الأخطاء الزمانية والعقوبات الأبدية: حفلات التعذيب والشِواء في عالمي البرزخ والأبد


فئة :  مقالات

الأخطاء الزمانية والعقوبات الأبدية:  حفلات التعذيب والشِواء في عالمي البرزخ والأبد

فاتحة:

الله إذ يستقوي – بموجب صورته الفاعلة في المخيال الإسلامي، والتي بُنيت على مدار قرون طويلة – على الناس، فإنه يستقوي أكثر ما يكون عليهم وهم أموات في عالم البرزخ، أو مسلوبي الإرادة في العالَم الآخر؛ لذلك يكثر الحديث في العالَم الإسلامي عن عذاب القبر ونار جهنم، بصفتهما التجسيد الأكبر لإلهٍ مُخيف، لا يفتأ ينتظر - لحظة بلحظةٍ - أخطاء الناس في العالَم الفاني، لكي يثأر منهم ثأراً مميتاً ومُهلكاً في عالمي البرزخ والأبد.

(1)

عندما نشرت حركة (داعش) شريط الفيديو (بصرف النظر عن صحّة المادة وصدقيتها من عدمه) الذي أعدمت بموجبه الطيار الأردني "معاذ الكساسبة" في العام 2015، حرقاً بالنار، أُصيب العالَم الإسلامي بصدمةٍ فائقة على المستويين الشعوري والعقلي؛ فالوحشية الهائلة التي انطوت عليها عملية التعذيب كانت صادمة ومُخيفة، إذ كيف لبشرٍ يعبدون إلهاً رحيماً، أن يُقدموا على هكذا أفعال مُروّعة.

لقد ارتبكت العقلية الإسلامية أمام هذا المشهد السوريالي، واعتبرته خادشاً لمنظومة الأنسنة التي يُنادي بها الدين الإسلامي الحنيف، ويعمل على تعميم مفاهيمها بين بني البشر!. لذا سارعت - فور نشر هذا الفيديو الصادم - كثير من المنظمات والجهات ودور الإفتاء والأحزاب والجمعيات والشخصيات، المحسوبة على الثقافة الإسلامية، بإعلان البراءة من هذه المنظمة، بصفتها خارجةً عن سياقات الدين الحنيف، على أساس تمثّل هذه الجهات للدين الإسلامي تمثّله الأنقى والأطهر والأصح، بما يخوّلها الحقّ في إصدار أحكام قيمة نهائية - في الدنيا والآخرة - على مُناهضي تمثّلاتها، وخارقي تعاليمها.

المفارقة الكبيرة أن هذه الجهات جميعها، تُبشّر بعذابٍ إلهي أبدي، على أخطاءٍ بشرية زمانية. وإذا كان لحفل شواء واحد في العالَم الأرضي، أقدم عليه بعض البشر –بالأحرى بعض الجماعات الجهادية الإسلامية - أن يُقابل برفضٍ كبير، فإن حفل شواء لأعداد لا تحصى من بني البشر، وعلى يد ربّ البشر، يُقابل بالرضى الكبير. وأن ينزع نزوعاً عبثياً - داخل سياقات الثقافة الإسلامية الفاعلة - إلى إلصاق فكرة العذاب الأبدي على أخطاء زمانية، لإلهٍ لا يفتأ التغنّي برحمته ورحمانيته، ونزع صفة الرحمة عن بشرٍ يمارسون العذاب ذاته لمرةٍ واحدةٍ أو أكثر في عالَم الفناء والزمان، على خطأ زماني؛ سيضع العقلية الإسلامية - من أعماقها إلى ذُراها - في مأزق معرفي كبير، ليس فيما يتعلق بتصوّراتها الأرضية عن الإله ومواضعاته في العالَم الفاني فقط لا غير، بل وفي تصوراتها الميتافيزيقية عنه أيضاً. ففيما يتعلّق بصورته الأرضية سستبرز صورة الله كإلهٍ مُخيف والعلاقة التي تربطه بكائن خائف، لا يفتأ يتأكّد في رهبانية طقوسية، لكي لا يحيد عن الصراط المستقيم. لا علاقة إلهٍ مُستخلِف بكائن مُستخلَف[1]، بما يُموقع المسلم في سياقات رهبانية أكثر منها سياقات حضارية، حيث تحدّ من قدرته على البناء والإعمار خشية من الانزلاق فيما لا تُحمد عقباه، ويدفع عليه - بالتالي - ثمناً باهظاً. فهو لا يفتأ يتأكّد في طقوسية، للتقرّب من الله ونيل رضاه، بمقتضى المواضعات التي واضعت الله في أذهان المسلمين، وجعلته على نحو ما هو عليه، أعني بما هو كائن مُخيف، يُعبد من كائنات خائفة.

