الأنا في متخيّل الآخر: الإسلام والمسيحية
فئة : مقالات
أسهم كلّ من الفكر الديني والعقلانية الوضعية في تبخيس دور المتخيل، وإقصاء هذا البعد الرمزي في الإنسان؛ لهذا يمكن أن يلاحظ المتتبع غياب الدراسات التي تتناول هذا الجانب إلى حدود هذه العصور المتأخرة، فقد نجح الفكر الثيولوجي الأرثوذكسي، وعقلانية النخبة في الإسلام، كما في المسيحية، في رمي المتخيل والأسطوري، كما يقول محمد أركون، في «دائرة العقائد الخرافية، والأدب الشعبي؛ أي ضمن مستوى من الفعالية الثقافية المتدنية الخاصّة بالأطفال، والجدّات، والشعوب المتخلّفة»[1]. وبالمثل، تجاهلت العقلانية الفرنسية؛ بل فلسفة الأنوار عموماً، التي أعلت من شأن الفعالية العقلية الخالصة، هذه الدراسات، التي تنصب حول المتخيّل، ونظرت إليها بازدراء؛ فكما يقول جيلبار دوران (GilbertDurand): «إنّ الفكر الغربي، عموماً، والفلسفة الفرنسية على وجه الخصوص، لهما ثابت تقليدي هو أن يحتقر أنطولوجياً قيمة الصورة، ونفسياً وظيفة المتخيّل»[2]. ونعثر على النفور ذاته من دراسة المتخيّل في بعض المشاريع الفكرية العربية المعاصرة، التي تعلن ابتداءً انحيازها للعقلانية؛ فعلى الرغم من أن بنية العقل العربي تنخرها الصور النمطية والمتخيلات، التي تستقي ماهيّتها من الثقافة الشعبية، إلاّ أنّ بعضهم يرى أن لا جدوى من دراستها. يقول عابد الجابري: «إنّنا قد اخترنا، بوعي، التعامل مع الثقافة العالِمة وحدها، فتركنا جانباً الثقافة الشعبية، من أمثال، وقصص، وخرافات، وأساطير، وغيرها؛ لأنّ مشروعنا مشروع نقدي، ولأنّ موضوعنا هو العقل، ولأنّ قضيتنا، التي ننحاز لها، هي العقلانية. نحن لا نقف، هنا، موقف الباحث الأنتربولوجي، الذي يبقى موضوعه ماثلاً أمامه كموضوع باستمرار؛ بل نحن نقف من موضوعنا موقف الذات الواعية»[3].
إن المتخيّل، حسب دوران، هو: «مجموع الصور، ومجموع العلاقات بين الصور، التي تكوّن رأس المال المفكر فيه للإنسان العاقل»[4]. وقد تعامل الفكر الأوربي المعاصر مع هذه الصور والرموز من خلال مسلكين اثنين، كما يرى الفيلسوف الفرنسي بول ريكور؛ المسلك الأول يتعامل مع الرمز بمودّة وحبّ، في محاولة لاسترداد معنى خفيّ فيه. أمّا الثاني، فيعمد إلى تدمير الرمز، بوصفه تمثيلاً لواقع مزيّف[5]؛ فالأول ينظر إلى المتخيل والصور النمطية كرموز تشير إلى حقائق معينة؛ أي أنّها صور قابلة للتأويل، من خلال إعادة صياغتها وبلورتها من جديد، إنها مادة خام يتمّ توظيفها لاستخلاص الحقيقة منها. أما الثاني فذو نزعة تدميرية عنيفة، فهو لا يرى أن تلك الصور تحمل أمشاج حقيقة؛ بل، على العكس، هي حُجب لا بدّ من فضّها، وكسرها، وتدميرها، حتّى تطفو الحقيقة، ويسمّي بول ريكور هذا المنزع الثاني فلسفة الارتياب (La philosophie du soupçon).
ويهمّنا، هنا، في هذا المقال، أن نستخرج الصور النمطية، التي ضمّنها المفكر المغربي نور الدين أفاية كتابه (الغرب المتخيّل)، وكذلك، ريتشارد سوذرن، في كتابه (صورة الإسلام)، ونحن سنتأرجح بين حدّيْن؛ حدّ الأنا، حين تنظر إلى الآخر عبر مرآة المتخيل، وحد الآخر، حين ينظر إلى الأنا من خلال المرآة ذاتها. لكن، قبل ذلك، لِمَ الالتفات إلى المتخيل؟
إنّ لهذا البعد راهنيّة خاصّة، والعناية به ينبغي أن تكون جزءاً من اهتمامات الفكر العربي، إلى جانب، وبالموازاة مع، إرساء دعائم العقلانية، لاسيّما في ظلّ الاضطرابات التي تضطرم في الشرق الأوسط، والتي تسهم في تأجيج نيرانها قوى غربية. فهذا الصراع، في الغالب، لا يسفر عن وجهه، أو بعبارة أخرى، لا تتحدّد منبّهاته ومحرّكاته الداخلية؛ بل تُستعار فيه صور نمطية متخيّلة لا تستمدّ ماهيتها من الواقع بقدر ما تحتكم إلى المتخيل في أفق بلوغ الحد الأقصى من استنفار الأتباع، وتأجيج الوضع أكثر فأكثر.
