الأكاديمي العراقي إحسان التميمي : تغليب النص على العقل أفضى إلى انهيار المنظومة الأخلاقية والقيمية الإسلامية
فئة : حوارات
الأكاديمي العراقي إحسان التميمي[1]:
تغليب النص على العقل أفضى إلى انهيار المنظومة الأخلاقية والقيمية الإسلامية
التدين مأخوذ من الدين، والدين هو التسليم والطاعة والتذلل والخضوع والعبودية، وهو إيمان واستقامة، بهما تبرز علامات التدين الحقيقي؛ فالدين منهل يستقي منه المتدين ما يوجه سلوكه اليومي وفق عقيدة ثابتة، تستجلي معالمها علامات وإشارات ولغة غير عادية، تشي بتصنيف المتدينين إلى فئات؛ منهم المتشدد والوسط والمنفتح، من جهة، والمتصوف من جهة أخرى.
وفي هذا الإطار، أجرينا هذا الحوار مع الأكاديمي والباحث العراقي؛ إحسان محمد الشيخ التميمي؛ أستاذ النقد والبلاغة بجامعة بغداد كلية التربية ابن رشد – العراق، من مواليد 1973 ببغداد- العراق، حصل على الماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة القادسية، والدكتوراه في الآداب من الجامعة المستنصرية، حصل على جائزة الشارقة للإبداع في المجال النقدي عن كتابه "فضاءات المعادل البصري في السرد العربي" عام 2007. شارك في العديد من المؤتمرات العلمية والندوات الثقافية، وهو عضو باتحاد الكتاب العراقيين.
إحسان التميمي: ما مفهوم التدين وما علاماته؟ وهل يمكن الحكم على الإنسان بأنه متدين من خلال علامات التدين؟
عبدالسلام شرماط: يبدو لي أن هذا السؤال له محمولات متعلقة بمظاهر التدين لا الدين؛ فقد تضمن مفهوم التدين دلالات مغايرة لمفهوم الدين؛ فلو قمنا باستدعاء الإطار اللغوي للمفهوم، لظهرت لدينا سمة المغايرة بين المفهومين (التدين والدين)؛ فالتدين على صيغة "تفعّل" التي من دلالاتها التكلف، ومن هذا المنطلق يتعلق مفهوم التدين بالتطبع، لا الطبيعة الأصلية، ليكون بمعنى التحول والتنوع والابتعاد عن الأصل. ولكن مفهوم الدين متعلق بالمدِّ الإلهي؛ ومن هنا يقول الله تعالى في كتابه: "إن الدين عند الله الإسلام" (سورة آل عمران /19)؛ بمعنى آخر أن هناك جوهراً يصبو إليه المتدينون، وهو الدين. وأما علامته، فتتمثل في سلوكيات تمثل نقاط المفارقة عن مفهوم "الدين"، ولما كان من دلالات صيغة التدين الصرفية، التكلف، فتكون للتدين أو المتدين علامات ظاهرية تعكس صيغة هذا التطبع الذي قد يقترب من جوهر الدين أو قد يبتعد عنه.
إحسان التميمي: حين نتحدث عن التدين، تتبادر إلى الذهن أصناف من المتدينين؛ فمنهم المتدين العادي، والمتشدد والعقلاني؛ فما هي العلامات التي تميز كل واحد عن الآخر؟ هل هي علامات ظاهرية تحدد بالعين المجردة، أم ثمة علامات عميقة يمكن استجلاؤها من خلال اللغة والأسلوب والسلوك والفكر؟
عبدالسلام شرماط: من المبادئ الفلسفية والفكرية، أن لكل فكرة جوهرية تمثلات على الصعيد الواقعي أو العملي، ولما سلمنا أن الدين جوهر، والتدين سلوك لهذا الجوهر قد يقترب منه أو يبتعد عنه بحسب المسائل التي تحوط هذا السلوك، ومنها أن يكون تأويل النص الديني سببا في نشوء أنواع من هذه التمثلات، لتفرز لنا مثلا المتدين المتشدد ذي الثقافة الدينية المتكونة من الاتباع المتواتر للنص. ومن هنا، يمثل النص الكفة الراجحة على العقل وإقصاء الحكمة التي رسمت العلاقة بين الخالق والمخلوق، وهو العقل الذي به يثيب الله عباده، وبه يعاقبهم. إن تغليب النص على العقل هو الذي أفضى إلى ذلك الانهيار في المنظومة الأخلاقية والقيمية الإسلامية – مثلا- وبذا قدَّم هذا الاتجاه صورة مشوهة للإسلام، وعقيمة عن التعايش السلمي مع الآخر. إن وقوفنا طويلا عند مفهوم المتدين المتشدد أو المتطرف هو المفتاح لفهم المتدين المعتدل أو العقلاني، ولاسيما إذا سلمنا بمقولة بعض علماء الاجتماع الذين ينظرون إلى المتدين المتشدد بكونه لا يشكو من نقص في المنطق العقلاني، وإنما يشكو من الإفراط فيه. ومن هنا يرى