استراتيجية علي مبروك التأويلية (القرآن الحي)

فئة :  أبحاث محكمة

استراتيجية علي مبروك التأويلية (القرآن الحي)

استراتيجية علي مبروك التأويلية

(القرآن الحي)

في السياق العربي/ الشرقي الإسلامي ثمة رؤية متدنية للمشروع البحثي يكون فيها أدنى من المشروع الفكري؛ بيد أن المشروع البحثي بالضرورة يحمل مشروعاً فكرياً، فالبحث هو المنتج والمنجز للأفكار الجديدة، وهذا ما فعله علي مبروك؛ فقد قدم رؤيته في رحلة بحثية سائلة عما هو أفضل متحرية الموضوعية قدر الاستطاعة، تعمل على دراسة المنظومة المعرفية الإسلامية ومكونات العقل العربي/الإسلامي الشرقي وطرائق عمله، وكيفية تغييرها، ولأنها تهدف إلى واقع أفضل فكان انطلاقها من الواقع القائم. وجاء مشروعه عبر كتابات عديدة متفرقة لم تكن ذات ترتيب منهجي لتبدو متكاملة تكمل بعضها الأخرى، وهذا ما يجعل مشروعه مشروعاً بحثيًّا لا مشروعاً فكريًّا حسب التقسيمة العربية/ الإسلامية الشرقية.

وتعد نقطة الانطلاق في مشروع مبروك (كأركون، وأبو زيد، وياسين) إبراز الدور السياسي في بناء النمط المعرفي القائم الذي يعمل العقل العربي/الإسلامي الشرقي المعاصر من خلاله، وعدم ألوهية هذا النمط؛ لأنه يُقَدَم على أنه إلهي مفارق، ويتعامل مع الاجتهادات البشرية القديمة على أنها هبات إلهية مخصوصة وهبها الله لأصحابها، وهذا يدخلها ضمن العلم اللدني المقدس الذي تم الفيض به. مروراً بنقد مفهوم الوحي القائم الذي يرى في المصحف الذي بين أيدينا كلام الله في ذاته، والإصرار على أن كلام الله لا نهائي ومطلق. ومن ثم، فمن غير المعقول أن يحتويه كتاب واحد بين أيدينا، ولكن يمكن القول إنه تجلي لكلام الله يوافق أفهامنا وإدراكاتنا المحدودة، ومن ثم فنحن عاجزون عن إدراك المطلق الإلهي، وكل ما يمكن أن نفعله أن نفهمه وفقاً لما يتبدى لنا، وعليه لا يحق لنا الحديث باسم الإله.

وتتمثل أهمية مشروع مبروك في طرحه قراءة جديدة يكون لسياق نزول الخطاب القرآني دور في قراءته وفهمه كخطاب مرهون بعقل المستقبل، وليس كنص مرهون بالمعنى الذي يقصده المؤلف؛ لأنه في هذه الحالة العقل الإنساني عاجز عن القبض على المعنى اللانهائي المطلق الذي يعنيه الله عز وجل.

4-1- الدور السياسي في بناء العلاقة مع النص القرآني (سلطوية النص القرآني)

يتفق علي مبروك مع أبي زيد وأركون وياسين على أن التاريخ الإسلامي يفضي بأن القرآن قبل أن يكون موضوعاً لفعل معرفي كان موضوعاً لفعل سياسي[1]؛ وذلك حين تم الانتقال - في القرآن- من لغات القبائل العديدة، والتي تمثلت في لغة المسلمين، إلى لغة قريش وحدها، وما يوحي إليه ذلك بانتصار قريش السياسي وغياب أي ندية سياسية لها، حيث إن لغة القرآن أصبحت لغتها، ومن ثم أضحى الاختلاف معها اختلافاً مع القرآن[2]، كما تم استدعاء النص القرآني بشكل صريح في الصراع السياسي في حادثة رفع المصاحف على أسنة الرماح، وما تضمنه من صراع بين نمطين للتعامل مع النص أولهما يراه مرادفاً ومتفقاً مع السيف (الأمويين) كون هذا الأخير أداة إخضاع، وثانيهما (علي) الذي يراه ساحة التقاء أفهام مفتوحة -وهذا ما تعبر عنه مقولته هو كلام بين دفتي صحف لا ينطق، ولكن ينطقُ به الرجال- تمكن عادة من الالتقاء والتفاهم والتجاوب مع متغيرات التاريخ[3].

ويرى مبروك، أنه لرغبة السلطة السياسية تم الاستقرار على نمط موحد للتعامل مع القرآن، ليبدو بذلك النمط الأوحد للتعامل مع النص القرآني، وهو النمط الأشعري[4] -وهو صاحب نظرية الكسب الأشعري المعروفة (*) - الذي يضع نفسه في هوية واحدة مع الدين الصحيح والصراط المستقيم، ليصبح متعالياً على الخطابات المناوئة له، والتي تعبر عن الآراء المنكوسة والمعكوسة[5]، وجعل النص القرآني سلطة لا يملك الفرد حيالها سوى الإذعان والتنفيذ، لتتمكن السلطة السياسية من خلال المنبر القرآني طرح وفرض رؤيتها[6]، التي تمتعت فيما بعد بالشرعية التي عرفها النص القرآني، وهو ما نتج عنه جو من الركود والثبات الفكري، لغلبة الطابع الأشعري على العقل العربي، الذي يرى آراء السابقين ومذاهبهم لم تكن ثمرة جهد بشري بقدر ما هي هبات مخصوصة منحها الله لهم لتفانيهم في العبادة والعمل على خدمة الدين.

التأسيس الديني للسياسي

«إنها 'مطلق الإرادة'، وليس 'قانون العقل والحكمة' هي ما يحدد تصور العالم الأشعري وبنائه»[7]

حسب رؤية علي مبروك، فإن نمط الفكر السائد في العقل العربي/الإسلامي المعاصر والتاريخي، هو النمط الأشعري الذي يعد أساسه الهيكلي الذي يقوم عليه؛ مطلق الإرادة والقدرة لله وسلبها من الإنسان[8]، وليس أدل على ذلك من نظرية الكسب الأشعري، ويرى الفكر الأشعري أن الخرق في النظام الطبيعي والفوات جائز بإرادة الله، وعليه فإن فهم هذه الظاهرة أو التفكير فيها غير جائز بمعزل عن البناء السياسي القائم كلّياً على سطوة الخرق[9]، فهذا التصور للعالم الحامل للخرق والفوات لم يكن من مقتضيات العقيدة بقدر ما كان من لوازم السياسة[10]، فالشاهد التاريخي أنه لم يكن ثمة نمط محدد لتولي السلطة السياسية، بل كانت كل فئة تصيغ رؤيتها في شكل عقائدي (ديني) وتعطي لنفسها مشروعية إلهية بعد توليها الفعلي للسلطة، وهو ما يكرس مبدأ الخرق والفوت وانعدام النظام والنظرية.

