ابن رشد و"قلق عبارة أرسطو"
فئة : أبحاث عامة
لقد أدى دخول منطق أرسطو إلى البيئة الفكرية الإسلامية إلى إحداث ما اصطلح عليه "العقبة اللسانية في منطق أرسطو"، أو "قلق عبارة أرسطو"، وكان القصد منها إثارة مشكلة التفاوت بين عبارات اللغة العربية وبين عبارات اللغة اليونانية من حيث المبنى والمعنى. وقد تناول ابن رشد هذه العقبة من خلال شروحه على منطق أرسطو. ونحن في هذه الدراسة لن تتناول العقبة في حد ذاتها، ولكننا سنتناولها من زاوية أنها كانت محكا حقيقيا لشخصية ابن رشد الذي عرف بنزعته العقلية واستخدامه للعقل في أشد الأمور حساسية كأمور الدين. إن قراءة مؤلفات ابن رشد المشهورة مثل "فصل المقال"، و"تهافت التهافت" و "مناهج الأدلة"، تكشف لنا عن جوانب هامة في شخصيته الفلسفية، حيث يمكننا استخلاص ثلاث سمات أساسية هي:
- دفاعه بحماسة شديدة على مسألة اتصال الحكمة بالشريعة.
- دفاعه عن فلسفة أرسطو ونقده لعلم الكلام الإسلامي.
- استعماله للعقل حتى في أشد الأمور حساسية كقضايا الدين، وهذا من خلال نظريته في التأويل. هذه السمات التي تفاوت حضورها عند ابن رشد من مؤلف إلى آخر، كانت موضع اهتمام الكثير من الباحثين في فلسفة ابن رشد؛ أما بالنسبة لنا فإننا سنتبع في هذه الدراسة طريقا آخر في استقصاء سمات شخصية ابن رشد تلك، حيث سنتناول شخصية ابن رشد الشارح لمنطق أرسطو وهذا بعرض موقف هذا الفيلسوف العربي مما سمي بـ"العقبة اللسانية في المنطق" و باعتبار أن هذه العقبة مسألة اختصت بها شروح ابن رشد المنطقية دون سواها من مؤلفاته الأخرى. لقد قرأ ابن رشد نصوص أرسطو مترجمة، إذ لم يكن يعرف اللغة اليونانية، حيث لم يقرا كتب أرسطو في غير الترجمات التي قام بها من السريانية "حنين ابن إسحاق" و "إسحاق ابن حنين" و "يحي بن عدي" وغيرهم.(1) وكانت معرفة هؤلاء المترجمين باللغة العربية غير متينة، كما أن معرفتهم بالكثير من اللغات كانت حائلا دون امتلاكهم إحدى هذه اللغات امتلاكا حقيقيا. ويؤكد ابن رشد هذا الواقع بالقول إنه وجد صعوبات كبيرة في قراءة نصوص أرسطو مترجمة، حيث يقول عن كتاب "السفسطة": «إن هذا الكتاب معتاص جدا ... من قبل الترجمة ... ».(2)وفضلا عن عدم إتقان المترجمين للغة العربية، فإن هؤلاء لم تكن معرفتهم بالفلسفة معرفة المختصين كما أنها لم تكن مقصودة لذاتها، وإنما كانت بالنسبة إليهم وسيلة لإتقان الترجمة، لذا لم تكن لدى هؤلاء لغة فلسفية تمكنهم من تجريد مضامين الفكر المنطقي، ونقله إلى المسلمين بما يتناسب وروح حضارتهم.(3) وزيادة على هذا الواقع اللغوي الصعب الذي واجهه ابن رشد، فإن منطق أرسطو والفكر اليوناني عامة واجه تحديات كبيرة عند دخوله البيئة الفكرية العربية الإسلامية، بفعل حركة الترجمة، هذه الصعوبات يمكننا إجمالها في ثلاث عقبات أساسية هي:
أ- العقبة المذهبية أو العقبة الدينية: والمقصود بها تعلق منطق أرسطو بالعقيدة اليونانية وتعارض هذه العقيدة مع العقيدة الإسلامية، وقد تشكلت هذه العقبة خاصة عند بعض الفقهاء المسلمين ويعكسها شعار "من تمنطق فقد تزندق".
