي تحدّث عنها ابن خلدون كانت ممثّلة في نظره في شيوع المذاهب والمعتقدات المخالفة للفكر السنّي
إنّ تحديد ابن خلدون للمفاهيم الثلاثة الّتي وصفها بأنّها مقامات، يستلهم الحديث النبوي المعروف في بيان معاني الإسلام والإيمان والإحسان، الّذي رواه عمر بن الخطّاب عن النبيّ، وجاء فيه أنّ رجلا لا يعرفه أحد من الصحابة جاء إلى النبيّ« و قال: يا محمّد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله (ص): الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيتَ، إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت [...] أخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه. قال: صدقت. فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».[17]
من خلال المقارنة بين ما ذكره ابن خلدون وما ورد في الحديث، يمكننا التأكيد على حرص ابن خلدون على عدم الخروج عن المفاهيم الثلاثة، كما حدّدها الحديث واعتمدها الأشاعرة لاحقا، لبيان معاني الإسلام و الإيمان والإحسان. وهذه الملاحظة جعلتنا نقف على مرجعيّة ابن خلدون الكلاميّة في تحديده لمعنى التصوّف؛ فالتصوّف يفقد كلّ معنى في نظره، إذا كان الصوفيّ مخالفا للاعتقادات السنّيّة، بل الأشعريّة منها.
لقد طرح ابن خلدون المسألة برمّتها في إطار ثنائيّة الظاهر والباطن، ممّا حتّم عليه التقسيم المشهور: فقه ظاهر وفقه باطن: «وصار فقه الشريعة على نوعين: الأوّل فقه ظاهر، وهو معرفة الأحكام المتعلّقة بأفعال الجوارح [...]، وهذا هو المسمّى بالفقه في المشهور. [...] والنوع الثاني فقه الباطن، وهو معرفة الأحكام المتعلّقة بأفعال القلوب [...] ويسمّى هذا فقه القلوب، وفقه الباطن، وفقه الورع، وعلم الآخرة، والتصوّف».[18]
تكمن أهميّة قول ابن خلدون السابق في إرجاع الفقهين جميعا إلى ما سمّاه «فقه الشريعة»، وهذا ما يجعل فقه الباطن لا يكون صالحا إلاّ إذا كان منضويا تحت التعاليم الشرعيّة، وإلاّ كان بدعة ومروقا عن الدّين. و قد بدا لنا هذا الأمر واضحا من خلال التعريفين اللذّين وضعهما لكلا الفقهين، وهما تعريفان يتعلّقان بالأحكام:
- فقه الظاهر = الأحكام المتعلّقة بأفعال الجوارح.
- فقه الباطن = الأحكام المتعلّقة بأفعال القـلوب.
إنّ كلمة «أحكام» كلمة فقهيّة صرف مرتبطة بالحلال والحرام وما بينهما من المندوب والمكروه؛ فهي إذن تتعلّق بالتكليف الشرعيّ[19]. ومن هنا، يمكن استنتاج أنّ ابن خلدون ينظر إلى التصوّف من زاوية نظر الفقيه، فرسالته، كما أشرنا إلى ذلك، في جوهرها فتوى فقهيّة. وممّا يؤكّد ذلك قوله عندما حدّد مفهوم التصوّف: « التصوّف رعاية حسن الأدب مع الله في الأعمال الباطنة والظاهرة بالوقوف عند حدوده مقدّما الاهتمام بأفعال القلوب»[20].
صحيح أنّ هذا التعريف يطرح تقديما لأفعال القلوب على أفعال الجوارح، ولكنّ ابن خلدون حرص في مواطن عديدة من رسالته على تأكيد أنّ الأعمال الباطنة محصورة في الإيمان: «قال (ص): "إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"[21]. ومن هنا كان الإيمان رأس الأعمال وأرفع مراتب السعادة، لأنّه أرفع الأعمال الباطنة كلّها فكيف الظاهرة»[22]. ويقول في موضع آخر: «اعلم، نوّر الله قلوبنا بالهداية، أنّ الله سبحانه فرض على القلوب عملا من الاعتقادات، وعلى الجوارح الظاهرة عملا من الطاعات؛ فجميع التكاليف الشرعيّة الّتي تعبّد بها الإنسان في خاصّة نفسه ترجع إلى نوعين: أحكام تتعلّق بالأعمال الظاهرة، وهي أحكام العبادات والعادات والمتناولات. وأحكام تتعلّق بالأعمال الباطنة، وهي الإيمان وما يتصرّف في القلب ويتلوّن به من الصفات»[23].
