الأمومة والكتابة: أثرٌ من الحبر والحبّ معاً...
فئة : حوارات
الأمومة والكتابة: أثرٌ من الحبر والحبّ معاً...[1]
حاروها: بشرى فرج الأحمدي
ميادة مصطفى كيالي هي مديرة مؤسسة مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، التي تتخذ من لبنان والإمارات مقرًّا لها، بالإضافة إلى كونها مديرة مؤسسة سراج للأبحاث والدراسات في الإمارات العربية المتحدة. تمتلك خبرة واسعة في الإشراف على مشاريع فكرية وثقافية بارزة على مستوى الوطن العربي، حيث تركزت جهودها حول نشر المعرفة ودعم الأبحاث والدراسات في مجالات الفكر والفلسفة وتجديد الخطاب الديني.
خلال إدارتها، أشرفت على نشر أكثر من 400 كتاب في مجالات متعددة، شملت الفلسفة، والفكر الديني، والدراسات الاجتماعية، إلى جانب مجموعة من الترجمات لأهم الكتب الغربية، بالتعاون مع دور نشر عالمية مرموقة مثل Cambridge University Press وOxford University Press، وغيرها. تضمنت هذه الإصدارات أعمال مفكرين بارزين من العالمين العربي والغربي، وسعت من خلالها إلى تعزيز الحوار الفكري والنقدي، وتقديم رؤى عميقة ومبتكرة.
أسست الدكتورة ميادة عدة مشاريع فكرية مهمة، وعملت مع مفكرين كبار مثل جمال البنّا، محمد شحرور، أبو القاسم حاج حمد، عبد الجواد ياسين وغيرهم. كما قامت بإعداد وإدارة العديد من المؤتمرات والندوات الثقافية والفكرية التي جمعت نخبة من المثقفين والمفكرين. بالإضافة إلى ذلك، أشرفت على إنتاج برامج إعلامية وحلقات نقاش تلفزيونية تهدف إلى تعميق النقاش حول قضايا دينية وثقافية مهمة، مما جعل مؤسستها منصة للبحث والتجديد الفكري في العالم العربي.
إلى جانب إدارتها للمؤسسات الفكرية، هي كاتبة وباحثة، ولها عدة مؤلفات، منها: أحلام مسروقة، رسائل وحنين، المرأة والألوهة المؤنثة، هندسة الهيمنة على النساء: تاريخ الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة، في ظلال الياسمين. تعكس أعمالها اهتمامها العميق بقضايا المرأة والفكر الديني والتاريخي. كما نشرت العديد من المقالات والأبحاث في صحف ومجلات مرموقة، ما جعلها تضع بصمتها الخاصة على الساحة الأدبية والفكرية العربية.
حصلت على درجة الماجستير والدكتوراه في الحضارات القديمة من جامعة فان هولاند، تخصص تاريخ الحضارات القديمة، كما تحمل بكالوريوس في الهندسة المدنية من جامعة دمشق.
*- أخبرينا عن نفسكِ أمًّا وكاتبة، ومن كان له دور فاعل في حياتكِ حتى تكوني أنتِ؟
أنا ابنة امرأة حديديّة، صنعتني بحلمها وقوّتها.
قبل أن أكون أمًّا وكاتبة، كنتُ ابنة امرأة استثنائية، امرأة آمنت بالعلم، أحبّت التعلّم، ورأت في المعرفة بابًا للحرية. كانت والدتي تحلم بمكتبةٍ كبيرة تحتضن كتب العالم، لكن منزلها الصغير لم يتّسع لهذا الحلم، فظلّ مؤجّلًا حتى تحقق بعد رحيلها. اليوم، مكتبتي تعادل نصف بيتي، ليست فقط امتدادًا لحبّ الكتب، بل تجسيدًا لحلمها الذي لم يتحقق في حياتها، لكنه تجذّر في حياتي.
أما حلمها الآخر، فكان أن أكمل تعليمي العالي وأحصل على شهادة الدكتوراه في الهندسة المدنية، لكن الحياة قادتني إلى طريق آخر. درستُ الهندسة المدنية فعلًا، غير أن شغفي قادني إلى التاريخ، فأكملتُ دراساتي العليا في مجال مختلف، وحصلتُ على الماجستير والدكتوراه في تاريخ الحضارات القديمة، وتحديدًا في تاريخ المرأة والزواج، حيث تكشف دراسة التاريخ كيف فُرضت الهيمنة على النساء عبر العصور.
قد لا يكون هذا ما حلمت به والدتي تمامًا، لكنه كان المسار الذي وجدت نفسي فيه وصنعت ذاتي من خلاله. والأهم أنني، مثلها، لم أسمح للظروف بأن تحدّ من أحلامي، فقد عدتُ إلى العمل بعد انقطاع، وأثبتُ أن الانقطاع لا يعني النهاية، بل هو فصل من فصول الرحلة، يمكن للمرء أن يعيد كتابته كما يشاء.
كانت أمّي امرأة حديدية، لم تفقد أنوثتها رغم صلابتها. جمعت بين القوّة والحنان والحكمة في آنٍ واحد، وكانت تعرف كيف توازن بين العاطفة والعقل، بين الواقع والأحلام. ورثتُ عنها صبرها، طموحها، ذكاءها، وحتى ملامحها. علّمتني ألّا أكون جبانة، أن أكره الكذب، أن أعشق العمل، وأن أتحدّى نفسي قبل أن أنافس الآخرين. وألّا أستسلم للظروف مهما كانت.
