الأخلاقي المفسر محمود البستاني
فئة : مقالات
الأخلاقي المفسر محمود البستاني[1]
محمود البستاني؛ مفسر، أديب، شاعر، ناقد، ناسك، زاهد، متهجد، ورع، مدمن قيام الليل وصيام النهار. تعرفت عليه في مرحلة مبكرة من حياتي عبر كتاباته في دوريات "النجف" و"الكلمة".. وغيرهما. وتوثقت علاقتي به في حوزة قم، وتواصلت صداقتنا أكثر من ربع قرن. كنت أحرص على حضور مجلسه الأسبوعي ليلة الثلاثاء في بيته. وهو مجلس يقتصر حضورُه على عدد محدود من أصدقائه. عادة ما يفتتحه هو رحمه الله بعرض نصوص روايات أخلاقية؛ من أحاديث النبي "ص" وأهل بيته "ع"، تفوح بعبق مواعظ ووصايا تربوية ومؤشرات معنوية. يطلب من الحضور شرح مضمونها. لكنه كان لا يتفاعل أحياناً مع وجهة نظري، عندما يشير النص الى ظاهرة اجتماعية، أو سلوك فردي، وأحاول أن أبحث عن تفسير وتحليل لذلك، من منظور ينهل من؛ علم النفس والتربية والاجتماع والعلوم الانسانية الحديثة. إلاّ أن ذلك لم يفتّ أخوتنا، أو يُصدّع حميمية صداقتنا.
غالبا ما كنت أجده صائماً، حين أزوره أو يزورني نهاراً، فأدعوه الى الافطار، ونحتفل معه في منزلنا وقت الافطار بمناخات روحية عبقة. تلوّنها صلواته وأدعيته واشراق وجهه أثناء تسبيحاته وأوراده وأذكاره. خاصة أن زوجتي "أم محمد" - لحظة تعدّ له الافطار – تكللها البهجة والانشراح، وهي تتلمس البركات، وتشعر بالسكينة والطمأنينة، ويملأ السلامُ روحَها، كما حدثتني هي بذلك أكثر من مرة. وكلما غاب عن بيتنا فترة، هي من كان يستحثني على الدوام على تكرار دعواته للإفطار. كل عائلتنا - أنا وهي والأبناء - تتهلل وجوهنا بالبشر، حين يحلّ علينا ضيفاً. نشعر بالغبطة لوجوده في منزلنا، وكأن أرواحنا تتطهر بطهارته، وأنفسنا تتزكى بتزكيته، فهو بالرغم من صمته، إلاّ ان عبادته وأذكاره، وما يبعثه من مناخات معنوية عذبة، كل ذلك يسقي حياتنا الروحية، ويكرس إيماننا، ويثري ذواتنا بمزيد من التدفق والإشراق المعنوي.
البستاني بسيط كالهواء، طري كالماء، دافئ، عفوي، جذاب. ومع أنه كان معلماً أخلاقياً، وقدوة تربوية في الحياة الروحية، لكنه لم يتهكم أو يزدري من لا يتطابق مع رؤيته وطريقة تفكيره. كان يدرك أنه ليس بالضرورة أن يتعطل عقلنا في حضرة معلم الأخلاق، أو يتوقف تفكيرنا في مقام ملهم الروح، ذلك أن مسارات القلب والروح غير مسالك العقل ودروبه. إن هذا الخلط بين المسالك والمسارات المختلفة أفضى بالمتصوفة الى تعطيل عقولهم، وجمود تفكيرهم، والركون الى مشايخهم في كل شأن دنيوي، بل اتخذ بعضهم من شيوخ الطرق الصوفية أوثاناً.