إنّ بعض الأطياف الإيديولوجية، التي ترغب في إعلان الحروب المقدسة، تصوّر الصراع كما لو كان محض تدافع ديني إيديولوجي؛ لهذا لا نستغرب، في سياق هذه الجلبة العمياء، التي يُقصَى فيها صوت العقل والحكمة، أن يُوظف هذا التشابه اللفظي بين «شيعي» و«شيوعي»، فتعتبر طبيعة التدخّل الأجنبي، في بلاد الشام، تآلباً يتأرجح بين غارة شيوعية ملحدة واستيطان شيعي له أهداف توسعيّة، في تجاهل تامٍّ للقوى العالمية ذات النزوع الفكري الواحد (على الرغم من بعض الاختلافات)، والتي، مع ذلك، تنعكس ظلال صدام مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية على أرض الشام، وفي الشرق الأوسط عموماً.
إنّ الحروب، التي تُسمّى دينية، حقيقةٌ يشهد لها التاريخ فعلاً، ولا يمكن إنكارها، غير أن السّبل التي تُسلك لخوضها تكون، في الغالب، مظلمة وحالكة، لا تبرق في عتمتها إلا إشارات الصور النمطية المتخيلة، التي لا تقود إلا إلى سراديب الهاوية..!
لنعد إلى كتابَيْنا.
بدايةً، يرى الباحث المغربي نور الدين أفاية أنّ «المتخيل الجمعي الإسلامي يستمدّ من المرجعية الدينية أساس النظر إلى العالم، والمجتمع، والإنسان»[6]، وهذا يعني، أنّ المتخيل الإسلامي قد قُدّ من مادة دينية، وأن هذه الأخيرة هي التي شكلت أفق المتخيل، وأطّرت سياجه، وهذا على الرغم من أنّ المجتمع الإسلامي الجديد انطلق من التعدّد، واحتك بكلّ أصناف الاختلاف، وحاول دمجها في نسيج الجماعة الإسلامية.
وما يُلحُّ عليه نور الدين أفاية، في أطروحته، أنّ الآخر ليس ضدّاً متمايزاً بشكل كلّي، وينفصل عن الذات/ الأنا دائماً؛ بل إنّه، على العكس من ذلك، يحضر في تصوّر الذات لنفسها، بِغَضّ النظر عن طبيعة هذا الحضور، فهو إمّا أن «يتقدّم باعتباره شريكاً مسالماً، أو في هيئة كيان غاز، أو في صفة محتلّ متغطرس، أو مفاوض مهادن؛ أو يتقدّم إلى مساحة الوعي، كاختلاف جسدي، أو ثقافي»[7]. وممّا يدلّ على حضور الآخر في الأنا، بشكل من الأشكال، تلك الرؤية الفسيفسائية، التي نشكّلها عنه، فهو، حتماً، ليس كياناً منسجماً متناغماً يتراءى إلى مرايانا كوجه متّسق؛ بل إنّه يختلف بمقدار ما يقترب، أو يبتعد، عنّا. قد نجد مثالاً لذلك في التصوّر القرآني للآخر، فهذا الموقف يتسم بنوع من الحركية واللاثبات، وذلك تبعاً للسياقات والملابسات التاريخية، فالآخر، فعلاً، لا يمكن أن يصير ذاتاً، إنّ الآخر لا يمكن أن يتماهى مع ذواتنا إلى حدّ التطابق، لكن الحقيقة، التي ينبهنا إليها تأمل مختلف الصور والتمثّلات، التي يشكلها القرآن عن الآخر؛ أنّه حاضر فينا، إن الآخر، على الرغم من أنّه الطرف غير المحايث لنا وجودياً، نفسيّاً وسيكولوجياً مسكونٌ فينا دائماً.
وهنا، نطرح سؤال أفاية: «كيف تشكّلت النظرة القرآنية للآخر؟ وما المواصفات الوجودية التي يمنحها القرآن لذاتية المسلم، بوصفه إنساناً جديداً يمتلك وعياً وانتماءً يميّزانه عن مختلف أصناف الآخرين، الذين يستحضرهم النصّ»؟[8]
كما أشرنا سالفاً، إنّ النص القرآني تأرجح في توظيفاته الاصطلاحية. لقد كانت الدعوة المحمدية، في البداية، مثالية حالمة، وآملة في رفع كلّ التحديدات التي تحدث شرخاً على مستوى الجماعة الدينية؛ فالقرآن لم يكتف بنعت الآخر بصفة واحدة، واختزاله في صورة نمطية واحدة، هي «أهل الكتاب»، إمعاناً منه في ردم تلك الهوّة الفاصلة بينهما؛ بل إنّه مَاهَى بين الأنا والآخر، فالقرآن لم يصوّر نفسه كدين لقيط؛ بل إنّه امتداد للديانات السابقة؛ إذ ثمّةَ وحدة الركن الأسمى للدين وهو التوحيد، ووحدة المصدر، كما وحدة المتلقي. من هنا، نفهم دعوة النص القرآني، في بداية الدعوة الإسلامية، إلى «الكلمة السواء»، إنّه، كما يقول أفاية، «ميل توحيدي جارف، ومصدر إلهي واحد، بالنسبة إلى الأديان السماوية. والنبي محمد، مثل الأنبياء السابقين، استجاب للأمر الإلهي، وجسّد هذا الأمر في سيرورة عقائدية واحدة: يا أيّها الذين آمنوا آمنوا بالله، ورسوله، والكتاب الذي نزل على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل، ومن يكفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فقد ضلّ ضلالاً بعيداً»[9].
