اجتماعيات العلماء في بلاد موريتانيا وشمال مالي "ق. 16-19"


فئة :  قراءات في كتب

اجتماعيات العلماء في بلاد موريتانيا وشمال مالي "ق. 16-19"

اجتماعيات العلماء في بلاد موريتانيا وشمال مالي "ق. 16-19"

من خلال كتاب "فتح الشكور في معرفة أعيان العلماء التكرور"

(تحقيق ودراسة شوقي الهامل مع ترجمة إلى الفرنسية)


إنّ دراسة الاجتماع الأهلي التاريخي في المجال العربي الإسلامي من خلال تشكيلاته الاجتماعية وتمثلاتها الثقافية في مرحلة ما قبل الهندسة الاستعمارية، يعدّ من الاستحقاقات العلمية التي تنامى الاهتمام بها، ومن أبرز هذه التشكيلات صُنّاع المعرفة؛ بالنظر إلى موقعهم المركزي في النسيج الاجتماعي المديني الإسلامي. فقد تزايدت في العقود القليلة الماضية عناية الباحثين والمؤرخين بدراسة جماعة العلماء، وشكلت كتب التراجم مصدراً ثرّاً لتلك الدراسات التي تعدّدت أنماط اشتغالها ومقاربتها بحسب المناهج الموظفة: إحصائية، سيميائية، سوسيولوجية، تاريخية، إلخ.

ضمن هذا المساق، يندرج هذا الكتاب الذي صدر تحت عنوان: "الحياة الفكرية الإسلامية في ساحل إفريقيا الغربية: دراسة اجتماعية للتعليم الإسلامي في موريتانيا وشمال مالي خلال القرنين، 16-19، مع ترجمة وتحقيق لكتاب فتح الشكور للبرتلي الولاتي المتوفى عام 1805" للباحث المغربي المقيم في الولايات المتحدة شوقي الهامل.(1)

لم يكن الجهد الذي بذله الباحث يسيراً؛ فهو جهد مزدوج انصبّ أوّلاً على تحقيق الكتاب الموسوم بـ: "فتح الشكور في معرفة أعيان العلماء التكرور" لمؤلفه محمد أبي عبد الله بن أبي بكر الصّديق البرتلي الولاتي (1140 – 1219 هـ،1727 – 1805 م)، ثم قام ثانياً بترجمته إلى اللغة الفرنسية.

يعدّ كتاب "الفتح" هذا أحد المصادر البيوغرافية المهمّة التي تقدّم صورة تاريخية إجمالية عن التاريخ الثقافي والديني والاجتماعي في موريتانيا ومالي فيما بين القرنين الميلاديين 16 و19، ولذلك حظي باستثمار كثيف لمعطياته البيوغرافية من لدن كثير من الباحثين، أمثال: موريس دولافوس، بول مارتي، جون هونويك، محمد حجي، محمد إبراهيم الكتاني، رايز أوزفالد وغيرهم كثير.

1- تحقيق النص:

سبق للمؤرّخين المغربيّين محمد إبراهيم الكتاني ومحمد حجي أن حققا كتاب "الفتح"(2) اعتمادا على ثلاث نسخ، وهي:

أ- نسخة الشيخ المختار ولد حامدون بنواكشوط تحتوي 206 ترجمة.

ب- نسخة المعهد الفرنسي بباريز تحتوي 116 ترجمة.

ج- نسخة المعهد الموريتاني للبحث العلمي بنواكشوط تحتوي 213 ترجمة.

إلا أنّ الباحث شوقي الهامل، استند في تحقيقه على أربع نسخ أخرى مضافة للتي ذكرت أعلاه، وهي:

د- نسخة جامعة توبنكن بألمانيا تحتوي 216 ترجمة.

هـ- نسخة ثانية بالمعهد الموريتاني للبحث العلمي تحتوي 211 ترجمة.

و- نسختان بمركز أحمد بابا التنبكتي بمالي، كل منهما تحتوي 216 ترجمة، وتعتبر تلك التي تحمل الرقم 684 أقدم النسخ.

وبفضل تعدّد النسخ والمقابلة الدقيقة بينها، تنبّه الباحث إلى بعض الأخطاء التي شابت تحقيق العالمين المغربيين، منها:

- غياب بعض التراجم: (ترجمة رقم 41 مكرّر: لأحمد الوالي بن السيد أحمد بن عيسى المسومي؛ والترجمة رقم 118: للشريف المختار بن أحمد بن الإمام أحمد الإدريسي).

