الأدب بين نقدين والنّقد بين أدبين في تجلّيات الهوية والعبقرية بين النقد الأدبي والنّقد الثقافي

فئة :  مقالات

الأدب بين نقدين والنّقد بين أدبين في تجلّيات الهوية والعبقرية بين النقد الأدبي والنّقد الثقافي

الأدب بين نقدين والنّقد بين أدبين

في تجلّيات الهوية والعبقرية بين النقد الأدبي والنّقد الثقافي

لا يخفى على المهتمّين أنّ الحركة النقديّة العربيّة- بَلْهَ العالميّةَ- تعيش اليوم، أكثر من كلّ يوم مرّ إذا جاز الزّعمُ، حالةً من الانقسام الحادّ في رؤيتها، أو رؤاها، المنهجيّة والمعرفيّة فيما يتعلّق بالأدب ونصوصه، الشّعريّة منها والسّرديّة. وهذا جزء من الانقسام العامّ حول الرّؤى النّقديّة والفكريّة التي تعيشها ثقافتنا العربيّة. وعلى الرّغم من أنّ نقدنا الأدبيّ قد عرف توجّهات نقديّة تتباين فيما بينها حول مفهوم الأدب ومعناه، شعراً ونثراً، لكنّها جميعاً، عبر تاريخها النّقديّ الطويل، لم تختلف على إعلاء القيمة الجماليّة للنصّ الأدبيّ وربط الإبداع بها، إنّما التّباين كان في وجوه الجمال وطرائق تجسيده، عند هذا الشّاعر أو ذاك الأديب، فمالت كلّ مجموعة من النّقّاد، إلى طريقة دون أخرى. لكنّ الجمال بقي دوماً مناط الإبداع وفخر الأدب.

1- المأزقان الأبستمولوجيّ والمنهجيّ

ثمّة اختلاف جوهريّ بين عملي النّقد الأدبيّ والنّقد الثقافيّ، وهو اختلاف يصدر عن منحيين: منحى إبستمولوجيّ، وآخر منهجيّ، وهما متداخلان ومتفاعلان، ويتضّحان في وظيفة كلّ منهما وطريقة معالجته النصَّ الأدبيَّ.

وظيفة النّقد الأدبيّ كانت في البحث عن عبقريّة النّصّ، المنبثقة من تفاعل مقوّماته الجماليّة والدّلاليّة، وكان يسعى هذا النّقد إلى تبيينها بلاغيّاً واكتشافها دلالياً، وهذا ما صار يسمّى فيما بعد – بعد ظهور اتّجاهات البحث الحديث- بِبِنْيَويّة النّصّ الأدبيّ وأسلوبيّته، ثمّ تفرّعت الأسماء عن عمل النّقد الأدبيّ، من شعريّة، وجماليّة، وسيميائيّة وغيرها، لكنّها تبحث كلّها ضمن هذا الإطار الوظيفيّ(عبقريّة النّص) تبييناً وتسديداً، أو حضوراً وغياباً، من دون أن يُفرض على النّصّ شيئاً ليس من بنيته، ثمّ إنّ هذا النّقد يقوم على وضع عمله بين يدي المتلقّي، ليحكم عليه أوّلاً: أيقبله أم لا، ثمّ لينتفع به ثانياً: بعد أن أذن له بالقبول؛ أي إنّ النقد الأدبيّ يحترم المتلقيّ كما احترم قبلَه النصَّ الأدبيَّ وجال فيه، يدرس عبقريّته ويُعلي من قيمتها الجماليّة؛ وعليه، فقد استطاع النّقد الأدبيّ عبر أدواته البلاغيّة والثقافيّة وعدّته الفلسفيّة أن يماهي بين جماليّة النصّ الأدبيّ وعبقريّته، أو بين الأدبيّ والعبقريّ ضمن شرط الإبداع الجماليّ؛ فلم يعد الجمال شكلاً خارجيّاً أو خلقيّاً، كجمال جسد المرأة مثلاً، ولا تشكيلاً تزيينيّاً كما يذهب بعضهم في النّصّ الأدبيّ، كذلك الأمر ليس هو جمالاً رمزياً يفتقر إلى مقوّمات الجمال البلاغيّ، بل هو بناء أدبيّ يجسّد عبقريّةَ النصّ وإبداعَه من خلال جماله المتكامل. ولهذا يقول تيري إيغلتون: "إنّ النّقد تابع للأدب، كظلّ للأدب وشريك طيفي له، مهمّة النقد هي أن يمهّد الطّريق الصّعب بين النصّ والقارئ (mediate)"([1]).