لكن أكثر ما زرعته في داخلي، وما ظلّ صداه يتردد مع كل محطة في حياتي، كان درسًا استمدّته من مثل شعبي كانت تكرّره دائمًا:
"إن أحببتِ، أحبّي أميرًا، وإن عيّروكِ به، فليكن يستحق التعيير."
لم يكن مجرد مثل بالنسبة لي، بل أصبح قاعدة وجودية، معيارًا يقيس كل اختياراتي. علّمني أن الحبّ بكل أشكاله، سواء كان حبًّا لرجل، لمهنة، لطموح، أو حتى لفكرة—لا يكون هبة مجانية، بل يجب أن يكون مستحقًّا، أن يحمل قيمة تُبرر التمسك به حتى لو عُيِّرت بسببه.
لقد منحني هذا المثل شجاعة صامتة، تجعلني أقف بثبات في مواجهة أولئك الذين ينتظرون سقوطي ليقولوا: ألم نقل لكِ؟، وأن أتحمل مسؤولية اختياراتي كاملة، أدافع عنها إن كانت تستحق، وأمتلك الشجاعة للتراجع إن ثبت أنها لا تستحق. إنه درس في الكرامة أكثر منه درسًا في الحبّ، ودرس في الحكمة أكثر منه في التعلق.
ثم كنتُ أنا…
لم أكن كاتبةً في الأصل، بل كنتُ مهندسة مدنية، أرسم الجسور على الورق، قبل أن تبني الحياة جسورها الخاصة بيني وبين الكتابة. لم تكن الأمومة والكتابة مجرد محطتين عابرتين في حياتي، بل تشابكتا معًا لتصنعا امرأة لم تكن مضطرة لأن تختار بين الحبّ والإبداع، بين الرعاية والكتابة، بين العطاء والبحث عن الذات.
عندما تزوجتُ وانتقلتُ إلى لبنان عام 1994، تفرّغتُ تمامًا لأمومتي، متخلّية عن الهندسة، لأكتشف أنني أمارس هندسة من نوع آخر: هندسة الروح، وتشكيل العاطفة لطفلين توأمين. كانت الأمومة تجربة غنية، لكنها لم تُلغِ ذاتي، بل أعادت تشكيلها.
لكن عندما رحلت والدتي عام 2003، شعرت أنني أغرق في بحر الحزن، ووجدت في الكتابة طوق نجاة، شبيهًا بالحبل السرّي الذي يربط الحياة بمنشئها. بدأتُ في كتابة المقالات لصحيفة محلية في زحلة (العصر سابقًا، الروابي حاليًا)، فكان قلمي وقتها يداوي جروحي، قبل أن يتحوّل إلى هوية مستقلة تشكّل جزءًا من ذاتي. لم أعد فقط أمًّا، بل أصبحتُ أمًّا وكاتبة، ثم مديرة مركز دراسات، وبعدها مديرة دار نشر. لم أعد أحمل مسؤولية أبنائي فقط، بل مسؤولية إيصال أصوات الآخرين إلى النور.
*- كيف جمعت في حياتك بين الأمومة والكتابة؟
لم أكن كاتبة في الأصل، بل كنت مهندسة مدنية، أرسم الجسور على الورق، قبل أن تبني الحياة جسورها الخاصة بيني وبين الكتابة. لم تكن الأمومة والكتابة مجرد محطتين عابرتين في حياتي، بل شكّلتا معًا نسيجاً وجودياً.
عندما تزوجت وانتقلت إلى لبنان عام 1994، تفرغت تمامًا للأمومة، متخلّية عن الهندسة، لأكتشف أنني أمارس هندسة من نوع آخر: هندسة الروح والتشكيل العاطفي لطفلين توأمين.
لكن عندما رحلت والدتي عام 2003، شعرت أنني أغرق في بحر الحزن، ووجدت في الكتابة طوق نجاة، شبيهًا بالحبل السري الذي يربط الحياة بمنشئها. بدأت بكتابة المقالات لصحيفة محلية في زحلة (العصر سابقًا، الروابي حاليًا)، فكان قلمي آنذاك يداوي جروحي، قبل أن يتحول إلى هوية مستقلة تشكل جزءًا من ذاتي. لم أعد أمًّا فقط، بل أصبحت أمًّا وكاتبة، ثم مديرة مركز دراسات، ولاحقًا مديرة دار نشر، أتحمل مسؤولية أبنائي، وأحمل في ذات الوقت مسؤولية إيصال أصوات أخرى إلى النور.
*- ما هي أبرز التحديات التي تواجهينها كأم كاتبة؟
إن أعظم تحدٍّ واجهته لم يكن في الكتابة ذاتها، بل في إيجاد المساحة التي يمكن أن تنمو فيها الكتابة وسط زخم المسؤوليات. تطرح فيرجينيا وولف في كتابها "غرفة تخص المرء وحده" فكرة مفادها أن المرأة، لكي تكتب وتبدع، تحتاج إلى الاستقلال المادي وحيّز خاص بها، تقول: "لكي تكتب المرأة، لا بد أن يكون لها مال وغرفة تخصها وحدها". وفي الواقع، المرأة تحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك، تحتاج إلى شرعية حلمها، إلى ألا يكون إبداعها ترفًا أو استثناءً.