لقد حرص ابن خلدون إذن، على قصر صلاح الباطن على الإيمان القويم، ولكنّ هذا الإيمان في نظره لا يتمّ إلاّ بالعمل، وهو ما أكّده بعد أن قسّم التكاليف إلى نوعين؛ الأوّل متعلّق بالأعمال الظاهرة، والثاني مرتبط بالأعمال الباطنة، بقوله: «وهذا النوع [الثاني] أهمّ من الأوّل عند الشارع، وإن كان الكلّ مهمّا، لأنّ الباطن سلطان الظاهر المستولي عليه، وأعمال الباطن مبدأ لأعمال الظاهر، وأعمال الظاهر آثار عنها، فإن كان الأصل صالحا كانت الآثار صالحة، وإن كان فاسدا كانت فاسدة».[24]
يمرّ ابن خلدون من المفاضلة بين فقه الظاهر وفقه الباطن إلى بيان العلاقة التلازميّة بينهما، بل إنّه يسعى إلى التنسيب من التمييز الصارم بين فقهاء الظاهر وفقهاء الباطن، فبعد أنّ ميّز بين الفريقين من الفقهاء يقول: «هذا الكلام ليس على إطلاقه، ونظر الفقيه لم يرتبط بالدنيا مجرّدة لأنّه دنيويّ، بل هنا أمر آخر هو أليق بمناصبهم، وذلك أنّ الشريعة لمّا انقسم حاملوها كما قدّمناه إلى أهل فتيا وشورى [...] وإلى عبّاد وزهّاد [...] وقد يكون الفقيه حاملا للفقهين معا»[25].
علام يمكن حمل آراء ابن خلدون؟
إنّ آراء ابن خلدون تستلهم ما ذهب إليه أبو حامد الغزالي ( ت 505 هـ) في «إحياء علوم الدّين»، وهو الكتاب الّذي استند إليه ابن خلدون كثيرا في « شفاء السائل»[26]، ولكنّ التنسيب الّذي قام به فيما يتعلّق بالمفاضلة بين فقه الظاهر وفقه الباطن، يدلّ على استفادة ممّا حصل للغزالي بسبب الإحياء، حيث كانت الهجمة عليه شديدة من الفقهاء. وحتّى نتبيّن مدى استفادة ابن خلدون ممّا حصل للغزالي، بدا لنا مهمّا أن نعرض بعض ما ذكره أصحاب التراجم والتاريخ من الآراء الحانقة على الغزالي بسبب كتاب الإحياء.
تذكر الأخبار أنّ كتب الغزالي أحرقت في المغرب بسبب غلوّه في طريقة التصوّف: « ومن معجم أبي علي الصدفي، تأليف القاضي عياض له قال، والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة والتصانيف العظيمة، غلا في طريقة التصوف وتجرد لنصر مذهبهم وصار داعية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها»[27]. «وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمدين القرطبي، إن بعض من يعظ ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشرعة الغزالية والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم. فأين هو من شنع مناكيره ومضاليل أساطيره المباينة للدين، وزعم أن هذا من علم المعاملة، المفضي إلى علم المكاشفة، الواقع بهم على سرّ الربوبيّة الذي لا يسفر عن قناعه ولا يفوز باطلاعه إلا من تمطى إليه ثبج ضلالته التي رفع لهم أعلامها وشرع أحكامها»[28]. وروي عن أبي بكر الطرطوشي قوله:«شحن أبو حامد الإحياء بالكذب على رسول الله (ص)، فلا أعلم كتابا على بسيط الأرض أكثر كذبا منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق»[29]. ويروي ابن الجوزي عن أبي عبد الله المالكي المعروف بالزكيّ المغربي، أنّه كان يقول: «الغزالي ملحد وإذا ذكره قال: الغزالي المجوسي»[30]. ويقول ابن الجوزي عند ترجمته للغزالي: «وأخذ في تصنيف كتاب الإحياء في القدس، ثم أتمّه بدمشق إلا أنّه وضعه على مذهب الصوفية، وترك فيه قانون الفقه [...] وذكر في كتاب الإحياء من الأحاديث الموضوعة، وما لا يصحّ غير قليل. وسبب ذلك قلّة معرفته بالنقل، فليته عرض تلك الأحاديث على من يعرف، وإنّما نقل نقل حاطب ليل».[31]
يمكننا التأكيد على حرص ابن خلدون على عدم الخروج عن المفاهيم الثلاثة، كما حدّدها الحديث واعتمدها الأشاعرة لاحقا، لبيان معاني الإسلام و الإيمان والإحسان
لو أردنا إيجاز المطاعن الموجّهة إلى الغزالي بسبب كتاب الإحياء، للاحظنا أنّها تتعلّق بثلاثة مطاعن أساسيّة، هي:
- الميل إلى الباطنيّة.
