الأمّهات العازبات بين الانفجار الجنسي وإكراهات الواقع الاجتماعي -الجزء الأول-
فئة : مقالات
مقدمة:
الأمهات العازبات لسن مجرد ظاهرة مثل باقي الظواهر الاجتماعية، بقدر ما هنّ ظاهرة تفسّر درجة الإخفاق الاجتماعي الذي بلغه المجتمع، كما تفسر طبيعة الرابط الاجتماعي، الذي يمكن اعتباره الوسيط العلائقي والوظيفي بين مختلف الأنساق المشكلة لنسق الشخصية. ولذلك، فالظاهرة التي تخفي تحوّلات الجنسانية في المجتمع في سياق الانفجار الجنسي بتعبير عبد الصمد الديالمي، تضمر خللا وظيفيا في ارتباط النص بالواقع، سواء كان هذا النص دينيا أو قانونيا، حيث تتحول الأمومة كأجمل حلم وأشرف وظيفة جنسانية إلى عار، طالما أن الأمومة حصلت خارج إطار الزواج. وبغض النظر عن الأسباب والعوامل التي تقف خلف الظاهرة، سواء تعلق الأمر بالاغتصاب، أو بحصول الحمل في سياق علاقة حب، أو حتى خلال فترة الخطوبة، وانتهت بالفراق، أو انتهت بموت الشريك، أو تملصه من مسؤوليته ونكرانه للحمل، أو حصلت نتيجة جهل طرفي العلاقة الثنائية بالثقافة والتربية الجنسية، خاصة وأن استعمال العازل الطبي والحبوب المانعة للحمل، يكاد يكون ثقافة نخبوية، فإن الأم العازبة تبقى في النهاية كبش فداء المجتمع، وضحية تناقض التشريعي والواقعي.
في السياق المغربي والعربي عمومًا، تعدّ الظاهرة حديثة، وتكشف عن حجم الانزياح القيمي الذي عرفته هذه المجتمعات في سياق تحولات الجنسانية العربية في عصر الصورة، وما واكب ذلك من انفجار جنسي، جعل الواقع يتجاوز في تحولاته الدرامية النصوص القانونية والدينية، وهو ما وسم الذهنية العربية بالتناقض نفسه، حيث صارت الازدواجية الجنسانية بين التقليد والحداثة أقرب إلى الشيزوفرينيا التي تجعل جسد المرأة مشتهى ومرغوبا فيه، وفي الوقت ذاته رمزا للفساد والرذيلة، كما تجعل الرجل في ثقافة المجتمع الذكورية السيد الذي من حقه أن يحرث أرض ضيعته كما يشاء، وأن يتزوج في النهاية بمن يشاء، دون حسيب أو رقيب، ومتى تزوج بعد طول مغامرات جنسية، مهما كانت نتائجها، بورك زواجه باعتباره أكمل نصف دينه، في حين أن المرأة موضع الحرث والقلب، تبقى دوما ضحية السيد المالك لجسدها ولعرضها ولشرفها، فهو الأصل وهي الفرع، وهو الأصل وهي النسخة.
وبين رفض الأب لأبوته وتمسك الأم بالأمومة، يبدأ مشوار طويل من المعاناة والعذاب اليوميين، ويتحول هذا الجسد الذي طالما كان مرغوبا فيه إلى وسمة عار، ويتحول كل رجل يجري وراء رغباته في السر أو في العلن، أو في كليهما، إلى فقيه وواعظ يتحدث باسم السماء، وتتحول النساء أنفسهن إلى مدافع عن ضمير المجتمع وأخلاقه، حيث تبرز بقوة تجليات الهيمنة الذكورية، وتتعمق الفحولة المتخيلة من خلال مساهمة النساء في إعادة إنتاجهما؛ فما هو أصل الظاهرة.؟ وكيف تحولت الأمومة إلى وسمة عار؟ وما هي أوجه معاناة هؤلاء النساء الشابات اللواتي تحولن بجرة قضيب إلى أمّهات عازبات؟ وما دور المجتمع المدني في الترافع باسمهن، والدفاع عنهن؟
أسئلة من ضمن أخرى، سنحاول معالجتها من خلال عرض الظاهرة للدراسة والتحليل.
