استعلاء الإيمان! كيف تتكون المشاعر المؤسسة للتطرف والإرهاب؟
فئة : مقالات
تمثل حالة "استعلاء الإيمان" التي تؤكدها فئات واسعة من المتدينين والجماعات الدينية المتشددة والمعتدلة والمقاتلة على السواء حالة أنموذجية لاستثارة مشاعر الكراهية والاشمئزاز وتأجيجها تجاه الآخر، ثم تؤسس هذه الحالة بطبيعة الحال لبناء هوية متماسكة ترفض ما عداها وتحرض على تدميره بلا تردد أو شعور بالخطأ أو الإثم.
يصف سيد قطب في كتاب المؤسس لجماعات الإسلام والتدين السياسي والقتالي حالة استعلاء الإيمان التي يمتلئ بها "المؤمنون المفترضون" بأنّها الاستعلاء على كل صنوف الأذى والشهوات والمغريات والطواغيت في كل الظروف والأحوال استلهامًا للآية القرآنية "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" ويؤكد أنها حال استعلاء لا تقتصر على الجهاد والقتال والنصر والهزيمة في الميادين العسكرية، "ولكن حقيقة هذا التوجيه ومداه أكبر وأبعد من هذه الحالة المفردة، بكل ملابساتها الكثيرة. إنّه يمثل الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن، وتصوره، وتقديره للأشياء والأحداث، والقيم والأشخاص سواء"
ويحدد محتوى هذا الاستعلاء واتجاهاته على قوى الأرض وقيمها وتقاليدها وقوانينها وأوضاعها الحائدة عن منهج الإيمان أو لم يصنعها الإيمان، وهو موقف لا يتردد ولا يهادن ولا يصالح ولا يساوم، إنّه "ليس مجرد عزمة مفردة، ولا نخوة دافعة، ولا حماسة فائرة، إنّما هو الاستعلاء القائم على الحق الثابت المركوز في طبيعة الوجود. الحق الباقي وراء منطق القوة، وتصور البيئة، واصطلاح المجتمع، وتعارف الناس" .. في مواجهة التصورات السائدة والأفكار الشائعة، "ويقف في وجه المجتمع ومنطقه السائد، وعرفه العام، وقيمه واعتباراته، وأفكاره وتصوراته، وانحرافاته ونزواته.. يشعر بالغربة كما يشعر بالوهن، ما لم يكن يستند إلى سند أقوى من الناس، وأثبت من الأرض، وأكرم من الحياة."
وهذا الاستعلاء "ينظر من عَلٍ إلى القوة الطاغية، والقيم السائدة، والتصورات الشائعة، والاعتبارات والأوضاع والتقاليد والعادات، والجماهير المتجمعة على الضلال." فالمؤمن هو الأعلى من كل ما يقدمه "ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب، سواء ما جاءت به الفلسفات الكبرى قديمًا، وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة، وما اعتسفته المذاهب المادية الكالحة"
والمؤمن "حين يراجع كل ما عرفته البشرية قديماً وحديثاً، ويقيسه إلى شريعته ونظامه، فسيراه كله أشبه شيء بمحاولات الأطفال وخبط العميان، إلى جانب الشريعة الناضجة والنظام الكامل. وسينظر إلى البشرية الضالة من عَلٍ في عطف وإشفاق على بؤسها وشقوتها، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء على الشقوة والضلال."
ولا يغير من موقف "المؤمنين" كل ما عليه الآخر حتى وهو مؤمن مثله ويصلي ويصوم ولكنه "آخر" جاهلي "فهي حكمة الله أن تقف العقيدة مجردةً من الزينة والطلاء عاطلةً من عوامل الإغراء، لا قربى من حاكم، ولا اعتزاز بسلطان، ولا هتاف بلذة، ولا دغدغة لغريزة، وإنّما هو الجهد والمشقة والجهاد والاستشهاد؛ ليقبل عليها من يقبل، وهو على يقين من نفسه أنّه يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات، ولينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والأبهة، ومن يطلب المال والمتاع، ومن يقيم لاعتبارات الناس وزناً حين تخف في ميزان الله.
إنّه على الحق .. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وليكن للضلال سلطانه، وليكن له هيله وهيلمانه، ولتكن معه جموعه وجماهيره .. إنّ هذا لا يغير من الحق شيئاً، إنّه على الحق وليس بعد الحق إلا الضلال، ولن يختار مؤمنٌ الضلالَ على الحقِ - وهو مؤمنٌ - ولم يعدل بالحق الضلال كائنة ما كانت الملابسات والأحوال.
