الأزمة: الخطر والفرصة نحو علم للأزمات (قراءة في كتاب: في مفهوم الأزمة لإدغار موران)
فئة : قراءات في كتب
صدر كتاب "في مفهوم الأزمة" للمفكر الفرنسي إدغار موران في طبعة فرنسية عام 2016، وترجمته بديعة بوليلة إلى العربية عام 2018، عن دار الساقي. يقع في 80 صفحة من الحجم الصغير.
تواجه المجتمعات والبشرية عموما، أزمات عدة منذ القديم، وتتجدد وتتراكم الأزمات أكثر في المجتمعات الحديثة، مع التطورات التكنولوجية، وتزايد استخدام الموارد الطبيعية والمخلفات البيئية للتطور الصناعي، وأصبحت الأزمات تأخذ منحى متصاعدا بتزايد الاعتماد المتبادل بين المجتمعات وتزايد سرعة تحرك الأفراد ورؤوس الأموال؛ فمن الأزمات ذات الطابع السياسي إلى الأزمات الوبائية مرورا بالأزمات الاقتصادية، لا تنفك المجتمعات تتخلص من أزمة لتظهر أزمة أخرى.
وإذا كان استخدام مصطلح الأزمة أصبح شائعا، حيث يوظف من طرف المختصين ووسائل الإعلام والسياسيين ومن طرف المواطن العادي، فإن التوظيفات المتعددة تزيد من غموض هذا المصطلح، لكنه لا يخضع للمساءلة. ومن هنا تأتي أهمية هذا المؤلف للمفكر الفرنسي إدغار موران الذي يطرح فيه مساءلة الأزمة بشكل عام، سواء تعلق الأمر بأزمة أعصاب، أو أزمة عالمية ومحاولة تحديد ملامحها الخاصة ومكوناتها.
أولا: مكونات الأزمة
يذهب إدغار موران إلى أن مفهوم الأزمة يتكون من مجموعة من المفاهيم ذات العلاقات البينية يحددها في عشرة مكونات:
1- فكرة الاضطراب
وهي أولى الأفكار التي تظهر الأزمة، وفكرة الأزمة لها وجهان: الاضطراب الخارجي: التي تكون مصادره مختلفة كموسم سيء، أو اجتياح تتبعه هزيمة يمكن أن يتسبب في أزمة؛ والاضطراب الداخلي: الذي ينتج عن عبء أو مأزق مزدوج، مثل نمو أو تزايد كبيرين لمجموعة سكانية مقابل موارد ضئيلة وغير كافية، حيث الازدياد الكمي يؤدي إلى عبء يجعل النظام عاجزا عن حله أمام هذه التطورات. كما يمكن أن ينتج عن مأزق مزدوج، إذ النظام يكون تائها ومشلولا بين متطلبات متناقضة.
والمهم بالنسبة إلى مفهوم الأزمة ليس الاضطراب الخارجي، وإنما الاضطراب الداخلي، الذي يؤدي إلى تراجع الاستقرار الداخلي في شكل اختلال. إن هذا الأخير هو الاضطراب الحقيقي في الأزمة؛ فالاختلال التنظيمي يفرز اختلالا وظيفيا يمس جميع الوظائف، حيث يسود الانقطاع عوض التواصل، والنزاع عوض التكامل والارتجاع الإيجابي عوض الارتجاع السلبي.
2- ازدياد الفوضى وغياب اليقين
إن كل نظام اجتماعي يحمل داخله نسبة من الفوضى متحكم فيها، والأزمة تظهر عندما تزداد الفوضى، ويتراجع الاستقرار والقيود الداخلية، كما تتراجع الحتميات والتوقعات، وهو ما يدخل النظام المتأثر بالأزمة ككل في مرحلة عشوائية، يسود فيها اللايقين أو غياب اليقين حول شكل النظام الذي سيكون عليه في المستقبل.
3- تعطل/ تحرير
إن تزايد الاضطراب يتوافق مع تصلب أدوات الرد والضبط والاستراتيجية؛ فالأزمة هاهنا تعلن موتين: فمن جهة، نجد التفكك والعودة إلى فوضى العناصر المكونة، ومن جهة أخرى، نجد التيبس الموتي؛ أي العودة إلى الأشكال والمسببات الميكانيكية.
وهذا المظهر الأخير يتجلى أساسا في تعطل وسائل ردود الفعل السلبية التي تلغي الانحرافات والاضطرابات، غير أن هذا التعطل يحمل في عمقه أمورا إيجابية، حيث يفتح المجال أمام الإمكانات المكبوحة، وكلما كانت الأزمة عميقة (أزمة حضارة)، كلما استوجب الأمر البحث في أمر عميق وخفي عن وسيلة الضبط.