- الرغبة عن قانون الفقه.
- الاستناد إلى الأحاديث المعتبرة عند أهل السنّة موضوعة.
لقد سعى ابن خلدون في « شفاء السائل» إلى تجنّب ما وقع فيه الغزالي، فنسّب من التمييز بين فقه الظاهر وفقه الباطن، مؤكّدا على أهميّة كليهما وتلازمهما. وتجنّب ابن خلدون الاستناد إلى ما عدّ موضوعا من الأحاديث، رغم كثرة إيراده للحديث النبويّ، بل إنّه تجاوز الابتعاد عن "الموضوعات" إلى نقد بعض الأحاديث الّتي يستند إليها أهل الباطن، فيقول مثلا عند مناقشته لرأي أصحاب التجلّي في مسألة « تجلّي الذات الأقدس على نفسه»: «وينقلون في هذا حديثا نبويّا يجعلونه أصل نحلتهم، وهو: "كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني". والله أعلم بصحّته».[32]
والأهمّ من كلّ ذلك أنّ ابن خلدون قد هاجم أصحاب الباطن وأخرجهم من دائرة الإيمان، وهو ما لم يقم به الغزالي في الإحياء. ويمكن اعتبار هجوم ابن خلدون على الباطنيّة من أهمّ محاور رسالته.
يذهب ابن خلدون إلى أنّ جماعة من المتصوّفة المتأخّرين عنوا بعلم المكاشفة، واختلفوا في ذلك فتعدّدت مذاهبهم، ولكن رغم هذا التعدّد، فإنّه يرجع كلّ المذاهب الباطنيّة إلى رأيين.[33]
- رأي أصحاب التجلّي، والمظاهر والأسماء، ومن أعلامه، حسب ابن خلدون: ابن الفارض (ت 632 هـ)، وابن برَّجان ( ت536 هـ)، وابن قِسِّي (ت 546 هـ)، والبوني (ت 622 هـ)، والحاتمي [ ابن عربي] ( ت 638 هـ)، وابن سودكِين (ت 640 هـ)[34].
- رأي أصحاب الوحدة، وهو، في تقدير ابن خلدون، أغرب من الرأي الأوّل[35]، ومن أعلامه: ابن دهقان ( ت 611 هـ)، وابن سبعين (ت 669 هـ)، والششتري (ت 668 هـ).
ما نلاحظه أنّ كلّ من ذكرهم ابن خلدون، إذا استثنينا ابن الفارض، مغاربة يعتبرهم من أهل الباطن، فهم «يفسّرون المتشابه من الشريعة كالروح والملك والوحي والعرش والكرسيّ وأمثالها بما لا يتّضح أو يكاد، وربّما يتضمّن أقوالا منكرة ومذاهب مبتدعة، ككلمات الباطنيّة في حمل كثير من آيات القرآن المعلومة الأسباب على معنى باطن، ويضربون بحجب التأويل على وجوهها السافرة وحقائقها الواضحة».[36]
إنّ ما ذكره ابن خلدون من وجوه التفسير كفيل بإخراج أتباع التصوّف الباطني من الإسلام برمّته، لأنّ التفسير الباطني لا يتلاءم مع المنظور السنّي السائد، ويبيّن موقف ابن خلدون المماثل لغيره من أهل السنّة، الّذي لا يقبل من التفسير إلاّ ما اعتمد الأثر والنقل، لذلك يقرّر أنّ التفاسير الباطنيّة « تسكن قلوب كثير من أهل الضلال [...] وإذا كانت كلماتهم وتفاسيرهم لا تفارق الإبهام والاستغلاق، فما الفائدة فيها؟ فالرجوع إذن إلى تصفّح كلمات الشرع واقتباس معانيها من التفاسير المعتضدة بالأثر».[37]
إنّ من ذكرهم ابن خلدون من أهل الباطن المغاربة المتأخّرين، يسمح لنا بتنزيل رسالة « شفاء السائل» في إطارها التاريخيّ؛ فالواضح أنّ محاولة الغزالي التوفيق «بين الفقه والتصوّف، إذ اعترف بالتصوّف علما من علوم الدّين إلى جانب الفقه»[38]، ومحاولة القشيري من قبله التنظير للتصوّف في إطار الاعتقادات السنّيّة، وكذلك محاولة أبي بكر الكلاباذي في « التعرّف لمذهب أهل التصوّف»، والأمر ينطبق أيضا على أبي نصر السرّاج الطوسي في «اللمع»، كلّ هذه المحاولات الّتي يجمع بينها منزعها السنّي، باءت بالفشل ولم توقف انتشار النزعات الباطنيّة في التصوّف، وهي نزعات انتشرت انتشارا كبيرا في المغرب الإسلامي، وهو ما تدلّ عليه القائمة الّتي قدّمها ابن خلدون للتمثيل على أصحاب التجلّي وأصحاب الوحدة. ومن هذا المنطلق يمكننا القول إنّ «شفاء السائل» تندرج في نفس الإطار الّذي كان فيه إحياء الغزالي، والرسالة القشيريّة، وتعرّف الكلاباذي ولمع أبي السرّاج الطوسي، فهذه الكتب ظهرت بعد انتشار المذاهب الصوفيّة الباطنيّة في المشرق الإسلامي في القرنين الثالث والرابع للهجرة، أمّا بالنسبة إلى «شفاء السائل» فقد جاءت بعد انتشار المذاهب الصوفيّة الباطنيّة في المغرب الإسلامي.
الإيمان في نظر ابن خلدون لا يتمّ إلاّ بالعمل، وهو ما أكّده بعد أن قسّم التكاليف إلى نوعين؛ الأوّل متعلّق بالأعمال الظاهرة، والثاني مرتبط بالأعمال الباطنة
ليس غرضنا في هذا المقام البحث في تاريخ التصوّف في المغرب الإسلامي، ولكن بدا لنا من المهمّ أن نبدي بعض الملاحظات في هذا الشأن، حتّى نتمكّن من تنزيل «شفاء السائل» في إطاره العام، خاصّة وأنّ الأعلام الّذين ذكرهم ابن خلدون للتمثيل على آراء أصحاب التجلّي، وآراء أصحاب الوحدة كانوا كلّهم من المتأخّرين، وكأنّ ابن خلدون يعتبر أنّ المذاهب الصوفيّة الباطنيّة لم تظهر إلاّ بصفة متأخّرة، وهذا ما احتاج في نظرنا إلى وقفة تاريخيّة. ولكن قبل ذلك، نشير إلى تعسّف الكثير من المقاربات الّتي تجعل حدودا فاصلة صارمة بين التصوّف في المشرق والتصوّف في المغرب، وأبرز هذه المقاربات تلك الّتي تؤكّد أنّ التصوّف في المغرب يعبّر عن التمسّك بالقوميّة البربريّة، ممّا جعل التصوّف يحمل الكثير من المعتقدات الوثنيّة السابقة عن الإسلام[39].
