الأصوليات وهشاشة القدرة الإدماجية للدول
فئة : مقالات
كانت أفكار سيد قطب، الذي أسهم في شكل واسع في وضع البنى التنظيرية الأولى للفكر السلفي الجهادي والجماعات الإسلاموية، متاحة منذ منتصف القرن الماضي في أغلب البلدان العربية والإسلامية، وظلت كامنة في عقول شرائح مختلفة من أعضاء الحركات الإسلامية إلى أن وجدت طريقها إلى الاستلهام والتطبيق عبر "النظام الخاص" الإخواني في مصر، وفي بلاد الشام عبر التحرك الذي قاده السوري الإخواني مروان حديد، عقب عصيان مدينة حماة السورية عام 1964. ووجد حديد ورفاقه - بعدما مانع "إخوان" سوريا تنفيذ مطالبه بالعمل المسلح لإسقاط نظام البعث الحاكم في سوريا- ضالته في الانضمام إلى العمل المسلح الذي كانت تتيحه قواعد حركة "فتح" الفلسطينية في الأردن، ضمن ما عُرف بـ "قواعد الشيوخ" في غور الأردن (1968 - 1970)، التي كان أبرز وجوهها مدرس الشريعة في الجامعة الأردنية، الدكتور عبدالله عزام، الذي لم يجد في الأردن أو فلسطين بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 1970 أيَّ بيئة حاضنة لأفكاره التي شكلت البذور النظرية الأولى للسلفية الجهادية في الأردن، فسافر بها إلى أفغانستان، وصار فيما بعد أحد أهم المنظرين لـ "الجهاد" في أفغانستان، وقاتل فيها، وقُتِل.[1]
وكان حديد قد أعد في قواعد "فتح" في الأردن الخلايا الأولى لتنظيمه "الطليعة المقاتلة"، الذي كان البذرة الأولى للسلفية الجهادية في سوريا، حيث قاد في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي المواجهات المسلحة الأولى مع النظام السوري، وقد انضم إليه لاحقاً تنظيم "الإخوان المسلمين" في سوريا، وكانت المواجهة العسكرية بين النظام والتنظيم في أحداث مدينة حماة الشهيرة عام 1982. وحين أراد النظام تجفيف منابع الفكر الجهادي المسلح في سوريا عمد، إلى جانب العمل الأمني، إلى ترسيخ نمط مهادن من "التدين الشامي" غير المعارض، وكانت أفكار محمد سعيد البوطي، وجماعة القبيسيات، ورعاية التوجه الصوفي بعضاً من روافده الأساسية[2]. لكن هذه الوصفة، في ظل نظام غير ديمقراطي وقمعي، لم تكبح جماح الأفكار الإسلامية الجهادية المتشددة، التي وجدت فيما بعد في غزو العراق عام 2003 مناسبة للإعلان عن نفسها والانطلاق والتحرك، وبرغبة من النظام هذه المرة الذي كان يخشى أن دوره قد يكون قادماً بعد العراق، فلجأ إلى إغراق العراق بالجهاديين وتسهيل عبورهم ليقايض واشنطن فيما بعد عليهم في ظل سياسة "مكافحة الإرهاب" التي أبعدت عنه خطر الغزو الأمريكي وأكسبته مزيداً من الشرعية الدولية. لكن انسداد أفق الإصلاح السياسي، وغياب المشاركة العادلة في الثروة وصناعة القرار في سوريا، وقمع الحريات بقي أكبر مانع لوأد الفكر الجهادي المتطرف بين شرائح في المجتمع السوري، التي ظلت كامنة إلى أن جاءت أحداث ما سمي "الربيع العربي" لتعلن عن نفسها بعدما قمع النظام السوري بكل همجية وعنف الحراك السلمي في المدن والأرياف والقرى في سوريا، فكانت "عسكرة" الثورة السورية، واندلاع المواجهات بين المعارضة والنظام هي المدخل لإحياء الجماعات المسلحة، والحركات السلفية الجهادية في سوريا التي وجدت بيئة اجتماعية حاضنة في ظل القمع المنهجي والدموي من قبل النظام، وفي ظل المناخ الطائفي الذي "يشيطن الآخر"، والذي تعزز بتحالف النظام مع إيران، و"حزب الله"، والكتائب العراقية الشيعية المسلحة، مثل "أبي الفضل العباس" وغيرها. هذه البيئة وما نجم عنها من فراغ في سلطة الدولة، وفوضى سياسية، وأمنية، واجتماعية، واشتباك أهلي وطائفي، ووجود "عدو" يستجلب تعبئة عقائدية هي البيئة التي مكنت الجماعات الجهادية الإرهابية من فرض سلطتها وأجندتها على بعض المناطق بقوة السلاح.