1- الأمهات العازبات: الخلفية الاجتماعية والمرجعية الثقافية
الأم العازبة المفهوم والدلالة:
يعدّ مفهوم الأم العازبة، مفهوما مستجدّا في حقل الدراسات العربية، خاصة في الدراسات الاجتماعية؛ فهو مأخوذ من الحقل الغربي، وخاصة من الحقل الأوروبي، الفرنسي والإنجليزي تحديداً، بما هو ترجمة لـ "les mères célibataires" و" single mother "، وهو ما يعني الاسم الذي يطلق على المرأة التي تلد خارج مؤسسة الزواج، أيّاً كانت أشكال هذه الولادة، سواء نتيجة الاغتصاب، أو تخلي الأب البيولوجي عنها بعد حملها، أو نتيجة قرار المرأة الحمل عبر تقنية التلقيح الاصطناعي، كما هو الشأن بالنسبة إلى البلدان الغربية، ولو أن السياق العربي لم يشهد بعد حالات مشابهة لهذا التلقيح الاصطناعي والإرادي.
في السياق المغربي، تعد تسمية الأمهات العازبات ترجمة للمفهوم الفرنسي (les mères célibataires)؛ بمعنى الأمهات اللواتي أنجبن أطفالاً في إطار علاقة جنسية خارج مؤسسة الزواج، وقد جاءت الترجمة الاستعارية من المعجم الاجتماعي الفرنسي، للارتباط الثقافي بفرنسا، لكون الظاهرة عرفت بداية هناك، ونتيجة الانفتاح والتحولات الثقافية والاجتماعية التي يعيشها المغرب، مثله في ذلك، مثل بعض البلدان المغاربية والعربية، منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث برزت الظاهرة، ونتيجة ارتفاع عدد الأمهات العازبات، وتكفل بعض جمعيات المجتمع المدني المشتغلة على قضايا المرأة، ومساندتها من طرف الهيئات الدولية، ومتابعات وسائل الإعلام، أصبحت الظاهرة مألوفة، خاصة بعد الانفجار الجنسي الذي بات يعرفه المغرب، شأنه في ذلك، شأن الكثير من البلدان العربية، بالرغم من التحفظات وأشكال المحافظة التي تميز عموما هذه المجتمعات، والتي تحتضنها كما تنتجها في الوقت ذاته، بشكل يجعلها، من ضمن الانحرافات الاجتماعية التي باتت تعرفها، نتيجة تحولات ثقافية واجتماعية، سنأتي على تحليلها.
يحتضن المفهوم في عمقه دلالات متناقضة، تعكس تناقض الواقع الاجتماعي، مثلما تعكس المفارقات الحاصلة بين المعيش اليومي من جهة، وقيم المجتمع من جهة ثانية، وهو تناقض يجعل البحث الاجتماعي يسجل الهوة الكبيرة التي تفصل الواقع الاجتماعي في تحولاته وانفجار أنساقه الجنسانية، عن واقع النصوص القانونية والدينية، التي باتت في جمودها تعرقل اندماج الأمهات العازبات، وتحرم آلاف الأطفال الأبرياء من الحق في الحياة الكريمة، والمواطنة الكاملة، خاصة إذا علمنا حجم الظاهرة وارتفاع نسبة الولادات خارج إطار الزواج، ناهيك عن حالات الإجهاض هروبا من وسم الأم العازبة، الذي بات معادلا موضوعيا لهدر الكرامة والإنسانية. ويكفي التركيز على المقابلات اللسانية لمفهوم الأم العازية، بما هي ترجمة لاسم وهوية متشظيين؛ فالأم العازية، هي العاهرة، والفاسدة، والقحبة، وابنها هو اللقيط، وابن الحرام، وولد الزنا... وما إلى ذلك من نعوت وتوصيمات، تهدر الحق في الكرامة والإنسانية.
ضمن هذا السياق، يعدّ الحمل غير الشرعي من وجهة نظر دينية واجتماعية حملا حراما، ولذلك، فالطفل الوليد في هذه الحالة ينعت بابن الحرام، ناهيك عن وسم الأم العازبة بشتى الشتائم والنعوت القدحية، بكل ما يرتبط بذلك من تهميش واحتقار، خاصة وأن الوضع يتجاوز الأم والطفل إلى العائلة، طالما أن الحمل الحرام تدنيس لسمعة العائلة وتلويث للشرف، وهو ما يجعل نسبة كبيرة من هؤلاء الأمهات يتخلّين عن أطفالهن بعد الولادة مباشرة، إذا فشلن في إجهاضهم وهم أجنّة، وفي حالة التخلي، فإن الثمن يدفع الطفل البريء الذي يرتبط اسمه دوما بابن الحرام، وعليه يمارس المجتمع كل أشكال الاحتقار والاستبعاد، وهو ما يقود أطفال الأمهات العازبات إلى الانحراف والأمراض العصبية والنفسية. "فالأم العازبة تتعرض إلى المعاملة السيئة والعقاب والإقصاء والنبذ من طرف الأقارب كما تحرم من صفة المواطنة التي تعطيها كل الحقوق، إضافة إلى أنها تجد نفسها أحيانا أمام خطر الموت، لأنها أم لطفل لا لقب له، ولأن الأبوة في مجتمعاتنا تختزل في لقب، ولأن اللقب يعتبر ضرورة حيوية لتكون للفرد مكانته الشرعية في مجتمعاتنا، فإن الأمهات العازبات يتخلّين عن أطفالهن عند خروجهن من مستشفيات الولادة بطريقة وحشية في أغلب الأحيان، لأن هؤلاء الأطفال لا ألقاب لهم" (ليلى طوبال، الأمهات العازبات في المغرب العربي: 2015: 12).