حين انتقلت إلى أبو ظبي عام 2006، وبدأت عملي في المجال الثقافي، لم يكن التحدي فقط في إيجاد الوقت للكتابة، بل في إثبات أنني أستطيع أن أكون كلّ شيء: أمًّا، عاملة، كاتبة، ومديرة لمشروع ثقافي ضخم. كان عليّ أن أبرهن أن العقل لا يُقصى بسبب الأمومة، وأن القلم لا يجفّ بسبب ازدحام الحياة.
*- هل شعرتِ يومًا أنكِ ممزقة ذهنيًّا بين مهام الأمومة والكتابة؟
كان هذا التمزق رفيقي الدائم، خاصة عندما قررت استكمال تربية أبنائي وحدي، إلى جانب متابعة دراستي في العلوم الإنسانية، وتحديدًا في تاريخ الحضارات القديمة، بالتوازي مع عملي. كانت الأمومة تعني لي السهر على تربية أبنائي وضمان نجاحهم، بينما تعني الكتابة السهر على أطروحة الماجستير ولاحقًا الدكتوراه. كنت أقضي الليالي بين مراجع التاريخ وأوراق الدراسة، مستغلّة ساعات نومهم كملاذي الوحيد.
لكن التحدي الحقيقي لم يكن في الجهد وحده، بل في مقاومة ذلك الصوت الداخلي الذي يهمس: "هل يمكنكِ حقًّا أن تفعلي كل هذا يا ميادة؟" وكانت الإجابة تأتي من نظرات أبنائي حين كبروا، وهم يرونني أحقق الإنجاز تلو الآخر، وكأن الصفحات التي خطها قلمي أصبحت دليلًا على أن الأمومة والكتابة ليستا نقيضين، بل وجهين لذات القوة.
*- أفصحت العديد من الأمهات عن شعورهن بذوبان هويتهن خلال أداء دور الأمومة. برأيك، متى تكون الكتابة استعادة للذات؟
حين تفقد المرأة نفسها في دوامة العطاء المطلق، تصبح الكتابة بمثابة عودة إلى الجوهر، كأنها تعيد ترميم روحها بحروفها الخاصة. يربي المجتمع المرأة على أن تكون "أمًّا متفانية" حتى الذوبان، ولكن الكتابة كانت طريقي للعودة إلى ذاتي، ليس لرفض أمومتي، بل لتحويلها إلى مصدر قوتي.
تقول الروائية والشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث: "أكتب لأن هناك صوتًا في داخلي لن يسكت." وأنا كتبت لأن الكتابة لم تكن ترفًا، بل كانت وسيلتي لأبقى حية وسط كل الأدوار التي طُلب منّي أن أؤديها.
*- كيف تجدين الوقت الكافي للجلوس أمام شاشة الكمبيوتر وكتابة المسودات؟ وما هي طقوسك للحصول على الهدوء والقدرة على التركيز بوجود أفراد تعتنين بهم؟
الوقت لا يُمنح، بل يُنتزع من قبضة الأيام. الكتابة لم تكن لحظة هادئة أمام مكتب أنيق، بل كانت سطورًا تُكتب على هامش الحياة؛ بعد أن ينام أطفالي، بين فنجان قهوة وآخر، أو حتى أثناء تحضير الطعام، أو في زحام العمل. كما أن الأفكار لا تأتي وفق جدول زمني، بل تتسلل فجأة في منتصف الليل، أو أثناء مرافقة طفل إلى المستشفى. لهذا، تعلمت أن أكتب في أيّ مكان، وبأيّ وسيلة: على دفاتر، في رسائل إلكترونية أرسلها إلى نفسي، أو حتى في تسجيلات صوتية سريعة؛ لأن الكتابة مثل الحياة، لا تنتظر أحدًا.
*- هل تزيد الكتابة ومهامها من وخز الضمير تجاه أطفالك؟ وكيف تتعاملين مع هذا الشعور؟
كلّ أم تعاني من هذا الوخز؛ لأن المجتمعات تُربّينا على أن كل ما تفعله المرأة خارج دورها التقليدي هو رفاهية. ولطالما شعرت بالذنب تجاههم، وفي الوقت نفسه شعرت بالتعب من تحمل كل المسؤوليات. لكن لحسن الحظ، جاءت لحظة الحسم عندما نصحتني امرأة حكيمة بعد أن شهدت معاناتي في تعليم الأولاد، قائلة: "كوني أمهم فقط، ودعي المختصين يساعدون في تعليمهم."
لم يكن من السهل عليّ أن أستثمر مالي في مدرّسين بدلاً من تخصيصه لاحتياجات أخرى، لكنني سعدت بتوزيع المهام، حتى وإن كانت مدفوعة، واكتشفت أن الأمومة ليست احتكارًا لكل التفاصيل، بل هي إدارتها بحكمة. والنتيجة؟ كبر أبنائي، وهم يرونني لا أقدم لهم الرعاية فقط، بل أقدم لهم نموذجًا للمرأة التي تصنع طريقها.
