استراتيجيات النص من منظور تفكيكي: علي حرب نموذجا
فئة : مقالات
استراتيجيات النص من منظور تفكيكي: علي حرب نموذجا
يوسف هريمة
كل المنظومات الفكرية والعقائدية قديما وحديثا اعتمدت على النص، باعتباره عنوان حقيقتها، أو حاملا حقيقيا لرؤيتها تجاه الذات والآخر والمحيط. لهذا شّكل النص دوما صراعا دينيا وسياسيا، بل قد نزعم بأنه بالرغم من القداسة التي يحيط بها كل اتجاه نصوصه؛ فقد تتحول هذه الأخيرة إلى ألغام تنفجر تارة إلى طوائف ومذاهب وتأويلات، أو إلى صراعات تأخذ أبعادا اجتماعية أو سياسية في شكل حروب مقدسة يشهد على دمويتها تاريخ البشرية جميعها. وبما أننا نعيش في ثقافة نصية، أو ثقافة يشكل النص عصب حياتها، سواء كان هذا النص دينيا أو فلسفيا أو تراثيا مكتوبا أو شفهيا يتداوله جيل عبر جيل.
فما هي الأسس التي يبني عليها النص سلطته علينا؟
وهل كل النصوص بمستوى واحد تحمل حقيقتها في مضامينها؟
أم النصوص مجرد إمكانات واحتمالات لا نهائية؟
هذه الأسئلة وغيرها مما يثيره هذا الموضوع هي نقاش مستمر بين تيارات متعددة تتأرجح بين التقديس والتدنيس، هذا ما يدفعنا إلى مقاربة الموضوع من زاوية أخرى؛ هدفها فتح أعيننا على الإمكانيات التي يتيحها أمامنا النص ليس باعتباره حاملا للحقيقة، لكن باعتباره مؤشرا على ما يمكن أن يساعدنا على الفهم، باعتبار أن الفهم هو الخطوة الأولى التي يسعى إليها الفكر النقدي أكثر من عملية الهدم والإقصاء. وسنعتمد في مقاربة هذا الموضوع على المفكر اللبناني علي حرب من خلال كتابه نقد النص، لنفهم الآليات التي تمكن للنصوص أن تديم سلطتها علينا، وتخضعنا عبر آليات سنسعى لتفكيكها كما سنرى.
الخطاب حجاب
دون أن ندخل في متاهات المفاهيم التي يطرحها أمامنا النص، فالجليّ هنا هو أن كل نص يحمل خطابا، وكل خطاب حجاب. وحينما يتجه الناقد إلى نقد نص معين فهو يتجه أساسا إلى خطاب غالبا ما يكون محكوما ببداهات يبني عليها أحيانا ويسكت عنها أحيانا أخرى، والمهم هو أن نكشف عن هذه البداهات وهذه الآليات. فمثلا حينما نجد أنفسنا أمام مقولة الإنسان كائن عاقل، فهذا يطمس بهيمية الفرد وحمقه. كما أن من يقول بالعقل المحض، فإنه يخفي حدسيته أي ما يتصل بالتجربة والحس، وهكذا. وهذا هو أهم ما يمكن أن يكشف عنه فعل النقد؛ أي الكشف عن الآليات التي يختفي وراءها الخطاب وقواعده.
النصوص سواء
حينما نتحدث عن النصوص، فإننا لا نتحدث عن نصوص دون أخرى؛ فكلها سواء بالرغم من اختلاف أشكالها ومضامينها وموضوعاتها. والناقد حينما يريد أن يقوم بعمله النقدي، فالذي يجب أن يستحضره أولا، هو أن يعرف كيفية انبناء الخطاب وطريقة اشتغاله وتشكله؛ معنى هذا الكلام هو أن النص يجب أن يتحول إلى ميدان معرفي ومنطقة من مناطق عمل الفكر؛ أي أن تكون له مشروعية وكينونة خاصة. هذه الكينونة يلزم أن ننظر إليها دون أن نحيل إلى مؤلفها أو واقع خارجي. ففي النقد يستقل النقد عن صاحب النص كما يستقل عن المرجع لكي يغدو واقعة خطابية لها حقيقتها وقسطها من الوجود. وبما أن النص يكرس هيمنته علينا بفعل عوامل كثيرة تختلط فيها الجوانب بين ما هو فكري وثقافي وسياسي واجتماعي وتاريخي، فإننا نقول إن النص لا يشير إلى الواقع أو يحيل إليه، فالنص الذي يكون بهذه الشاكلة لا أهمية له؛ لأنه ينتهي بنهاية الواقع الذي يحيل إليه. فنحن لا نرجع إلى مقدمة ابن خلدون مثلا لكي نتعرف إلى الواقع الذي عاصره المؤلف، بل لكي نفهم الواقع المعاصر الذي نحياه في اللحظة الآنية. هذا يعني أننا حينما نربط النص بالواقع فإننا نقوم بإهدار كينونته.