وبقطع النظر عن مثل هذه المقاربات الّتي قد تبدو مغرية أحيانا، فإنّ الناظر في تاريخ التصوّف الإسلامي نظرة عامّة، يمكن أن يلاحظ أنّ التصوّف، سواء كان في المشرق أو في المغرب، قد انطلق من الظاهرة الزهديّة ذات الملامح الأخلاقيّة، ثمّ تطوّر الأمر تحت وطأة الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة ليتّخذ الزهد شكلا من أشكال ردّة الفعل على الأوضاع القائمة[40]. غير أنّ الظاهرة الزهديّة لم تتعدّ المستوى الفردي البسيط. لقد عرف المشرق الإسلامي في القرن الثاني للهجرة العديد من الأعلام الّذين اشتهروا بزهدهم، ولكنّهم لم يركّزوا مذهبا في التصوّف، ومنهم سفيان الثوري وجعفر الصادق وإبراهيم بن أدهم وغيرهم، وبالتوازي مع ذلك عرف المغرب الإسلامي، في نفس الفترة، عددا من الزهّاد مثل حنش بن عبد الله الصنعاني، ونعمان بن عبد الله الحضرمي، وميمون بن سعد والحسن بن دينار الطليطلي. ولم تبدأ المذاهب الصوفيّة المغربيّة بالتشكّل الفعلي إلاّ بداية من أواخر القرن الثالث للهجرة، خاصّة مع أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن مسرة (ت319 هـ)، وهو شخصيّة مهمّة بالنسبة إلينا، لأنّه يمثّل المؤسّس الحقيقيّ للمذهب الصوفي الباطني في المغرب، الّذي سينتمي إليه الأعلام الّذين ذكرهم ابن خلدون سابقا، بل إنّه يمكننا اعتبار آرائهم امتدادات لآراء ابن مسرة. لقد بلور هذا الصوفيّ مدرسة لها تلاميذ وأتباع رغم محاصرة الساسة والفقهاء[41]. وقد اشتهر من بين تلاميذ ابن مسرة إسماعيل بن عبد الرعيني، الّذي طوّر آراء أستاذه في الصفات والنبوّات، وربّما اتّخذت آراؤه طابعا سياسيّا واضحا « إذ أنّه ادّعى الإمامة، وألزم أتباعه بإعطائه زكاة أموالهم، كما كفّر خصومه و أباح أموالهم»[42]. وشهدت مدرسة ابن مسرة تطوّرها الحقيقيّ بداية من القرن السادس للهجرة من خلال آراء أبي العبّاس أحمد بن محمّد المشهور بابن العريف (ت535 هـ)[43]، الّذي اعتبره ابن عربي أحد شيوخه.[44] وقد كان ابن العريف معاصرا لشخصيّة صوفيّة باطنيّة مهمّة، هي عبد السلام بن عبد الرحمان بن أبي الرجال الإشبيلي، المشهور بابن برّجان (ت 536 هـ)، الّذي ذكره ابن خلدون ضمن أصحاب التجلّي، وهو نفس مذهب أبي القاسم أحمد بن الحسين بن قسّي في تقدير ابن خلدون، واللافت في هذه الشخصيّة الصوفيّة أنّه «كان في الأصل أحد موظّفي الدولة»[45]، ولكنّه بعد ذلك انشقّ عن الدولة وكوّن قوّة وسمّى نفسه إماما لقيادة "ثورة المريدين" الّتي باءت بالفشل[46]. ويقول الذهبي إنّه «مؤلّف كتاب خلع النعلين وفيه مصائب وبدع»[47]. وابن قسّي كان ملهما لابن عربي الّذي شرح كتاب "خلع النعلين"[48].