* - مؤخراً، ظهرت كتب ومقالات تتحدث عن الجانب المظلم من الأمومة، وهي أمور لم تسبق الكتابة عنها. برأيك، ما هي الأمور التي استجدت في حياتنا الحديثة، والتي جعلت الأمومة أصعب من أي وقت مضى؟
هذا يضعني أمام عنوان هو: "الأمومة بين المثاليات والواقع: تفكيك الأسطورة وشيطنة عمل المرأة"، واسمحي لي أن أتوسع في هذا الموضوع.
لا يوجد "جانب مظلم" للأمومة في ذاتها، بل هناك مجتمعات جعلت من الأمومة قيدًا، وحمّلت المرأة وحدها مسؤولية هذا الدور دون أن تمنحها المساحة اللازمة لممارسته بكرامة واستقلالية. إذا نظرنا إلى التاريخ، نجد أن المرأة لم تُعطَ الحق في اختيار حياتها، لكنها حُمّلت أعباءً ثقيلة، ووُضعت في قوالب ضيقة: إما أن تكون الأم المثالية التي تذوب في خدمة أطفالها، أو أن تكون "المرأة الأنانية" التي اختارت طريقًا آخر، فتم اتهامها بالتقصير في واجباتها. هذه المعادلة الظالمة لا تزال قائمة حتى اليوم، وإن تغيّرت أشكالها.
سأضرب لك أمثلة من الواقع: كيف تُشيطن خيارات المرأة؟ إذا اختارت المرأة أن تكون أمًّا متفرغة، يُقال لها إنها "غير منتجة"، وإنها تعيش في ظل نجاح زوجها أو أسرتها. وإذا قررت أن توازن بين الأمومة والعمل، يُقال إنها "مقصرة"، وأن أطفالها يدفعون ثمن طموحها. وإذا اختارت ألا تنجب، تُوصف بأنها "ناقصة الأنوثة"، وكأن الأمومة هي البُعد الوحيد لهويتها.
هذه الازدواجية لم تخلقها المرأة، بل فرضتها أنظمة اجتماعية رسّخت مفهوم "الأم المضحية" في مقابل "الرجل المعيل"، رغم أن الرجل نفسه لم يعد المعيل الوحيد، ولم تعد المرأة مجرد تابعة. ومع ذلك، لا يزال المجتمع يحمّل المرأة أعباءً مضاعفة، بينما يمنح الرجل هامشًا أوسع للاستقلالية، دون أن يُحاسب على تفضيله لمسيرته المهنية أو لحياته الخاصة.
وسؤالك كيف جعلت الحياة الحديثة الأمومة أصعب؟
ثمة نواحٍ عدة تبرز ذلك:
اقتصادياً: في الماضي، كان يمكن للأسرة أن تعيش على دخل فرد واحد، لكن اليوم أصبحت الحياة الاقتصادية أكثر قسوة، وأصبح من الصعب على المرأة أن تكون ربة منزل فقط دون الشعور بالعبء المالي أو فقدان الاستقلال.
اجتماعياً: مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح هناك نموذج مثالي زائف للأمومة: الأم التي تطهو وجبات صحية، وتدير منزلها دون تعب، وتحقق نجاحًا مهنيًّا باهرًا، وتظل مبتسمة طوال الوقت. هذه الصورة الخيالية تجعل الأمهات يشعرن بالذنب لأنهن بشر؛ لأنهن يُنهكن، ولأنهن يحتجن إلى مساعدة، أو ببساطة لأنهن لا يمتلكن طاقة خارقة.
نفسياً: لم تكن الأمهات في الماضي مضطرات لمنافسة أدوار مستحيلة، لكن اليوم يتم تقييم كل امرأة وفق معايير صارمة، وعليها أن تبرر اختياراتها باستمرار، سواء قررت العمل أم لا، أنجبت أم لم تنجب، كانت مستقلة أم معتمدة على أسرتها.
ربما تسألينني: ما الحل هنا؟
الحل سيكون في إعادة تعريف الأمومة وتحريرها من القيود. الحل ليس في شيطنة عمل المرأة أو إغراقها بمثاليات غير واقعية، بل في إعطائها الحق في أن تكون أمًّا وفق شروطها الخاصة. الأمومة ليست تضحية بلا مقابل، وليست نقيضًا للنجاح الشخصي، بل هي جزء من تجربة المرأة في الحياة. لا يجب أن تلغي أحلامها، ولا أن تُستخدم كذريعة لحرمانها من الفرص.
إنَّ التحدي الحقيقي اليوم ليس في أن تختار المرأة بين أن تكون "أمًّا صالحة" أو "امرأة ناجحة"، بل في أن تكسر هذه الثنائية الزائفة، وأن تعيش وفق رؤيتها لنفسها، لا وفق ما يرسمه الآخرون لها.