أما فيما يتعلّق بصورته الميتافيزيقية - وهي على جانب كبير من الخطورة، لأنها تمسّ أساً تكوينياً في العلاقة الأنطولوجية التي تربط الله بالإنسان - ستبرز صورة الله غير العادل، لأنه يُعاقب عقاباً أبدياً على أخطاء زمانية.

قد تكون واحدة من الأسس التي تنطوي عليها فكرة الإله على الإطلاق، وفكرة الله بالنسبة لدى المسلمين، لا سيما إذا ما اعتبرنا هذه الفكرة، جزءاً من سيرورة التاريخ الروحي للإنسان؛ هي التفكير به كنوعٍ من (الأمل). لكن أن يتحوّل ذلك الأمل إلى (ألم)، فتلك مفارقة كبيرة، تجعل الإنسان يركن إلى القلق والفزع الوجوديين فحسب، مع ما يحتملانه من انهيار مأساوي لآخر جدار طمأنيني، يمكن أن يستند عليه، لكي لا يشعر أن ضائع في هذا العالَم القاسي، فذلك الجدار يمنحه الطمأنينة ويجعله أكثر قدرة على مواصلة الحياة، بل وتجاوز هذه الحياة ناحية أمل ميتافيزيقي، يكون بمثابة بولصة تأمين ضدّ الموت والعدم، بل - أيضاً - إن هذا الأمل إذ يتحوّل إلى ألم، يمكن أن يشعر المرء بعدم الأمان مع هذا الجدار العتيد في المخيال الإنساني، نظراً لافتقاده إلى ميزة تأسيسية يفترض أن تتوافر فيه، لكي يكون إلهاً جديراً بالألوهية، أعني عدالته، التي ينبغي لها أن تَزِن بالقسطاس المبين، لا أن تدخل في انتقامات مُدمّرة، من شأنها الإضرار بصورته الرحمانية أكثر مما تنفع في إقامة عدالة مشكوك بها أساساً، على حساب آلام إنسانية مُروّعة.

(2)

إن الفكرة الأخطر التي يمكن التأشير عليها بقوة في نظام العقوبات الإسلامي، لا سيما ذلك المُتعلق بحياة البرزخ والحياة الآخرة، اقتضاءً لواقع التزام المسلم بتعاليم ما هو حلال وأتبَّاعه، وما هو حرام واجتنابه، ليس في مدونته القانونية من حيث هي كذلك، وقدرتها على الانتقال من طور التنظير الذهني إلى طور التطبيق العملي، مع ما يُرافق هذا الانتقال من حلول سيكولوجي بين: 1- الجريمة و2- العقوبة و3- المُعاقِب و4- المعُاقَب، بل هي فكرة الطعن في عدالة الله أساساً، لناحية عدم قدرة الله على الفصل القانوني بين نوع الجريمة المقترفة من قبل المسلم، والعقوبة التي يفرضها الله عليه، تبعاً لمقتضيات تلك الجريمة، وحيثياتها الجنائية.

وأمكنني هنا التأشير على خطئين فيما يتعلق بمعادلة (الجريمة + العقاب) وفق التصوّر الإسلامي، الذي لا يفتأ يُغذّي فكرتي: 1- عذاب القبر و2- عذاب جهنم، ويعتبرهما خلاصةً لكل ما يمكن أن يفعله المسلم في حياته الدنيا:

الخطأ الأولى: انتفاء العدالة من الأساس عن هكذا معادلة، إذ كيف لإنسانٍ ما أن يقترف خطأ - أياً كان هذا الخطأ، ومدى إضراره - في الزمن الفاني، ويبقى يُعذّب عليه إلى ما لا نهاية؟.

من مقتضيات القانون الإنساني أن يكون ثمة توازن بين الجريمة ونوع العقوبة على هذه الجريمة، وفي حال زادت العقوبة عن حدٍّ ما، فإن الناس يبدؤون الحديث عن الظلم الذي طال الجاني، إذ لا نسبة ولا تناسب بين الجريمة التي اقترفها والعقوبة التي وقعت عليه. فلو أرتكب المرء جريمة سرقة مبلغ 20 ألف دولار، وحُكم عليه بالسجن لمدةٍ خمسين عاماً، فقد نشعر بظلم الحُكم الذي صدر بحقه، نظراً لعدم الانسجام بين الجريمة والعقوبة. لكن السؤال المُلحّ هَهُنا هو: كيف نرفض أو نعترض أو نشعر بالغبن تجاه هكذا أحكام تتخلخل بموجبها معادلة (جريمة/ عقاب)، ويصير الإنسان ضحية لعسف قانوني، الأولى تصحيحه وإجراء تعديل جوهري عليه، بحيث لا يعود الانتقام ديدن الإنسان، لا سيما في واحدة من أنبل إبداعاته العقلية، التي استطاع بموجبها أن يُقونن الحياة السلوكية البَعْدية في أنماط ذهنية قَبْلية. إذاً، كيف نشعر بالغبن تجاه هكذا أحكام، ولا نُصاب بالغبن ذاته تجاه معادلة (الجريمة الزمانية + العقوبة الأبدية)؟.