ب- العقبة العملية: ونقصد بها الجدوى أو الفائدة من استخدام المنطق، وقد اتخذت من قبل بعض الفقهاء والمتكلمين أمثال : "النوبختي (300 هـ)"، البـــــــاقلاني (403 هـ)، " " (478 هـ)"، " ابن تميمية (728 هـ)" سببا لرفض منطق أرسطو بدعوى أنه عقيم، وأنه تحصيل حاصل، وأنه مصادرة على المطلوب، لذا قام بعض الفقهاء بوضع "القياس الأصولي" بديلا عنه.
ج- العقبة اللسانية: وهي ناتجة عن ارتباط منطق أرسطو باللسان اليوناني واختلاف هذا اللسان عن اللسان العربي. وقد فرضت هذه العقبة مجموعة من التحديات الصعبة مثل:
- كيفية التوفيق بين عمومية المنطق باعتباره يجسد قوانين الفكر، وبين خصوصية النحو العربي باعتباره خاصا بالأمة العربية.
- كيفية التوفيق بين المنطق كنتاج للعقل الذي هو مشترك بين الناس جميعا وبين النحو العربي الذي هو نتاج لعادات العرب اللغوية.
هذه التساؤلات أثارها بعض علماء النحو المسلمين ولعل أشهرهم أبو سعيد السيرافي في مساجلاته الحادة مع أبي بشير متى بن يونس والتي نقلها لنا أبو حيان التوحيدي في كتابه الشهير" الإمتاع والمؤانسة". ونجد ابن رشد يهتم بالعقبتين المذهبية والعملية في مؤلفاته الخاصة، فنحن نجده يتناول العقبة المذهبية في منطق أرسطو في إطار العلاقة بين الحكمة والشريعة حيث يتناولها مثلا في كتاب "فصل المقال" بقوله: «إن الغرض من هذا القول أن نفحص على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح ... فنقول إن كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع...[فإن] الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به... في غير ما آية من كتاب الله ... مثل قوله (فاعتبروا يا أولي الأبصار) ».(4) كما يعالج ابن رشد العقبة العلمية من خلال دفاعه عن فائدة استخدام القياس، حيث يقول: «وأما الاستنباط وهو القياس فالتعبد به جائز في العقل، وواجب في الشرع، والذي يدل على أنه أصل من أصول الشرع الكتاب والسنة وإجماع الأمة... ». (5) أما العقبة اللسانية في منطق أرسطو فإن ابن رشد لم يعالجها في مؤلفاته الخاصة حيث تبرز هذه العقبة بشكل خاص في شروحه على المنطق وبشكل أخص في كتابيه: "المقولات" و "العبارة". لذا فإننا نستنتج ملامح شخصية ابن رشد من خلال موقفه من العقبة اللسانية في هذين الكتابين. إن اعتمادنا في تتبع ملامح شخصية ابن رشد من خلال موقفه من هذه العقبة بالذات يستند إلى مجموعة عوامل نذكر منها:
أ- لقد اتسمت العقبة اللسانية عند ابن رشد بطابع خاص حيث اتخذت عنده – ودون سواه من شراح أرسطو العرب- طابعا رسميا، فقد واجه ابن رشد هذه العقبة بناء على رغبة الخليفة " يوسف بن يعقوب الموحدي" وبإلحاح من ابن طفيل. (6) حيث كان هذا الخليفة يشتكي من قلق عبارة أرسطو وغموض أغراضه.
ب- إن نوع الشرح الذي اعتمده ابن رشد في شرحه لمنطق أرسطو هو من النوع المتوسط (Paraphraser) حيث يبدأ فيه ابن رشد بعبارة "قال" أو "قال أرسطو" ثم يواصل كلامه حيث لا نعود نفرق بين كلام أرسطو وكلام ابن رشد، إذ كان هذا الأخير مهتما بالمعاني أكثر منه بالألفاظ التي صيغت فيها هذه المعاني، حيث يتحدث عن الغرض من شرحه لمنطق أرسطو قائلا بأنه: «تلخيص المعاني التي تضمنتها كتبه في صناعة المنطق»(7). وعليه فإن هذا النوع من الشرح الذي لا يتقيد فيه ابن رشد بحرفية نص أرسطو يفترض فيه نظريا أن يجعل ابن رشد أكثر تحررا في اختيار الألفاظ التي يعبر بها عن معاني المنطق.