- الخلط بين بعض التراجم: (فالترجمة رقم 18 في طبعة الكتاني/حجي هي دمج لترجمة أبي العباس أحمد بن أحمد بن الحاج الشنجيطي في ترجمة أحمد بن القاسم بن سيدي أحمد بن علي بن يعقوب الواداني الحاجي اليعقوبي على أنهما لواحد هو هذا الأخير).

- كما وقف الباحث في كل النسخ المعتمدة على سبع تراجم مكرّرة، إمّا من قبل المؤلف أو من قبل النساخ:

ترجمتان لسيدي أحمد بن أحمد بن هيبة الكلكمي: رقم 47 - رقم 213

ترجمتان لطالبن الملقب بسنبير بن القاضي سيدي الوافي بن طالبن الأرواني: رقم 79 – رقم 205

ترجمتان لمحمد العربي بن أبي المحاسن الفاسي: رقم 143 – رقم 211

ترجمتان لعبد القادر بن علي بن أبي المحاسن الفاسي: رقم 144 – رقم 212

ترجمتان لأبي زيد عبد الرحمن بن عبد القادر بن علي بن أبي المحاسن الفاسي: رقم 145- رقم 213

ترجمتان لمحمد المهدي بن أحمد بن علي بن أبي المحاسن الفاسي: رقم 146-رقم 214

ترجمتان لصاحب نظم الدول - لعلها زهرة الشماريخ في علم التاريخ لعبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي كما كتب المحققان، ص. 220 -: رقم 146 مكرر – رقم 215

وعلى هذا، يكون العدد الحقيقي للتراجم الواردة في كتاب "الفتح" هو 209 ترجمة (مقارنة بطبعة الكتاني/حجي فعددها 207 ترجمة).

2- قراءة النص:

حشد الباحث في قراءته للنص منهجيّات متعدّدة، مثل الاجتماعيات التاريخية واجتماعيات الثقافة والإحصاء، وهو ينطلق من اعتبار أدب التراجم الباب الأكثر أهميّة في علم التاريخ محتشداً في سبيل إثبات ذلك بأقوال ابن عسكر في "دوحة الناشر" وابن المؤقت المراكشي في "السعادة الأدبية" وليفي بروفنسال ودومينيك إيرفوا. تركزت قراءة الباحث لهذا النصّ البيوغرافي - التي جعلها المؤلف في القسم الأول من كتابه في نحو 120 صفحة- على ثلاث نقط :

أ- الصنعة البيوغرافية لدى البرتلي الولاتي: سبق للعلامة إحسان عبّاس أن ذهب إلى اعتبار كتب التراجم في المجال الإسلامي دلالة على "وعي مخصوص بالذات" لدى صنّاع المعرفة. ولذلك فإنّ كتاب "الفتح" يعدّ جزءاً من سلسلة بيوغرافية متكاملة تضمّ "نيل الابتهاج" و"كفاية المحتاج" لأحمد بابا التنبكتي، و"تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس" لابن المختار، و"تاريخ السودان" لعبد الرحمن السعدي. ورغم اعتماد البرتلي على هذه المصادر البيوغرافية السابقة عليه (اعتمد في 37 ترجمة على "تاريخ السودان"، وفي 5 ترجمات على "كفاية المحتاج") إلا أنّ من أهمّ ميزاته المضافة كونه يبقى المصدر الرئيس لما يقرب من 167 ترجمة، وكونه يصنّف ضمن البيوغرافيات الخاصّة بالنخبة العالمة في بلاد التكرور ما بين الأعوام 1600 م و1800م، وكونه كذلك قد اتخذ بلاد التكرور مجالاً جغرافياً لتراجمه، وهو مجال يعرف بندرة مصادره التوثيقية بشكل كبير. علاوة على ذلك يسجّل الباحث اضطراب المؤرخين في تحديد ذلك المجال، فبينما توسّع المصادر التاريخية المشرقية إبّان العصر الوسيط جغرافية المجال لتمتدّ غرباً من الساحل الغربي الإفريقي إلى الحدود الغربية لإثيوبيا شرقاً تبعاً للتوسّع الإسلامي، فإنّ المتأخرين من المؤرخين الموريتانيين في بداية القرن 18 م - وفي مقدمتهم البرتلي- استعملوا لفظ التكرور لتحديد المجال الجغرافي الممتد بين الصحراء والساحل الغربي؛ أي بين الساقية الحمراء (جنوب المغرب) ونهر السنيغال والنيجر، وهو المجال الذي يطلق عليه حالياً موريتانيا والجزء الشمالي من مالي الحاليّة. ولعلّ هذا التحديد الأخير يعكس بدايات الوعي التاريخي بالخصوصيّة الإقليمية وبضرورة وجود سلطة مركزية تستند على وحدة جيو- ثقافية.