كيف نقبل لله الذي نُردّد اسمه مقروناً بالرحمة (بسم الله الرحمن الرحيم) مئات المليارات من المرّات في اليوم والليلة، أن يدخل في عمليات ثأرية غير متناهية، من أناس اقترفوا بعض الآثام أو الخطايا في العالم الفاني؟.

كيف نُعقّب سلباً على حادثة شواء اقترفتها حركة داعش - ستنتهي بمجرد موت صاحبها، ولن تستمر إلى أبد الآبدين - ونشعر بخدشٍ في منظومتنا الضميرية، ونرتضي هكذا فعل، مع استمراريته إلى ما لا نهاية، من الله الرحمن الرحيم، ونباركه ونُبشّر به، بصفته جزءاً من المنظومة الإيمانية، التي لا يمكن أن تستقيم إلا بالإيمان بهكذا معطيات؟.

إذن، ثمة انتفاء لعدالة الله، كما تتمثله المنظومة الإيمانية لفكرة نار جهنم، بصيغتها الفاعلة في المخيال الإسلامي، على اعتبار العسف القانوني الواقع على مُرتكب الجريمة، وعدم الموازنة بين نوع الجريمة والعقوبة الواقعة على مرتكبها؛ فالزمن محض هامش جانبي في المتن الأبدي، وأن يدخل المرء في عقوبة لا نهائية على جُرم نهائي، فيه إجحاف كبير، يصل إلى الجذر التكويني الذي تقوم عليه مدونة العقوبات الإسلامية من أساساتها، أعني لناحية انتفاء عدالة القاضي على الإطلاق.

لكن يبدو أن ثمة نقصاً - كان موجوداً ولا يزال نقصه قائماً - في الدراسات الفلسفية التي تتناول اللاهوت الديني الإسلامي، وتخضع أصوله للتفكيك النقدي، وإلا لأنتبه إلى مسألة عدالة الله، التي ينبغي عليها أن تنسجم مع سياقات (الرحمن الرحيم)، وتبرز الله كقاضٍ عادل عدالة مطلقة على نحو مخصوص. لكن ضخّاً متواصلاً لفكرة نار جهنم الأبدية من قبل المسلمين، يُساعد على تشويه فكرة العدالة الإلهية، ويجعل من القانون الإنساني الذي يراعي ظرف المجرم وملابسات الجريمة، أكثر رحمة من القانون الإلهي الذي يأخذ الأمر على نحو كُلِّي، دونما مراعاة لا لظرف المجرم ولا للملابسات التي أحاطت بها.

فحديث مثل: "عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ناركم جُزءٌ من سبعين جُزءاً من نار جهنم". قيل يا رسول الله، إن كانت لكافية. قال: "فضلت عليهن بتسعةٍ وستين جزءاً، كلهُنَّ مثل حَرِّها"[2]

هو حديث تأسيسي في مقاربات الطرح الإسلامي للعالَم الميتافيزيقي، فالتصوّرات الذهنية عن العالَم الآخر، ستقترن دائماً بحديث ملحمي عن نار جهنم، إلى درجة استعذاب هذا الحديث والتعامل معه بـ لذّة طالما هو يعني غير المؤمنين والكافرين وكل من لا يمتّ بصلة إلى منظومة التديِّن الإسلامي، كما يراها واضعوها، مما يضع كثير من المسلمين أيضاً في مرمى نار جهنم. في تدبيجة لا يستطيع عقل إنساني أن يستوعبها، نظراً لضخامة العذاب المُنتظَر وجسامته الواقعة على المخافين.

