اتفاقية سيداو وواجب التحرّر من النموذج الغربي
فئة : مقالات
اتفاقية سيداو وواجب التحرّر من النموذج الغربي
سيداو المفاهيم والمضمون:
تُعدّ اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، أو ما تُسمى اختصارًا بـ"سيداو"، من أهم الاتفاقيات الدولية، والتي تُعدّ مرجعًا في مجال حقوق المرأة، وهي اتفاقية صَدرت عن الأمم المتحدة سنة 1979، وصادقت عليها معظم دول العالم، على الرغم من التحفظات الكثيرة التي أُقيمت على العديد من بنودها. لتكون بذلك اتفاقية سيداو من أكثر الاتفاقيات الدولية التي وُجّهت إليها تحفظات. تتكوّن هذه الاتفاقية من 30 مادة، تتناول العديد من المجالات المختلفة، كتعزيز دور المرأة، ومكافحة التمييز ضدها في المجال الاقتصادي، والسياسي، والتشريعي، والاجتماعي. ولكن، وعلى الرغم من الشعارات البراقة التي تحملها هذه الاتفاقية، إلا أنها تعرّضت للكثير من الانتقادات، وهذا ما يُفسّر الكمّ الهائل من التحفظات، والتي تمّ الإشارة إليها سابقًا. ومن بين أبرز تلك الانتقادات أنها تعمل على هدم قيم الأسرة ووحدتها.
الانتقادات:
تضمنت اتفاقية سيداو مصطلحات غامضة وخطيرة، مثل "الصحة الجنسية والإنجابية"، و"المتحدين والمتعايشين"؛ بمعنى آخر، أنها تعطي شرعية وتُصبغ الاعتراف القانوني على ما يسمى بحرية العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، إلى جانب إباحة الشذوذ، والإباحية، وتحديد النسل .استنادًا إلى هذه المفاهيم، لا يُعتبر الزنا أمرًا مشينًا بالنسبة إلى المرأة إلا في حال وقوعه بالإكراه. أما إذا حدث برضى الطرفين، فيُنظر إليه كحق مشروع يُطالب به، بوصفه جزءًا من الحرية الشخصية .وفي ذات السياق، نصت المادة 6 "تتخذ الدول الأطراف كافة التدابير الملائمة، بما في ذلك سن التشريعات اللازمة، لمكافحة جميع أشكال الاتجار بالنساء واستغلال المرأة في الدعارة". ومضمون هذه المادة يعكس بشكل واضح ما تتبناه النسوية الراديكالية من شعارات، من قبيل "جسدي هو ملكي"، حيث طالبت بحق المرأة الكامل في التحكم بجسدها. فيما يتعلق بالمادة (6)، فقد دعت إلى مكافحة استغلال دعارة المرأة والاتجار بها، وليس الدعارة نفسها. بمعنى آخر، إذا كانت المرأة تمارس الدعارة بإرادتها الشخصية، فإن ذلك يدخل ضمن نطاق تحكمها في جسدها، بينما إذا تم استغلال عملها لصالح آخرين، فإن الاتفاقية طالبت بسن تشريعات لمكافحة هذا الاستغلال. وهذا يؤدي إلى تفكك الروابط الأسرية، والتشكيك في فكرة الأسرة من الأساس، بل ومحاولة تصويرها بوصفها سجنًا يجب على المرأة أن تتحرر منه. الأمر الذي دفع العديد من الدول الإسلامية، بل وغير الإسلامية، إلى التحفظ على هذه المادة، إذ كان من الأجدر على المشرع الدولي هنا، والذي يدّعي حماية المرأة، أن يُلزم الدول الأطراف بالعمل على توفير سبل العيش الكريم للمرأة. وفي المقابل، تعتبر الاتفاقية الزواج الذي يتم دون سن 18 ممنوعًا، ويجب على الدول محاربته، بل وعدم اعترافها بقانونية هذا الزواج والآثار المترتبة عليه، وتراه عنفًا ضد المرأة. ولكنها في الوقت نفسه، تعترف بحق المراهقات في الوصول إلى خدمات الصحة الإنجابية، بما في ذلك الإجهاض، تحت عنوان الحرية الجنسية.
وفي سياق آخر، تنص المادة16 "تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج، والعلاقات العائلية". وتعدّ هذه المادة من أكثر المواد المتعارضة مع الشريعة الإسلامية، فالعمل بها يعني القضاء على مؤسسة الزواج بمفهومها الشرعي، كإلغاء القوامة، والمهر، والعدة، وكذلك القواعد العامة للميراث، والتي تُعتبر - وفقًا لمضمون هذه المادة - تمييزًا ضد المرأة وجب محاربته.