كما تتسم الصنعة البيوغرافية في الفتح بسمات أخرى منها: أنّ المترجم قد سار في ترتيب تراجمه وفق الألفبائية المغربية، وإن خالفها أحياناً، وأنّ بنية الترجمة عنده تقوم على ذكر: اسم المترجم له ونسبته ـ صفاته ـ أنشطته ووظائفه ـ دراسته ـ شيوخه وأساتذته ـ تلاميذه ومريدوه ـ مؤلفاته ـ تاريخ و مكان ولادته ووفاته، وأحياناً يذكر بعض النوادر والطرف ـ أحداثاً تاريخية ـ أحداثاً متعلقة ببعض الشخصيات ـ مراسلات وفتاوى مدمجة داخل الترجمة. كما يلاحظ أنّ البرتلي يعتمد على "تركيب نموذجي" للأسماء يتكوّن من: لقب تشريفي ـ الاسم ـ النسب ـ النسبة، ويندر عنده استعمال الألقاب و الكنى حسب النموذج الذي صاغته جاكلين سوبليه.

لقد تباينت التراجم عند البرتلي من حيث حجمها، فجاءت على ثلاثة أقسام:

تراجم ذات أهمية قصوى، وهي خاصّة بالعلماء الأكثر نشاطاً وإنتاجاً وتأثيراً في الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية، وعادة ما تستغرق كلّ واحدة من هذه التراجم صفحة كاملة مطبوعة أو أكثر، وهذا الصنف هو الأكثر نسبياً؛

تراجم ذات أهمية متوسطة، وهي خاصّة بالعلماء ذوي المشاركة المتوسّطة أو العاديّة في الحياة الاجتماعية و الثقافية، وهذا النوع عادة ما يستغرق نصف صفحة أو صفحة بالكاد؛

تراجم ثانوية خاصّة بمن لا تتوفر عنهم المعطيات الكافية، فلا تستغرق إلا ستة أسطر، وهذا الصنف يمثل أقلّ نسبة من التراجم. والبرتلي في كلّ ذلك يميل إلى الكتابة بطريقة سردية بسيطة، لا تعتمد الجدل إلا نادراً، ولا يستطرد في ذكر ما يجري في محيطه من وقائع تاريخية، ولا يستطرد في توثيق مصادره.

ب-التقاليد العلمية لدى الجماعة العالمة بالتكرور: لقد غلب على نتاجات التكرور يين ظاهرة التجميع، التي يمكن تفسيرها بعاملين اثنين؛ أولهما بطء الإنتاج الثقافي في المراكز الثقافية الإسلامية الكبرى في شمال إفريقيا، ثانيهما افتقاد منطقة التكرور لتقاليد الكتابة وتأخر انتشار الإسلام والتعريب فيها مقارنة ببلاد المغرب بسبب البعد الجغرافي عن المراكز الثقافية كفاس والقاهرة وتونس. ورغم ذلك، فكتاب "الفتح" هو شهادة وثائقية على دور التكروريين في نقل المعارف الإسلامية وترويجها، بفضل رحلات الحجيج إلى المشرق، وبفضل العلماء المغاربة الذين طبعوا الثقافة التكرورية بطابعهم الخاص، من ذلك مثلاً: اتباع الأبجدية المغربية، الانتظام في تراث الفقه المالكي، والارتباط الروحي بشبكة الصلاح الصوفي المغربي. إنّ انخراط التكروريين في سلسلة نقل المعرفة الإسلامية (السماع، القراءة، المناولة، المناولة مع الإجازة…) جعلهم يسهمون في صياغة الشخصية الثقافية الموريتانية المندمجة في الثقافة العربية الإسلامية، وهذا ما أعلن البرتلي بوضوح عن سعيه لتحقيقه منذ السطور الأولى من مقدمة "الفتح". ولعل هذا الانتظام الثقافي قد يفسّر غلبة الإنتاج الأندلسي والمغربي على المؤلفات الدراسية التي كشف عنها كتاب "الفتح". أما مساهمة علماء التكرور، فغالباً ما تبلورت في تعاليق وحواشٍ على تلك المؤلفات أو تحويلها إلى منظومات، وتبقى كتب النوازل الفقهية أكثر الأعمال أصالة في الأدب التكروري.