غير أنّ سيرورة الأحداث، وتغيّر موازين القوى، قد أدّى إلى كسر هذا التمثل والإمعان في تمزيق تلك الجماعة الدينية المنسجمة، التي حاول النص الديني بناءها في عهوده الأولى. ومن التركيز على القواسم المشتركة، سيشنّ الإسلام هجوماً على اليهود، وسينعتهم بأسوأ المواصفات، فاليهود غير مستأمنين على شيء مهما صغر، وهم أهل غدر وخيانة، كما أنّهم جشعون على نحو غير عادي، وكذلك، على الرغم من ميلهم لإحداث الفتن، وإشعال نيران الحروب والصراعات، إلا أنّهم جبناء غير متحلّين بالشجاعة، وهم، كذلك، غير أتقياء، وقتلة للأنبياء وسفهاء، إنّها «أحكام، ونعوت، وصور، عديدة تشكّلت داخل النسيج القرآني بخصوص اليهود. وقد تمّت صياغتها في سياق تميّز بتوتّر بالغ الشدّة، فالأمر كان يتعلّق بصراع وجودي بين الدعوة الناشئة والنفوذ اليهودي في المدينة»[10].
أمّا الصور، التي قدّمها القرآن عن النصارى، فهي إلى المودّة أقرب، فهو، بالإضافة إلى حديثه الإيجابي عن النبي عيسى، وأمّه مريم، وثنائه على الإنجيل، بصفته يشترك مع القرآن الكريم في النورانية والهداية؛ يثني على الرهبان، ويرى أنّ الله جعل في من يتّبع المسيح رأفة ورحمة. وإن كان المؤلّف أفاية يقف مشدوهاً مذهولاً أمام التحوّل المفاجئ، والمنعطف الحاصل في مخاطبة النص الديني للنصارى، وبدل كيل المدائح ينقلب عليهم، فيصفهم بأنهم اتخذوا رهبانهم وأحبارهم أرباباً من دون الله، ويطرح أفاية سؤالاً عن سرّ هذا التغير الطفري، إلا أنّه يتركه مفتوحاً من غير إجابة. يقول «هل هذا الحزم، إن لم تقل التشدّد، تجاه النصارى، أملته شروط الجدال الكلامي حول التوحيد والشرط، أم أنّ اعتبارات سياسية افترضت هذه الصورة لخلق أكثر ما يلزم من الضبط داخل الجماعة الجديدة؟»[11]. وتركيز القرآن على مسألة الجزية، وتنديده بالاستغلال الذي يمارسه أهل الكتاب، أيندرجان ضمن الموقف الديني أم أملتهما اعتبارات براغماتية؟
ونرى، كمحاولة للإجابة عن هذا السؤال، الذي لم يُجِبْ عنه نور الدين أفاية؛ أنّ هذا الانقلاب في الموقف، ثم ارتباط النص الديني، عموماً، بحيثيات تاريخية، شكّل ما يشبه بنيته التحتية، الذي يُسمّى، في العلوم الإسلامية المدونة، «أسباب النزول». إنّ الموقف الإسلامي من الآخر، كما نصّ عليه القرآن الكريم، كان ردّ فعلٍ لتقارب بين الطرفين، أو العكس، تنافر بسبب تعارض المصالح الاقتصادية والاجتماعية، أو تناقض الأطروحات الدينية.
ويرى الباحث أن المسلمين شكّلوا صورة نمطية عن طبيعة التديّن الكتابي؛ سواء اليهودي، أم النصراني، صورة تُختزل في رغبة هذا الآخر في الانحراف عن الدين الحقّ، واعتناق الآراء الباطلة المضلّة، ومن هُنا، يرى أن علاقة المسلم بالكتابي، مهما بدت طيّبة ومتودّدة، إلاّ أن الحذر يظل هو الشعور الأصيل تجاهه. يقول الباحث: «الحذر بقي حاضراً في العلاقات مع اليهود والنصارى طالما أنّهم رفضوا الالتحاق بالإسلام، واستمروا في سلوك سبيل الانحراف الذي نهاهم الإسلام عنه»[12]. وهكذا، يتضح أن المتخيل الإسلامي ينظر إلى أتباع الديانات الأخرى كمنحرفين عن الطريق القويم، عن سابق إصرار، وليس كاقتناع إيماني يضاهي، كذلك، اقتناع المسلم بديانته.
وفي المقابل، يرى المتخيل الإسلامي أنّ اللباس قد يكون هو الآخر مدخلاً لهذا التمايز، الذي يشبع الكبرياء الإسلامي، ويغذي تفوقه الوجودي على «الذمي»، فعلى الرغم من أنّ هذا المصطلح لا يحمل أيّة دلالة لغوية قدحية؛ إذ إنّ الذميّ هو الذي في ذمتنا؛ أي عهدنا، على أن السلوك الفعلي الواقعي، الذي نهل من المتخيل، قد انحرف، في كثير من الأحيان، عن هذا التعهد بحفظ الكرامة؛ فالذمي لابدّ من أن يُمنع من لبس لباس الشرف والعلو، كما ينقل نور الدين أفاية عن الفقيه الحنبلي ابن قيم الجوزية؛ إذ إنّ الوضعية، التي تليق بالذمي داخل المجتمع الإسلامي، هي وضعية الذلّة والمهانة. لكن، عموماً، يرى الباحث نور الدين أفاية، تبعاً لمن يسميهم «باحثين موضوعيين»، على الرغم من بعض الأحكام الفقهية المجحفة في حقّ الذميين، وعلى الرغم من بعض الفترات التاريخية التي عرفت اضطهاداً للآخر، أنّ «الاضطهاد إن كان قد وقع، فإنّه لم يكن سياسة مطردة حتى في حقبة معيّنة»[13].
