استدعاء التراث والتحيّز المعرفي
فئة : مقالات
"إنه من أوعية العلم المفرطين في الذكاء الجامعين بين المعقول والمنقول" يصف الشوكاني (برهان الدين البقاعي) تلميذ ابن حجر العسقلاني.
البقاعي هو صاحب تفسير القرآن (نظم الدرر في تناسب الآي والسور)، ويعدّ هذا الكتاب من أشهر أعماله في عصره هو وردّه على ابن الفارض، وأكبر عمل له في مصر، أنه قام بتكفير ابن الفارض، وصارت فتنة كبيرة بعد ذلك، اختُبر فيها العلماء، وردّ عليه كثيرون من العلماء الأقران والمعاصرين له، وردّ عليهم علماء مثلهم، وطالت القصة، مما خلّف لنا تراثًا ضخمًا حول هذه المسألة، لا يزال بعضه مخطوطًا في دار الكتب المصرية وغيرها من خزائن المخطوطات.[1]
البقاعي هو صاحب تفسير القرآن (نظم الدرر في تناسب الآي والسور)، ويعدّ هذا الكتاب من أشهر أعماله في عصره هو وردّه على ابن الفارض
اهتم السلفيون بالبقاعي حديثًا، والتفتوا إلى هذا الجانب من كتاباته؛ فتخصص أكثر من خمسة طلاب في درس شرح له في علم الحديث، يُسمّى (النُكت الوفيّة بما في شرح الألفية) وقاموا بتحقيقه، وأعاد أحد الطلاب في جامعة الأزهر مؤخرًا الاهتمام به، وحصل على درجة الماجستير من كلية أصول الدين عن هذا العمل. كذلك اهتم آخرون بتحقيق نصوصه في الرد على الصوفية. والحقيقة أن مصر كانت سبّاقة في هذا الاهتمام؛ فرئيس جماعة أنصار السنة في مصر سبق أهل السعودية بنشر رسالتين للبقاعي، وعنون الرسالتين بـ(مصرع التصوف)، وهو عنوان ينبئ عن هدف الرجل الضخم الذي -من الصعب- أن يتحقق له أو لأحفاده. فما حدث وقت كتابة البقاعي لهاتين الرسالتين هو نفس الحادث اليوم؛ فالسلفية الكاتبون في (فضائح الصوفية) لا تزال الردود الجدلية الصوفية تواجههم، والصراع ما يزال مستمراً بينهم، وإن كان الإنسان من ورائهم مغيبًا.
كتب البقاعي ما كتب ولم يطق المقام في مصر، فارتحل منها إلى الشام، وكتب في ذمِّ مصر وأهلها، ومدح الشام وأهلها
كتب البقاعي ما كتب ولم يطق المقام في مصر، فارتحل منها إلى الشام، وكتب في ذمِّ مصر وأهلها، ومدح الشام وأهلها. والغريب الذي لا يُلقى عليه ضوء من ميراث البقاعي، خاصة من المعاصرين أتباع التيار السلفي الحديث، هو أن البقاعي، وإن نقد التصوف وأعلامه، إلا أنه ابن شرعي لهذا الفكر ومنه نهل وعليه اعتمد.. فالذي يتصفح كتابه (نظم الدرر في تفسير القرآن) يجد الكتاب عبارة عن تلخيص وحفظ لما كتبه الحرّالي الصوفي المراكشي تفسيرًا للقرآن، والحرالي علمٌ صوفيٌّ كبير، ذكر ابن الطوّاح له نصًّا في كتاب (سبك المقال) أثار دهشة قسيس تركونة، واعتبر القسيس كلام الحرالي مخالفًا للشريعة الإسلامية [2]! فيمكن لمن يعدّ البقاعي حجّة في نقد التصوف أن يراجع ترجمة الحرّالي أولاً، ثم يراجع عمل البقاعي في تفسيره ثانيًا؛ ثم يطالع كتابه التاريخي (عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران)، سيجد من البقاعي الكثير من الحفاوة والاهتمام بمناقب المشايخ الذين ترجم لهم وكراماتهم وخوارقهم التي لقيت ترحابًا كبيرًا من جانب الصوفية.