إنّ التراجم في كتاب البرتلي لا تعكس تغطية متوازنة للحركة الثقافيّة والعلميّة في المراكز المدينية في بلاد التكرور (ولاتة: 52 ترجمة، تومبكتو: 47 ترجمة، تيشيت: 21 ترجمة، ودان: 10 تراجم، أروان: 5 تراجم، دجيني: 5 تراجم )، إذ إنّ مدينة ولاتة هي الأكثر حضوراً في التراجم، وذلك باعتبار كونها أكبر مركز ثقافي في عصر البرتلي، فضلاً عن كونها الموطن الأصلي للمترجم. إلا أنّ الملاحظة الأساسية المستنبطة من الإحصاء المذكور هو أنّ بلاد التكرور لم تنتج الكثير من العلماء. ولا تسعف بقية المصادر في التخفيف من حدّة هذه الملاحظة، لأنّ المصادر التوثيقية لعصر البرتلي تكاد تكون منعدمة، والمتوفر منها يغطي المراحل السابقة أو اللاحقة على البرتلي. من ناحية أخرى، لم يقدّم "الفتح" الصورة التاريخية الحقيقية لمساهمة المرأة العلمية ومشاركتها الثقافية، إذ نجد البرتلي يلزم الصمت ويهمل الترجمة لنساء عالمات، رغم معاصرته لهنّ مع شهرتهن، فهو لم يترجم لخديجة بنت العاقل التي وضعت "حاشية على السلم المرونق للأخضري في علم المنطق"، في حين أنه ترجم لأخيها أحمد بن العاقل، وهذا يعكس النزعة المحافظة للبرتلي. بيد أنّ ابن بطوطة يصف نساء التكرور بأنهن أكثر حرية وانفتاحاً على المجتمع الرجالي، مع انخراطهن في الحياة الثقافية والعلمية، حتى ذكر أنّ أكثر من 300 امرأة في إحدى القبائل يحفظن موطأ الإمام مالك عن ظهر قلب.

إنّ الانتظام في شبكة نقل المعارف الإسلامية وروابط الصلاح الصوفي كانت من أبرز تقاليد السلطة العلمية في بلاد التكرور، وكان الامتياز في هذا الانتظام عنصراً أساسياً يخوّل للنخبة العالمة تقوية حضورها في المجتمع والثقافة التكروريين حولها في مواجهة القبائل المحاربة والفتن الغازية.

ج- العلماء والسلطة العلمية في الاجتماع التكروري: يتوقف الفهم الجيّد لهذه المسألة على استحضار رهانات المترجم، باعتباره فاعلاً اجتماعياً؛ فالبرتلي ينتمي إلى أسرة عالمة ذات تأثير كبير في مدينة ولاتة مدة قرنين كاملين، وهذا ما انعكس على دور هذه الأسرة السياسي والاقتصادي، فكانت محلّ حظوة و احترام لدى الحكّام والنخبة وعامة الناس على حد سواء. إلا أنّ عصر البرتلي تميّز بغياب الدولة المركزية القوية، ومن ثم انقسام البلاد بين الإمارات و الإقطاعات الجهوية، وبالنظر إلى الطبيعة القبلية للبلاد فقد نشبت صراعات بين القبائل المحاربة والزوايا من أجل السيطرة السياسية والهيمنة الاقتصادية. إنّ انشغال الزوايا بالتدريس الإسلامي ومزاولة النشاط الاقتصادي لم يمنعها من حمل السلاح في مواجهة القبائل المحاربة، فكانت تنتصر أحياناً وتنهزم أحياناً أخرى، ولم تكن أسرة البرتلي منعزلة عن هذا السياق، بل خاضت تلك الصراعات إلى جانب الزوايا، فنالها من ذلك ما نالته الزوايا من مرارة الخسران والإخضاع المتعدّد الألوان. وهذا ما جعل البرتلي يعبّر في كتابه عن محنة الزوايا ومعاناتها من جهة، ويعبّر من جهة ثانية عن احتقار القبائل المحاربة المسيطرة وازدرائها، فكان لا يتردّد في وصفهم باللصوص والظلمة و"مستغرقي الذمّة"(3)، إلا أنه لزم الصمت تجاه القبائل المتصارعة وأسمائها وأسباب الصراع، وظلّ يحرص في تراجمه على تصوير علماء التكرور، باعتبارهم حماة للدين منشغلين بالدراسة والعبادة غير خائضين في حروب السيطرة على السلطة والثروة، لأنه كان مدركاً تمام الإدراك أنّ تحصيل السلطة في المجتمع التكروري يتمّ بوسيلتين لا ثالث لهما: إمّا حمل السلاح ومعرفة كيفية استخدامه، وإمّا امتلاك العلم والمعرفة، وهو لا يخفي اختياره للوسيلة الثانية. إنّ السلطة العلمية هي التي خولت لأسرة البرتلي حظوة وجاهاً لعدة أجيال، خصوصاً إذا عضّدت السلطة العلمية بالولاية الروحية (بركة الأولياء)، وهو ما جعل تأثير هؤلاء الأعيان في النسيج الاجتماعي نافذاً.