وقد كان جدل القرآن الكريم مع باقي أتباع الديانات السماوية حافزاً مُحرّكاً لعلماء المسلمين لاستئناف الردّ على هؤلاء، وقد أُطلق على الذين تولوا مهمّة الردّ هذه اسم «المتكلّمون». ويُلاحظ أنّهم، في نظرتهم إلى الآخر، انطلقوا من عدة مسبقات وتمثّلات. فالإسلام، في نظرهم، حاز كلّ فضيلة للأديان السابقة، وفاقهم بمزايا أخرى، كما أنّ إقرار النبي بنبوّة الأنبياء السابقين يجعله على قمّة هذا الهرم، وهذا، كما يبدو، تمثل متخيّل؛ بل يرون أنّ «انتشار الإسلام، ودخول الناس فيه أفواجاً من جميع الألوان والأجناس، وغلبة الدولة التي أسّسها، وتقدُّم الحضارة التي أنشأها، والمنجزات الباهرة التي كان له الفضل فيها، كلّ ذلك دليل على صحة هذا الدين، وأحقيّته بالاتّباع»[14].
وقد سلك علماء المسلمين، في ردودهم على النصرانية، ثلاثة مسالك؛ الأول: مسلك تفسيري ينطلق من مسلّمة صحة إلهيّة المسيح، ثم يعارضه بنصوص أخرى تدلُّ على بشريته. المسلك الثاني تشكيكي، وهو يقوم على إبراز تعارض الأناجيل النصرانية، وتناقضها بعضها مع بعض. أمّا الثالث، فهو عقلاني، يستند في تفنيده للعقائد النصرانية، باعتبار التثليث، والصلب، والفداء، والتجسيد، عقائد غير معقولة.
غير أنه يمكن القول: إنّ تشكُّل الصور النمطية بشكل واضح حدث في خضم الصدام العنيف بين الإسلام والنصرانية، أو ما يُسمّى «الحروب الصليبية»، فقد شهد هذا العصر فوران المتخيّل، من أجل تعبئة الحشود للجهاد، أو لإعادة مملكة المسيح المسلوبة، وهذا ما يعترف به بعض المستشرقين. فمونتغمري واط يرى أنّ أوربا الوسيطة أفرزت ظاهرتين لا يمكن لأيّ باحث جادٍّ أن يتعامل معهما بلا مبالاة؛ تتمثل الأولى في «الصورة الشائهة تماماً، التي ولّدتها أوربا عن الإسلام، وتبرز الثانية: في التجذّر الهائل، الذي تمكّنت الإيديولوجيا الصليبية من ترسيخه في قلوب وعقول الأوربيين عن الذات وعن الآخر»[15]. إنّ الكنيسة، بقصد تحفيز أتباعها على محاربة المسلمين، واستعادة أماكنها المقدّسة؛ وظّفت خطاباً تخيّلياً مفرطاً في المبالغات، يصبو إلى شيطنة الآخر، وتقديمه في صورة الظلامي، الذي ينبغي محاربته لإشاعة الأنوار.
ويُعدّ يوحنا الدمشقي من أوائل من شنّ هجوماً إيديولوجياً يشبه ما نسمّيه، الآن، «دعاية» ضد الإسلام، فمن جهة، شوّه إيتيمولوجيا كلمة «المسلمين»، حيث وصفهم بالسرازانيّين، كما عدّ محمداً، بسبب دعوته التوحيدية، وإنكاره لألوهية المسيح، من أتباع «البدعة الآريانية»، وهي البدعة التي ترى أن «الكلمة والروح لا يعدوان كونهما مخلوقين لله، واقتبس من النسطورية ما يتعلّق بعدم تأليه الابن المتجسّد»[16]. أمّا السبب في هذا الغضب الرمزي، فهو راجع، بالأساس، إلى إرادة القوّة لدى المسلمين، واستحواذهم على أراضٍ كانت تخضع للسيطرة البيزنطية المسيحية.
نأتي، الآن، إلى الصفات المتخيلة، التي ألصقها المسيحيون بالإسلام ونبيه، في فترة الحروب الصليبية، حتى تخلق داخل الوجدان المسيحي شعوراً بالغضب والسخط تجاهه، ومن ثمّ شحذ هممهم لحمل السلاح، ومقاومة المدّ الإسلامي، واستعادة الأراضي المقدّسة، أو «مملكة المسيح» في الأرض.
أوّل هذه المتخيّلات وصمة الوثنية. يقول نور الدين أفاية: «أولى الصور تتمثّل في اعتبار الإسلام ديناً وثنياً، وأنّ نبوّة محمد مشكوك في صحتها وصدقيتها. فالقول إنّ محمداً أُرسل إلى الناس لتصحيح التحريف الذي طرأ على اليهودية والمسيحية، وإنّ كلّ ما هو جيد في الإنجيل يوجد في القرآن، قول باطل»[17]. هنا، تبدو المفارقة سافرة، حيث يتراءى، واضحاً، أنّ الغرب، في تمثّله للإسلام، استمدّ صورة نمطية غير صحيحة، فالدين الإسلامي قد يكون كلّ شيء إلا الوثنيّة، وذلك بسبب نزعته التوحيدية، التي تنفي كلّ الوسائط؛ بل إنّ أصل الخلاف بين الإسلام والمسيحية هو الفارق في تصوّرهما للتوحيد، من هنا، الأَوْلى بوصمه بالوثنية هو المسيحية، نظراً لتأليهها المسيح وأمّه. في المقابل، ينظر الإسلام إلى المسيح، والأنبياء، والملائكة، وجميع الكائنات، كمخلوقات إلهية لا تشارك الله في ألوهيته وربوبيّته. لكن ليست الحقيقة وحدها هي التي تؤثّر في الاجتماع البشري، فكما يقول أفاية: «الجمع بين الإسلام والوثنية يحرّك، في اللاوعي المسيحي الجمعي، الخوف من انتعاش جديد للوثنية، التي هدّدت المسيحية أكثر من مرّة»[18].