أمرٌ آخر أثار اهتمام الباحثين الغربيين مؤخرًا، وأثار اهتمام المعاصرين للبقاعي، وهو اعتماده في تأويل كثير من آيات القرآن على الكتاب المقدّس (وليست الإسرائيليات)؛ فالبقاعي كان ينقل من نسخة بين يديه نصوصًا كاملة يشفع بها تأويلات الحرالي للنصوص، بل وقد تقدّم البقاعي في التعامل مع نصوص الكتاب المقدس، وقابل بين عدّة نسخ، ووجّه نقدًا لإحدى هذه النسخ،[3] وهو ما أثار سخط صديقه في التلمذة على ابن حجر (السخاوي) وحفّزه لكتابة كتاب مستقلّ يجرّم فيه فعل البقاعي، أسماه: (الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل)، ولم يصلنا نصّ السخاوي، وإن كان أحد الدارسين الغربيين أشار إلى أنه قد اطلع على نسخة من كتاب السخاوي، وهو في مصر إلاّ أنه ليس موجودًا في أي دار من دور الكتب والمخطوطات بحسب مراجعة أكثر من باحث ومهتم في هذا الشأن.
تقدّم البقاعي في التعامل مع نصوص الكتاب المقدس، وقابل بين عدّة نسخ، ووجّه نقدًا لإحدى هذه النسخ
وكان كتاب السخاوي باعثا للبقاعي على كتابة نصّ جديد يردّ فيه على السخاوي وغيره ممن انتقدوه، لاعتماده على الكتاب المقدّس في تفسير القرآن، ولم يكتف بكتابة (الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة)، بل شفعه بخاتمة تزيد في حجمها على حجم الكتاب الأصلي، ليتحدى بها أقرانه أن يأتوا بمثلها في تفسير سورة الكوثر .
الجميل أن جزءًا من هذا الكتاب دفع أحد الأساتذة في تورنتو إلى نشر هذا النصّ كاملاً تحت عنوان (دفاعا عن الإنجيل)[4] وقد أحسن اختيار هذا العنوان، وإن كان لا يعبّر عن غاية البقاعي، إلاّ أنه يسلط الضوء على هذه الشخصية التراثية التي لا تزال تُستدعى حتى اليوم، لتقول عن فريق المسلمين ما يودّون قوله ويعجزون عن التأصيل له، فينهلون من تراثهم دون إدراك للمنحى الشخصي للكاتب أو مجمل أفكاره وتطوره ..
خصص البقاعي الفصل السابع من كتابه هذا، للحديث عن تحريف الإنجيل، وقد صدّره بنقل شهير من (الكلام الأشعري)
خصص البقاعي الفصل السابع من كتابه هذا، للحديث عن تحريف الإنجيل، وقد صدّره بنقل شهير من (الكلام الأشعري) يقول فيه: إن (كلام الله واحد إن عُبّر عنه بالعربية فقرآن، وإن عُبّر عنه بالعِبرية فتوراة، وإن عبر عنه بالسُّريانية فهو إنجيل).. وكما استدعى هذا النقل استدعى مواقف السابقين من العلماء الذين لم يجدوا حرجًا في الاعتماد على الكتاب المقدس لتأييد آرائهم، وأشهرهم حجّة الإسلام الغزّالي في كتابه "الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل"، وكذلك استدعى من كتب الفقه ما يشير إلى جواز ذلك. كل هذا لا يظهر حين يستدعي المسلم المعاصر البقاعي ليتكلم عنه في قضية معينة، فهو يستدعي من التراث ما يناسب مواقفه المسبقة، ولا يهتم كثيرًا بما لا يناسبه، ويعمل على تغييبه، يستوي في ذلك المؤيد والمعارض، وينسى الجميع: " هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".