بالرغم من أن محمود كان مسكوناً بالتفسيرات الغيبية، لكني كنت أختلف معه في أسلوب فهمه، ومنهج تحليله في القضايا العلمية والمعرفية المختلفة، ومعظم ما يتصل بالعقل، وعادة لا نتفق إلاّ فيما يتصل بالروح والقلب والأخلاق. ولم يكن يتبرم من مناقشاتي، بل كان يهتم بما تثيره أسئلتي، وأحياناً يؤشر بدفء وهدوء لاهتمامي بمناقشة كل صديق تصوّب تواتر مناظراته تفكيري، ولا تتطابق رؤاه مع أفكاري. وحين أناقشه في الكثير مما يدلي به؛ لا يتعصب، أو يضجر، أو ينفعل، أو يحتكر الكلام، أو يضع نفسه في مقام الأستاذ والمعلم، أو يفرض رأيه على المتلقي. ظلّ على الدوام مهذباً؛ يتقن فن الإصغاء، يحتفي بمن يتحدث معه، يلتزم آداب العالِم والمتعلم، وأخلاقيات أهل العلم في المناظرة. صمته أكثر من كلامه، إشارته تسبق عبارته، يتجنب كل كلمة أو عبارة حادة أو خشنة في حديثه. لم أسمع من كلماته أو أرى من إشاراته ما يشي بعنف رمزي مضمر. طالما خضنا نقاشات في الظواهر الطبيعية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والصحية، والمناخية، والجغرافية، والتاريخية المختلفة.. وغيرها، التي يعللها هو؛ بما هو ميتافيزيقي، وما هو خارج العالم الطبيعي المحسوس، ويشدّد على اختزال كل ذلك ونسبته الى الغيب، والى الله تعالى مباشرة. ورغم ايماني، وعدم تنكري لعالم الغيب. إلاّ أني أسعى دائماً؛ لاستكشاف وتشريح أسباب تلك الظواهر وعللها وبواعثها، وظروفها، وعناصرها ومكوناتها، وبنيتها العميقة، وكل ما هو طبيعي من الأسباب.
البستاني كائن ميتافيزيقي، يعانق الملكوت في بصيرته. يخشع حينما يتحدث عن ملهم تجربته الروحية الحاج عبدالزهرة الكرعاوي، وسطوته العميقة على مريديه، وبراعته في التسامي بأرواحهم الى قمة مدارج السالكين.
رأيت عبدالزهرة الكرعاوي للمرة الأولى سنة 1978 عندما كنت طالبا في الحوزة العلمية في النجف، في دكانه الملاصق للصحن الشريف للإمام علي بن أبي طالب "ع"، من جهة جامع الطوسي، وعادة ما كنت أشاهد السيد الشهيد محمد الصدر، والشيخ الشهيد غالي الأسدي، وغيرهما، يجلسون على دكة حانوته. أثار ذلك انتباهي؛ فسألت الشيخ غالي الأسدي: ماذا تفعل أنت والسيد محمد الصدر عند هذا الرجل، الذي يبيع الترب والسبح، وكراسات الزيارات والأدعية والأذكار؟ فقال: إنه شيخنا وأستاذنا، ومنبع إلهام أرواحنا، يهبنا ما نفتقر اليه في دراستنا وتدريسنا للفقه والأصول والمعارف الإسلامية، إنه يمتلك خبرات روحية، وتجارب دينية، ومعارف سلوكية هامة، تلقّاها من خبراء في هذا المجال، وتنامت بمرور الزمن، عبر التذوق المكاشفات والارتياض والأذكار والتنسك والوجد.