أمّا فيما يخصّ الصفة الثانية المتخيلة، التي عملت الكنيسة على تكريسها في الوجدان المسيحي؛ فهي عنف الدين الإسلامي، ووحشية أتباعه، وقد كانت الغاية منها حل مفارقة مُضنية، فلئن كان الجهاد، في المنظور الإسلامي، يُعدُّ ركناً أساسياً، وقاعدةً مهمّةً للدعوة والتبشير بَلْهَ الدفاع عن النفس، فإنّه، على العكس من ذلك، تُقدّم المسيحية، تبعاً لأقوال السيّد المسيح، ديانة المحبّة والسلم، التي ترفض خيار العنف وسفك الدماء، ذلك أنّه، كما يقول المسيح، الإنسان من غير هذه المملكة. وهكذا، فلتبرير تغيير استراتيجية المسيحية، وتدشين تاريخ آخر يتسم بالعنف، وخوض الحروب المقدّسة، عمل رجال الدين المسيحيّون على تقديم الإسلام في صورة الدين الذي لا يشبع من سفك الدماء، الولِع بخوض الحروب لنشر عقيدته؛ دين لا يعرف الرحمة، ويتسم بالوحشية، والفظاظة، والخشونة، وأتباعه شياطين قاسية لا رأفة فيهم. إنّ «التضخيم من صفة العنف لدى المسلم، ومن خاصية الحرب في الإسلام، عبّرا عن إرادة لتبرير العدوان، من خلال التحضير للهجوم المضادّ»[19].
نفهم من هذا، أنّ وصف الآخر بالعنف هو تمهيد لاستقطاب الأتباع، وإقناعهم بالخيار المسلّح، كما لو كان العنف ليس اختياراً طوعياً؛ بل هو إكراه قسري من أجل ردّ العدوان الوحشي للمسلمين، وحتى تُكسر شوكتهم، وتُستأصَل شأفة الوثنيين المتوحشين. لقد كانت الكنيسة في حاجة إلى تضخيم ارتباط الإسلام بالعنف، وتهويل الوشيجة، للتغطية على التحوّل المذهبي الكبير، الذي طرأ على الموقف المسيحي من الحرب؛ بل إنّ جان فلوري يتساءل ما إذا كان تأثير الإسلام قد أدّى دوراً تشجيعياً على هذا التطوّر المدهش الذي حصل للمسيحية.
وإذا كان الإسلام دين حرب، والمسيحية دعوة للسلم والمحبة، فإنّ الصفة المتخيلة الثالثة، تُمعن، كذلك، في إبراز هذا التضاد بين الإسلام والمسيحية، فهذا الدين الأخير يدعو إلى إسكات صوت الشهوة، والعزوف عن الزواج، وقمع الرغبات الجنسية، ويحرّض، في المقابل، على الرهبانية والزهد، ويشجّع النزعات الصوفية، التي تزدري هذا الوجود الدنيوي واعتباره مجرّد جسر نعبره من أجل الوصول إلى مملكة السماء الخالدة. وفي المقابل، إنّ الإسلام هو دين الشبقيّة، إنّه شهواني، ويدعو إلى الشهوانية والاستمتاع بالنساء؛ بل يستغرق في ذلك كلّ الاستغراق، والمسيحية وظّفت، في ذلك، بعض المعطيات المتعلّقة بحياة النبيّ محمّد، فبالإضافة «إلى الطبيعة الوثنية، وعن التكوين العنيف للعقيدة الإسلامية، انخرط الكتّاب المسيحيون، ورجال الكنيسة، في معمعة التجريح والانتقاص بكلّ الطرق والوسائل من النبيّ باعتباره رسولاً وإنساناً. لقد ادّعوا أنّ هذا الرجل الوثني، المرتبط بأكثر مصادر الإغراء واللذة، لجأ إلى حيل ساقطة للوصول إلى السلطة، مدّعياً الاتصال بمنابع الوحي، وحاملاً رسالة دينية جديدة تدعو إلى تصحيح الديانات السابقة، وإلى الجهاد والعنف»[20].
وبالإضافة إلى هذه التمثّلات، والتخيّلات، والصور النمطية، التي عملت المسيحية على نشرها، وإيجاد صدى واسع لها، نلحظ أنّ هناك صوراً نمطية أخرى ذكرها باحثون آخرون، منها: أنّ المسلمين كانوا يشكّلون نصف سكان المعمورة، وقد أثّر ذلك في المسيحيين، وحملهم على مراجعة مدى جدوى ونجاعة الحروب الصليبية، فقد شعر الكثيرون أنّ الحملات الصليبية لا تملك حظّاً في النجاح، وأنّه لا بدّ من تفكير جديد في وظيفتها واستراتيجيتها[21].
ومن التمثلات الطريفة، كذلك، التي عمل بعض رجال الدين المسيحيين على نشرها، لاسيّما في المرحلة التي عرفت تأثُّر النصارى بالثقافة العربية الإسلامية، وهوسهم بالتراث العربي واللغة العربية، قولهم إنّ انتشار هذه الثقافة الإسلامية مقدّمة ضرورية لظهور المسيح الدجّال[22]. هذا إن لم يروا في المسلمين أنفسهم «الدجال». وهكذا فقد عُدّ رجال الدين الإسلام والمسلمين مؤامرة كبرى سوداء ضد تعاليم المسيح[23].