* خالد محمد عبده باحث مصري
[1] انظر في تفاصيل تلك الفتنة: محمد بن أحمد بن إياس الحنفي المصري، أحداث عام 875 هـ بدائع الزهور في وقائع الدهور، ط مطابع الشعب 1960. ويرد فيها: وفي أوائل هذه السنة كثر القال والقيل بين العلماء بالقاهرة في أمر الشيخ العارف بالله تعالى سيدي عمر بن الفارض نفع الله تعالى الناس ببركته وقد تعصب عليه جماعة من العلماء بسبب أبيات قالها في قصيدته التائية فاعترضوا عليه في ذلك وصرَّحوا بفسقه بل وتكفيره ونسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد وحاشاه من ذلك أن ينسب إليه هذا المعنى ولكن قصرت أفهام جماعة من علماء هذا العصر ولم يفهموا معنى قول الشيخ عمر فيما قصده من هذه الأبيات فأخذوا بظاهرها ولم يوجِّهوا لها معنى .... فكان رأس من تعصب على الشيخ عمر بن الفارض برهان الدين البقاعي وقاضي القضاة محب الدين بن الشحنة وولده عبد البر وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي ونور الدين المحلي وتبعهم كثير من طلبة العلم يقولون بذلك.
[2] امتُحن الحرالي الصوفي بأسر أقارب له، فكتب إلى قسيس تركونة ليفك أسرهم رسالة مطوّلة أوردها ابن الطوّاح في سبك المقال لفك العقال، نشرة جمعية الدعوة الإسلامية – ليبيا-2008م ص 99 وما بعدها: (بسم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، خلق الله البشر كلهم من نفس واحدة، وبرأأبدانهم كلها من أديم الأرض الواحدة، فجعلهم في الحقيقة ذوي رحم واحدة. لو تعارفوا حق المعرفة بما اشتركت فيه أبدانهم، وانفردت بالنفس الواحدة نفوسهم، وتحققت بروح الله أرواحهم ما تقاطعوا ولا تسافكوا الدماء) (ثم أكد تواشج رحم الأبدان بدنا، والنفوس نفسا، والأرواح روحا، بما شرع لإبراهيم خليل الرحمن من الملة الجمعاء، والحنيفية البيضاء، وجعله أبا جامعا لأسباط بني يعقوب بن إسحاق، ووالد الأصفر أبي كافة الرومية وقبائل أولاد إسماعيل بن إبراهيم أبي كافة العرب. وذلك ليكون أولى باجتماعهم وتراحمهم وتعاطف بعضهم على بعض، وائتلاف بعضهم ببعض. فلم يزد الأمر بتأكيد أسباب الألفة إلا افتراقا، ولا جعل = =منهم بتوثيق الرحم والملة الإبراهيمية إلا شدة الشتات شقاقا ونفاقا. اللهم إلا آحادا من أفراد الفضلاء، وأكابر الحكماء، الذين قضوا حق الرحم والملة، وتحققوا بروح الله فتصافوا وتواصلوا في القربوالبعاد،وخلصوامن نكر التباغض والعناد. فلم تحرقهم نار التفرقة، وكانت عليهم بردا وسلاما، كما كانت على أبيهم إبراهيم النار المحرقة، وذلك لما عادوا بقلوبهم إلى الأصل، ولم يلتفتوا لعارض الشتات، فبقوا على اتصال الوصل). اللافتُ للنظر في القصّة أن الحرّالي كان من السّعة أن قبِل بالكل، واتسع صدره للكلّ، ولم يقبل به بعد ذلك المسلم والمسيحي، ففي الأول عزّ الدين بن عبد السلام، وهو فقيه صوفي، لم يقبل بتأويل الحرّالي للقرآن، وقام بتأليب العامة والعلماء عليه، وسبحان الله؛ لأن الحرّالي كان متذوقًا لكتاب الله وعالمًا