محمود البستاني لا يكفّ عن ذكر شيخه وملهمه الروحي، كان متيما بالحاج عبدالزهرة، يصرّ على أنه تلقى منه ما لم يحصل عليه من الدراسة الجامعية والمطالعة. ولفرط انغماره بالارتياض الروحي، وذوبانه في العبادات والطقوس، تجاهل بالتدريج ماضيه الأدبي، كشاعر مطبوع، وأديب محترف، وناقد أدبي، واسم متميز في الحداثة الأدبية الستينية في العراق، الى الحد الذي كان لا يحبذ قراءة الشعر، أو استعادة أي شئ يشير الى ذاكرته الشعرية، أو الاهتمام بما أبدعه في الشعر، بل تناسى ما نشره وكتبه من قصائد. لكن استمر تأثير موهبته الأدبية ومطالعاته لنصوص الحداثة في كتاباته. ومع ذلك سمعت منه مرات عدة كيف نشأت وتشكلت صداقاته مع جيله من الأدباء الستينيين في النجف، من دون أن يعطله إيمانه، أو يعزله تدينه عن بناء شبكة علاقات مع رموز الحداثة الشعرية المعروفين، مثل: عبدالأمير الحصيري، موسى كريدي، عبدالأمير معلّه، حميد المطبعي.. وغيرهم. ولم يُهمل ذكر بعض المواقف والحوادث الجميلة، عن؛ علاقاته الثقافية، وماضيه الأدبي، وبدايات تكوينه، ونمط مطالعاته المبكرة. قال لي: في السنوات الأولى لإصدار د. سهيل ادريس مجلة الآداب ببيروت، كان لا يصل الى النجف إلاّ نسختان أو ثلاث منها، ولأني أعمل مع المرحوم والدي في السوق، أستطيع شراء واحدة منها، وبعد مطالعتي لها يستعيرها بالتناوب كل مرة؛ الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله.
بصمة بيانه المكثف تطبع الحقول كافة التي كتب فيها، ففي تفسيره وغيره ترتسم النصوص بلغة غنية، غزيرة، مضيئة، حين تقرؤها كأنك تلتقي بأطياف قصيدة نثر، أو شذرات المتصوفة الكبار، كالنفري، والحلاج، وابن عربي.
حتى آخر حياته؛ كان لا يزهد بمطالعة النصوص الإبداعية الأدبية، والإنتاج الفكري الجديد، فقد كان يستعير مني ما يجده من مطبوعات ودوريات جديدة، ويطالعها عاجلا.
نحن بحاجة الى استئناف النظر في تفسير البستاني "عمارة السورة القرآنية" دراسة وتدريساً؛ ذلك أنه يمثل محاولة متميزة في دراسة بنية ومنطق وشخصية السورة القرآنية، واكتشاف نسيج العناصر والمفاهيم والمقولات الخاصة المكونة لعمارة كل سورة. يجترح محمود تسمية "عمارة" لتفسيره، وكأنه يحاكي "عمارة المباني الجميلة"، بكل ما تشي به من جمال، وافتتان، ودهشة، وجلال، ولمسات فنية، وإيقاع متناغم مع البيئة. إنه يرى الآيات والسور مثلما يشاهد اللوحات الفنية المبهجة للفنانين البارعين.
التجربة الأولى التي دشنها محمود البستاني في هذا النمط من التفسير، تمثلت في نشره كتابه "في التعبير القرآني" سنة 1980، وضمّنه نموذجا تطبيقيا للتفسير البياني[2] أو كما يصطلح عليه هو "التفسير البنائي أو العضوي"، ثم واصل تطبيق منهج التفسير البنائي على القرآن الكريم في تفسيره "عمارة السورة القرآنية"، كما استخلص رؤى أولية للأصول النظرية لهذا التفسير، والتي تمثل القسم الأول من كتابه "المنهج البنائي في التفسير".
اقترحت على المرحوم البستاني أن أعدّ له كتاباً، يشتمل على بعض نصوصه السابقة، مع حوار أجريته معه ونشرته في مجلة قضايا اسلامية معاصرة. وأسميت الكتاب: "المنهج البنائي في التفسير"، فوافق هو على العنوان. وكتبت له مقدمة تناولت فيها ملامح هذا المنهج ونشأته وتطوره، وجهود البستاني في إغنائه وتوظيفه في دراساته القرآنية، ثم في تفسيره الموسوم بـ: "عمارة السورة القرآنية".