وقد لاحظ الباحث ريتشارد سوذرن أنّ اطلاع الغربي المسيحي على الإسلام كان، في بدايته، شبه منعدم، حيث يقول: إنّه بحث عن اسم (محمّد) نبيّ الإسلام في الكتابات التي وصلت قبل سنة (1100) فلم يجده غير مرّة واحدة –استثنى، طبعاً، فرنسا وإيطاليا- غير أنّه بعد سنة (1200) حدث تحوّل ضخم، فلم يوجد غربي لم يسمع بمحمد، ويعرف شذرات من سيرته التي قُدّمت في صورة متخيّلة، حيث يقول سوذرن: «لقد كانت صورة محمّد واضحة، لكنها لم تكن صحيحة، ولن يدهشنا أن نلحظ مقاربتها للحقيقة في بعض تفاصيلها. أمّا الخطوط الرئيسة للصورة، فقد كانت نتاج مخيلة مغرقة في التوهُّم وتسويغ الذات»[24]. أمّا كيف حدث هذا التحوّل، فالباحث يُرجِع ذلك إلى الحروب الصليبية، فهذا الاحتكاك أسهم في معرفة أشلاء متناثرة عن هذا الآخر، غير أنّ الكهنة، الذين نقلوا بعض الصور المتخيّلة، كانوا بعيدين عن ساحة المعارك. من هنا، كان اطلاعهم غير كافٍ لتشكيل رؤية صحيحة وصادقة عن الإسلام، وكما يقول الباحث الغربي: «لقد كان هؤلاء يزوّدون المخيّلة الأوربية، أمام مواقد النار في الشتاء، بطرائف عن الشرق، والإسلام، والنبي»[25].
ويرى الباحث أنّ النصارى استقوا معارفهم القليلة عن الإسلام ونبيه من البيزنطيين. أمّا الصورة المتخيّلة، التي قُدّمت لهم عن نبيّ الإسلام، فهي أنّه رجل مسيحي مصاب بالصرع، وقد جاء من أجل نشر الحريّة الجنسية، وإشاعتها بين أتباعه، كما أنّ رجال الدين طالما تساءلوا عن سرّ الانتشار السريع للدين الإسلامي في أصقاع المعمورة، وهم يجيبون بجواب متخيّل، كذلك، فحواه أنّ محمداً كان ساحراً، سَحَرَ أتباعه، ثمّ خاض حروباً تمكّن، من خلالها، من القضاء على الكنيسة في أفريقيا والشرق، وقد احتال، في ذلك، وأغرى أتباعه بالحريّة الجنسية لاستجلاب المزيد والمزيد من المريدين. ويقول الباحث: إنّ ثمّة «تفاصيل أفظع عن سيرة النبيّ وشخصيته، لكن تدخل في باب الأدب الشعبي تماماً؛ من مثل الدور الذي أدّاه الثور الأبيض، الذي كان يحمل صحف الشريعة الجديدة بين قرنيه، ويساعده في إرهاب الناس. ومن مثل الحكايات عن ضريح النبي محمّد وتأرجحه بين السماء والأرض مغناطيسياً»[26].
ومما يدلُّ على أنّ هذه التصورات تُستقى من المتخيّل، أنّ أوائل من كتبوا عن سيرة النبي، أو عن الدين الإسلامي ككلّ، يعترفون باستمدادهم «مادتهم العلمية» من الرأي العام، الذي تشيعه الشائعات والأصداء حول الدين الإسلامي، ولم يكن اطلاعاً، عن كثب، على مؤلّفات المسلمين، ولهذا، كما يقول الباحث: «هذه الصورة المستمدّة عن الدين الإسلامي لم تستطع الصمود طويلاً؛ إذ سرعان ما تبيّن للاهوتيين المسيحيين أنّ الإسلام أكثر الديانات السماوية الثلاثة إصراراً على التوحيد، وعبادة الإله الواحد»[27].
هكذا، يمكن ملاحظة أنّ التخيّلات الغربية المسيحية تجاه الإسلام شهدت، أحياناً، ما يمكن تسميته إسقاط الذات على الآخر، فالمراتب الدينية، التي كانت معروفة في النظام الكنسي، أسقطت على الهرمية الدينية والسياسية في الإسلام، من هنا، نلحظ أن الغربيين يسمّون خليفة المسلمين بالأسقف. كتب أحد رجال الدين الغربيين يتحدّث عن أحد القوّاد في الحروب الصليبية، يقول: «وهو الآن على مبعدة عشرة أيام من بغداد مدينة السلام، ودار الخليفة، الذي يعتبره السارازانيون [ = المسلمون] أسقفهم الأعلى»[28].
وقد توقّف الباحث نور الدين أفاية عند تصور ابن خلدون للآخر، من خلال رؤيته، التي تتسم بقدر عالٍ من الواقعية، والحس التاريخي العميق؛ فبدايةً، يفرّق نور الدين أفاية بين التمايزات العرقية داخل الدائرة الإسلامية، وكما هو معروف في التحليل الخلدوني، فقد أسهم الآخر الفارسي والأعجمي في بناء الحضارة الإسلامية، ولاسيّما في تولّي المناصب السياسية، التي تتطلّب قدراً من الحنكة والإرث الحضاري، الذي يفتقده العربي كما هو معلوم، فضلاً عن الجانب المعرفي، فابن خلدون يلحظ أنّ حظ العربي من المعرفة كان هزيلاً للغاية وضعيفاً، وأنّ الأعراق الأخرى هي التي حملت العلم الإسلامي؛ بل، كذلك، علوم الآلة اللغوية. ويفسّر ابن خلدون الإلمام القليل للعربي بالمعرفة إلى عنايتهم الفائقة، وتوقهم إلى نيل المناصب السياسية، فقد احتدم التنافس بين العرب حول السلطة، ما كان سبباً لإعراضهم عن حقول المعرفة.