إن تحرير الأزمة يتجلى في مظاهر يحددها الفيلسوف الفرنسي في التالي:
4- تطوير ارتجاعات إيجابية
تفاقم اضطرابات الأزمة تقلبات عوض تصحيحها، لذلك النظام الذي يعرف الأزمة يزداد فيه الارتجاع الإيجابي الذي عبره يتواصل الانحراف ويتضخم. لذا، فزمن الأزمة هو زمن التضخم والانتشار الوبائي، والارتجاعات الإيجابية يظهر تطويرها من خلال:
- "التحول السريع لانحراف ما إلى نزعة مضادة أو نزعة معاكسة؛
- مظاهر نمو أو تراجع مفرطة، أو غير مناسبة لعنصر أو عامل معين؛
- عمليات سريعة تتميز بالجنوح، ومن الممكن أن تنشر بصفة هائلة، تفككا تسلسليا".[1]
5- تحويل التكاملات إلى تنافس وتعارض
إن الأزمة تؤدي إلى تحالفات وائتلافات مؤقتة وعشوائية، حيث التضادات الافتراضية تصبح واضحة والتكاملات الواضحة تصبح افتراضية؛ فالعمليات المعقدة يجملها الفيلسوف إدغار موران في المبادئ التالية: "كل لنفسه" و"الواحد للجميع" و"كل أحد ضد كل أحد" و"الجميع ضد الجميع".[2]
6- تزايد وظهور خصائص مثيرة للجدل
في ظل الأزمة لا يقتصر الوضع على النزاع الداخلي؛ أي انبثاق وظهور وتراجع الخصائص المتعارضة الواقعية أو الافتراضية، وإنما يتعداه إلى انطلاق الصراعات. ويقر المؤلف بأن "علم الأزمات" قد يوفر للباحث دليلا لتحديد مكونات الأزمة، ولكنه لا يمكن أن يقدم تقنية تحليلية، إذ إن كل أزمة لها خصائصها الخاصة.
7- عودة التعطل، تعدد المآزق المزدوجة
إن الأزمة تؤدي إلى تعدد المآزق المزدوجة على مستوى هيئات التحكم والسلطة؛ فمن جهة السلطة لا يمكن لها أن تتسامح مع الاضطرابات والانحرافات والتضادات؛ ومن جهة أخرى لا يمكن لها أن تقمعها، غير أن الأزمة لا تمس السلطة فقط، بل تمس أيضا المطالبين؛ الأفراد والجماعات، حيث تقابل استراتيجية عملهم تعارضات.
8- إطلاق أنشطة البحث
إن تعمق الأزمة واستمرارها يقتضيان البحث عن حلول أكثر جذرية وأصولية، فللأزمة طابع الصحوة، حيث تسمح بإطلاق جهود بحث، مما قد يؤدي إلى اختراع معين أو صيغة جديدة قانونية أو سياسية، وهو ابتكار يمكن أن يصلح النظام و"يصبح جزءا لا يتجزأ من وسائل واستراتيجيات إعادة التنظيم الخاصة به".[3]
كما يمكن للبحث أن يتجاوز الإصلاح إلى تحقيق ثورة تمكن من تكوين نظام متحول، من شأنه أن يتجاوز المآزق المزدوجة الأساسية التي تكشف حدود وقصور النظام السابق.
إن إدغار موران ينظر للطابع الثوري للأزمة والطابع الإيجابي والصحوي لها، حيث تؤدي إلى تحرر قوى التجديد.
9- الحلول الأسطورية والخيالية
إن عملية البحث بقدر ما تعرف أنشطة فكرية نقدية تبحث عن معرفة طبيعة الشر، فإنها تعرف كذلك ظهور عمليات سحرية وحلول أسطورية تبحث عن كبش فداء للتضحية به. إن صدمة الأزمة والبحث عن تجاوزها يخلق آمالا كبرى ويضخم الحلول، وهو ما ينشر البعد الأسطوري في الأزمة.
10- جدلنة كل هذه المكونات
إن الأزمة لا تتحدد فقط من خلال مكوناتها المجردة هذه، وإنما كذلك تتحدد من خلال تفاعل هذه المكونات وتركيبتها والتحرك المتنافس والمتضاد والمتكامل في الوقت نفسه؛ أي "جدلنتها"، وهو ما يعني أن مفهوم الأزمة مفهوم غني وأكبر من فكرة الاضطراب والفوضى؛ فـ"الأزمة هي في الوقت نفسه التعطل والتحرير، ولعبة الارتجاعات السلبية والإيجابية والتضاد والتضامن والمآزق المزدوجة، والأبحاث العملية والسحرية، والحلول على المستوى الفيزيائي والأسطوري".[4]
ثانيا- الأزمة بحروف مصغرة: الحيوان الأزمي
بالنسبة إلى إدغار موران الأزمة بشكل عام هي تنامي الفوضى وغياب اليقين ضمن نظام ما، سواء كان فرديا أو جماعيا. ويؤكد المفكر الفرنسي أن حل الأزمة يمكن أن يأخذ منحيين: أولاهما الحل بالرجوع إلى الوضع السابق، وثانيهما أن جوهر الأزمة يحمل دائما إطلاق بحث عن حلول، قد تكون حلولا خيالية أو أسطورية وسحرية، كما قد تكون حلولا عملية وخلاقة؛ ذلك أن الأزمة قد تولد أوهاما أو قد تولد أنشطة ابتكارية. فمن جهة، الأزمة يمكن أن تكون مصدرا للتقدم من خلال إعطاء حل جديد يتجاوز المآزق المزدوجة والتناقضات ويزيد النظام تركيبا. ومن جهة أخرى، يمكن أن تكون الأزمة مصدر تراجع من خلال إعطاء حلّ أقل من مستوى التناقضات ويعيد النظام إلى حالة أقل تركيبا.