فالدين كان مطية السياسي كما يرى مبروك، ويؤكد قائلاً: «لأن السعي لاكتساب قداسة الديني والهيمنة عليه، فإنه (أي السياسي) راح يتخفى وراء الديني، وإلى حد تماهيه الكامل معه؛ وحيث يجوز التمييز بين الديني يحضر، ظاهراً، على صعيد اللغة والشكل، وبين السياسي يحضر، كامناً، على مستوى الجوهر والبنية الأعمق»[11]، وحسب النص السابق، فإنه يلتقي مع أركون وأبي زيد وياسين في أن السلطة السياسية صاغت رغباتها وسياساتها في الحكم عبر المفردات الدينية ومن خلال رجال الفقه، ويذكر أن الخطاب الأشعري راح يشتغل بكثافة في العمق لاستحالة الله إلى قناع للسلطان[12]، حيث يبدو للمرء أنه ينفذ الفروض الدينية، ويسعى وفقاً للتوجيه الإلهي المقدم في النسق الديني، بيد أنه يسلك حقّاً طريقاً يرسمه ويحدده السياسي.

ويرى مبروك في حادثة رفع المصاحف إدراكاً مبكراً من بني أمية لقوة المصحف التي هي أكثر حضوراً وإقناعاً من قوة السيف؛ وذلك لرفعهم المصاحف في حرب عجز السيف فيها عن الانتصار فتم استدعاء القرآن كقوة بديلة، والشاهد التاريخي أنها بالفعل حققت ما طمح إليه معاوية[13]. ومنذ ذلك الحين تم مزج السياسي بالديني[14]، وأضحى الدين مبرّراً كافياً للسيطرة السياسية وداعماً للشخصيات الحاكمة التي تفتقر إلى مشروعية التأييد؛ وذلك من خلال فرض صورة للحكم يكون الحاكم فيها أداة إلهية تعمل وفقاً للمراد الإلهي ويحكم الله من خلاله[15]، وهذا المنظور منظور أشعري أسسه الأشاعرة كما ذُكِرَ سلفا، فالتأسيس للحكم السياسي على الأساس الديني قد تم عبر المذهب الأشعري الذي كان متناغماً مع السلطة يضفي عليها مشروعيتها. وليس أدل على ذلك مما ذكره مبروك قائلاً: «أن الاحتجاج بمنع الفتنة قد ارتبط، في الخطاب الأشعري، والسني على العموم (والخطاب الأشعري عادة ما يقدم نفسه كخطاب السنة، وله السيطرة على الفكر السني بالفعل)، بمنع الخروج عن السلطان الحاكم»[16]، فسلب القدرة الإنسانية لحساب القدرة الإلهية كان مدخلاً رئيساً لتشريع ما تقره السلطة بأنه من مراد الله لا مرادها، وأعطاها مساحة خطأ واسعة ومشروعة وإمكانية صياغة النمط السياسي عبر المفردات الدينية.

الأطلقة كآلية لصياغة السياسي عبر الديني

يرى مبروك أن لا شيء أكثر خطورة من تعامل البشر مع الأفكار -مهما كان موضوعها أو مصدرها- كمطلق ثابت خارج دائرة الاجتماع البشري يتمتع بصلاحية متعالية على أي تحدٍّ؛ وذلك لما تتضمنه من إهدار للفكرة الإنسانية التي هي ديناميكية ومنفتحة بطبعها[17]. والتاريخ السياسي في نظر مبروك- كما تم تقديمه في السطور السابقة- اعتاد أن يقدم رؤيته ويصيغ حكمه بشكل مطلق؛ أي يجعلها من صلب العقيدة الدينية ويصيغها بعبارات ومفردات الخطاب الديني؛ وذلك عبر ما يسميه بــ «الأطلقة»، وهو «آلية يسعى بها بعضهم إلى وضع كل ما يدخل البشر في تركيبه على نحو جوهري (من الوحي وغيره)، ضمن مجال يخرج فيه التحدد بما يخص البشر (تفكيراً وتاريخاً)»[18]، فهي آلية يتمكن البعض من خلالها وضع ما يدخل البشري في تركيبه ضمن المجال المطلق الخارج عن الحدود البشرية. والفكرة الدينية يستحيل استيعابها خارج تحديدات الإطار البشري أبدا، فيبدو جليًّا الدور الإنساني في التركيب المنطقي واللغوي والتاريخي لتلك الظاهرة؛ فالتغيرات التي طرأت على الوحي، لابد وأنها كانت نتيجة التفاعل الاجتماعي مع الوحي، وانتقال الإنسان من وضع لآخر، وإلا كانت هذه التحولات نتيجة تغيرات طرأت على الذات الإلهية. فالوحي جاء كتركيب يقوم على الحوار المفتوح لتاريخ شبه الجزيرة العربية ونظام التفكير السائد حينذاك، فإنه في ذاته يعرب عن روح ترفض «الأطلقة»[19]؛ فالوحي لم يفرض نفسه كبنية مغلقة ومطلقة متعالية على التفكير والتاريخ بقدر ما كان خطاباً آنياً يحاور مجتمع شبه الجزيرة العربية عام 610 هجريا ويجيبهم عن بعض التساؤلات ويحاججهم إيمانياً عدة مرات.

وكعادة التاريخ الإنساني، فقد كان للسلطة السياسية رأي آخر، حيث سعت إلى تثبيت معنى النص القرآني؛ وذلك حين تم الربط بينه وبين السيف/الرمح ليكون قوة إخضاع، يذكر مبروك صراحةً: «فإنه حين يصبح دور النص هو حراسة السلطة، فإن تلك السلطة سوف تكون هي الأكثر حرصاً -حماية نفسها- على تحويله هو نفسه إلى سلطة»[20]؛ وعليه تم تحويل النص القرآني إلى سلطة تحتجب خلفه السلطة السياسية بشكل يلغي التمييز بينهما، ويتجلى هذا في نظره في جعل معاوية، ما قضى به من توريث السلطة لابنه يزيد بمثابة القضاء المنزل من قبل الله عز وجل، وهذا ما يوضح أن الوحي الذي زعمت السلطة السياسية الارتكاز إليه، ليس هو نقطة الارتكاز بقدر ما كان أكبر ضحاياها؛ وذلك لإهدارها لطبيعته التفاعلية[21]، واتخاذه كسلطة تفرض رؤيتها من خلاله.