حرص دكتور محمود على أن يجسد لنا ملامح منهجه في التفسير في رحلة تواكب السور القرآنية من أكبرها الى واحدة من السور الصغرى، موضحا أن الحافز الذي دفعه الى تناول النص القرآني في ضوء بنائه الهندسي أو العماري أو البنائي، يتلخص في أن القرآن الكريم مادام قد انتظم في سور خاصة فلابد من أسرار خاصة تكمن وراء ذلك، والاّ كان من الممكن أن ينتظم بصيغة أخرى، وهذا يعني أن السرّ لا ينحصر في مجرد تيسير عملية القراءة، بقدر ما يتجاوزها الى أسرار أخرى يكتشفها من يتدبر السور. ويدلّ على هذه الحقيقة ما كان يفعله النبي "ص"، حين كان يأمر كتّاب الوحي بأن يضعوا هذه الآية أو تلك في موقع معين من السورة.
اذن هناك وحدة في السورة تتجلى في موضوع أو موضوعات، ذات نسيج عضوي مترابط، على وفق تخطيط هندسي، بحيث اذا نقلنا بعض الآيات أو المقاطع ووضعناها في محل آخر، أو حذفنا أو قدّمنا أو أخّرنا بعضا منها عن الآخر، فسيحدث خلل في الموضوع، وتشوّه في الفكرة، التي تشي بها الآيات الكريمة، على وفق نظمها في السورة، أي إن النص القرآني هو وحدة موضوعية أو فكرية، تتضمن أجزاء متناسقة فيما بينها، بحيث تصب هذه الأجزاء في تلك الوحدة.
من هنا لا ينبغي النظر الى كل جزء منفصلا عن علاقته بالأجزاء الأُخر، وعلاقة الأجزاء جميعا بوحدة الفكرة والموضوع؛ لأن النظر الى كل جزء منفصلا عن الآخر يجعله فاقدا لوحدته الموضوعية.
رحل محمود الروح والقلب والسيرة، الذي كان معلماً للأخلاق بصمته، وملهماً للروح بوصاله مع الحق، وزاهداً في كل ما يتهافت عليه الكثير من الناس، وبعض من يزعمون انهم موقعون نيابة عن رب العالمين. ولم يسقط في ما سقط فيه غيره من معارك رخيصة على متاع رخيص، ولم يفتش عن مصفقين يمنحونه ألقاباً كاذبة، أو مهرجين يُقلدونه أوسمة زائفة، مثلما يفعل سواه في ديارنا.
ما أشد حاجتنا اليوم الى شخصيات روحية أخلاقية؛ تُكرّس تجربتها الروحية وجودنا، ويثري دعاؤها كينونتنا، ونتسامى معها الى حب الله والانسان والعالم، في مجتمعاتنا التي تختنق بدخان الحرائق، وتضج بصخب الدم المسفوح.
لا أعرف ما السرّ في رحيل أولئك الناس الذين يمنحون الناس السلام، فيما يلبث بيننا من يعبثون بحياتنا، ويملؤون عالمنا ضجيجاً وصخباً، ولا يكفّون عن الادعاء والتعالُم!
رحم الله صديقي الروحاني الأخلاقي المهذب محمود البستاني، الذي تعلمت منه شيئاً من؛ حكمة الصمت وصمت الحكمة، والهدوء والسكينة والطمأنينة، والثقة بالله، والاستغناء بالله عن كل ما سواه، والزهد بمتاع الدنيا وبريق بروتوكولاتها ومزاعمها الزائفة، وعدم الحسرة على ما فاتني، والكف عن اللهاث وراء ثرثرة المتملقين المداحين، والابتعاد عن النزاع المزمن على الألقاب والعناوين.
[1] كتبت هذا المقال تخليداً للذكرى الخامسة لرحيل صديقي المرحوم الدكتور محمود البستاني إلى الملكوت الأعلى.
ولد محمود البستاني في النجف 1937، وتوفي في مدينة قم يوم الإثنين 9/ربيع الثاني/1432هـ الموافق 15/آذار/2011 م، ودفن في النجف.
[2] ظهر هذا النوع من التفسير في العصر الحديث في الآثار القرآنية للشيخ محمد عبدالله درّاز، والشيخ أمين الخولي وتلامذته في "مدرسة الأمناء". واصطلحت عليه د. بنت الشاطئ "التفسير البياني للقرآن الكريم".