البعض، أننا حين نجزئ الفكر لهؤلاء المتشددين، نلحظ أن كل فكرة تحمل الخصيصة الراديكالية هي معقولة وغير ناشزة عن الإطار العقلي. وبهذا، يكون لدوافع الناشط الصهيوني الذي قام باغتيال إسحاق رابين في عام 1995ما يبررها على الصعيد العقلي؛ فالاستدلال المنطقي لهذا الفعل أن اليهودي المتدين (التقي) هو نتاج إرادة الله في الأرض، وهذا المفهوم موجود في غضون التوراة التي تضمنت مفاهيم أخرى؛ فالأرض المقدسة هي أرض اليهود؛ وأي فعل يعارض استيطان اليهود في تلك الأرض المقدسة، فهو في نهاية الأمر يعارض إرادة الله ومشيئته في الأرض. ومن هنا تدعو التوراة إلى استعمال العنف ضد هؤلاء الممانعين؛ ونفس المبدأ العقلاني ينطبق على الممارسات العنيفة التي اضطلعت بها المجموعات الإسلامية المتطرفة. أما المتدين المعتدل أو الوسطي أو لنقل "العادي" كما وصفه السؤال، فهو نتاج مخاضات عسيرة من المكابدة في مقاومة المدِّ النصي والإفراط في المنطق، ولعله سليل ثقافات متعددة المشارب، المتدين المعتدل هو الباحث عن الدليل، أينما مال هذا الدليل مال معه، هو نتاج الحضارة التي تستند في بنائها الذاتي على تعدد الإثنيات، وتعدد الثقافات والمشارب، تلك الحضارة التي تستدعي الموازنة بين النص والعقل. فتكون الكفة الراجحة للعقل الذي يؤمن بقداسة النص الديني لكنه ينظر إليه نظرة المتشكك. وبالتأكيد، أن التفريق بين أصناف المتدينين يخضع لعدة آليات تتمثل باستنطاق نصوصهم وخطاباتهم الفكرية. وفي هذا الصدد، لابد من التنويه إلى مقولة المفكر الليبي الدكتور علي الصلابي حين ذكر ثلاثة فروق بين المسلم المعتدل أو "الحق" والمسلم المتشدد بما يحملانه من مدلولات معاصرة؛ فالمسلم المعتدل مشغول بإيمانه، ويسعى لإدخال نفسه وغيره الجنة، ويبحث للآخرين عن الأعذار ليغفر لهم الأخطاء والزلات. أما المسلم المتشدد، فإنه مشغول بإيمان غيره، ويسعى لإثبات أن غيره سيدخل النار، وهو يفتش عن أخطاء الآخرين وهفواتهم لمعاقبتهم والتكلم عنهم.
إحسان التميمي: في إطار التدين دائما، نلاحظ أن الصوفية وظفوا الرمز والإشارة؛ بمعنى يميلون إلى إعمال لغة غير اللغة العادية؛ في نظركم لماذا اللجوء إلى لغة الرمز والإشارة والنزوح عن اللغة العادية؟
عبدالسلام شرماط: يمثل التصوف - بوصفه سلوكا مستندا إلى مراحل فكرية- حالة من حالات الخروج عن المألوف، ولعل أقصى حالات التصوف ما وجد في كتابات الحلاج الشعرية والنثرية التي كانت تحمل من الوجد والعشق الصوفي لواجب الوجود ما يتعارض مع القيم السائدة. واستندوا بذلك إلى الإشارية والترميز في اللغة من جانبين...الأول منهما احترازي يقي الصوفي من الوقوع في شراك ما يتعارض مع مؤسسة السلطة الثقافية الإسلامية. وأما الثاني، فيتمثل بأن للصوفي اهتماما كبيرا في الحرف الذي تتأسس منه اللغة، لأن تلك الحروف ترتبط بمسألة كونية، وهي الوجود.. فإذا أراد الخالق أمرا قال (كن)، (فيكون). ومن هنا يتحقق الوجود بين (الكاف) و(النون)، ومن هنا كان للحرف أهمية كبرى عند الصوفية. وبذا الصوفي يتجاوز بلغته الصوفية المعيار اللغوي، بالاستناد إلى خصيصة منحها فيوضات خاصة تشتمل عليها علاقة العبد بربه، ومن هنا يكون إخضاع تلك اللغة ذات المنحى الصوفي لصيغة الدال والمدلول الترابطية فيه كثير من التمحل والتعسف عليها، لأن اللغة الصوفية تنطوي على قطيعة بين الدال والمدلول، وهي لغة حرة ومعمدة بالعشق الذي يتخذه كثير الصوفيين - ولاسيما الأدباء منهم – وسيلة للتعويض عن الفشل في العشق ضمن العالم الحسي المحدود، ومن هنا تأتي تلك الاستعاضة لتتوافق مع عالم المعشوق العلوي الملكوتي غير المحدود (المطلق)، ولما كان لقاء العبد بربه لقاء غير مكاني (جغرافي)، متحقق في قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)، فلابد من تعضيد هذا المنحى من خلال توظيف اللغة توظيفا لائقا بمقام الملكوت الأعلى.