ولعل من أهم المواد التي تسعى لهدم الأسرة، هي المادة (5)، التي جاءت بشعار "تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية لكل من سلوك الرجال والنساء بهدف القضاء على التحيزات وجميع الممارسات الأخرى التي تستند إلى أدوار نمطية للرجال والنسا"؛ مما يعني القضاء على مفهوم الأمومة، التي تعدّ - في الدراسات الجندرية - مجرد ظاهرة اجتماعية، وليس غريزة تولد بها المرأة. بل إن الأنثى، وفقًا لسيمون دي بوفوار، لا تولد امرأة، بل تُنشّأ لتصبح كذلك. فهذه الفكرة حق أُريد به باطل. فبالطبع، توجد بعض القوالب النمطية عن الجنسين مدمّرة ويجب مكافحتها، مثل الاعتقاد بأن النساء غير عقلانيات، أو أقل ذكاءً من الرجال، أو غير ناضجات سياسيًّا. ولكن، هناك قوالب نمطية أخرى صحيحة من الناحية البيولوجية، والتي تسعى سيداو إلى إلغائها وتجاهلها تحت مسمى المساواة؛ إذ تشير الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب، والغدد الصماء، وعلم النفس، على مدار الأربعين عامًا الماضية، إلى أن هناك أساسًا بيولوجيًا للعديد من الفروق الجنسية في القدرات والتفضيلات. فالذكور يتمتعون بمهارات أفضل في الاستدلال المكاني، بينما تمتلك الإناث مهارات لفظية أفضل. الرجال أكثر ميلًا للمخاطرة، والنساء أكثر رعاية. وكما يقول عالم الأنثروبولوجيا في جامعة روتجرز، ليونيل تايغر: "البيولوجيا ليست قدرًا، لكنها احتمال إحصائي قوي."
ومع ذلك، فإن الكثير في "سيداو" يستند إلى الفكرة الخاطئة بأن جميع الفروق بين الجنسين هي مجرد بناء اجتماعي.
واجب التحرر من النموذج الغربي:
إن المشكلة الحقيقية تنبع من اعتبار أن المفاهيم القادمة من بيئتها الأولى هي معايير ثابتة لفهم الظواهر الاجتماعية في بيئة أخرى، الأمر الذي يعطي شرعية لتلك المفاهيم المستوردة دون الأخذ بعين الاعتبار هل هي متناسبة ومتناسقة مع البنية الاجتماعية والثقافية لتلك البيئة، حيث تصبح تلك المفاهيم المستوردة ذات صبغة مرجعية في الفهم والحكم على كل شيء، وتصبح ذات طابع عالمي ومعيارًا للتقدم والتخلف، وتصبح نموذجًا حضاريًا وجب الاقتداء به، خاصة ونحن نعيش في نظام عالمي محكوم بالعولمة والترويج لخطاب حداثوي كولونيالي إمبريالي تحت غطاء قوانين واتفاقيات دولية تعكس المنظور الغربي لحقوق الإنسان، بما فيها المرأة. وهنا تأتي اتفاقية سيداو للتأكيد على ذلك من خلال إجبار المجتمع الدولي على تبني رؤية ليبرالية لحقوق المرأة، دون إيلاء أيّ اهتمام للتنوع الثقافي والديني السائد لدى مجتمعات أخرى، بحيث يُجبر على تلك المجتمعات التخلي عن مرجعياتها الثقافية والدينية وتبني مفاهيم فلسفية غربية، والتي يتم التسويق لها تحت شعار الحداثة والديمقراطية، والتي ينتج عنها الإحلال والتبديل. وفي هذا الإطار، يتم تدويل قضايا المرأة، عبر تسييسها واستخدامها كورقة ضغط على الأنظمة والدول التي تقاوم وترفض النمط الحضاري الغربي وتسعى إلى التحرر منه، سواء أكان هذا الرفض على أسس دينية عقائدية، أو أخلاقية فلسفية، أو اجتماعية اقتصادية. وهذا يحيلنا إلى الواجب الأخلاقي الذي يقع على عاتق دول الجنوب، والمتمثل في التحرر الفكري والسياسي من الغرب، بل والتحرر من سردياته ومن النماذج التي يحاول فرضها، فالغرب يحاول فرض أبوية متسلطة تسعى لتنصيب نفسها كمركز مرجعي، يتوجب على شعوب الدول الأخرى أن تدور في فلكه. فاتفاقية سيداو في الواقع تُعمّم تجربة النساء البيض في الغرب، وتكرّس النسوية الليبرالية كنهج مهيمن، بينما تهمّش المقاربات المنافسة لحقوق المرأة، كالرؤية الإسلامية للمرأة مثلًا، وبإيلاء القليل من الاهتمام لأنواع القهر المتعددة التي تؤثر على تجربة المرأة، وتعالج حقوقها كشيء منفصل عن النضالات الأخرى، مثل العرق والطبقة والإمبريالية.