*- تقول أليف شافاق: "ربما لا تمثل الأبوة انشطارًا كبيرًا في حياة الرجل بخلاف الأمومة في حياة المرأة." لمَ يستمر الآباء الكتاب في الإنتاج الغزير، بينما يتقهقر إنتاج الأمهات الإبداعي، وربما يختفي بعد ولادة طفل جديد؟
هذه مقولة مهمة جدًّا ترسم الصورة وتطرح الأسئلة. دعيني أعنونها "الأبوة والأمومة: لماذا يُنتج الرجال الأدب بينما تتراجع إبداعات النساء؟"
تطرح "أليف شافاق" تساؤلاً جوهريًّا حول الفرق بين تأثير الأبوة والأمومة على الإبداع، قائلة: "ربما لا تمثل الأبوة انشطارًا كبيرًا في حياة الرجل بخلاف الأمومة في حياة المرأة." هذه الجملة تختصر تاريخًا طويلاً من التفاوتات، حيث ظل الرجل قادرًا على مواصلة إنتاجه الإبداعي بعد أن يصبح أبًا، بينما تجد المرأة نفسها في مواجهة اختفاء تدريجي لصوتها الإبداعي بعد الإنجاب. ليس لأنها فقدت القدرة على الكتابة، بل لأن المجتمع لم يمنحها المساحة اللازمة والقبول للاستمرار.
لطالما كانت هناك ازدواجية في تقييم الأبوة والأمومة، حيث يُنظر إلى الأب على أنه "أبٌ صالح" لمجرد أنه يوفر احتياجات أسرته، حتى لو لم يشارك في تفاصيل تربية أطفاله. فلا أحد يسأل كاتبًا مشهورًا: كيف توازن بين الأبوة والكتابة؟ لأنه من البديهي أن هناك من يعتني بالأطفال بينما هو يكتب. أما المرأة، فحتى لو نجحت في التوفيق بين الكتابة والأمومة، يظل السؤال مطروحًا: "كيف تتمكنين من ذلك؟" وكأنها تخترق قوانين الطبيعة حين تجد وقتًا للإبداع!
دعونا نسأل: لماذا يتقهقر إبداع الأمهات؟
أولًا: الوقت والمساحة المفقودة
لم تكن فيرجينيا وولف تبالغ عندما قالت: "لكي تكتب المرأة، يجب أن يكون لها غرفة خاصة وبعض المال"، لكن الأم لا تمتلك "غرفة خاصة" ولا وقتًا خاصًّا، بل عليها أن تخترع مساحتها وسط الفوضى اليومية، وأن تقاوم فكرة أن الإبداع ترفٌ وليس حاجة.
ثانيًا: الذنب المترسّب في الوعي النسائي
منذ الصغر، يتم تلقين الفتاة أن أعظم إنجاز لها هو أن تصبح أمًّا مثالية، وأنَّ أي شيء آخر يأتي بعد ذلك هو ترف، بل قد يُعتبر أنانية. لذلك، عندما تكتب الأم، فإنَّها تكتب على عجل، وهي تشعر بأنها تسرق الوقت من أطفالها، بينما لا يشعر الأب بالذنب، حين يجلس لساعات ليكتب كتابه التالي.
ثالثًا: الرقابة الاجتماعية المستمرة
الأم ليست مسؤولة فقط عن أبنائها، بل مسؤولة أيضًا عن الصورة المثالية التي يُفترض أن تكون عليها. فإذا قصرت في أي جانب، تتعرض للانتقاد، سواء من عائلتها، أو من مجتمعها، أو حتى من نساء أخريات يرسخن هذه المعايير الصارمة.
لا أخفيكِ عزيزتي أنني وقعت فريسة لهذه العوامل الثلاثة على مدى أكثر من اثني عشر عامًا، قبل أن أجد الاستقلالية التي مكنتني من متابعة طريقي نحو الإبداع والعمل، وكسرت حواجز الوقت والذنب والرقابة.
لذا، اليوم عندما أنظر إلى كيفية استعادة الأمهات لأصواتهن الإبداعية، أستطيع أن أقول بإدراك إن الإبداع ليس ترفًا، بل هو حقٌّ: فكما لا يسأل أحد الرجل لماذا يكتب، فلماذا يُطلب من المرأة أن تبرر شغفها؟
ثم، ليست كل امرأة قادرة على امتلاك غرفة خاصة، لكن يمكنها أن تجد لحظات للكتابة وسط الفوضى، حتى لو كان ذلك في منتصف الليل، أو أثناء إعداد الطعام، أو على قصاصات متناثرة.
وأيضًا، الأم ليست مطالبة بأن تكون خارقة، ويحق لها أن تأخذ وقتًا لنفسها دون الشعور بأنها تخذل أحدًا.
والأهم هو تغيير نظرتنا للأبوة: الأب ليس مجرد "معيل"، بل هو شريك حقيقي في تربية الأطفال، ويجب أن يُنظر إلى دوره بنفس الجدية التي يُنظر بها إلى دور الأم.