مرجح بالطبع أنّ من يقرأ هذه النصوص المتدفقة في بيان موسيقي مؤثر ومدهش سيجد مشاعره السلبية وهمومه بسبب الفشل والعجز عن الاندماج أو شعوره بالذنب أو التقصير وسوف يجد نفسه قادرا على أن يكون نقيًّا وخالصًا من كل نقص حين يحول عيوبه ومشاعره إلى بطولة وإنجاز.
وتقتبس كاثلين تايلور (القسوة: شرور الإنسان والعقل البشري "مقولة دي ساد" نسمع تكرارًا الذين يتكلمون ضد المشاعر ممن يجيدون الخطابة ولا يحسنون التفكير ويغفلون أنّ هذه المشاعر التي تزودنا بالشرارة التي تضيء مشكاة الفلسفة" .. هي قسوة وسادية تزينها البلاغة وتحولها إلى فضائل يتمسك بها الناس؛ بل ويموتون لأجلها!
تصف تايلور تشكل العواطف والمشاعر انطلاقاً من أنّ هناك ثلاثة أنواع من المصادر للنشاط العصبي (المحفزات): العالم الواقعي، الدماغ، والجسد، وتبدأ العواطف بإشارات تطلقها تغييرات في أحوال الجسد، وفي الوقت الذي تصل فيه هذه الإشارات إلى الدماغ تنساب في شبكة قشرة المخ التي تكون جاهزة بخبرتها لتؤثر في نشاط الدماغ بطرق وأساليب قد يشعر بها الفرد أو لا يعيها، وهذا النشاط غالبًا ما يتضمن مكونات حسية وحركية (مثل تعبيرات الوجه) وأيضًا مدخلات عضوية - من الأحشاء - وإدراكية وقد يندمج ويتحد مع عالم لرموز واللغة بالعقل لينشأ تحليل "الذات الصامت" أو التعبير المعلن، لذلك فإنّه يمكن أن نأخذ معنى العاطفة على أنّه "كل أو أيّ من تلك الجزئيات الضئيلة المتداخلة والمؤلفة من نواحي حسية حركية عضوية معرفية وتجريبية (من الخبرة)"
فالعواطف مرصد الجسد، .. وتخبرنا أيضًا أكثر من ذلك؛ عن مشاعر غيرنا من الناس، وعن تقييمنا لأشياء نواجهها وعن تفاعلاتنا الاجتماعية والأحداث التي تنشأ عما نفعله، وتلك التي تحفزنا للفعل. والعواطف السلبية تمثل تحذيرات، فهي تعطي الأولوية لرد الفعل السريع تجاه التهديدات، مثل الهروب والاستسلام والخضوع، والحزن والكرب والتجمد (الانقطاع عن الحركة أو الكلام) والغضب، النظرة الغاضبة أو الأسنان الظاهرة استعراضًا للقوة، والانسحاب وتجنب المواجهة.
الاشمئزاز مثالاً على تشكل العواطف المؤسسة للقسوة والتطرف
يمكن ملاحظة مثيرات القرف في مجموعة من ردود الأفعال، مثل تغير في معدل ضربات القلب، التنفس، نشاط الدماغ، تعبيرات مميزة على الوجه، غثيان أو قيء، وتؤدي هذه العاطفة دورًا اجتماعيّا، على الرغم من أنّها بيولوجيًّا سلوك دفاعي لحماية الجسم من التهديد، فالاشمئزاز يؤدي إلى إدانة الفعل أو السلوك. إنّ التحليل العقلاني لأفعال غيرنا من الناس يتطلب تفسيرات واضحة بما يتاح لنا من معلومات، وتشمل هذه المعلومات المعرفة بالناس أنفسهم، مع قدر من المعارف الاجتماعية المشتركة، والتي تتراكم لدى كل منا بمرور الوقت وبمثابة نتاج للتجربة.
إنّ الإشارات الواردة من أجسادنا تمدنا بالمعلومات التي تلزمنا حتى نفهم تأثير الأحداث فينا وأهميتها بالنسبة إلينا، وتخبرنا منظومة أحاسيسنا الخارجية بما يحدث، أما المنظومة الحركية فتخبرنا بما نفعله تجاههها، وكيف تكتمل الحلقة، يجب أن نتفهم عواقب أفعالنا والتغييرات في المعالم المحيط بنا، ولا يكفي أن نعرف أنّنا نأكل أو حتى إنّ الطعام مذاقه حلو، لكن يلزمنا أن نعرف ما سوف يحدثه فينا كي نقرر إذا ما كنا سنأكله مرة ثانية أو أنّ علينا أن نتحاشاه في المرة المقبلة، هل هذا الطعام يصلح مزاجنا وحالتنا النفسية أو يسلمنا إلى النعاس، أو يجعلنا نشعر بالغثيان أو بالانتفاخ، أو بطنين ودوار بالرأس؟ هل نفضله أم لا؟ وكيف سيكون شعورنا بعده؟ هنا هو مجال التقييم حيث تسيطر العواطف وتتحكم.