أولا- مظاهر قلق العبارة
إن قراءتنا لمؤلفات أرسطو المنطقية في ترجمتها العربية تكشف لنا عن ظاهرة لسانية معقدة وهذا في عدة مستويات نذكر منها:
أ- المستوى الصرفي: ويظهر القلق في هذا المستوى بسبب نقل بعض الصيغ الصرفية اليونانية إلى اللغة العربية بصيغتها الأصلية مثل: "ليس في موضوع" و"يقال في موضوع"، و"يقال على موضوع"، وقد وضعت أصلا وعلى التوالي للتفرقة بين "الجوهر" وبين "العرض" سواء كان عاما أو شخصا وبين العام سواء كان جوهرا أو عرضا. (8) وكذا يتجلى القلق في هذا المستوى من خلال إقحام بعض المفردات التي لا تخضع للصرف العربي مثل "المتى " و"المعا" وغيرهما.
ب- المستوى النحوي: ويظهر القلق في هذا المستوى من ناحيتين:
1. من ناحية إدخال بعض الألفاظ الغريبة عن الجملة في اللغة العربية مثل: (هو يوجد، الموجود في، الموجود لـ...) وغيرها.
2. ثم من ناحية استعمال بعض الأمثلة اليونانية لتوضيح بعض المسائل المنطقية مثل "الماء في الإناء" للدلالة على معنى من معاني مقولة "له". وغيرها من الأمثلة التي أدى استعمالها إلى إحداث اضطراب في الإدراك المباشر للنص. وهذا لمخالفتها لواقع العرب وعاداتهم في استعمال الأمثلة.
ثانيا- موقف ابن رشد من قلق العبارة
لقد كان ابن رشد على وعي بالاختلافات الكبيرة بين اللسان اليوناني و اللسان العربي، ووعينا منه بتلك الاختلافات نجده يستخدم عبارات كثيرة مثل: "عندنا"، أي عندنا نحن العرب، و"عندهم"، أي عند اليونان، وكذا عبارات "اللسان العربي" و"اللسان اليوناني" وهو يتحدث على سبيل المثال عن الاستحالة والتغير قائلا: «والاستحالة والتغير في المكان وهو المسمى في لساننا نقلة»(9). ولعل استخدام ابن رشد لهذه التفرقة هي الأساس الذي استند إليه الدكتور "حسن حنفي" حينما ذهب إلى القول بأن ابن رشد يستخدم الشرح استخداما حضاريا. (10) وسنرى خلال هذه الدراسة حدود هذا الاستخدام عند ابن رشد. ونلمس أيضا ذلك الوعي عنده في استبدال بعض المصطلحات الأرسطية وتعويضها باصطلاحات عربية مثل وضع كلمة "الحد" مكان "الجوهر" وكذا "المشار" مكان "مقصود إليه بالإشارة" و"ماهية " مكان" مائية" ...إلخ.(11) كما يستبدل ابن رشد بعض الأعلام اليونانية بأعلام عربية حيث يستبدل مثلا عبارة "أرسطو": "إنسان في لوقين" بعبارة "زيد في البيت".(12) بل إننا نجده يقرّب مضامينها تقريبا إسلاميا حيث يجعل مثلا من "أطلس" الإله اليوناني "ملكا". (13) غير أن هذا الشرح الحضاري الذي لمسناه عند ابن رشد من خلال الأمثلة التي سقناها تكاد تختفي معالمه عندما يتعرض ابن رشد لبعض المسائل في منطق أرسطو، وسنتناول للتدليل على هذا بعضا من هذه المسائل:
أ- مسألة الرابطة المنطقية:
معلوم أن القضية المنطقية عند أرسطو تتألف من ثلاثة حدود هي حد الموضوع وحد المحمول وحد الرابطة، وإذا كنا نجد هذه الرابطة مصرح بها في اليونانية والفارسية مثلا فإنها لا توجد صراحة في اللغة العربية. لذا فقد كانت الرابطة مشكلة بالنسبة للمناطقة المسلمين قبل ابن رشد، فقد اهتم بها الفارابي مثلا حيث أفرد لها فصلا كاملا في " كتاب الحروف" مشيرا إلى عدم وجودها في لغة العرب وإلى الصعوبات التي تعترض تفسير منطق أرسطو حيث يقول:«وليس في العربية منذ أول وضعها لفظة تقوم مقام "هست" في الفارسية ولا مقام "أستين" في اليونانية ... وهذه اللفظة يحتاج إليها ضرورة في العلوم النظرية وفي صناعة المنطق».(14) وقد تبنى ابن سينا هذا الرأي حيث ذهب في كتابه "الإشارات والتنبيهات" إلى القول : «ويجب أن يعلم أن حق كل قضية حملية، أن يكون لها مع معنى المحمول والموضوع معنى الاجتماع بينهما ... وقد يحذف ذلك في لغات، كما يحذف تارة في لغة العرب أصلا كقولنا زيد كاتب، وحقه أن يقال زيد هو كاتب».(15) ويتابع ابن رشد كلا من الفارابي وابن سينا في هذه المسالة حيث يقول في " كتاب العبارة": « وليس في لسان العرب لفظ على هذا النحو من الرباط وهو موجود في سائر الألسنة وأقرب الألفاظ شبها بها في لسان العرب هو ما يدل عليه لفظ "هو" في مثل قولنا" زيد هو حيوان" أو "موجود" في مثل قولنا "زيد موجود حيوانا ».(16) ومن خلال هذا النص نلحظ أن ابن رشد لا يقف عند حد إقحام الرابطة على غرار الفارابي وابن سينا فقط، ولكنه يربط بينها وبين الوجود. واضح أن الغرض من إقحام الرابطة هنا سواء عند الفارابي وابن سينا أو ابن رشد هو سد حاجات فرضتها لغة أرسطو، لذا فقد أدى إلى مجموعة صعوبات على مستوى طبيعة الجملة في اللغة العربية نذكر منها:
1. إن طابع الجملة في اللغة العربية هو اسمي وتتكون حسب رأي الغزالي من خبر ومخبر عنه،(17) ومن ثم فإنها ثنائية، لذا فإنه من غير الضروري لغويا زيادة الرابطة إذ أن القول "زيد هو إنسان" لا يضيف شيئا إلى المعنى الذي تفيده الجملة": "زيد إنسان".
2. إن ربط ابن رشد بين الرابطة " هو" والوجود يثير صعوبة الحفاظ على معنى الجملة مع استبدال الرابطة بلفظ الوجود، إذ يمكننا أن نقول" الإنسان موجود " لكن المعنى يختل عندما نقول" الإنسان هو " ثم إذا كانت "هو" تفيد الوجود كما ذهب إلى ذلك ابن رشد فمعنى هذا أنه من التكرار غير المفيد قول قضايا مثل:" زيد هو موجود" بما أنه "هو" و"موجود" لهما نفس المعنى، فضلا عن عدم الاتساق الذي يحدث في الجملة عندما ندخل أداة النفي كأن نقول مثلا:" زيد هو غير موجود " لأن المعنى "هو" ومعنى " غير موجود" يكونان متناقضين في ظل نظرية ابن رشد. لذا فإن إقحام ابن رشد للرابطة في الجملة العربية وبغض النظر عن الصعوبات المنطقية التي أشرنا إليها، يبين بوضوح أن ابن رشد يكيف الجملة في اللغة العربية مع الطابع الثلاثي للقضية على النحو الذي نجده عند أرسطو، ومنه يمكن القول إن ابن رشد إزاء هذه المسالة كان يعمل على ما يمكن تسميته بالتقريب اليوناني للغة العربية.