وأختم جوابي عن هذا السؤال المهم بأن المسؤولية ليست فقط على المجتمع، بل على النساء أنفسهن، اللواتي يجب أن يعترفن بأن لهن الحق في أن يواصلن الإبداع، تمامًا كما يفعل الرجال. الكتابة ليست رفاهية ولا خيانة لدور الأمومة، بل هي جزء من هوية المرأة، ومن حقها أن تكون أمًّا وكاتبة دون أن يُطلب منها أن تختار بينهما؛ "الحق في الكتابة لا يتناقض مع الحق في الأمومة"
*- ما هو العمل الأدبي الذي تناول موضوع الأمومة ووجدتِ أنه يتقاطع معكِ ويمثّلك؟
العديد من الأعمال الأدبية أثرت في تجربتي وأثرتها في كل مرحلة من مراحل نضوجي، لكن يمكنني أن أتوقف عند "نساء على أجنحة الحلم" لفاطمة المرنيسي. هذه الرواية التي شعرت أنها تمثلني وتتقاطع مع رحلتي كأم وكاتبة. ليست هذه الرواية فقط شهادة على تاريخ النساء داخل الحريم، بل هي أيضاً تأمل عميق في كيفية تحديد الأدوار الاجتماعية لمصير المرأة، تماماً كما يُفرض اليوم على الأمهات نموذج "المثالية المطلقة"، وكأنَّ الأمومة يجب أن تكون تضحية كاملة أو لا تكون.
في الرواية، تكبر البطلة في عالم يُملي على النساء كيف يعشن، ماذا يرتدين، وحتى كيف يحلمن. الحريم ليس فقط جدراناً مادية، بل جدران نفسية تمنع المرأة من التفكير خارج الدور المحدد لها. وهذا يذكرني تماماً بالصورة النمطية التي تُفرض على الأمهات اليوم، حيث يُتوقع منهن أن يذُبن في رعاية أطفالهن، وكأن تحقيق الذات يتعارض مع الأمومة.
لقد سلطت الرواية الضوء على "الحكي كوسيلة للتحرر"، وهذه فكرة مهمة للغاية؛ فالنساء داخل الحريم كن يروين قصصهن ليخلقن عالماً موازياً، عالماً لا تتحكم فيه القوانين الخارجية. بالنسبة لي، كانت الكتابة هي هذا الفضاء الموازي، المكان الذي استعدتُ فيه صوتي، بعد أن ظننت أن الأدوار الاجتماعية قد سرقته مني. كما أنَّ الحكي في الرواية كان وسيلة لنقل الخبرات بين الأجيال، كذلك الكتابة بالنسبة لي ليست فقط فعلًا فرديًّا، بل هي امتداد لرسالة، ووسيلة لحماية قصتي وقصص الآخرين من النسيان.
الأم في هذه الرواية ليست فقط أمًّا لأطفالها، بل مسؤولة أيضاً عن حماية نظام اجتماعي كامل، وهذا ينعكس على الواقع الذي نعيشه اليوم، حيث تكون الأم مسؤولة عن أطفالها، لكنها أيضًا مسؤولة عن الصورة التي يجب أن تعكسها للمجتمع. أيّ محاولة للخروج عن هذا الدور تُعتبر تمرّدًا، تمامًا كما كانت النساء في الحريم يُعاقبن إذا تجرأن على كسر القواعد.
ما جعلني أرى نفسي في هذه الرواية هو أنني أدركت أن الأمومة ليست قيدًا، لكنها قد تصبح كذلك إذا لم تُمنح المرأة حقها في أن تكون شيئًا آخر بجانب كونها أمًّا. وكما كانت بطلة الرواية تبحث عن مساحتها الخاصة للحلم، فإنني وجدت في الكتابة امتدادًا لهويتي، وطريقة للبقاء خارج "الحريم الحديث" الذي يحاول أن يحصر النساء داخل دور واحد فقط.
وتمامًا كما تقول فاطمة المرنيسي في الرواية: "من لا يحكي قصته، سيعيش في قصة كتبها له الآخرون".
لهذا كنت أكتب، ليس فقط لنفسي، بل لأقول لكل أمّ: لكِ الحق في أن تحلمي، أن تكتبي، أن تعيشي، دون أن تشعري أنكِ تخذلين أحدًا؛ لأنَّ الأمومة ليست نقيض الإبداع، بل قد تكون أعظم مصادره.
*- ما هي الفكرة المثالية عن الكاتبات الأمّهات التي ترغبين في نفيها أو تصحيحها؛ لأنها قد تمثل ضغطًا على الأخريات؟
أودّ تصحيح الصورة المثالية عن الكاتبة الأم، التي تبدو وكأنها تكتب بروح متفرغة، في بيت منظم، وأطفال سعداء، بلا أيّ إرهاق أو تنازلات. نعم، أودّ تصحيحها، فهي صورة زائفة. هذه الفكرة تجعل الأمهات يشعرن بأن عليهن تحقيق المعجزات ليصبحن كاتبات ناجحات، وكأن الإبداع لا يمكن أن يتعايش مع الفوضى اليومية، مع الإرهاق، مع الشكوك، ومع الأدوار المتشابكة التي تتحملها النساء.
الحقيقة أن كل أمّ كاتبة تخوض صراعًا يوميًّا بين التزاماتها المختلفة، بين الوقت الذي يتسرب من بين أصابعها، وبين اللحظات التي تخطفها لتكتب قبل أن يوقظها صوت طفلها أو مسؤوليات بيتها. لا أحد يكتب من برج عاجي، ولا أحد يصنع الكلمات من فراغ. كلّ نص هو انتزاع لحظة من زحام اليوم، هو مقاومة لصوت داخلي يقول: "ليس الآن، لديك مسؤوليات أهم".