ويعتمد تقييم أي حدث أو تفاعل باعتباره شيئًا جيدًا أو سيئًا، في أبسط أحواله على الأقل على التأثير المادي والجسدي لهذا الحدث فينا، لقد احترق فلان من الفرن فسوف يكون أكثر حرصًا في المستقبل، لقد خدع شخص ما مريم، فأقسمت ألا تتعامل مع هذا الوغد مرة أخرى، فالأحداث تبدو حقيقة أكثر بالنسبة إلينا إذا ما كانت تؤثر فينا تأثيرًا مباشرًا، تسبب لنا الألم أو تمنحنا السعادة، إنّها تعنينا أكثر ويكون لها مغزى أكبر، في المجال العصبي، عندما تنتج أنماطًا للنشاط أكثر وضوحًا وتمييزًا ويكون الاحتمال الأكبر أنّها سوف تغير سلوكنا في المستقبل، إنّ أكل الطعام الذي سبب لك القيء بالفعل سوف يجعلك ترفضه مستقبلاً بدلاً من طعام عرفت أنّه سبب الإعياء لشخص آخر، أو أن تكون قرأت عن وجبة طعام جعلت شخصًا ما يمرض، إلا أنّ أبسط التلميحات عن شيء يثير الاشمئزاز، مثل الحديث عن الجراثيم، الفئران، الأورام من الممكن أن تستحضر أنماطًا من القرف والاشمئزاز إلى حد ما.
وهناك أسلوب تخلق به هذه الروابط العاطفية السلبية لإقصاء الآخر دون أن نضمنها في إطار من الرقة واللطف، وذلك بأن نكرر الترابط اللفظي بتكرار مألوف وبصورة عابرة (أي نقذف بالتعليقات التي تبدو صادقة) ودون تأكيد ضخم وزائد. إنّ هذا يسمح لهذه الروابط بأن تقوى دون أن تثير معتقدات متصارعة ما يؤدي إلى أن يتحداها شخص ما ويضعف تأثيرها، ومثل كل أساليب إقصاء الآخر، فإنّ هذا الأسلوب بسيط وإيحائي، ويستغل الميل الطبيعي للعقول بإيجاد الروابط بعلاقات سببية أو منطقية، وكل زعيم أو قائد من مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية في التاريخ قد أتقن هذا الأسلوب ولم يحدث أي عمل وحشي دونه.
وتقدم العواطف بعض الأسباب التي تقود الناس إلى السلوك القاسي، ومع أنّ الدافع للفعل غير محدد وغامض وغير كاف، فإنّه حتى يكون مؤثرًا يتحتم أن يسير في مسارات تطلق سلوكيات معينة، وهذه المسارات (القنوات) التي يستعملها البشر ليست سوى المعتقدات، .. وبناءً على ذلك فإنّنا نلجأ إلى هذه "العناصر" الغريبة التي تسكن في الدماغ: ما هي، كيف تتغير، وكيف يمكنها أن تجعلنا قساة متطرفين؟
هل المعتقدات مرنة؟ نعم ولا. تجيب تايلور، وتوضح "فالمعتقدات التي لا تهمنا نغيرها بتكلفة قليلة، لكن تكلفة تغيير القناعات الراسخة ستكون مروعة، إنّها شيء مثل إصابة بالغة؛ مثل بتر عضو من الجسد، أو حتى أكثر من ذلك، لأنّ تغيير مثل هذا المعتقد يشعر به الإنسان وكأنّه كسر جزء من النفس أو الذات، وينطبق ذلك علينا جميعًا، وليس على المتطرفين فقط الذين يتجاوزون الخطوط والحدود، لأنّ معتقداتهم تتطلب العنف، ولو حاولنا لماذا يتصرف المتعصبون لعقائدهم مثل ما يفعلون، فعلينا أن نتذكر أنّنا عندما نخالفهم ونتحدى أفكارهم فإنّنا بالفعل نطلب منهم أن يغيروا كثيرًا من ماهيتهم وذواتهم، وهذا من منظورهم يشبه "الانتحار النفسي" ولا يعني هذا أنّ أفكارهم ليست سخيفة أو مضحكة أو غير معقولة أو خطيرة بكل ما في الكلمة من معنى، فهذا شيء قائم بذاته. إنّ المسألة هي كون المعتقدات الراسخة والقوة أقرب إلى اعتبارها جزءًا جوهريًّا وصميمًا من النفس وليس كونها سمات وملامح قابلة للتعديل. وهذا ما يجعل تكلفة التغيير باهظةً جدًّا.