ولئن عرف التصوّف الباطني الأندلسيّ كلّ هذه الأعلام وغيرها، فإنّ أهمّ قطبين في هذا التصوّف، هما محي الدّين بن عربي وعبد الحقّ بن إبراهيم المعروف بابن سبعين؛ فالأوّل بلور نظريّة وحدة الوجود ليبلغ بها الثاني قمّة التصوّف الفلسفي بإعلان وحدة الوجود المطلقة.
سعى ابن خلدون في « شفاء السائل» إلى تجنّب ما وقع فيه الغزالي، فنسّب من التمييز بين فقه الظاهر وفقه الباطن، مؤكّدا على أهميّة كليهما وتلازمهما
لقد بقيت الآراء في ابن عربي متردّدة كثيرا، فلم يرفض رفضا مطلقا ولم يقبل قبولا تامّا، وهو ما يوضّحه قول ابن كثير عند تعريفه بهذا الصوفيّ: «صاحب الفصوص وغيره محمّد بن عليّ بن محمّد بن عربي أبو عبد الله الطائي الأندلسي، طاف البلاد وأقام بمكّة مدّة، وصنّف فيها كتابه المسمّى بالفتوحات المكية في نحو عشرين مجلّدا، فيها ما يعقل وما لا يعقل، وما ينكر وما لا ينكر، وما يعرف وما لا يعرف، وله كتابه المسمّى بفصوص الحكم، فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح، وله كتاب العبادلة وديوان شعر رائق، وله مصنّفات أخر كثيرة جدّا، وأقام بدمشق مدة طويلة قبل وفاته، وكان بنو الزكيّ لهم عليه اشتمال وبه احتفال، ولجميع ما يقوله احتمال. قال أبو شامة: وله تصانيف كثيرة وعليه التصنيف سهل، وله شعر حسن وكلام طويل على طريق التصوّف. وكانت له جنازة حسنة ودفن في مقبرة القاضي محي الدين بن الزكيّ بقاسيون [...]. وقال ابن السبط: كان يقول: إنه يحفظ الاسم الأعظم، ويقول: إنّه يعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب، وكان فاضلا في علم التصوف وله تصانيف كثيرة»[49]. وما يلفت الانتباه أيضا في أخبار ابن عربي، كما ذكرها القدامى، ما ذكره المقري التلمساني من أنّ ابن عربي «ارتحل إلى المشرق وأجازه جماعة منهم، الحافظ السلي وابن عساكر وأبو الفرج بن الجوزي»[50]. وما يهمّنا هو أنّ ابن عربي قد فصل فصلا تامّا بين ظاهر القرآن وباطنه، معتبرا أنّ الظاهر خاص بعامّة النّاس، والباطن خاصّ بالمتصوّفة، ومعرفة الباطن لا تكون إلاّ عن الطريق الكشف، بل ذهب إلى أنّ تلك المعرفة ضرب من ضروب الوحي، يقول ابن عربي: «فإذا كان الأصل المتكلّم فيه من عند الله لا من فكر إنسان ورؤيته، و علماء الرسوم يعلمون ذلك، فينبغي أن يكون أهل الله العالمون به أحقّ بشرحه وبيان ما أنزل الله فيه من علماء الرسوم، فيكون شرحه أيضا تنزيلا من عند الله في قلوب أهل الله كما كان الأصل»[51].