ولم تقف الأطلقة عند الوحي فحسب، «بل حتى لتجربة الصحابة المنفتحة ذاتها، والتي استحالت -تبعاً لذلك- من تجربة لها تاريخ إلى ما يشبه المطلق الذي يقف خارج أي تاريخ»[22]، لتصبح بذلك نماذج مطلقة يتم الحكم من خلالها وصياغة المجتمع على غرارها[23]، ويمتد فعل الأطلقة لأبعد من ذلك؛ فالسلطة السياسية حين لم تجد ضالتها في النص القرآني؛ وذلك لصمته حيال قضية الحكم السياسي وكيفيته[24] (يلتقي مبروك هنا مع إحدى ركائز مشروع عبد الجواد ياسين، وهو صمت النص القرآني حيال قضية السلطة وطرائق الحكم وكيفية توليها)، فتم امتداد مشروع الإطلاقية، حيث لا يقف عند حدود النص، بل للسنة النبوية أيضا، التي لم تعبر بشيء عن السلطة السياسية سوى بالصمت هي الأخرى[25]، إلا أنه تم وضعها في حيز الأطلقة؛ لأنها كانت تقبل الإضافة والتنقيح على عكس النص القرآني، ومن ثم تعطي للسلطة إمكانية صياغة احتياجاتها في صورة أوامر إلهية. فقد وصل الأمر إلى حد إسكات القرآن تماما واستنطاق السنة النبوية، وذلك لإمكانية الإضافة والتنقيح بالأحاديث، ومن ثم أصبحت الأحاديث ديناً، وأصبح الحكم المرغوب فيه يوجد أولاً ثم توضع له الأحاديث[26]. وتصاغ على إثرها المذاهب والنظريات الفقهية التي تؤبد وتشرعن السلطة السياسية التي تعمل تحت إمرتها.

وأضحت التفسيرات والاجتهادات القديمة المقدمة من السلف لا تعبر عن إنتاج معرفة إنسانية تجاه القرآن محكومة بشروط إنتاج المعرفة في هذا العصر وأزماته وحدود الوعي، ولكنهم «تلقوا المعنى على سبيل الهبة المخصوصة لهم، وأن أحداً بعدهم ليس له إلا أن يقف عند حدود هذا الذي تحصلوا عليه في لحظة فريدة، لا سبيل لتكرارها»[27]، وهذا ما يعطيها ميزة التقديس كونها تخرج من إطار الاكتساب الإنساني إلى الهبة الإلهية التي تجعلها ضمن دائرة المطلق، ومن ثم تتسع الشريعة -التي تحمل صفة الإطلاقية بطبيعة الحال- لتتضمن الفقه أيضاً، بل إلى حد يتم الخلط بينهما، مع غفلة التمييز القرآني الحاسم بينهما[28]؛ وذلك لاعتباره هبة إلهية وليس اكتساباً إنسانياً، وهو ما يوسع دائرة الأطلقة والمقدس ويقيد حرية الإنسان أكثر ويصب في مصلحة السلطة السياسية ويعطيها إمكانية أكبر ومرونة أعلى في صياغة رؤيتها ضمن البناء الديني.

هيمنة العقل الأشعري على الرؤية المعاصرة

يجد علي مبروك اقتران المصحف مع السيف (في حادثة صفين الشهيرة) لازال حاصلاً للآن، ويأخذ الشعار الإخواني (وهو عبارة عن سيفين بينهما مصحف) دليلا على حضوره[29]، فلا زال الدين جزءاً من لعبة القوة وأهم أدوات السعي لامتلاكها[30]؛ فإدراك السلطة لقوة القرآن التي تفوق حد السيف، جعلت منه جسراً ذهبياً يمكن العبور منه إلى السلطة، وقاموساً يقدم لها مفرداتها ولغتها[31]، وهذا ما نجد صداه في الفكر المعاصر؛ إذ نجد حسن البنا يجعل الحكومة جزءاً من الدين[32]. فضلا عن أن القرآن أضحى يعبر عن قناع متميز للسلطة يمكنها من تصفية مخالفيها وفعل ما يحلو بمباركات الإله، بل تجعل الأمر يبدو وكأنه أمر إلهي (وهي آلية أشعرية بامتياز، تبعا لإعلان الخطاب الأشعري نفسه كممثل للدين)، وليس أدل على ذلك ما فعله تنظيم الإخوان الإرهابي عند صعوده إلى الحكم ومحاولة تعديل الدستور ووعد الموافقين بالجنة، وإنذار الرافضين بالنار[33]. ومن البديهي أن يطالب هذا التقنع للسلطة السياسية بالسلطة الإلهية، رفض القانون ونفي الضرورة لتكون السلطة مطلقة[34]، وغني عن البيان توضيح أنها كانت إحدى أدوات الفكر الأشعري لوجود السلطة المطلقة كما تم ذكره سابقاً، فامتزاج السلطة السياسية بالسلطة الإلهية إلى حد التماهي يجعل العلاقة بين الحكام والمحكومين على غرار علاقة العبد بربه، لا تحكمها قواعد أو قوانين أو إلزام، بل هي علاقة خضوع طرف لآخر. وعليه، أضحى السياسي يحدد الأنطولوجي (الوجودي) بواسطة الديني؛ وذلك على غرار الأنطولوجية الأشعرية، التي تسلب أي دور أو تفاعل للإنسان وتضخم السلطة الإلهية، وتلغي أي التزام من جانبها[35].