ويعتبر إدغار موران أن الإنسان باعتباره شبكة تناقضات، حيوان أزمي، حيث شبكة التناقضات تشكل مصدر إخفاقاته ونجاحاته واختراعاته، كما تشكل مصدر عصابه الأساسي.
ثالثا- الأزمة بحروف مكبرة: الأزمة في المجتمعات التاريخية
إن مفهوم الأزمة حسب إدغار موران يمكن أن نفسر من خلاله كل الأنظمة البسيطة والمعقدة. ولكون الأزمة تؤدي إلى تحريك عمليات تغيير منتظمة، فإن الفعل القائم على القدرة على التنبؤ وتنفيذ الحتميات يكون محاصرا، هذا من زاوية لكن من زاوية أخرى، يكون الفعل محفزا، إذ إن في الحالات العادية يكون الفعل في هوامش ضيقة بسبب غلبة الحتميات والانتظامات. لذلك، فوضعية الأزمة تسمح بتطبيق الاستراتيجيات الجريئة والمبتكرة بسبب غياب اليقين والمنجزات.
ويشدد المفكر الفرنسي أن وضع الأزمة يمكن أن يعرف تضخيم الدور الفردي، حيث يمكن لفعل فردي أو الأقلية أن تقلب التطور في اتجاه مستبعد جدا، وتضخم الدور الفردي يسير جنبا إلى جنب تضخيم دور المتغير.
إن الأزمة في المجتمعات التاريخية لا تؤدي فقط إلى إمكانية العودة إلى الوضع السابق، من خلال امتصاص الاضطراب أو تفكك النظام بشكل جزئي (انفصال انقسام) أو إمكانية التفكك التام (الإبادة)، وإنما تؤدي داخل هذه المجتمعات إلى خلق إمكانيات التغيير، يمكن أن تصل إلى درجة تحولات في قلب النظام، وإلى درجة تحولات هيكلية متعلقة بالمنظومة التوليدية للمجتمع.
تبعا لمكوناتها، فإن الأزمة تؤدي إلى تراجع أو تقدم:
- فالرجعية تتمثل في فقدان النظام لتركيبته ومرونته، التي تظهر أساسا في فقدانه لصفاته الأغنى والحريات التي تكون الصفات الأكثر هشاشة والأحدث.
- والتقدمية تظهر في اكتساب النظام لصفات وخاصيات جديدة؛ أي تركيب أكبر. فالأزمة خطر وفرصة؛ خطر تراجع وفرصة تقدم.
ويؤكد إدغار موران أن في الغالب المجتمعات التاريخية تفضي فيها الأزمة إلى حلول تقدمية وحلول رجعية في الوقت نفسه، إذ التقدم الاقتصادي يمكن أن يوافق التراجعات السياسية، أو العكس بالعكس.
وتبعا لهذا التحليل، فإن إدغار موران يذهب إلى اعتبار التطور سلسلة من اختلال التنظيم ومن التنظيم، فكل تطور يحمل مظهرا أزميا ويحمل عنصرا أزميا، وهو بذلك ينفي فكرة أن التطور عملية متدفقة متواصلة. فالأزمة حقل للتطور، لكنها غير مستمرة، إذ إنها تتجلى بين حدود زمنية معينة ما قبل الأزمة وما بعدها.
إن الأزمة تعرف الموت والحياة؛ انبثاق قوى التفكك وإعادة التوليد، كما تعرف عمليات سليمة ومرضية؛ أي البحث والاستراتيجية والاختراع، والأسطورة والسحر والطقس، كما تعرف الإيقاظ والتنويم.
رابعا- نحو علم للأزمات
إن الهدف الأساسي من إثارة معمقة لمفهوم الأزمة بالنسبة إلى المفكر الفرنسي هو البحث والتنظير لعلم الأزمات (crisologie). وفي هذا الإطار، يؤكد أن هذا العلم يجب أن يتأسس على طريقة ملاحظة شبه سريرية تكون مرتبطة بأخلاقيات، ويجب أن تشمل مراكز الأزمات جميع المجالات. ويجب أن تكون طريقة الملاحظة مبنية على نظرية، وهنا ينبه الفيلسوف إلى أنه "لا توجد نظرية أزمية ممكنة دون نظرية إعادة تنظيم ذاتي بيئي (جيني وظاهري)".[5]
إن خلق علم الأزمات بهذا الشكل من شأنه أن يعمق أزمة الوعي من أجل إظهار وعي الأزمة.
[1] إدغار موران، في مفهوم الأزمة، ترجمة بديعة بوليلة، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2018، ص. 61
[2] المرجع نفسه، ص. 62
[3] المرجع نفسه، ص. 65
[4] المرجع نفسه، ص ص. 68- 69
[5] المرجع نفسه، ص. 77