أما بالنسبة إلى الاختلاف بين الأنا والآخر في المنظومة الدينية، فيستشفّ ابن خلدون ملاحظة مهمّة، ففي المنظومة الإسلامية يتداخل؛ بل يتماهى الدين والسياسة، فالحاكم هو نفسه الذي يتولى القيام بالمهام الدينية، بينما في الديانات الأخرى ثمّة فصل ماهوي بين الدين والسياسة، فرجل الدين لا يتدخّل في المعمعة السياسية، وفي المقابل، يتداخل الديني والسياسي في الإسلام؛ ولهذا، كما يلحظ ابن خلدون دائماً، كانت فكرة الجهاد المقدّس إسلامية أصيلة، فهي تعبّر عن هذا التقاطع الديني والسياسي، حيث تبرز الأغراض الدينية والسياسية ملتحمة لا يمكن إحداث فاصل بينهما؛ إذ بقدر ما يسعى الجهاد إلى نشر الدعوة الإسلامية، فإنّه يتوسل سبلاً دنيوية؛ بل يرافق ذلك استحواذ على أرض هذا الآخر، بينما تغيب فكرة الجهاد، كما يرى ابن خلدون، في الأديان الأخرى؛ بل إنّ اليهود متقوقعون على ديانتهم، ويمنعون الآخرين من اعتناق ديانتهم، يقول نور الدين أفاية «الأمر واضح في ذهن ابن خلدون، فالإسلام يختلف عن باقي الملل الدينية الأخرى، في كونه خلافة وملكاً، ويتخذ من الجهاد قاعدة مؤسسة لوجوده، لنشر تعاليمه بالترغيب، أو بالعنف، إذا اقتضى الحال؛ لأنه مُكلّف بالتغلب على الأمم. أمّا ما سوى الملّة الإسلامية، فالجهاد، عندهم، يكتسب مشروعيته للمدافعة فحسب؛ لأنّهم مطالبون بإقامة دينهم في خاصتهم»[29]. والمقصود بالمدافعة، ما نسميه، في عصرنا، «الدفاع عن النفس»، ويبدو أن الفكر الإسلامي الفقهي المعاصر قد استعار هذه التقسيمات، فتحدّث عن «جهاد الطلب»، و«جهاد الدفع»، ويرى أن ما تبقى من النوعين، في عصرنا، هذا الجهاد الأخير؛ أي الدفع، ذلك أنّ تطور الوسائل التقنية والتكنولوجية تسمح بالوصول إلى عقول الناس، ونشر الدعوة من غير ما حاجة إلى غزوات وفتوحات.
وعموماً، فإنّ الباحثين العرب المعاصرين يسجلون ضعفاً في تكوين ابن خلدون في معرفة الديانات السماوية الأخرى، فهو ليس في مستوى مؤرّخ أديان، مثل ابن حزم، وهكذا يرى هؤلاء الباحثون -ومنهم نور الدين أفاية- أنّ هذا الخصاص المعرفي سيتمّ عضده بالمخيّال، إنّ الثقافة التاريخية الواقعية لابن خلدون ستتراجع، إزاء الأديان السماوية، ليحلّ مكانها المخيال، يقول نور الدين «لم ينظر ابن خلدون إلى هاتين الديانتين التوحيديتين من منظار المؤرّخ، حتى ولو اجتهد لكي يكون كذلك، وإنّما غلب عليه وجدان الفقيه المالكي، وتحكّمت في لغته الثقافة العميقة، التي اختزنتها ذاكرته، وأعاد عقله صياغتها في شكل حديث يتظاهر بالبرودة والموضوعية، ولكنّه يتستّر على عناصر لاوعي جمعي إزاء الاختلاف الديني»[30].
في الختام، يمكن أن نستشفّ أنّ الالتجاء إلى المخيال لينوب عن الفعالية العقلية المؤسّسة على الاستدلال والاستقراء الموضوعي، بقدر ما تكون اختيارية، فهي، كذلك، اضطرارية تفرضها ملابسات وتحديات مختلفة، إنّ الشغف المعرفي حين لا يجد مناهل يستمدُّ منه مادته العلمية، يلتجئ إلى ما تتوافق عليه الإرادة العامّة حول موضوع معيّن، فيستعيض بهذه عن تلك، وهذا ما نجده عند ابن خلدون في تعامله مع الحضارة الغربية، فقد كان هذا المفكّر والمؤرّخ مسكوناً بالهاجس المعرفي، إلا أنّ مصادره لم تكن تسمح له بتكوين رؤية شمولية حول الموضوع، وحينها سكت صوت الفكر الخلدوني الواقعي، ونطق وجدان ابن خلدون، الذي يتحدّد لا شعوره بمرجعيته الفقهية المالكية، المرجعية التي يسكنها فصل ماهوي حَدّي بين الأنا والآخر، وتَعُدّ الاختلاف الديني حقيقة لها تداعيات على المستوى السيكولوجي، يجب أن يستحضرها في تعامله مع الآخر. يتضح هذا حين زار ابن خلدون كنيسة، كان موقفه تقليدياً متصلّباً وإقصائيّاً، حيث يقول: «ووصلت إلى القدس، ودخلت المسجد، وتبرّكت بزيارته والصلاة فيه، وتعفّفت عن الدخول إلى القمامة، لما فيها من الإشادة بتكذيب القرآن؛ إذ هو بناء الأمم النصرانية على مكان الصليب، بزعمهم، فنكرته نفسي، ونكرت الدخول إليه»[31].