تبعاً لطرح مبروك، فإن الإسلام السياسي (الإخوان) هو امتداد للفكر الأشعري، ويرى في التصور القطبي (نسبةً لسيد قطب) للإنسان جذوراً في الفكر الأشعري، حيث يكون الإنسان مستقبِلاً فقط منفياً عنه أي قدرة[36]. ولا يختلف عن الفكر الأشعري في ادعائه امتلاك صحيح الدين (الفهم الحقيقي التام للنص القرآني، والسنة النبوية)، فيقدم نفسه عادة كما يقول مبروك: على «أنه التحقيق المطابق لإسلام العصر الأول السابق على إسلام التأويل»[37]؛ أي الإسلام النقي الخالي من الشوائب والانحرافات والتأويل (الذي يعد في هذه الحالة إسقاط لأهواء ورغبات الإنسان على النص)، ومن ثم فإن أي رؤية مخالفة أو نمط تأويلي يختلف مع المطروح من قبل تيارات الإسلام السياسي، فما هو إلا انحراف عن صحيح الإسلام واتباع الهوى (بما تحمله هذه العبارة من ميراث سيء داخل الميراث الإسلامي). وعليه يكون له السيطرة على الشارع العربي المعاصر كما كانت من قبل للتيار الأشعري.

ويرى مبروك أن «الأمر يتعلق بضرورة التعامل مع المفاهيم، بدلاً من التعامل السياسي معها الذي يحيلها من موضوعات للدرس والفهم إلى محض أدوات للتعبئة والحشد»[38] ما يجعلها (المفاهيم) فقيرة الدلالات ووسيلة المتحاورين للتقاذف والتصادم. فالحوار والتخلي عن فرض وجهة النظر والتمترس خلف الرؤى الدينية كقوة مميزة ورابحة في السجال السياسي أمر ملح على الواقع الإسلامي، ولا يتم هذا إلا من خلال سحب النص من تحت أيدي رجال الإسلام السياسي الذين يزعمون امتلاك حقيقة النص، لطرح حوار مفتوح على الآخر يقبل الرؤى المختلفة ولا يفرض رؤيته كرؤية عقائدية إيمانية.

4-2- حضور القرآن الحي (السعي وراء الإنسان)

يطرح علي مبروك عن الواقع الإسلامي وكونه قابعاً في هذا الواقع السؤال كالآتي: هل نحن في حاجة إلى تأويل جديد؟ أم نحن في حاجة إلى علاقة جديدة مع القرآن؟ ويجيب إن المشكل يتمثل في نوع العلاقة مع القرآن، ما إن كانت منفتحة أو منغلقة، ومفهوم العلاقة هو المفهوم الأكثر تأسيسية فيما يخص حضور أو غياب القرآن الحي[39] في مشروعه؛ لانطلاقه من رؤيته للواقع الإسلامي أنه مغتربٌ عن الإسلام لتسيد نمط تعامل القرآن كسلطة يجب الخضوع لأوامره واتباعه، وهذا يصرف القرآن عن طبيعته الحوارية التي تعطيه طابعاً تجاوبياً مع ظروف المجتمع الذي جاء يخاطبه، مما يجعل القرآن مغترباً عن طبيعته ومن ثم يكون الإسلام مغترباً أيضاً.

غربة الإسلام

يشترك علي مبروك مع تيارات الإسلام السياسي والسلفية في أن مشكلة المجتمعات الإسلامية تكمن في غربة الإسلام، ليعد بذلك منطلقاً من الثقافة والرؤية الإسلاميين، ويزعم أن مشروعه يمثل عودة الإسلام الحيوي في الواقع الإسلامي، ورفع حالة الغربة عن الإسلام ولا يكون غريباً داخل هذه المجتمعات، ولكنه يختلف مع هذه التيارات في طبيعة هذا الإسلام، ويمر بتساؤل مهم للغاية؛ هل ما يعني بتحقيق القرآن ووجوده هو التنفيذ والاتباع الحرفي للنص كما يُطرح من قبل الاتجاه السلفي، وتيارات الإسلام السياسي؟، أم البحث عن الغايات المتمثلة في أعماق النص؟ التي جاء ظاهره معبراً عنها وليس متطابقاً معها، كون هذه الأعماق، التي هي أقرب إلى القيمة الكلية التي نسعى إليها، ونكون عاجزين عن التحقيق الكلي لها وإلا كانت نهايتها. وظاهر النص محكوم بآلية ولغة المخاطب وحدود فهمه وتلقيه واستيعابه، التي تشكلها البيئة بطبيعة الحال، كونه يمثل التقاءً بين هذه القيمة المجاوزة (الطلق/الكلي)، والتاريخ بتحديداته الجزئية.

ويجيب علي مبروك عن هذا التساؤل في كتابه مفهوم الشريعة، بقوله: «إن الحضور الحقيقي للإسلام لا يمكن أن يتحقق من خلال الشكل الخارجي الطقسي فقط»[40]، ويستدل على ذلك بقول الله عز وجل: {إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمانِ} [النّحل: 106] ويعتبره نصرة لمضمون الإيمان على صريحه، من خلال إباحة إنكار الإيمان علناً وقلبه مؤمن، وإلا يكون ذلك تعارضاً مع الرؤية الإلهية[41]. ويذهب إلى أبعد من ذلك، ليمثل الانتصار الحرفي والشكلي في الإسلام (وهو يمثل بشكل غير قليل طرح تيارات الإسلام السياسي) طغيان على حساب الروحي والجوهري، بما يفضي إلى غربة الإسلام الروحي، حيث يحضر النص القرآني والطقوس الإسلامية الأخرى[42]، داخل مجتمع يعاني الافتقار إلى أدنى الحدود الأدمية، بما يعني غياب روح الدين وجوهره المتمثل عادة في الرحمة والإخاء والمساواة والتصور الإنساني عن الأخلاق. فالانشغال بالأصول العميقة التي تؤسس ظاهر النص، هو وحده من يسمح للنص بالترجمة التطبيقية والحضور الحي داخل الساحة الاجتماعية العربية الإسلامية، ويسمح له بالتجاوب مع المتغيرات الإنسانية[43].

عودة القرآن الوحي (أنسنة النص)

يتصور مبروك أن المصير العربي الإسلامي مرتبط بعلاقته مع القرآن، ومن ثم فلا سبيل للخروج من حالة الشلل العام، سوى محاولة سحب النص من إيدي المستهلكين له، والمتخفيين خلفه، عبر رده مرة أخرى كفعل معرفي[44]؛ فطرحه يستند إلى الاستخدام الراهن للمفاهيم الإسلامية وتقديمها كممثلة للقرآن النقي والمطلق، وهذه المفاهيم قد خضعت لضروب من الفهم والنظر التي لا تخرج عن إكراهات الاجتماع الإنساني ولا يمكن بكل الأحوال أن تكون مطلقة؛ فالدور السياسي والاجتماعي في بناء هذه المفاهيم أكبر من دور القرآن في بنائها[45]. ومن ثم يكون الحل في نظره في عودة القرآن الحي الذي تُمثل فيه الشريعة إطاراً قيمياً كلياً لا يقتصر على ما هو أخلاقي فحسب، بل تتسع لمفهوم المصلحة الإنسانية كمبدأ عام[46]، ووضع مفهوم المصلحة الإنسانية كمبدأ عام يعيد الإنسان في المعادلة الدينية، ومن ثم يجعلها أقل جموداً وأكثر مرونة وقابلية للتطبيق الواقعي؛ فالإنسان في نهاية الأمر محكوم بواقعه يسعى إلى مصلحته وما يُفيده.