إن العزل الاجتماعي الممارس على الأمهات العازبات في المغرب وغيره من البلدان العربية، لا يقتصر على المجتمع، بل هو عزل ممنهج ومؤسساتي، وهو ما يتضح من خلال رفض المتابعة الطبية لهؤلاء الأمهات، بمجرد معرفة الأطقم الطبية أنهن حملن خارج إطار الزواج، حيث تبدأ سوء المعاملة والإهانة، وهو الأمر الذي سجلته لوسيانا أوشو ليفر في دراستها إلى جانب عدد من الباحثات حول الظاهرة في البلدان المغاربية، المغرب والجزائر وتونس، وإذا كانت تونس أكثر انفتاحا وتعاملا مع هذه الفئة من النساء، فإن الوضع في الجزائر والمغرب يبدو أصعب وأعقد؛ ففي "المغرب، فإن المسألة تعتبر أكثر حساسة، لأن إمكانية متابعة الحمل غير متاحة في مستشفيات الولادة العامة بالنسبة إلى الحوامل غير المتزوجات، وذلك وفقا لشهادة المرشدة الاجتماعية ومنسقة مشروع مستشفيات الولادة العامة في المعهد الوطني للتضامن مع النساء في محنة INSAF حجيبة الشرقاوي، ولكي تتمكن المرأة من إجراء هذه المتابعة، فإنها تحتاج إلى دفتر علاج، وهي وثيقة لا تسلمها الممرضة إلا للنساء المتزوجات اللائي يقطن قرب المركز الصحي، وتفيد حجيبة أن المرأة إذا لم يكن لها زوج، فإن الأمر سيكون أصعب بالنسبة إليها، وهو ما يؤدي إلى حرمانها من متابعة حملها، باستثناء عدد قليل من الحالات التي يتكفل فيها صاحب العمل أو الأسرة بهذه العملية" (لوسيانا أوشو ليفبر: 2015: 22)، ولكون هذا العزل الاجتماعي مزدوج، عزل مجتمعي وعزل مؤسساتي، فهو في العمق يعكس الاستبعاد الاجتماعي الذي تمارسه الدولة كما المجتمع في حق هذه الفئة المهمشة من النساء.
بيد أن التحليل السوسيولوجي للظاهرة لا يستقيم إلا بالارتكاز على متغيرات الظاهرة، وعواملها المستقلة والتابعة على حد سواء. من هنا، فتحليل المعطيات التي تتوفر عليها الجمعيات النسائية التي تشتغل في المجال، تفيد، كما أبرزت دراسة لوسيانا أوشو، أن الظاهرة تميز أوساط الهشاشة والفقر في المجتمعات المغاربية، حيث يأتي الفقر كمحدد رئيس للظاهرة، بكل ما يرتبط به من جهل وأمية. وهنا، يمكن الوقوف على العنف الاقتصادي الذي يؤدي بهن إلى سلسلة من العنف لا تنتهي بالحمل أو الإجهاض، بل تستمر مع تلويث السمعة الاجتماعية التي تطال العائلة والمحيط، مما يؤثر سلبا على اندماج الأمهات العازبات فيما بعد، خاصة إن علمنا أن معظمهن من الشابات والمراهقات تحديداً. فكيف تتحوّل الطفلة المراهقة، والفتاة القاصر، والشابة التي لم تبلغ العشرين ربيعاً في الكثير من الحالات إلى أم عازبة؟ وكيف تواجه تحديات فقدان الشرعية الجنسية بين الديني والاجتماعي من جهة، وبين القانوني والحقوقي من جهة ثانية؟
أسئلة وأخرى، سوف نتطرق إليها في الجزء القادم.