حقيقة النص
النص بالأساس هو فتح علاقة جديدة، أو إمكانية أخرى مع الحقيقة من شأنها أن تغير مفهومنا لها أو تبدل طريقة تعاملنا معها. ففي منظور النقد الحقيقة ليست شيئا متعاليا أو جوهرا يتجاوز شروط إنتاجه، وإنما الحقيقة هي كل إمكانية يخلقها النص نفسه: بتعبير آخر النص لا يبحث عن الحقيقة، وإنما يفرض حقيقته. من هنا يصبح النقد هو انتقال من نص الحقيقة إلى حقيقة النص. وهذا الأمر سيدفع بالضرورة إلى نقطة أكثر أهمية مما قلناه، وهو أن في هذا المقام لا يسمح المجال بالتخطئة والصواب في نص من النصوص، فهذا الأمر قد يكون مفهوما إذا كنا نعتبر النصوص تحيلنا على حقائق ذهنية أو خارجية. لهذا نجد الكثيرين خاصة في الخطابات التي يعتبر أصحابها أقوالهم لا تناقش يستعملون مصطلحات، مثل التناقض أو التهافت في وصف نصوص تخالف أنماط تفكيرهم. وهنا يمكننا فهم ما قام به الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة، فما حاول نقضه من كلام الفلاسفة مثل ابن سينا والفارابي كان أقوى من أن يتهافت، أي صمد وما زال يفرض نفسه علينا ويحثنا على قراءته والتفكير فيه. وهذا يجعلنا نغير النظرة في التعامل مع النصوص، فالنص القوي لا يتهافت، بل ربما هو نفسه يتيح لنا الكشف عن تناقضاته إن كانت أو توتراته واختلافاته.
استراتيجية النص
ماذا يكشف لنا هذا الكلام في ميزان النقد؟. إنه يكشف أن الذات ليست بريئة في تمثلاتها ورؤيتها للكون والمحيط. وأن الخطاب ليس شفافا في تمثيله لعالم المعنى. لهذا نتساءل دوما، لماذا سكت هذا النص ولم يفصح عن الكثير من الأشياء؟.
النص يسكت ليس فقط لأن صاحبه يهوى الإبهام والسكوت، أو يخاف من سلطة أو عقاب، أو لغرض تربوي أو أخلاقي. إن النص يسكت؛ لأن طبيعته هكذا فهو سر من أسراره، فكل نص له فراغاته وصمته، وله زلاته وأعراضه، وله ظلاله وأصداؤه. وهذه هي استراتيجياته الخاصة من الحجب والإخفاء. فمثلا حينما يقول الأصوليون وكل الحركات الإسلامية بأن الحكم إلا لله، فهذا القول يمارس حجبا مضاعفا، فهو يخفي طبيعة السلطة وناسوتيتها. كما يحجب رغبة القائل بهذا الكلام بسط هيمنته على من يوجه إليهم الخطاب. وأخيرا يحجب ذاته؛ أي كون النص يمارس سلطته على القارئ أو المتلقي. وهذا الأمر ليس فقط مرتبطا بأصحاب الاتجاهات الدينية فحسب، فنفس الأمر يمارس بأشكال مختلفة مع أصحاب الإيديولوجيات الشمولية. وبهذا، فإن الخطاب التحرري يمارس سلطته عليك في الوقت الذي يدعوك إلى قيم الحرية. وفي الخطاب الماركسي، فهو يدعوك إلى محاربة الإمبريالية والهيمنة لكن ينسى بأنه يمارس عليك نفس الإمبريالية؛ أي إمبريالية المقولات والتصورات. وهكذا لا ينفك الخطاب عن الحجب.