فالنّقد الأدبيّ يدافع عن هذا الإبداع ويحصّنه ويصونه، ويراجعه سعياً منه إلى تسديد اعوجاجه في حركة نقديّة مستمرّة. لقد كان منوطاً به المساهمة في حماية القيمة الجماليّة والخاصيّة العبقريّة للأدب، وخاصّة في الأدب العربيّ، ومن ثَمَّ تعزيز الثّقة بالشّخصيّة العربيّة ومكوّناتها الجماليّة والثّقافيّة والأخلاقيّة، وما يتبع ذلك من المساهمة في تعزيز مقوّمات الهُويّة وسرديّاتها الإبداعيّة في وجدان الأمّة.

لكنّ النّقد الثّقافيّ جاء لنقض هذا الدّور، ومن ثّمَّ، لهدم قيم الشّخصيّة العربيّة ومكوّناتها الجماليّة عبر هدم عبقريّتها الأدبيّة([2]). وليس من المصادفة أن يرى الغذاميّ حضورَ النّقد الثقافيّ ضرورة قوميّة لكبح الوجدان، وإعادة فحص الشّخصيّة العربيّة وتحريرها من أسر لغتها.

عندما نقرأ مدوّنات النّقد الثّقافي، وما تتضمّنه من ممارسات نقديّة، تنظيراً وتطبيقاً، أو في كتابات من يأخذ بطرف من هذا النقدّ، سنجد أنّ هذا النّقد ينطلق من التّعالي على المتلقّي، بل يفترض استغباءه ابتداءً([3])، كون هذا المتلقي يقبع ضمن (عمى ثقافيّ([4])) من دون أن يدري. وعليه، فالنّقد الثقافيّ يخلق النّاقد النخبويّ الذي يضع مسافة فاصلة، تفصله عن المتلقّي، بالقدر الذي تفصله عن النصّ وقيمه. إنّه نقد يحتقر الأساس الإبداعيّ للأدب العربيّ، من خلال عرضه للمساءلة والتّحقيق([5]).

حين أعلن الغذاميّ عن نقده الثقافيّ، فقد ذكر أنّه يفرّق بين نوعين من النّقد، وهما: (النقد الثقافيّ) الذي ولد على يديه عربيّاً، ثمّ (نقد الثّقافة) الذي يشمل كلّ ما سِوى نقده من ممارسات سابقة عليه([6]). ويبدو من تفرقته أنّها تستند إلى الاختلاف في المنهج والأدوات، فهي تفرقة منهجيّة. لكنّ من يقرأ نتاج الغذّاميّ يجد أنّه هو الآخر يكاد يكون قد جنح (أو مرقَ) من النّقد الثقافيّ إلى نقد الثقافة كما يرى بعض دارسيه([7]).

كذلك نجد أنّ أحد المهتمّين بالنّقد الثقافيّ يضع أعمال (فيصل درّاج- 1943) ضمن نطاق ممارسة النّقد الثقافيّ، لا نقد الثقافة، حتّى تلك التي تسبق إعلان الغذامي بسنوات معدودة([8]). وهذا يعني أنّ النّقد الثقافيّ صار نوعاً من الممارسة النّقديّة الحرّة من ناحيتين؛ حرّة في تناول مادّتها الموضوعيّة، سواء أكانت من الحقل الأدبيّ أم من خارجه، وحرّة في مقاربتها المنهجيّة غير المنضبطة بضوابط نقديّة محدّدة.