ب- مقولة " له":
هذه المقولة هي إحدى مقولات أرسطو العشر، وقد تناولها المناطقة المسلمون كابن سينا والغزالي وغيرهما، فقد تناولها ابن سينا معطيا إياها اسم "الملك"(18) كما تناولها الغزالي تحت اسم "الجدة" لكن في مقابل هذا نجد ابن رشد يحتفظ بمقولة "له" الأرسطية، وهذا لاعتقاده أن مصطلحي "الملك" و"الجدة" يضيقان من معنى "له" التي تحمل حسب رأيه دلالة أوسع. (19) ففي الوقت الذي نجد فيه الغزالي يحصر هذه المقولة في قوله: إنها «نسبة الجسم إلى الجسم المنطبق على جميع بسيطه أو على بعضه، إذا كان المنطق ينتقل بانتقال المحاط به المنطبق عليه... ومن ثم فإن مثال أرسطو "الماء في الإناء" يخرج من هذه المقولة، حيث يقول: وأما الماء في الإناء، فليس من هذا القبيل لأن الإناء لا ينتقل بانتقال الماء». (20) لكن ابن رشد وعلى خلاف الغزالي لا يربط مقولة "له" بانتقال المحيط وانتقال المحاط به وإنما يسمح بذكر كل معاني "له" التي اعتمدها أرسطو حيث يقول: « و"له" تقال على أنحاء شتى أحدها على طريق الملكة والحال، فإنا نقول إن لنا علما وإن لنا فضيلة، والثاني على طريق الكم فإنه يقال إن له مقدار طوله كذا وكذا، والثالث على ما يشتمل على البدن، إما على كله مثل الثوب ...وإما على جزء منه مثل الخاتم في الإصبع...والرابع على نسبة الجزء إلى الكل مثل قولنا له يد... والخامس...هو نسبة الشيئ إلى الوعاء الذي هو فيه مثل الحنطة في الكيل ...والسادس مثل قولنا ...له بيت... ».(21) وإذا عقدنا مقارنة بسيطة بين معاني "له" عند ابن رشد ومعنى "الجدة " عند الغزالي، فإننا نجد أن هذا الأخير لا يبقي من معاني هذه المقولة سوى المعنى الثالث في قائمة المعاني التي نجدها عند ابن رشد. من هنا نلاحظ أن ابن رشد يحذو حذو أرسطو في تعداد معاني هذه المقولة، رغم إدراكه أن هذه المعاني ليست كلها حاضرة في اللغة العربية. وهنا نتساءل لماذا لم يوظف ابن رشد لغته العربية في معالجة هذه المقولة على غرار ما فعل الغزالي الذي أعطاها معنى واحد كما رأينا؟ حينما رأى أن لا ضرورة في تمييز قيمة "له" المقولية على الأدوات الأخرى مثل "من" و "عن" و "مع" وغيرها. ثم لماذا اهتم ابن رشد كل هذا الاهتمام بهذه المقولة؟ في الوقت الذي نجده فيه يعالج مقولتي "يفعل " و"ينفعل" رغم أهميتها البالغة في فقرة لا تتعدى الخمسة أسطر؟ ومنه فإننا نلاحظ مرة أخرى أن ابن رشد يعطي الأولوية للغة منطق أرسطو على اللغة العربية حيث كان همه الأكبر أن ينقل بأمانة وموضوعية آراء أرسطو دون مراعاة لخصوصية اللغة العربية. وفضلا عن هذا فإننا إذا عدنا إلى مسألة " قلق العبارة" التي كان من المفترض أن تحظى بعناية ابن رشد باعتبارها الدافع إلى إقدامه على شرح منطق أرسطو فإننا نجد شواهد كثيرة تدل على أن هذا القلق ظل ملازما لشروح ابن رشد ونذكر بعضا منها على سبيل الإشارة. فنحن نجده يقول مثلا: « وليس يحمل على موضوع البتة»،(22) كما يقول: «من جهة أنه جوهر من الذي يعرف ماهيته وليس بجزء جوهر من الذي لا يعرف ماهيته».