لذلك، ما أريد تصحيحه هو أن الكاتبة الأم ليست مضطرة لأن تكون كاملة، أو أن تثبت شيئًا لأحد. هي ليست مطالبة بأن تتحمل كل شيء وحدها كي تستحق لقب "كاتبة"، بل على العكس، عليها أن تطلب الدعم، أن تتخلى عن وهم الكمال، أن تؤمن أن الإبداع ليس رفاهية، بل حق.
أن تطلب المساعدة لا يجعلها أقل شأناً، بل يمنحها المساحة التي تستحقها. أن تخصص وقتًا لنفسها لا يعني أنها أمّ أنانية، بل يعني أنها أمّ تدرك أن عليها أن تظل متوازنة؛ لأن المرأة التي تحقق ذاتها، هي المرأة القادرة على أن تمنح الحب لأبنائها دون أن تشعر أنها ألغت نفسها في طريقها.
الكتابة ليست نقيض الأمومة، بل قد تكون امتدادًا لها. وعندما تدرك الأمهات ذلك، سيعرفن أنهن لسن وحدهن في هذا الطريق، وأنه ليس عليهن أن يكنّ معجزات، بل أن يكنّ ببساطة، أنفسهن.
*- هل شعرتِ يومًا بالحاجة للبحث عن دعم (مجموعة إلكترونية أو صديقة أو شريك)؛ لأن الجمع بين الأمرين فاق قدرتك؟ أخبرينا عن نتائج ذلك.
دعيني أقول إنَّ الدعم كان الجسر الذي عبرتُ به التحديات... وكما تلاحظين، الهندسة بقيت رفيقتي حتى اليوم.
بالطبع، احتجتُ إلى الدعم في محطات كثيرة من رحلتي؛ لأن الجمع بين الأمومة والكتابة والعمل لم يكن طريقًا مفروشًا بالورود، بل كان محفوفًا بالشكوك والتحديات.
أحيانًا، كان الدعم يأتي من صديق مثقف ومتميز مثل د. موسى برهومة الذي آمن بي وبقدرتي على أن أكمل المشوار، ورأى فيّ أكثر مما كنت أرى في نفسي. وأحيانًا أخرى، جاء من أستاذ مشرف بقامة د. خزعل الماجدي الذي دفعني لأن أطور ذاتي وأدواتي البحثية، وألّا أتنازل عن شغفي، بل أن أقاتل من أجله. ومن قامة شعرية كبيرة كالشاعر هنري زغيب الذي قال لي ذات يوم:
"أَرجو أن تبقي على علاقةٍ متينة وُثْقى بالقلم، فلا تتأخّري عن الكلمات خوفًا أن تذبل بين يديكِ، ولا تتأخري عن الكتابة خوفًا أن يَخفُتَ صوتُها فلا تعود تُوافيكِ على موعدٍ حين تطلبينها إلى مُوافاة."
فكانت تلك النصيحة تعيد نفسها في ذهني، كلما راودتني فكرة الاستسلام.
الدعم لم يكن مجرد كلمات، بل كان فرصة عمل وجدتُ فيها إمكانيتي لأكون مستقلة، فلا أحتاج أن أبرر لأحد لماذا أكتب، ولماذا أعمل، ولماذا أريد أن أكون أكثر من مجرد أم. كان دعماً منحني القوة لأكون راعيةً لأبنائي، دون أن أشعر بالتقصير تجاههم أو تجاه نفسي.
وأخيرًا، كان هناك دعم العائلة، ذاك الحضن الذي احتواني بفخره، والذي منحني اليقين بأنني لستُ وحدي في هذا الطريق. لهذا أقول: الدعم هو الجسر الذي يعبر عليه الحالمون ليصلوا إلى الضفة الأخرى، حيث تتحقق أحلامهم دون أن يضطروا للتخلي عن جزء من ذواتهم.
*- يربط كثيرون بين إنتاج الأطفال وإنتاج الكلمات من حيث إن كليهما ينطويان على جلب شيء للعالم والتعلّق به، كيف ساعدك أحدهما (الإنجاب والكتابة) على إتقان الآخر؟
نعم، وبشدة، الكتابة والإنجاب: ولادتان من رحم الانتظار...
بالنسبة لي، كان الإنجاب والكتابة رحلتين متشابهتين، بل متداخلتين في تفاصيلهما.
انتظرتُ أطفالي خمس سنوات، خمس سنوات كنتُ أترقب فيها لحظة أن أصبح أمًّا، ولحظة أن أضم بين ذراعيّ كائنًا امتزج بدمائي وأحلامي ومخاوفي. حين جاءا، كان حضورهما ولادةً عزيزة بعد انتظار، حملٌ شاق، وولادة قيصرية محفوفة بالترقب والرهبة. كانت الأمومة قدراً مؤجلاً لكنه تحقق، تمامًا كما تحقق قدري في الكتابة بعد سنوات من السعي والبحث عن الذات.
لم أولد كاتبة، بل ولدتُ مهندسة، أرسم الجسور والمباني، قبل أن ترسمني الحياة من جديد، فأتحول إلى كاتبة في عمر متأخر. وكما كان حملي بأبنائي عزيزًا، كانت ولادتي الأدبية كذلك. بدأت بكتابة المقالات الأدبية، ثم تدرجت نحو الكتابة الأكاديمية، ومن ثم إلى عالم النشر، حيث لم أعد مسؤولة فقط عن كتبي، بل عن ولادة كتب الآخرين.