إنّ البرتلي حينما ترجم لـ 209 شخصية من أعيان التكرور (مع التنبّه إلى التكرار الحاصل في 7 تراجم) جلّهم من العلماء والفقهاء والأولياء والصلحاء، إنما كان يؤسّس في الحقيقة لشرعية جماعة العلماء الجامعة بين علوم الظاهر والباطن، باعتبارها جماعة سوسيولوجية لا تستطيع الانعزال والانزواء بعيداً عن أتون الصراع في المجتمع التكروري. لقد كان هؤلاء الأعيان يتمتعون بسلطة معنوية من خلال توليهم لوظائف الإمامة والقضاء والإفتاء، مما أكسبهم القدرة على التوجيه والتأثير، ومن ثم مزيداً من الاحترام والنفوذ إزاء القبائل المحاربة وعامة الناس، ولذلك لم يترددوا في إبداء آرائهم دون مواربة لتوجيه الحكام ومراقبتهم، وهي الأدوار التاريخية نفسها التي تكاد تشكل المكوّن البنيوي لمؤسسة العلماء في الاجتماع الإسلامي طيلة الفترة الزمنية الطويلة la longue durée)) للتاريخ الإسلامي قبل التحوّل القسريّ الذي فرضته صيرورة التحديث الإمبريالي إبّان القرن التاسع عشر.

إنّ مكمن الخصوبة في هذه الدراسة هو انطلاق الباحث من اعتبار "فتح الشكور" بمثابة خطاب يستند إلى رهانات المؤلف الخاصّة ومقاصده الاستراتيجية، الكامنة والظاهرة، ما دام منتج الخطاب فاعلاً اجتماعياً. وما من شك في أنّ هذا الاختيار المنهجي في تحليل النصّ التراثي الذي سلكه شوقي الهامل، يدرجهضمن كوكبة من الباحثين ظهرت منافع تحليلاتها للنصّ التراثي، كما تمّ من قبل في تحليلات محمد القبلي لتشوف ابن الزيّات...، وتحليلات رضوان السيّد للعديد من النصوص التراثية السياسية.


(1)EL HAMEL, chowki

La vie intellectuelle islamique dans le Sahel Ouest-africaine (XVI-XIXe siècles) :

une étude social de l’enseignement islamique en Mauritanie et au Nord du Mali (XVI-XIX siècle ) et traduction annotée de « Fath ash-shakür » d’al-Bartili al-waläti (mort en 1805)

Paris: L'Harmattan, 2002, 490 p. ; 24 cm ; (Sociétés africaines et diaspora)

شوقي الهامل مؤرخ مغربي، أستاذ مشارك بقسم التاريخ في جامعة ولاية أريزونا. له العديد من الأعمال: انظر الرابط الآتي:

http://www.aswadiaspora.org/candidates09/ElHamel....

(2)صدر ضمن منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر عن دار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 1401هـ/1981م

(3)يقصد باستغراق الذمّة تحصّل أموال الغير بدون حق أو بشبهة حق تمّ إبطالها، وبذلك تصبح تلك الحقوق تبعات عليه، حتى ولو لم يظهر بمظهر المعسر، لأنّ تلك الأموال التي بيده هي في واقع الأمر ليست له، وإنما لأصحابها الحقيقيين بصرف النظر عن الطريقة التي تمّ بها الحصول على تلك الحقوق أو الأموال ما دامت غير شرعية، ويدخل في ذلك السرقة والغصب والتعدي والإكراه والرشوة وما إليها من الطرق المحرمة شرعاً.

انظر جمعة محمود الزريقي: "نظرية استغراق الذمة بالمال الحرام": في: مجلة دار الحديث الحسنية، ع. 10، 1992، ص. 48