إنّ قول ابن عربي يثير حفيظة الفقهاء من جهتين، الأولى اعتباره أنّ تفسيرات الفقهاء للنصّ القرآني ما هي إلاّ تفسيرات ظاهريّة، لا ترقى إلى العلم الحقيقي الّذي يتوصّل إليه الصوفيّ عن طريق الكشف. أمّا الجهة الثانية، فتتمثّل في أنّ رأي ابن عربي - بهذا القول- يطالب الفقهاء بالاعتراف بأفضليّة علم الصوفيّ.
غير أنّ ما سيقلق علماء الدّين حقّا في تصوّف ابن عربي قوله بوحدة الوجود، الّتي انبثقت عنها نظريّاته الأخرى في الحقيقة المحمّديّة والإنسان الكامل، ممّا أفضى في نهاية المطاف إلى القول بوحدة الأديان « وغنيّ عن البيان ما في نظريّة وحدة الأديان هذه من تجاوز لحدود الرؤية العقائديّة الإسلاميّة، بالرغم ممّا تكتسيه من أبعاد إنسانيّة و كونيّة، وهي نظريّة يرى فيها ابن عربي محتوى رسالة الوليّ الّتي يتجلّى فيها جوهر الشرع المحمّدي»[52].
وكانت نظريّة ابن عربي في وحدة الوجود مدخلا إلى متصوّف آخر عدّه البعض ممثّلا لنهاية التصوّف الإشراقي الأندلسي[53]، وهو ابن سبعين الّذي أعلن نظريّته في وحدة الوجود المطلقة، «وتقوم الفكرة المحوريّة لهذه الوحدة عنده على أنّ الوجود واحد، وهو وجود الله فقط. أمّا سائر الموجودات الأخرى، فوجودها عين وجود الواحد من غير زيادة عليه بوجه من الوجوه، والوجود بذلك في حقيقته واحد ثابت»[54]. لكأنّنا إزاء جمع بين نظريّة الحلول لدى الحلاّج، ونظريّة الفيض الإلهي الفلسفيّة.
إنّ كلّ ما ذكرناه هنا يمكن اعتباره تلخيصا، وإن كان مخلاّ لمسيرة التصوّف المغربي إلى حدود القرن السابع، ووفق القائمة الّتي حدّدها ابن خلدون من المتصوّفة المتأخّرين الّذين ينسبهم إلى القول بالتجلّي أو الوحدة. ويبدو أنّ الجامع بين هؤلاء جميعا، على تباين مشاربهم، هو تمييزهم بين الظاهر والباطن، وهذا ما أقلق علماء الدّين، ومن بينهم ابن خلدون، ولذلك نراه يرفض آراء الفاصلين بين الظاهر والباطن ساعيا إلى المواءمة بين الفقه والتصوّف والكلام، فيحصر التصوّف من جهتين؛ جهة التعاليم الفقهيّة وجهة العقائد السنّيّة.