اليوم، كمديرة لإحدى أهم المؤسسات الفكرية العربية "مؤمنون بلا حدود"، أشعر مع كل كتاب يصدر من الدار كما شعرت عند ولادة أبنائي. أتابعه في مراحله الأولى، أراقب نموه، أحرص على أن يخرج إلى العالم بصورته الأجمل، وأشعر أنني أرافقه حتى يرى النور، تمامًا كما تفعل الأم مع طفلها. كل كتاب هو امتدادٌ لرحلة الخلق، هو شهادة على أنَّ الأفكار، مثل الأبناء، تحتاج إلى من يرعاها، يحتويها، ويحميها حتى تجد طريقها إلى العالم.
قد تكون الكتابة والإبداع أشبه بالأمومة، ليس فقط لأنهما ولادة، بل لأنهما مسؤولية، رعاية، وحبّ غير مشروط. وكما يكبر الأبناء، يكبر الكتاب، يترك بصمته، ويصبح جزءًا من إرثنا الذي نبقيه خلفنا.
*- مساحة أخيرة تسجلين فيها أفكارك عن معنى أن تكوني أمًّا وكاتبة في الوقت ذاته:
دعيني أطلق على هذه الخاتمة عنوانًا:
الأمومة والكتابة: أثرٌ من الحبر والحبّ معًا
في النهاية، الأمومة والكتابة ليستا طريقين متوازيين، بل خيطان متداخلان في نسيج حياتي، يتشابكان ليصنعا هويتي، يلتفان حول روحي، يمنحاني توازني، ويجعلاني أشعر أنني قادرة على أن أكون كل شيء في آنٍ واحد، دون أن أتنازل عن أي جزء من ذاتي. لم تكن رحلتي سهلة، لكنها كانت رحلتي الخاصة، التي لم أختر فيها بين الأمومة والكتابة، بل صنعتُ طريقًا يجمع بينهما، طريقًا يليق بي، يسير وفق إيقاعي الخاص.
في كل تحدٍّ واجهته كأمّ، وجدت في الكتابة ملجأً، وفي كل صفحة خططتها، كنت أستعيد ذاتي، أعيد تعريفها، أبعثها من جديد. لم يكن الطريق مفروشًا بالورود والوعود، لكنه كان يستحق كل لحظة من السهر والتعب والتأرجح بين المسؤوليات. واليوم، وأنا أنظر إلى ما أنجزته، لا أرى فقط مقالاتي وكتبي ومشاريعي، بل أرى أثرًا يشبهني، أثرًا من الحبر والحب معًا، أثرًا يثبت أنني لم أكن مجرد عابرة في هذا العالم، بل كنت امرأة زرعت كلماتها كما زرعت أبناءها، وانتظرت أن يثمروا في الحياة.
يوما ما، رحلت والدتي وتركت في رأسي عبارة ما زالت تتردد داخلي: "من لم يترك شيئًا ليتذكره الناس من بعد رحيله، كأنه لا وُلِدَ ولا عاش." هذا الرحيل أذاني حدّ الكتابة، كما تقول أحلام مستغانمي: "لا يكفي أن يهديك أحدهم أوراقًا وأقلامًا حتى تكتب، بل يجب أن يؤذيك حدّ الكتابة." وهذا ما فعله بي رحيل أمي، فأصبحت الكتابة وسيلتي للنجاة من هذا الفقد، وطريقتي في مواجهة الغياب، ومنذ ذلك الحين، تحولت الكتابة من مجرد وسيلة إلى رسالة، ومن فعل فردي إلى مسؤولية.
لم تكن الكتابة فقط منفذي للحياة، بل كانت سبيلي للعودة إلى العمل، كانت وسيلتي لحماية نفسي، ثم أصبحت وسيلتي لحماية رسالتي ورسالة الآخرين. واليوم، وأنا أدير واحدة من أهم مؤسسات النشر العربية، لا أشعر فقط أنني أكتب، بل أشعر أنني أمسك بأقلام غيري، وأحمل كلماتهم، وأمنحها فرصة للحياة؛ لأنني أعرف تمامًا ما معنى أن يولد الكتاب كما يولد الابن، وما معنى أن تمنحه الحياة، ثم تتركه ليشق طريقه وحده في هذا العالم.
الأمومة والكتابة ليستا مجرد مسؤوليتين منفصلتين، بل هما شراكة وجودية، كل منهما علمتني كيف أكون أكثر صبرًا، أكثر وعيًا، أكثر إصرارًا على أن أترك أثرًا لا يُمحى؛ لأن الحياة لا تُقاس فقط بعدد السنوات التي نعيشها، بل تُقاس بما نتركه خلفنا من أبناءٍ يحملون جزءًا من روحنا، وكلماتٍ تظل تشهد أننا كنا هنا، وأننا كتبنا، وعشنا، وأحببنا.
الأمومة والكتابة ليستا طريقين متوازيين، بل خيطان متداخلان في نسيج حياتي. لم أختر بينهما، بل صنعتهما معًا، لأترك أثرًا يشبهني، أثرًا من الحبر والحب.
[1] - هذا الحوار جزء من كتاب سيصدر قريباً للكاتبة بشرى فرج الأحمدي