بالفعل، حفظ الله تفسيره من خلال البقاعي ــــ تلميذ ابن حجر ــــ في القرن التاسع الهجري، فاعتمد البقاعي على التقاط فوائده ودرره في كتابه الكبير نظم الدرر في تناسب الآي والسور؛ فما خلت سورة من تأويل إلاّ وللحرالي كلام ينقله البقاعي؛ النكتة الثانية في صلب الرسالة ذاتها:ـ أن القسيس/المسيحي، لم يقبل بالحرّالي ممثلاً للمؤسسة الرسمية الدينية، ولم يعتبره عالمًا بالشريعة، لأنه يقول كلامًا بخلاف ما ألِفه القسيس من خطاب ديني منتشر آنئذ، على الرغم من وجود متصوفة أكابر معاصرين للحرالي؛ هاتان النقطتان هما ما انتبهت إليهما في نصّ الرسالة وفي رحلة إسراء الحرالي بين البقاع المختلفة. أخيرًا ذكر جمعة شیخة (الحرّاليّ الصوفي) كنموذج للمسلم المتسامح وعدّه من (نماذج التسامح في التراث) التي عدد أمثلة منها في مقاله في مجلة دراسات أندلسیة جزء 14 لسنة 1416 هـ. لمن أراد أن يطالع المزيد.
[3] : يقول البقاعي في مقدمة كتابه (نظم الدرر في تناسب الآي والسور) 1/ 273: التوراة ثلاث نسخ مختلفة اللفظ متقاربة المعنى إلا يسيرًا: إحداها تسمى توراة السبعين، وهي التي اتفق عليها اثنان وسبعون حبرًا من أحبارهم؛ وذلك أن بعض اليونان من ملوك مصر سأل بعض ملوك اليهود ببيت المقدس أن يرسل إليه عددًا من حفظة التوراة، فأرسل إليه اثنين وسبعين حبرًا، فأخلى كل اثنين منهم في بيت ووكل بهم كتّابًا وتراجمة، فكتبوا التوراة بلسان اليونان، ثم قابل بين نسخهم الستة والثلاثين، فكانت مختلفة اللفظ متحدة المعنى، فعلم أنهم صدقوا ونصحوا، وهذه النسخة ترجمت بعد بالسرياني ثم بالعربي، وهي في أيدي النصارى. والنسخة الثانية نسخة اليهود من الربانيين والقرائين. والنسخة الثالثة نسخة السامرة؛ وقد نبه على مثل ذلك الإمام السمرقندي في الصحائف واستشهد بكثير من نصوص التوراة على كثير من مسائل أصول الدين، وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد والقاضي عياض في كتاب الشفاء وغيرهم. ثم اعلم أن أكثر ما ذكرته في كتابي هذا من نسخة وقعت لي لم أدر اسم مترجمها. فالظاهر أنها نسخة اليهود وهي قديمة جدًا، فكان في الورقة الأولى منها محو في أطراف الأسطر فكملته من نسخة السبعين، ثم قابلت نسختي كلها مع بعض اليهود الربانيين على ترجمة سعديا الفيومي وهي عندهم أحسن التراجم لو كان هو القارئ، فوجدت نسختي أقرب إلى حقائق لفظ العبراني ومترجمها أقعد من سعيد في لغة العرب.
[4] راجع: Walid A. Saleh (In Defense of the Bible: A Critical Edition and an Introduction to Al-biqai's Bible Treatise (Islamic History and Civilization . Brill in 2004. جدير بالذكر أن الكتاب كان قد نُشر جزء منه في مجلة معهد المخطوطات العربية 1401هـ - 1980م. بعناية محمد مرسي الخولي، ولكنه اكتفى بنشر ما يقارب ثلث الكتاب، متوقفًا عند الفصل الخاص بتحريف التوراة والإنجيل، مكتفيًا بما نشره، مستبعدًا الخاتمة التي تمثلّ أكثر من نصف الكتاب.