يرفض ابن خلدون آراء الفاصلين بين الظاهر والباطن ساعيا إلى المواءمة بين الفقه والتصوّف والكلام
إنّ ما آل إليه التصوّف المغربي في القرنين السادس والسابع هو الفصل بين الحقيقة والشريعة، وهي وضعيّة شبيهة بما كان عليه الأمر في المشرق، خاصّة مع الحلاّج بداية من القرن الرابع، ممّا استوجب تراكم مؤلّفات تسعى إلى التوفيق بين ظاهر الشريعة وحقيقتها، من قبيل الرسالة القشيريّة ولمع الطوسي، وصولا إلى إحياء الغزالي. هذه الوضعيّة الّتي تكرّرت في المغرب بعد حوالي القرنين، وكانت سببا أساسيّا في تأليف ابن خلدون لرسالة « شفاء السائل».
إنّ ما يمكن الخروج به بعد كلّ ما عرضنا إليه، أنّ تنظير ابن خلدون للتصوّف كان محكوما بمرجعيّتين أساسيّتين:
- الأولى، مثّلتها مرجعيّته الفقهيّة؛ فابن خلدون رغم إلحاحه على أهمّيّة صلاح الباطن، فإنّه أكّد على ضرورة تلازم ذلك الصلاح بصلاح الظاهر، كما قرّره الفقهاء.
- أمّا المرجعيّة الثانية، فهي مرجعيّة كلاميّة أشعريّة؛ فلا يمكن في نظر ابن خلدون إطلاق اسم التصوّف إلاّ على من اعتقد اعتقادا مماثلا لاعتقادات أهل السنّة، بل وفي صيغتها الأشعريّة بصفة أدقّ.
* نادر الحمّامي باحث تونسي
[1]- من بين الاستثناءات القليلة و المهمّة جدّا، نحيل على كتاب ناجية الوريمي بو عجيلة، حفريّات في الخطاب الخلدوني، الأصول السلفيّة ووهم الحداثة العربيّة، دمشق، دار بترا للنشر والتوزيع، 2008.
[2]- نعتمد على الطبعة المنشورة بتحقيق محمّد بن تاويت الطنجي في إسطنبول سنة 1958 (ملاحظة: سنحيل لاحقا على الرسالة بـ: شفاء السائل).
[3]- شفاء السائل، ص 3- 4.
[4]- شفاء السائل، ص 4.
[5]- راجع تقديم الطنجي للرسالة، ص كج.
[6]- توفيق بن عامر، مواقف الفقهاء من الصوفيّة في الفكر الإسلامي، في: حوليّات الجامعة التونسيّة، عدد 39، سنة 1995، ص 7
[7]- المرجع السابق، ص 12
[8]- المرجع السابق، ص 12
[9]- شفاء السائل، ص 9
[10]- محمّد حمزة، التصوّف السنّي بين الاستقطاب و الإقصاء، ضمن: المركز و الهامش في الثقافة العربيّة، منشورات كلّيّة الآداب و العلوم الإنسانيّة بصفاقس، 1995، ص 263
[11]- يستلهم ابن خلدون في هذا التأكيد الحديث النبويّ في "خيار القرن" وهو حديث مرويّ في الكتب السنيّة بطرق عديدة للتأكيد على فضل السلف الصالح وإبراز فضلهم ووجوب اتّباعهم ومن رواياته الشهيرة عن النبيّ « خير النّاس قرني، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم»، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب فضل الصحابة، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم. وانظر هناك بقيّة الروايات.
[12]- شفاء السائل، ص 10
[13]- شفاء السائل، ص 11
[14]- شفاء السائل، ص 10
[15]- أبو القاسم عبد الكريم القشيري، الرسالة القشيريّة، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2001، ص 21. ( الرسالة القشيريّة لاحقا)
[16]- شفاء السائل، ص 14
[17]- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام و الإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى. وانظر أيضا: سنن أبي داود، كتاب السنّة، باب في القدر؛ سنن النسائي، كتاب الإيمان، باب نعت الإسلام؛ سنن الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في وصف جبريل للنبيّ ™ الإيمان و الإسلام؛ مقدّمة سنن ابن ماجه، باب في الإيمان.
[18]- شفاء السائل، ص 11
[19]- يعرّف الجرجاني «الحكم الشرعي» بقوله: « عبارة عن حكم الله تعالى المتعلّق بأفعال المتكلّفين»، التعريفات، بيروت، دار الكتب العلميّة، 2000، ص 96
[20]- شفاء السائل، ص 18
[21]- الحديث في صحيح مسلم، كتاب الأدب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره و دمه وعرضه و ماله. و انظر أيضا: سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب القناعة.