وتبعاً لآلية المرجعية التي تحكم العقل العربي الاسلامي، يدلل مبروك على صلاحية هذا التصور من خلال تجربة الصحابة وتغليب المبادئ الكبرى والأصول على الأخبار والنصوص، وخاصة عمر بن الخطاب الذي يعده المثال الأبرز بينهم[47]. ويرى أن النزوع اللانصي للصحابة والانتصار لقوى الواقع ومكرهاته يظهر بوضوح في موقفهم من السنة القولية، وتوجسهم منها للتنازع والاختلاف الذي ترتب على روايتها[48]، ولعل تمتع هذه الفترة بالمرونة ومراعاة المصلحة العامة يرجع لغياب النصوص العديدة (المدونة الإسلامية كاملة) عن هذا العصر، وهي مُقَيّْدة على كل حال، فحسب الرؤية الإسلامية العامة، يتم المزج بينها وبين التشريع الإلهي كما ذُكر سلفاً.

وهذا ما جعل مبروك يشدد على التمييز بين الشريعة (المنتج الإلهي) والفقه (المنتج البشري)، والشريعة في طرحها المعاصر -كما يقدمه الإسلام السياسي كحقيقة إلهية- النظام القانوني الموروث من الماضي (قطع يد السارق- جلد الزاني- جلد شارب الخمر- الدية- القصاص) وهذه أمور أقرب للفقه الذي أنتجه البشر، وطريقة الطرح التي تقدمه كحقيقة إلهية ثابته وأحد أعمدة العقيدة تجعله متماهياً في قداسته مع التشريع الإلهي[49]. والماضي بأحكامه مهما بلغت محاولات تقديسه، لا يمكنه إلا أن يكون ماضياً، ليس بوسعه أن يكون الحاضر أو المستقبل، ومن ثم فمحاولات تطبيق ما تقدمه تيارات الإسلام السياسي والسلفيين على أنه الشريعة، ومحاولات فرض فترة تاريخية ما يرى فيها تحقق الخير الأكمل والأسمى على الواقع المعيش ستؤدي إلى غربة الإسلام عن معناه الروحي وغربة الواقع أيضاً، ولا ينظر إلى مشاكله وأزماته ولا يعد نفسه مسؤولاً عنها، وعلى هذا يطرح مفهوماً جديداً للشريعة يعود بها إلى مراحل ما قبل الأطلقة السياسية.

مفهوم الشريعة

يؤسس مبروك رؤيته لمفهوم الشريعة من داخل النص القرآني، فيقول: «فقد أورد القرآن الجذر 'شرع' (بالمعنى الدال على الشريعة) أربع مرات؛ كان، في ثلاث منها، منسوباً إلى الله وحده. وفي المرة الوحيدة، التي نسب فيها القرآن الفعل 'شرعوا' إلى البشر، فإن ذلك على سبيل الاستنكار والتعريض؛ بما يعنيه ذلك من عدم تصور إمكانية نسبة هذا الفعل لغير الله أبداً. وحين يضاف إلى ذلك أن القرآن قد أورد مشتقات 'فقه' عشرين مرة، كان فيها جميعاً في صيغة الفعل المنسوب للبشر فحسب»[50]. فالشريعة وفقاً للنص المُقدم فعل إلهي والفقه فعل بشري، ولا يجوز خلطهما ليحمل الأول قدسيته الإلهية ومزاياه المطلقة ويلتزم الثاني بحدوده الإنسانية والتاريخية.

وعن بنية مفهوم الشريعة فيحددها مبروك من الآية 13 من سورة الشورى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى}، ويرى أنها تمثل المشترك الإنساني بين البشر وهذا المشترك يمثل كليات الدين وأمهات الفضائل، التي جاء بها كل الأنبياء وأقروا بها، فهي تعبر عن «الكليات التأسيسية، التي يتشارك فيها، ليس الأنبياء فحسب؛ بل لعله يمكن القول إن الكثيرين من بني البشر جميعا يؤمنون بها»[51]. فالشريعة كما لا تختزل في الأحكام والحدود، ولكنها المبادئ الأساسية التي يراها الإنسان ضرورة بوجهٍ عام وتقرها كافة الأديان (تشبه كثيراً إلى حد التطابق الأخلاق الكلية في مشروع ياسين)، كتحريم القتل، فالقتل فعل غير مقبول على المستوى الإنساني وترفضه كل الأديان (إلا في حالات يرى فيها الإنسان أحياناً وجوب القصاص، وتقره الديانات أيضاً)، وأكل حقوق الغير، والحث على الرحمة والإخاء، وكل ما هو محمود ومستحب بالنسبة إلى البشر، ويتضح مفهوم الشريعة أكثر حين يتم عرض مفهوم الوحي.

مفهوم الوحي

«المعرفة الإلهية تكون بطبيعتها، مطلقة وغير متناهية»[52]

يقدم مبروك مفهوماً للوحي يميز فيه بين المعرفة الإلهية المطلقة/اللامتناهية/المجاوزة، وبين تمثيلاتها في العالم الإنساني؛ فالتمثيلات الإنسانية تخضع لواقعها وتتبدل بتبدل هذا الواقع وتكون متناهية بتناهيه، ويقترب للتصور الأركوني للوحي ككلام الله المطلق الذي ينزل في صورة تتمكن من الالتقاء مع العقل الإنساني العاجز عن استيعاب اللامتناهي، ويتفق معه أيضاً أبو زيد ومع ياسين في تصوره عن الدين والتدين في أن الأديان تعبر عن المعرفة الإلهية المطلقة حين تمثلت في خطابات تلائم المتلقي (المُخاطب)، وتمثله لا يعني تطابقها مع المعرفة الإلهية المجاوزة وهذا ما يقدمه مبروك في نصه التالي:-

«إذا كان القرآن وغيره من أشكال وصور الوحي الأخرى هي تمثيلات للمعرفة الإلهية، تصدر عنها وترتبط بها، فإن ذلك لا يعني أنها كتمثيلات لتلك المعرفة تتطابق معها أو تستنفدها، بل إن المعرفة الإلهية تبقى مجاوزة ومفارقة لتلك التمثيلات التي تصدر عنها»[53].