(23) ويقول في موضع آخر «فبين أنه إنما يقال في القول أنه ضد للقول أو مقابل له من جهة تقابل الاعتقادات التي في النفس... »(24) كما يقول: «إذا كان ليس يمكن أن يكون حق... ».(25) وما نلاحظه على هذه التعابير من قلق واضطراب ناتج عن تفاعل ابن رشد مع النص الأرسطي الشيء الذي جعله يستعير من الترجمة تعابير كثيرا ما تخالف قواعد النطق السليم مستهينا بركاكتها. كما أن ابن رشد يقابل بين مقولة " أن ينفعل" والوزن الصرفي العربي بالصيغة المهملة "ينحرق" (26) بدلا من "يحترق"(27) التي نجدها في نص الترجمة. وكان الغزالي أكثر عناية بالبعد الفكري واللغوي لهذه المقولة،« حين استخدم كل الأمثلة على وزن " متفعّل " كـ "متسخّن" و"متبرّد"، ويعرف هذه المقولة بأنها نسبة الجوهر المتغير إلى السبب المغير».(28)
ونخلص من هذه الدراسة إلى أن ابن رشد لم يستطع التخلص من " قلق عبارة أرسطو" وقد انعكس ذلك جليا في شروحه على المنطق. ولو أننا عقدنا مقارنة بسيطة بين لغة ابن رشد في "فصل المقال" أو "تهافت التهافت" وبين لغته في الشروح فإننا سنلحظ مدى الاضطراب أو القلق اللغوي الذي واجهه ابن رشد. وكان بإمكان ابن رشد أن يحقق نجاحا أكبر أمام العقبة اللسانية في منطق أرسطو ومن ثم تحقيق شخصيته الفلسفية بملامحها العقلية والنقدية لو لا أنه رسم لنفسه أطرا التزم بها وتقيد بها يمكن إجمالها في:
1. عدم اكتراثه للأبعاد الميتافيزيقية في منطق أرسطو أو على الأقل عدم أخذه لهذه المسألة بالجدية التي تستحقها، الشيء الذي جعله يتعامل مع مسائل منطق أرسطو كأنها حقائق علمية موضوعية وفاته مثلا أن نظرية أرسطو في المقولات هي نظرية ميتافيزيقية وليست نظرية منطقية خالصة. وقد تفطن ابن سينا لهذه الحقيقة لذلك نجده يرى أن هذه النظرية تنضم منهجيا إلى علم ما بعد الطبيعة (29) بينما لم يعر ابن رشد هذه المسالة اهتماما حيث كان ينظر إلى مؤلفات أرسطو جميعا نظرة واحدة، وما يؤكد هذا قوله وهو بصدد الحديث عن الغرض من شرحه للمنطق: «إنه تلخيص المعاني التي تضمنتها كتبه في صناعة المنطق... وذلك على عادتنا في سائر كتبه ».(30)
2. إن موقف ابن رشد من شروح الشراح سواء أكانوا عربا أم يونانيين كان متأثرا بالحركة الإصلاحية أو ما سميت بـ"الثورة الثقافية" التي قادها ابن تومرت والتي كانت حاملة للشعار "ترك التقليد والعودة إلى الأصول". والعودة إلى الأصول اتخذت عند ابن رشد – حسب رأي الجابري – العودة إلى فلسفة أرسطو بالذات، وأن إهمال الفروع اتخذ عنده معنى إهمال تأويلات الفارابي وابن سينا.(31) ومنه فإن ترك التقليد كما فهمه ابن رشد وطبقه كان حائلا دون الإستفادة من آراء الفارابي وابن سينا في فكر أرسطو رغم صواب بعضها. هذا من جهة، أما من جهة العودة على الأصول فقد شكلت هذه العودة هم ابن رشد الأكبر إذ لم يكن يبغي من حياته كفيلسوف سوى بعث آراء أرسطو الحقيقية على النحو الذي فهمها عليه.