[22]- شفاء السائل، ص 7
[23]- شفاء السائل، ص 5
[24]- شفاء السائل، ص 5
[25]- شفاء السائل، ص 13
[26]- انظر الجدول الّذي وضعه الطنجي في مقدّمة تحقيقه للمقارنة بين نصوص من إحياء الغزالي وشفاء السائل، ص ص لز- مط.
[27]- الذهبي، سير أعلام النبلاء، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ط9، 1413 هـ، ج 19، ص 327
[28]- الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 19، ص 332
[29]- الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 19، ص 334
[30]- ابن الجوزي، المنتظم، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1992، ج 9، ص 190
[31]- ابن الجوزي، المنتظم، ج9، ص ص 169- 170
[32]- شفاء السائل، ص ص 59- 60
[33]- شفاء السائل، ص ص 58- 62. وهو نفس التقسيم الّذي ذكره في المقدّمة، فيسمّي المذهب الأوّل: «ذهب أهل التجلّي و المظاهر و الحضرات» والمذهب الثاني: « القول بالوحدة المطلقة»، المقدّمة، بيروت، دار الفكر، 1998، ص 467
[34]- الجدير بالملاحظة أنّ ابن خلدون في المقدّمة يعتبر ابن الفارض وابن عربي ذهبا إلى الحلول والوحدة، ص 468
[35]- هو نفس النعت الّذي أطلقه عليه في المقدّمة، ص 467
[36]- شفاء السائل، ص 57
[37]- شفاء السائل، ص 58
[38]- توفيق بن عامر، مواقف الفقهاء من الصوفيّة في الفكر الإسلامي، ص 31
[39]- انظر مثلا: محمّد مفتاح، الخطاب الصوفي، مكتبة الرشاد، 1997، ص 25، و رأيه لا يتعدّى تكرار رأي ألفرد بيل (Alfred Bel) في فصله: Coup d’œil sur l’Islam en Berberie,in Revue de l’Histoire des Religions, janvier- février, n°75, (1917), pp53-124
[40]- توفيق بن عامر، التصوّف الإسلامي إلى القرن السادس الهجري، ص ص 13- 15. وكذلك ص 19.
[41]- يذكر أبو الحسن البناهي أنّ القاضي الأندلسي محمّد بن يبقى اشتغل «بطلب أصحاب ابن مسرة، والكشف عنهم، واستتابة من علم أنّه يعتقد مذهبهم [...]، وفي سنة 358 هـ استتاب جملة جيء بهم إليه من أتباع ابن مسرة، ثمّ خرج إلى جانب المسجد الجامع الشرقي، وقعد هناك فأحرق بين يديه ما وجد عندهم من كتبه وأوضاعه، وهم ينظرون إليه في سائر الحاضرين»، تاريخ قضاة الأندلس، بيروت، دار الآفاق الجديدة، 1980، ص ص 78- 79
[42]- جمال علال البختي، الحضور الصوفي في الأندلس والمغرب إلى حدود القرن السابع الهجري، تطوان، 1424/ 2003، ص 30
[43]- توفيق بن عامر، التصوّف الإسلامي إلى القرن السادس هجري، ص 81
[44]- محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكّيّة، بيروت، دار صادر، [ د- ت]، م2، ص 128
[45]- جمال علال البختي، الحضور الصوفي في الأندلس والمغرب إلى حدود القرن السابع الهجري، ص 34
[46]- المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، الدار البيضاء، 1978، ص 309
[47]- الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 20، ص 316
[48]- جمال علال البختي، الحضور الصوفي في الأندلس والمغرب إلى حدود القرن السابع الهجري، ص 34
[49]- ابن كثير، البداية و النهاية، بيروت، مكتبة المعارف، [ د- ت]، ج 13، ص 156
[50]- المقري التلمساني، نفح الطيب، بيروت، دار صادر، 1968، ج2، ص 634
[51]- ابن عربي، الفتوحات المكّيّة، م 1، ص ص 279- 280
[52]- توفيق بن عامر، التصوّف الإسلامي إلى القرن السادس الهجري، ص 85
[53]- جمال علال البختي، الحضور الصوفي في الأندلس والمغرب إلى حدود القرن السابع الهجري، ص 40
[54]- جمال علال البختي، الحضور الصوفي في الأندلس و المغرب إلى حدود القرن السابع الهجري، ص 40