فإذا كان الوحي خطاباً مصاغاً على نحو يلائم فهم واستيعاب المُخاطب حسب ما يقدمه، فإنه يتحدد بصدوره إلى الإنساني المحدود، وليس بطبيعة المعرفة الإلهية التي يحاول أن يعبر عنها في قالب يلتقي فيه مع المدركات الإنسانية المحدودة.

ويرى مبروك أنه بالرغم من إلحاح القرآن المستمر على أن العلم الإلهي مجاوز للمعرفة والتلقي البشريين، فإن هناك ما يشبه الحقيقة القائمة بأن القرآن يطابق العلم الإلهي الأزلي القديم[54]، ويرجع هذا للصراع القائم على القرآن كونه مخلوقاً أو أزلياً، واعتباره أزلياً هو ما يتنافى مع تعاطيه مع الواقع في شبه الجزيرة العربية ونزوله على بضع وعشرين سنة، والإصرار على أزلية القرآن مرتبط بمصدريته الإلهية في الذهن الإسلامي (الأشعري خاصة) ويركز عليها، ولا يفهم أنه يعلن عن نفسه من خلال أدوات النداء -كما تم توضيحه سلفاً عند أبو زيد- أنه يتجه نحو المخاطب، وأدوات النداء هي مكونات أساسية للبنيته الخطابية، ومراعاة الوحي للمدركات الإنسانية وحدودها لا ينفي المصدرية الإلهية بقدر ما يؤكدها، ويفتح في الوقت عينه الباب أمام الفهم الإنساني.

فالوحي حسب مبروك يُعد «ساحة التقاء يتواصل فيها الإلهي والإنساني»[55]، ويرى في هذا المفهوم تفسيراً للتوتر القائم في القرآن بين ما يطلق عليه «'الكلي/التأسيسي' الثابت، وبين 'الجزئي/الإجرائي' المحدود»[56] والكلي في رؤيته هو المعرفة الإلهية المجاوزة للحظة التنزيل، والجزئي هو تشكل هذه المعرفة في قوالب ومحددات لحظة التنزيل. ومن ثم، فإنه يرى أن إهدار البعد الأفقي المختص بعلاقة القرآن مع الإنسان يعد إهداراً لحيوية القرآن وإحالته إلى كينونة مغلقة وجامدة[57]، والتركيز على الجزئي يؤول إلى تلاشي فاعليته خارج لحظة تنزيله، كونه لا يحمل المرونة الكافية التي تجعله يحتوي ويتفاعل مع الواقع، وهذا ما جعل الإسلام يعود غريباً في مضمونه حاضراً في إطاره الشكلاني، ومن ثم يطرح مشروعه عن القرآن الحي.

القرآن الحي (قرآن ما قبل المصحف)

على غرار التمييز بين المعرفة الإلهية وتمثيلها في الواقع الإنساني المتناهي يميز مبروك بين القرآن والمصحف، ويرى أن من الثوابت الراسخة أن النسخة التي بين أيدينا التي تم الاستقرار عليها (تركيباً وترتيباً ولغة) هي الشكل الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم وتركه كما هو عليه، وما يعنيه هذا من التطابق بين القرآن والمصحف[58]، بيد أن هناك خمسة عشر عاماً بعد وفاة النبي والقرآن الذي تركه وبين مصحف الإمام الذي أقره عثمان بن عفان، فالثابت تاريخياً أن القرآن قد كتب كله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن غير مجموع أو مرتب السور، ومن ثم كان لكل واحد من كبار الصحابة «مجموعه الذي يخصه من القرآن، واصطلح على تسميته بالمصحف»[59]، وعليه فلا يمكن الجزم بأن نسخة الإمام التي تم الاستقرار عليها هي النسخة التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من ذلك ثمة قطع وجزم بأن القرآن مكتوب بهذا الترتيب في اللوح المحفوظ[60]، ويرى في الاختلاف الذي تم حول جمع القرآن وأي مصحف يتم اعتماده دليل على عدم ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن قبل وفاته، وهو ما يجعل التطابق بينه وبين القرآن المكتوب في اللوح المحفوظ يمثل تضليلاً لا دليل عليه.

وينتهي مبروك إلى التمييز بين «ما يقال إنه قرآن 'الله' القائم باللوح المحفوظ، وما يمكن القول إنه قرآن النبي من جهة، وبين المصحف من جهة أخرى»[61]، وهو بهذا يميز بين المعرفة الإلهية المطلقة/المجاوزة، وبين القرآن المنزل إلى النبي، وبين المصحف الذي تم تجميعه. وبهذا التقسيم يلتقي مع ما قدمه أركون ومن بعده أبو زيد في التمييز بين كلام الله في ذاته، والوحي كأحد تجلياته، والمصحف المجمع، ولكن بشكل أقل احترافية في بلورته.

من الضروري التنبيه على أن مبروك في التمييز بين المعرفة الإلهية، والقرآن الآني في شبه الجزيرة العربية، والمصحف، والحديث حول النسخة التي تركها النبي من المصحف لا يهدف للتشكيك فيما بين أيدينا من القرآن، ولكن لتوضيح مدى التباعد بين المصحف الذي بين أيدينا والمعنى النهائي في الضمير الإلهي الذي تزعم التيارات الدينية امتلاكه، ومن زاوية أخرى يحاول توضيح العامل الإنساني/السياسي في بناء النمط المعرفي القائم الذي يتم التعامل معه على أنه إلهي مفارق ومطلق.