3. تقديره الشديد لفلسفة أرسطو، ونظرته إليها باعتبارها تمثل الحقيقة المطلقة، (32) وأن أرسطو هو المفكر الأعظم الذي وصل إلى الحق الذي لا يشوبه باطل. (33) وقد انعكس هذا الإعجاب بشكل واضح في معالجة ابن رشد لمسائل المنطق وتبنيه لآراء أرسطو إزاء هذه المسائل. ومن تم لم يترك ابن رشد لنفسه مجالا كي يستقل برأيه عن آراء المعلم الأول، وأن يتجاوز الأطر التي وضعها هذا الأخير، وكان بإمكانه فعل ذلك لو أنه عرف كيف يفعّل الآليات التي يوفرها له تراثه الفكري الإسلامي ولغته العربية، وأن ينتفع ببعض الآراء التي أبداها بعض المناطقة والفلاسفة المسلمون قبله والتي ثبت صوابها في زماننا. لكنه لم يفعل لأنه كان يعتقد أن منطق أرسطو ولد تاما وكاملا وهذا ما عبر عنه بالقول: « ونحن أيضا فقد أجهدنا أنفسنا في ذلك زمان انكبابنا على هذه الأشياء، واستقرينا جميع الأقاويل فلم نلف شيئا يخرج عنها ولا يشذ إلا ما يتنزل منزلة اللاحق أو منزلة البسيط المجمل أو كيف قال».(34)
للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا
الهوامش:
(1) ارنست رينان: ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1957، ص 36.
(2) ابن رشد: تلخيص منطق أرسطو، كتاب الجدل والمغالطة، تحقيق، جيرار جيهامي، المجلد السابع، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1992، ص 729.
(3) طه عبد الرحمان: لغة ابن رشد الفلسفية من خلال عرضه لنظرية المقولات، أعمال ندوة ابن رشد، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، ص 193.
(4) ابن رشد: فصل المقال، تقديم وتعليق الشيخ أبو عمران، وجلول البدوي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1982، ص ص 23، 24.
(5) ابن رشد: مقدمات ابن رشد، مكتبة المثنى، بغداد، ص 19.
(6) ارنست رينان: ابن رشد والرشدية، ص 36.
(7) ابن رشد: كتاب المقولات، ص 3.
(8) ابن رشد: كتاب المقولات، ص9.
(9) ابن رشد: كتاب المقولات، 73.
(10) حسن حنفي: ابن رشد شارحا أرسطو، مؤتمر ابن رشد، ج1، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1983، ص 105.
(11) طه عبد الرحمان: لغة ابن رشد الفلسفية من خلال عرضه لنظرية المقولات، ص 196.
(12) ابن رشد: كتاب المقولات، ص 10.
(13) طه عبد الرحمان: لغة ابن رشد الفلسفية من خلال عرضه لنظرية المقولات، ص 196.
(14) أبو نصر الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1970، ص 100.
(15) ابن سينا: كتاب الإشارات والتنبيهات، تحقيق سليمان دنيا، القسم الأول، دار المعارف، مصر، 1960، ص 88.
(16) ابن رشد: كتاب العبارة، ص 88.
(17) الغزالي: معيار العلم، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، ص 109.
(18) جعفر آل يس: المنطق السينوي، منشورات دار الأفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1983، ص 36.
(19) طه عبد الرحمان: لغة ابن رشد الفلسفية من خلال عرضه لنظرية المقولات، ص 205.
(20) الغزالي: معيار العلم، ص ص 326، 327.
(21) ابن رشد: كتاب المقولات، ص 75.
(22) المصدر نفسه، ص 8.
(23) المصدر نفسه، ص 8.
(24) ابن رشد: كتاب العبارة، ص 127.
(25) المصدر نفسه، ص 131.
(26) ابن رشد: كتاب المقولات، ص 127.
(27) أرسطو: منطق أرسطو، تحقيق عبد الرحمان بدوي، ج1، وكالة المطبوعات، الكويت، دار القلم بيروت، ط1، 1980، ص 36.
(28) الغزالي: معيار العلم، ص 327.
(29) جعفر آل يس: المنطق السينوي، ص ص 38- 39 .
(30) ابن رشد: كتاب المقولات، ص 3.
(31) محمد عابد الجابري: المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس، أعمال ندوة ابن رشد، جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 1 ، ص 129.
(32) ارنست رينان: ابن رشد والرشدية، ص 70.
(33) دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة عبد الهادي أبو ريدة، دار النهضة العربية، بيروت، ط5، 1981، ص ص 385- 386.
(34) ابن رشد: كتاب الجدل والمغالطة، ص ص، 729- 730.