هكذا يبدو أنّ النّقد الثقافيّ جاء لتفكيك الأدب، بغية هدم قيمه الجماليّة، وما يتبع ذلك من تفكيك مقوّمات الشّخصيّة العربيّة ومواطن عبقريّتها، حين تكون لكلّ هويّة عبقريّةٌ ما، لها رمزيّتها الجامعةٌ؛ هكذا حال الأمم وهويّاتها السّرديّة. وهويّة هذه الأمّة في لغتها وأدبها؛ وعليه، فلا شكّ في أنّ هذا النّقد الثقافيّ يشكّل اللبنة الأولى في الرّكن الأساس لملامح تكوين جديد، في بنيان الشّخصيّة العربيّة. فهل يستطيع أن يهدم بنياناً عمره قرون وقرون؟ وهل يستطيع أن يقيم مكانه بنياناً جديداً يَفْضُلُه؟ أم هي محاولة واجتهاد؟

2- النقد الثقافي بين أدبين:

لماذا النّقد الثقافيّ في الغرب؟

معلوم للقاصي قبل الدّاني أنّ النّقد الثقافيّ يهتمّ بالجوانب غير الأدبيّة، في النصّ الأدبيّ وفي غيره. ومعلوم أنّ النظريّة الأدبيّة في الغرب عرفت اتّجاهاتٍ نقديةً متعدّدة، وكثير منها كان اهتمامه بالجوانب غير الأدبيّة في النّصّ الأدبيّ، وقد لاقت هذه الاتّجاهات قبولاً وانتشاراً فاق غيرها ممّا كان اهتمامه واعتناؤه يدور حول أدبيّة النصّ وجماليّاته البلاغيّة. لكنّ السّؤال: لماذا تنجح هكذا اتّجاهات في الغرب، وتلاقي قبولاً يفوق قبولها في عالمنا العربيّ؟

إذا كان في كلّ اختزال ثمّة خللٌ ونقصٌ ما، فإنّ بعض القضايا تفرض جواباً مختزلاً، تقتضيه طبيعتها وحيثيّاتها وطبيعة التّساؤل حولها، ومنها مغامرة الجواب عن السّؤال السّابق؛ فلا شكّ في أنّ ثمّة عوامل عديدة ساعدت على نجاح تلك الاتّجاهات غيرِ الأدبيّة. لكنّ من أهمّ تلك الأسباب سببٌ لم تجرِ العادة على وضعه في الحسبان، حين يشتمل السّؤال على المقارنة بين الأدبين الغربيّ والعربيّ، وهو أنّ طبيعة الأدب الغربيّ لا يستوي حسّها الأدبيّ (الشّعوريّ) إلى مقدار ذاك الحسّ الذي يخلقه الأدب العربيّ؛ والسّبب ليس ناتجاً عن غنى الأدب العربيّ وأفضليّته في ذاته، بل هو بسبب الشّعريّة التي تخلقها المسافة الفاصلة بين الأدبيّة الكامنة في اللغة العربيّة الفصحى، واللغة المحكيّة المتداولة أو المستعملة؛ فالاستهلاك اللغويّ (الحكي والتّداول) يُفقد الإحساس بالجمال البلاغيّ، مثلما أنّ الاستخدام الرّسميّ للغة يجعلها على درجة ملحوظة من الهيبة والرّفعة التي يشعر بها مستخدموها. يضاف إلى ذلك -وربّما بسبب المسافة نفسها التي نوّهنا بها- أنّ العربيّة فيها من الجمال البلاغيّ والغنى الدّلاليّ ما لا يتوافر في أيّ لغة أخرى. ولهذا يقول العقّاد: "وليس في اللغات التي نعرفها، أو نعرف شيئاً عن أدبها، لغة واحدة توصف بأنّها لغة شاعرة غير لغة الضّاد، أو لغة الأعراب، أو اللغة العربيّة"([9]).