إحسان التميمي: هل هذه اللغة هي وسيلة من وسائل التدين عند الصوفية أم هي فلسفة تشي بعوالمهم الخاصة؟
عبدالسلام شرماط: في حقيقة الأمر، إن كلا الأمرين لم يجانبا الصواب؛ فالصوفي يوظف اللغة، فهي وسيلته ولاسيما بمراحله في تنظيم علاقته مع الخالق، فهو يمر بمراحل تتعلق باستعمال صيغة محددة، وهي: التخلي، والتحلي، والتجلي... وهذا يستدعي الشق الآخر من السؤال، وهو كون هذه المراحل هي التي تمثل عوالم الصوفي وفلسفته في الوصول إلى أقصى حالات التوحد مع المطلق. إذ يتكون المعجم الصوفي على وفق حالتين: الأولى حالة الصحو، والأخرى حالة الغيبوبة التي تتجلى فيها أبرز المصطلحات، ومنها قول الحلاج (أنا الحق) تجري ضمن منظومة لغوية فيها استنطاق تأويلي غيبي وفيها الدلالة غير ظاهرة، وإنما تتحدد وفقا للمناخ العرفاني الخاص بها، ولنأتي إلى مفردة (الجوع) ذات الإشعاع الصوفي الخاص، فهي تتجرد من المنحى الدلالي الذي تفرزه العلاقة بين الدال والمدلول، وتسبغ بدلالة يريدها العارف الصوفي فلهذه المفردة مناخها المتعلق بالسلوك الصوفي؛ فالجوع - أو (الموت الأصفر) كما يطلقون عليه- وسيلة للتقرب إلى الله. كما أن لها فائدة في النقاء الروحي، ومن ثم هي جزء مرحلة من مراحل الوصول إلى المطلق، فضلا عن أن ارتباطها بالغيب يمنحها صبغة غامضة. إن اللغة المجازية هي الحاضرة في الخطاب الصوفي لما يكتنف تلك اللغة من حيرة وشغف العاشق الممسوس بالوجد والحب، ولهذا يكون في اللغة جانبان؛ الأول منهما سلوكي يفرز معالم التدين عندهم، والآخر منهما معرفي يتعلق بفلسفة تلك العوالم ومناخاتها.
إحسان التميمي: كيف تستجلي سيماء التدين القيم الإنسانية؟
عبدالسلام شرماط: التدين هو سلوك يستند إلى تأويل النص، فلا بد من استنطاق النص وفقا للفطرة التي فطر الناس عليها، فمثلا هناك نصوص دينية تحث على القتل، وربما كتبت تلك النصوص في ظرف معين بفعل مؤسسة السلطة. فعلى المتدين أن لا يسلم بها، لأن الحسن والقبح عقليان في كل الأحوال، فلا يعقل أن يأمر الخالق الإنسان بالكذب –مثلا- لأنه يتنافى مع معطيات العقل. إن محافظة المتدين على الفطرة السليمة التي فطر الله عليها الناس، واستناده إلى العقل والتساؤل المنطقي الذي يهدف إلى البحث عن الحقيقة... يفرز كثيرا من النتائج المثمرة على صعيد المنظومة الإنسانية القيمية الناجعة. ولنأتي إلى دين الإسلام الذي ابتعث به النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نلحظ أن المنظومة الإسلامية تضمنت هذا المعنى على نحو صريح والأمثلة كثيرة على ذلك، ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وقوله أيضاً: "وإنك لعلى خلق عظيم"، فاستحضار هاتين الآيتين - وإن نزلت كلتاهما في سياقين مختلفين- يشير إلى القيم الأخلاقية والإنسانية التي اضطلع بها الدين الإسلامي والنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الأنموذج الأرقى في هذه المعادلة. ومن هنا، تصبح العلاقات الإنسانية على وفق المنظور الديني الإسلامي في مجال تحوطه جملة من المفاهيم وهي التسامح، والتعايش وقبول الآخر "فالناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" وفقا للمنظور المحمدي. كما أن للدين الإسلامي محمولات تضطلع بها السنة الفعلية، ففيها من العبر والاعتبار أكثر مما في السنة القولية. وبذا، يكون السلوك الفعلي الصامت أكثر وقعا من النص القولي.