أما عن الآية 56 من سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوْفَ نُصْلِيهمْ نَارا كُلَّما نضجتْ جُلُودُهم بدَّلناهم جُلودا غيرها ليذوقوا العذاب إنّ الله كان عزيزا حكيما}. فقد أحيطت بتفاسير هوّلت حجم العذاب وجعلته يتجاوز حدود العذاب الجسدي في اليوم الآخر، إلى العذاب السيكولوجي الذي يطال النفس في الحياة الدنيا، وهي تقرأ هكذا تفاسير. ومن المفارقات العجيبة أن البعض صار يبحث عن إعجاز علمي[3] في هكذا آيات ليؤكد عبقرية الله، من خلال اختياره لمناطق حسّاسة في الجسم، من شأنها زيادة عذاب المرء وإطالته؛ غير مُنتبه بالمرة إلى الفظاعة الأخلاقية والعقلية والجسدية والمعنوية التي تطال المنظومة القانونية للدين الإسلامي، نظراً لضخامة العذاب ولا نهائيته بإزاء جرم صغير ومتناهٍ.

إذن، نحن بإزاء سياق قانوني تنتفي فيه عدالة الله أساساً في حال بقي الأمر على ما هو عليه من تثبيت لفكرة عذاب جهنم، بالصيغة الناجزة والجاهزة والفاعلة في سياقات الثقافة الإسلامية، نظراً للخلل الكبير في معادلة (الخطأ الزماني + العقوبة الأبدية)، بصرف النظر عن نوع الجريمة التي يُقرّها الدين الإسلامي لتستوجب هذا العقاب الهائل، حتى لو كانت إشراكاً بالله وعدم إيمان به أساساً.

الخطأ الثاني: مُتعلق بفكرة الاستقواء على الأموات ومسلوبي الإرادة. ولربما لاحظ المرء هَهُنا سذاجة الطرح الإسلامي، لا سيما فيما تعلق بعذاب القبر، فالله كُلِّي القدرة إذ يستقوي، فإنه يستقوي على أناس لا حول لهم ولا قوة، ليس لديهم القدرة على تحريك نأمة أو ورقة، فالحياة مسلوبة منهم أساساً، لذلك يجدها الله فرصة مناسبة لكي ينتقم منهم؛ بما يضع الله في محارجات أنطولوجية أصلاً.

لربما أشيعت فكرة الردع من تداول هكذا أفكار، لكن أي ردع هذا الذي يضع الله في موقف محرج وعبثي أيضاً. ماذا لو راينا إنساناً ينبش قبراً ويخرج الميت منه وينثر عظامه مع الريح؟ ماذا لو رأينا إنساناً كبير الجثّة، ويدق عنق طفل صغير؟ ماذا لو رأينا أماً تخنق جنينها الصغير؟. لربما احتجّ البعض أن هكذا مقاربات ومقارنات لا تنسجم على الله أساساً. ليكن!، لكن لماذا يُراد لمقاربة الله كلي القدرة، وهو يستقوي على إنسان ميت أو مسلوب الإرادة، أن تكون منسجمة مع بعضها البعض، واتهّام العقل البشري بالقصور عن فهم غاية الله من تصريفه لشؤونه؟.

وهكذا فثمة خلل في معادلة (الله كُلّي القدرة + إنسان ميت)، ونزوح ناحية تأكيد فكرة الإله الضعيف، الذي يتصيد الفرص للانقضاض على ضحاياه والنيل منهم، وهم ضعفاء لا حول ولا قوة؟.

كما الخلل في معادلة (الأخطاء الزمانية = العذابات الأبدية)، بما يضع التصوّر اللاهوتي الإسلامي، لا سيما ما تعلّق منه بالشأن الميتافيزيقي في خطأ إبيستمولوجي كبير، يحتاج إلى كثير من الدرس والبحث، لبلورة فكرة أوضح وأعمق عن:

1- رحمة الله

2- عدالة الله.


[1] كُنت قد تحدّثت عن هذه الموضوعة بشيء من التفصيل في مقالتي (الخوف من الله.. الخوف على الله: الله بين صورتين سيكولوجيتين)، المنشورة على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، بتاريخ 5/ يناير/ 2016

[2] صحيح بخاري، أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة فياض، المنصورة، مصر، د ت، ص 510.

وفي الحقيقة، هناك كثير من الأحاديث والآيات القرآنية، التي يمكن أن تغذّي هذا النسق، وتدفع بالمسلم لتبنّي ثقافته، والدفاع عنها باستماتةٍ.

[3] في خطبة للدكتور محمد راتب النابلسي يقول: أيها الأخوة الكرام: من الإعجاز العلمي في قوله تعالى: {كُلَّما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها} (سورة النساء) لأن أعصاب الحس نهاياتها غزيرة في سطح الجلد، فإذا احترق الجلد توقف الألم، إذاً لا بد من تبديل الجلد حتى يستمر الألم وهذا من إعجاز القرآن العلمي.

يمكن مراجعة الرابط الإلكتروني:

Nabulsi.com/blue/ar.php?a