وبالمثل، يكون الالتجاء إلى المتخيّل ضرورةً حين يشكّل الآخر تهديداً، ليس للهوية فحسب، بل للأنا كوجود موضوعي، كوطن، وتراب، وذاكرة، وتاريخ، وهذا ما نلمسه، جيداً، في التمثُّل الغربي للإسلام في الحروب الصليبية، وما رافقها من «حرب باردة» على مستوى الدعاية والإيديولوجيا، لقد استدعت الكنيسة صوراً نمطيةً مزيفةً، وغير صحيحة عن الإسلام؛ لأنّ همّها لم يكن استجلاء الحقيقة؛ بل إخفاءها تماماً، الإخفاء المتجسّد في شيطنة الآخر الإسلامي، الذي احتلّ الأرض وقدّم فكره بديلاً للعقيدة المسيحية، وهكذا، من أجل شحذ الهمم، واستنهاض العزائم، وتعبئة الحشود لحمل السلاح، تطلّب الأمر بناء برزخ متخيّل يحول بين «الأنا» وحقيقة الآخر. إنّ المتخيل، هنا، يؤدي دور التعمية والأدلجة، في الوقت الذي يُقدَّم للأتباع كمعرفة حقيقية، إنّه يسعى لزرع الخوف في المريدين، واستشعار عمق المسؤولية، حتى تتهيج المشاعر، وتشرئبّ الأعناق لملاقاة العدو، الملاقاة التي لن تسفر إلا عن نتيجة إيجابية، وتجلّي أفق السعادة هنا أو هناك؛ هنا في حالة إجلاء العدو «الوثني»، و«الشبقي»، و«المتوحّش»، واستعادة مملكة المسيح، مملكة الحب والسلام، أو هناك، إن لفظ أنفاسه في ساحة المعركة، حينها يُعانق السعادة الأخروية الأبدية، ويحوز رضا الله والمسيح، باعتباره جندياً صالحاً وشهيداً قدّم أغلى ما لديه لصالح الدين والأرض، لنشر النور في الآفاق، وخنق الظلام ومحاصرته..
ومن هنا، أهمّية دراسة ما يثوي خلف هذه المتخيلات من حقائق، فهي على الرغم من كونها غير صحيحة، إلا أنّها تؤدّي وظيفة معينة، قد تكون معرفية، أو اجتماعية، أو سيكولوجية، إنّ هذه المتخيّلات، مهما بلغ منسوبها من السخف، والتفاهة، والشعبوية، ليست عبثاً خالياً من أيّة حمولة دلالية؛ بل هي، على العكس من ذلك، توظّف من أجل غاية معينة، إمّا أن تكون مصاحبة للخطاب، وإما منفصلة عنه. وفي الحالتين، معاً، تبدو الحاجة ملحّة لتسليط الأضواء على هذا الفرع المعرفي المهمّش، والحفر في البنى السفلى، التي تخفيها قشرة المتخيلات. إنّ دراسة المتخيل يطمح إلى استدراج المعقول من اللامعقول، وهذا المعقول، في الغالب، إمّا أن يكون همّاً دينياً، أو حلماً سياسياً توسّعيّاً، أو قد يكون رغبةً شخصيةً انفراديةً في خلق هالة من القداسة، والإشعاع المتميّز حول الذات.
[1] أركون، محمد، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط1، 1987م، ص 187
[2] Durand Gilbert, Les structures anthropologiques de l’imaginaire. Paris. Dunod. 1992. P15.
[3] الجابري، عابد، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009م، ص 7
[4] التعريف بالفرنسية:
«L’imaginaire c’est à dire l’ensemble des images et des relations des images qui constituent le capital pensé de l’Homo-Sapiens».
Durand, Les structures anthropologiques de l’imaginaire. P 16.
[5] انظر: مصطفى، عادل، فهم الفهم: مدخل إلى الهيرمنيوطيقا (نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادامر)، دار رؤيا، القاهرة، 2007م، ص ص 78- 79
[6] أفاية، نور الدين، الغرب المتخيل: صور الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2000م، ص 101
[7] المرجع نفسه، ص 51
[8] المرجع نفسه، ص 52
[9] المرجع نفسه، ص ص 55- 56
[10] المرجع نفسه، ص 61
[11] المرجع نفسه، ص 64
[12] المرجع نفسه، ص 93
[13] المرجع نفسه، ص 96
[14] المرجع نفسه، ص 108
[15] المرجع نفسه، ص 127
[16] المرجع نفسه، ص 130
[17] المرجع نفسه، ص 134
[18] المرجع نفسه، ص 135
[19] المرجع نفسه، ص 136
[20] المرجع نفسه، ص 138
[21] سوذرن، ريتشارد، صورة الإسلام: صورة الإسلام في أوربا في القرون الوسطى، ترجمة رضوان السيد، المدار الإسلامي، بيروت، 2006م، ص 85
[22] المرجع نفسه، ص 59
[23] المرجع نفسه، ص 62
[24] المرجع نفسه، ص 65
[25] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[26] المرجع نفسه، ص 67
[27] المرجع نفسه، ص 69
[28] المرجع نفسه، ص 89
[29] أفاية، نور الدين، الغرب المتخيّل، ص 271
[30] المرجع نفسه، ص 282
[31] المرجع نفسه، ص 283