هذا يعني أن فكرة التنظيمات الجهادية المسلحة ترتكز على فشل الدول، وهشاشة المجتمعات، وهي لا تعيش ولا تترعرع في ظل أنظمة معتدلة سياسياً، وغير قمعية، أو دموية، حيث إن "القاعدة" و"داعش" وسواهما لا تتبلور رسالتها من خلال "خصومة" سياسية منضبطة بقواعد اللعبة السياسية وأصولها ومحدداتها، وهي لا تريد أن تكون "معارضة" بالمفهوم التقليدي للكلمة، بل هي تربد أعداء، وكفاراً، وأشراراً "تشيطنهم" لتقول إنه لا خلاص منهم إلا بقتلهم والعمل العسكري الذي ينال من قوتهم، وهي تنجح في منحاها العنفي المسلح حين تتمكن من توظيف الظروف المعيشية الصعبة في أي بلد (حتى لو كان معتدلاً سياسياً) لإقناع مجنديها بأن الحل لهذه الظروف هو القضاء على تلك الحكومات التي تتحمل المسؤولية عن هذه الظروف بتقنينها للفساد المالي، والإداري، والسياسي، وبارتهانها لشروط الدول الغربية والمؤسسات المالية الدولية، وابتعادها عن "تحكيم الشريعة".
قصارى القول، إن هشاشة القدرة الإدماجية للدول وفشل الحكومات العربية في إنتاج مدن عصرية مضموناً، تقوم فيها العلاقات الاجتماعية على المؤسسية، والتعاقدية وتشجيع الهيئات المدنية، وعدم تهميش المجتمع، بجانب حداثة القوميين واليساريين الناقصة نقصاً فادحاً، والمرتكزة على استبداد سلطوي عميق، إنما تتلاقى جميعها مع تديّن سياسي واستعراضي، يقدمه "الإخوان المسلمون"، مثلاً، يقوم على "الشعبوية"، ولا يقيم وزناً كبيرا لحقائق العصر، وأسس العلاقات الدولية .. كل ذلك اجتمع، بوعي أو من دونه على إضعاف إنتاج مدن حقيقية تقوم على سيادة القانون، وما يجمع بين أبنائها من روابط مؤسسية، وكأن مدننا تغدو يوماً بعد يوم أقل مدينية. وهذه البيئة قد تكون تربة قابلة لاستقبال الأفكار المتشددة والأصوليات على شتى ألوانها.
والأصوليات تتماهى في بعض الحالات، مع فئات اجتماعية تتعرض للانحسار، وتعاني التهميش، كما تتماهى، في حالات أخرى، مع جماهير مدينية حديثة التشكل، أو، كما هو في وضع أفغانستان بعد 1978، مع جموع ريفية يهددها توسع رقعة السلطة المركزية.[3]
[1] انظر حمزة مصطفى المصطفى، جبهة النصرة لأهل الشام: من التأسيس إلى الانقسام، مجلة سياسات عربية، الدوحة، العدد 5، تشرين الثاني/نوفمبر 2013
[2] المصدر السابق.
[3] حازم صاغية،11 أيلول وصنّاعه الكثيرون، مجلة كلمن، بيروت، العدد 4، خريف 2011