فالتّداول، والاستهلاك اليوميّ، سبب رئيس يقف وراء ضعف الإحساس بالشّعريّة في النصّ الغربيّ (إنّها المسافة صفر القاتلة بحسب التعبير العسكري)؛ وعليه، فهذا من أهمّ الأسباب التي تقف وراء نجاح النّقد الثقافيّ وأمثاله، في الاشتغال على الآداب الغربيّة التي تغرف من معين اللغة اليوميّة المتداولة. ولذلك نجد أنّ هذه الاتّجاهات كانت أقلّ قابليّة في تناولها أدب عصر النّهضة الغربيّة (Renaissance literature) ذي اللغة الرّسميّة التي لم تعد مستخدمة اليوم، ولم تثمر هذه الاتّجاهات من النتّائج ما أثمرته الاتّجاهات الجماليّة والبلاغيّة التي تناولت هذا الأدب نفسه.

([1]) الأدب والأيديولوجية. ترجمة فخري صالح، ص22

([2]) ينظر: عبدالله الغذّاميّ. النّقد الثقافيّ. ص7-8. كذلك: نادر كاظم. الهوية والسرد. ص13. حيث يضع عنواناً دالاً (هل وصل النقد إلى طريق مسدود) ويربط في فقرات هذا العنوان بين القيم الأدبيّة الجماليّة والتفاهة (ص19).

([3]) ينظر: النقد الثقافي. ص81. حيث يقول الغذاميّ: تأتي وظيفة النقد الثقافي من كونه نظرية في نقد المستهلِك الثقافي.

([4]) لقد صار هذا التركيب الاصطلاحيّ يتردّد عند كلّ المشتغلين بالنقد الثقافيّ؛ وينظر على سبيل المثال: عبدالله إبراهيم، نسخته المعدّلة من كتاب (الثقافة العربيّة والمرجعيّات المستعارة (المطابقة والاختلاف/ج3). ص272).

([5]) ولذلك حاول بعض النّقّاد الكتابة في ما سمّوه (جماليّات التّحليل الثقافيّ) ردّة فعل على وظيفة النّقد الثقافيّ ومساءلته القيمة الجماليّة للنصّ الأدبيّ؛ وعلى الرّغم من ذلك فإنّ مسعاهم لم يستطع التّحرّر من سطوة النّقد الثقافيّ؛ ينظر: يوسف عليمات. جماليّات التّحليل الثقافيّ للشعر الجاهلي. خاصّة مقدمتي الكاتب وأستاذه الدكتور عبد القادر الرباعي، ص9-24

([6]) ينظر كتاب: عبدالله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية. ص ص12-13

([7]) ينظر: عمر زرقاوي. النقد الثقافي باعتباره طاغية. مجلة كلية الآداب واللغات جامعة حنشلة- الجزائر، العدد الأوّل، ص195

([8]) ينظر: طارق بوحالة. مقاله ضمن مجلة رأي اليوم (النقد الثقافي عند فيصل دراج- حضور الممارسة وغياب التنظير). تاريخ 4/10/2023

([9]) اللغة الشّاعرة. ص11. ويقول في موطن آخر: "وإلى الشّاعر يرجع العربيّ ليتعرّف القيم الأخلاقيّة المفضّلة، ويستقصي المناقب التي تُستحبّ من الإنسان في حياته الخاصّة أو حياته الاجتماعيّة. يرجع العربيّ إلى الشّاعر، ولا يرجع إلى الفيلسوف أو الزّعيم أو الباحث في مذاهب الأخلاق" (ص51). وهذا من أصدق الأقوال وأدلّها على قيمة الأدب في الوجدان العربيّ، وفي المخيال الجمعيّ لأبناء هذه الأمّة. وليس ببعيد أنّ الغذّامي بنى على هذا الكتاب رؤاه المعاكسةَ وأفاد ممّا جاء فيه من رؤى نقديّة أدبيّة. خاصّة أنّه يستشهد ببيت أبي تمّام (ولولا خلال سنّها الشّعر...) البيتِ نفسهِ الذي استشهد به العقّاد على قيمة الشّعر وأهمّيّته في صناعة الذّهنيّة العربيّة (ص51).

البحث في الوسم
النقد الأدبي الثقافي الهوية