حضور القرآن الحي (المنهج التأويلي)

«إن اللغة الإلهية المطلقة لابد من أن تكون حاملة لدلالة لا نهائية مطلقة بالمثل»[62]

ينتهي علي مبروك إلى ما انتهى إليه عبد الجواد ياسين، حيث يمثل اللاهوت خطاباً ناتجاً عن تصور بشري عن الله؛ فبالرغم من أنه تصور لله يجوز فيه الإطلاق والتعالي إلا أنه يأتي كخطاب بشري حول الله، تسكنه التحديدات والتحيزات الإنسانية، بهذا يعد الحديث عن الله ليس مرآة لله بقدر ما هو مرآة تظهر فيه ذواتنا واحتياجاتنا ومنطلقاتنا البشرية[63]. والدور الإنساني لا يمكن إنكاره في العملية التأويلية؛ ففي الأخير هي عبارة عن مدلولات تخرج عن إنسان محكوم بإطاره التاريخي ومكرهاته الاجتماعية وانحيازاته البشرية الطبيعية، وفي هذا الخصوص يقول: فـ «الحق أن القارئ بالنية لا يقرأ ما تقع عليه عيناه بقدر ما يقرأ ما تقع عليه جوانحه من الهوى والأوهام»[64]؛ ومن ثم تصبح التأويلات والتصورات التي تضع نفسها في حالة تماهي مع الإرادة الإلهية، من خلال عرض تأويلاتها في صورة تبدو وكأنها في حالة تطابق مع المراد الإلهي، محاولات للتخفي خلف السلطة الإلهية الهائلة لتحقيق أغراض وغايات عادة ما تكون سياسية. ومن ثم يعد طرحه لمفهوم الوحي كما تم معالجته في السطور السابقة محاولة سحب زعم امتلاك المعنى النهائي للخطاب القرآني (الكامن في الضمير الإلهي)؛ لأنه في الأخير يتعامل مع نسخة أرضية -حسب التعبير الأركوني- من كلام الله تلائم تصوراته، ومن ثم فهو عاجز عن إدراك المعنى الصحيح والنهائي الكامن في الضمير الإلهي.

ويرى مبروك أن الحضور الحي للقرآن والفاعلية الواقعية له، تتم عبر القراءة التاريخية للنص القرآني التي تضعه في سياقه التاريخي ولا تعزله عن هذا السياق، ولا تعتبره أحكاماً كلية مطلقة لا تحمل أي بعد اجتماعي، والتمييز في الخطاب القرآني بين المتجاوز بشموليته وكليته الشق «التأسيسي» في القرآن، وبين الشق الإجرائي الذي يراه؛ التحديدات الجزئية التي تسعى إلى تحقيق الشق التأسيسي الكلي في لحظة بعينها. ويصر على عدم جمود هذا التقسيم الذي لا يعبر عن طرفي نقيض، بقدر ما يعبر عن علاقة دينامية يكون «التأسيسي» جوهرها و«الإجرائي» معبراً عنها في السياق التاريخ داخل في تركيبها. و«التأسيسي»: يمثل مصلحة الإنسان، وهو أشبه بحقيقة علمية تتنامي وتطور مع التاريخ؛ وذلك من خلال نقدها وتصحيحها المستمر لنفسها، من دون الوقوف عند لحظة بعينها، وإلا تعد مهدرة لطبيعتها وتحكم على نفسها بالفناء[65]. وهذا ما يعطي للنص راهنيته الدائمة، حيث يعد البحث عن التأسيسي بمثابة البحث عما هو أفضل مرهون بلحظته التاريخية يأتي بواقع جديد ومختلف عادة ما يكون قادراً على مواجهة أزماته ودراستها وتخطيها، وليس تجاهلها والاتكاء على حلولٍ يسرقها من التاريخ.

أما عن الطور التطبيقي للجوهر التأسيسي في النص، فيري أنه يُحكَم من خلال الصلاح والوقت والعقل؛ فبغير الصلاح لا يتمكن النص من الصلاحية الواقعية، في هذا الوقت بعينه لا على مستوى الإطلاق، ولعل هذا نابع من طبيعة الإصلاح المتغيرة بالسياق الزماني والجغرافي. والوقت باعتباره متغيراً فلا يسعنا أن نقول إن إصلاح اليوم يكون إصلاحاً للغد، بل يتميز الإصلاح براهنيته، ومحاولة تأبيد الإصلاح تعني فساده. والعقل وحده هو ما يمكنه القيام بهذا التحريك، وتحديد الصلاح وفقا لمعطيات الواقع، واستيعاب الجوهر التأسيسي له، وربط العلاقة بينهما، وطرح رؤيته داخل حدوده التاريخية معترفاً بها[66].

وما تفصح عنه الصفحات السابقة أن مبروك يعرض نمطه القرائي للخطاب القرآني من خلال مفاهيم جديدة تكون أكثر اتساعا ورحابة؛ فمن خلال مفهوم الوحي الذي يطرحه يثبت عدم إمكانية القبض على المعنى الإلهي للخطاب القرآني، لأنه إلهي مطلق وكون القرآن صورة تعبيرية/تمثيلية عنه/له. ومفهوم الشريعة، حيث تمثل التشريعات العامة والتأسيسية والمطلقات الأخلاقية التي يعرفها الإنسان (وتشبه كثيراً الأخلاق الكلية عند ياسين)، وليس الأحكام التشريعية والأخلاقية الدقيقة، مما يعطي هذا المفهوم للشريعة طبيعة كلية دينامية تمكنها من الحضور داخل أي نمط اجتماعي جغرافي تاريخي ما؛ فالإصرار على طرحها كأحكام دستورية دقيقة يفقدها مرونتها وتفاعلها مع المجتمع الإنساني. وتركيزه على المفاهيم؛ لأنه يعرف مهمة التصور في بناء الواقع، فإن تصور الشريعة كتعاليم إجرائية جامدة يفضي إلى واقع غير ملتزم بالشريعة أو القوانين؛ لأنها في هذا الحين لا تكون مراعية للواقع واحتياجات الفرد التي يعجز عن تغافلها.

وفق ذلك أرى أن مشروع مبروك، ينطلق من أفق حداثي وما بعد حداثي يحاول أن يفصل الخطاب القرآني ومراده عن الأيادي الإنسانية التي تعلن نفسها ممثلة له، ويسعى إلى تقديمها في إطارها الإنساني. والسعي نحو تأويلية جديدة تضع في اعتبارها المصلحة الإنسانية، كأحد غايات الخطاب القرآني وجوهر الدين، وقراءة هذا الخطاب في إطاره التاريخي وبمناهج معاصرة، مما يفضي إلى تعاطي الخطاب القرآني مع الواقع ومرونته، واتساع في دلالاته؛ وذلك من خلال الفهم التاريخي له، حيث لا يكون للشق الإجرائي الظاهري طغيان على الشق الجوهري التأسيسي[67]. وللأفق الذي ينطلق منه مبروك ويعجز عن تجاوزه على كل حال نتائجه التي حاول بغير وعي منه أن يسقطها على النص، وهذا أمر معروف ومشروع فالقراءة -أي قراءة- تعجز عن أن تكون موضوعية بشكلٍ تام، ولكنها تتحرى الموضوعية ولا تسعى إلى التضليل، وهذا ما وضعه أبو زيد في عبارة تفرق بينهما وهي (التأويل، والتلوين). وفي الأخير، فإن هذه القراءة تقدم نفسها كقراءة إنسانية وليس كمطابق للمراد الإلهي.