إحسان التميمي: غالبا ما يذهب بعض المتدينين إلى ربط الدين بالإيمان؛ فهل تقف حدود الإيمان عند الديني أم يتداخل فيها الديني بالإنساني والاجتماعي؟
عبدالسلام شرماط: بصرف النظر عن أن الإيمان سماوي أو غير سماوي، تأتي ظاهرة التدين ضمن الظواهر الشاملة الموغلة في القدم؛ فقد آمن الإنسان القديم بوجود آلهة وأدخل هذا المعتقد ضمن المنظومة الميثولوجية؛ وذلك لتفسير بعض الظواهر الطبيعية التي لم يجد لها تفسيرا، وبذا عالج الإنسان القديم معتقداته من خلال صيغة تحوطها الغرائبية، ليمنحها بعدا هو أشبه بالبعد الفلسفي الذي جاء في عصور تلت العصر الذي اكتنفه. إن من أهم خصائص الأديان كافة، ولاسيما السماوية هو تنظيم حياة الإنسان في علاقته مع ربه وعلاقته مع أبناء جنسه من البشر إن الإيمان هو الجذوة الأولى لاعتناق دين ما، وهو الرفيق المثابر من أجل وصول الإنسان إلى الغاية التي خلق من أجلها. فلولاه لكان التدين ظاهرة سطحية تخلو من الروح.
إحسان التميمي: في الدين بعدان؛ الأول ذاتي، والثاني جماعي، الأول يرتبط بالوجدان والثاني يشمل الطقوس والشعائر والأخلاق؛ كيف يمكن استجلاء علامات كل واحد منهما؟
عبدالسلام شرماط: يتحقق الدين - بحسب المفهوم الإسلامي- بالفطرة أولا كما في قوله تعالى: "فطرة الله التي فطر الناس عليها"، ومن ثم يأتي العلم الاكتسابي، ليحقق التشكيل النهائي لصيرورة الدين، فبحسب المتن الحديثي النبوي الشريف: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه إما يمجسانه أو ينصرانه أو يهودانه"، والدين وإن تحقق من هذين الأمرين، لكن أمراً مهما آخر يسهم في صياغة الدين، وهو "العقل" والمقصود هنا بالعقل السليم المرتبط بالقلب السليم الذي جعل إبراهيم (عليه السلام) يهتدي إلى ربه حين توجه أولا إلى الكواكب، لينتقل بينها ظنا منه أنها هي الآلهة التي يجب أن تعبد ويتوجه إليها، ولما وجدها تأفل وغير حاضرة في كل زمان ومكان، ولا تختلف كثيرة عن صيغة الإنسان الممكن المحدود، قاده هذا التفكير العقلاني إلى تحفيز الفطرة ومن ثم الوصول إلى المطلق (اللامحدود) الذي لا تنطبق عليه صورة المخلوقات المحدودة، فقال جملته الشهيرة التي يذكرها القرآن الكريم "وجهت وجهي وسلمت أمري للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلما وما أنا من المشركين". مما تقدم نفقه أن عاملين يشتركان في صياغة التدين ومظاهره كما أسلفتم في صياغة السؤال الذكية في مضمونها؛ هما العامل الذاتي المتعلق بفطرة الإنسان وكيفية تحفيز هذه الفطرة، والآخر العامل الجمعي الذي يسهم -عادة- في تشكيل أغلب ديانات المجتمعات.
إحسان التميمي: ما حدود الدين الذهني والدين التاريخي؟ وما علامات كل واحد منهما؟
أرى أن هذا السؤال الخطير لا يمكن استجلاؤه في سطور معدودة أو بكلام مبتسر؛ ولهذا أدعوك وأدعو نفسي فضلا عن الباحثين والمفكرين أن يعنوا عناية واضحة وموضوعية بحدود الدين الذهني والدين التاريخي؛ لأنهما يتشكلان بسبل وطرائق عدة منها التشكيل المتوازي والتشكيل المتعارض والتشكيل المتوالي، ولهذا دعوت إلى الإجمال بعد التفصيل من أجل قراءة ذواتنا وقراءة تاريخنا على النحو الصحيح.
[1]- مجلة ذوات العدد40