وعلى الرغم من أن مبروك يصر على أن الواقع العربي ليس في حاجة إلى تأويلية جديدة، بقدر ما هو في حاجة إلى علاقة جديدة مع النص القرآني، تجعل منه ساحة التقاء معرفي. يطرح الحل للأزمات الإسلامية في تأويليته الجديدة، وقد بدى متغافلاً أن أي علاقة مع النص -أي نص- ما هي إلى نمط من القراءة والتأويل.

[1] - https://www.youtube.com/watch?v=1-bezmtNHIc

[2] - مبروك (علي)، نصوص حول القرآن (في السعي وراء القرآن الحي)، ط1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2015، ص ص21-22

[3] - https://www.youtube.com/watch?v=1-bezmtNHIc

[4] - مبروك (علي)، الأزهر وسؤال التجديد، سبق ذكره، ص ص41-42

(*) نظرية أشعرية مفادها أن الأفعال كلها خلق لله، والإنسان مكتسب لها فقط

[5] - مبروك (علي)، الإمامة والسياسة، سبق ذكره، ص ص84-85

[6] - مبروك (علي)، نصوص حول القرآن، سبق ذكره، ص9

[7] - مبروك (علي)، الخطاب السياسي الأشعري من إمام الحرمين إلى إمام العنف، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015، ص41

[8] - المصدر السابق، ص17

[9] - المصدر السابق، ص24

[10] - المصدر السابق، ص41

[11] - المصدر السابق، ص57

[12] - المصدر السابق، ص58

[13] - مبروك (علي)، القرآن والشريعة، سبق ذكره، ص25

[14] - مبروك (علي)، الخطاب السياسي الأشعري، سبق ذكره، ص59

[15] - مبروك (علي)، نصوص حول القرآن، سبق ذكره، ص24

[16] - مبروك (علي)، الخطاب السياسي الأشعري، سبق ذكره، ص61

[17] - مبروك (علي)، نصوص حول القرآن، سبق ذكره، ص13

[18] - المصدر السابق، ص ص14-15

[19] - المصدر السابق، سبق ذكره، ص ص13-14

[20] - مبروك (علي)، القرآن والشريعة، سبق ذكره، ص25

[21] - مبروك (علي)، نصوص حول القرآن، سبق ذكره، ص14

[22] - المصدر السابق، ص16

[23] - مبروك (علي)، القرآن والشريعة، سبق ذكره، ص20

[24] - مبروك (علي)، نصوص حول القرآن، سبق ذكره، ص17

[25] - Jackson(Roy), FIFTY KEY FIGURES IN ISLAM, Routledge, London and New York, 2006, pp.9

[26] - مبروك (علي)، الأزهر وسؤال التجديد، سبق ذكره، ص ص77-79

[27] - مبروك (علي)، القرآن والشريعة، سبق ذكره، ص21

[28] - المصدر السابق ص141. راجع أيضاً، مبروك، أفكار مؤثمة، ص134

[29] - https://www.youtube.com/watch?v=1-bezmtNHIc

[30] - مبروك (علي)، في لاهوت الاستبداد والعنف، سبق ذكره، ص63

[31] - المصدر السابق، ص62

[32] - مبروك (علي)، مفهوم الشريعة، سبق ذكره، ص304

[33] - https://www.youtube.com/watch?v=-hai-1NhLE0

https://www.youtube.com/watch?v=7hii7clnid0

https://www.youtube.com/watch?v=bTYtfCFN2fk

https://www.youtube.com/watch?v=CMRZ_JhnOfM

[34] - مبروك (علي)، الخطاب السياسي الأشعري، ص ص69-70

[35] - المصدر السابق، ص73

[36] - المصدر السابق، ص138

[37] - مبروك (علي)، مفهوم الشريعة، سبق ذكره، ص311

[38] - مبروك (علي)، القرآن والشريعة، سبق ذكره، ص23

[39] - مبروك (علي)، أفكار مؤثمة، سبق ذكره، ص71

[40] - مبروك (علي)، مفهوم الشريعة، سبق ذكره، ص16

[41] - المصدر السابق، ص ص15-16

[42] - المصدر السابق، ص ص18-19

[43] - مبروك (علي)، نصوص حول القرآن، سبق ذكره، ص ص126-127

[44] - https://www.youtube.com/watch?v=1-bezmtNHIc

[45] - مبروك (علي)، مفهوم الشريعة، سبق ذكره، ص83

[46] - مبروك (علي)، أفكار مؤثمة، سبق ذكره، ص74

[47] - مبروك (علي)، مفهوم الشريعة، سبق ذكره، ص95، 101

[48] - المصدر السابق، ص99

[49] - مبروك (علي)، القرآن والشريعة، سبق ذكره، ص146

[50] - مبروك (علي)، مفهوم الشريعة، سبق ذكره، ص84

[51] - المصدر السابق، ص85

[52] - مبروك (علي)، نصوص حول القرآن، سبق ذكره، ص150

[53] - المصدر السابق، ص147

[54] - المصدر السابق، ص162

[55] - المصدر السابق، ص165

[56] - المصدر السابق، الموضع نفسه.

[57] - المصدر السابق، 162

[58] - المصدر السابق، ص167

[59] - المصدر السابق، ص169

[60] - المصدر السابق، ص170

[61] - المصدر السابق، ص175

[62] - المصدر السابق، ص216

[63] - مبروك (علي)، في لاهوت الاستبداد والعنف، سبق ذكره، ص11

[64] - مبروك (علي)، القرآن والشريعة، سبق ذكره، ص60

[65] - مبروك (علي)، أفكار مؤثمة، سبق ذكره، ص72-74

[66] - المصدر السابق، ص81

[67] - مبروك (علي)، نصوص حول القرآن، سبق ذكره، ص138