الأوهام العشرة للتطرفات الدينية
فئة : قراءات في كتب
الأوهام العشرة للتطرفات الدينية
برنامج أويد، منشورات أويد، 2008، 40 ص.
قد تبدو الدراسة التي بين أيدينا، قديمة نسبيًّا بمقياس تاريخ صدورها، لكنها لا تبدو كذلك بالمرة من زاوية راهنية الطرح الذي تقدمه وتدفع به. إذ التطرف المنبني على الدين أو المستوحى منه، أو المنطلق منه، قد بات السمة المميزة للعشريتين الإثنتين الأخيرتين من هذا القرن.
ولذلك، فإنّ هذه الدراسة لا تتطلع إلى البحث في جذور التطرفات الدينية أو طبيعتها أو سلوك القائمين عليها، بقدر ما تحاول أن تقف عند ما تسميه الأوهام الكبرى لهذه التطرفات، في طبيعتها وتطلعاتها وطموحاتها، وأيضًا في أهدافها الخفية والمضمرة، كما في الأهداف البائنة والجلية. هذه الأوهام هي، حسب الدراسة، من عشرة أصناف، أو لنقل من عشرة مشارب متباينة، لا بل ومتناقضة في بعض منها قياسًا إلى بعضها الآخر:
+ الوهم الأول: التطرفات الدينية مرتبطة بأسس الدين.
هذا الوهم يعطي لهذه التطرفات صورة وانطباعًا واهيًا مفاده أنّها حقًّا وحقيقة، قوة اجتماعية شرعية، مكانها المفترض هو فوق السياسة وفوق السلطة. بالتالي، فإنّ الأتباع "الخيرين" لأي دين إنّما يتقاسمون الرأي نفسه، وّإن من ينازعهم هذا الرأي لا يعتبر "مؤمنًا حقيقيًّا" بنظر ذات الأتباع.
إنّ هذه التطرفات تدعي تمثيل الإله، ومن ثمة فهي "مطالبة" (أو هكذا تدعي) بفرض معتقداتها و"حقائقها" على الآخرين، عن طريق الهيمنة السياسية والاجتماعية على الفضاءات كما على السياسات العمومية، ومن ثمة العمل على إقصاء كل من يتطلع لإبداء الرأي المغاير أو التعبير عنه بهذا الشكل أو ذاك.
+ الوهم الثاني: التطرفات الدينية لا تخرج كثيرًا عن كونها مسألة سياسية بالمحصلة النهائية.
التطرفات الدينية، بخصوص هذه النقطة، لا تعير أهمية كبرى للسياسة أو للفعل السياسي المباشر، أو لمسألة الوصول إلى السلطة أو إلى هرمية الحكم حتى. إنّ هدفها أكبر من ذلك بكثير، لأنّها تراهن على مراقبة المجتمع أولًا، قبل التفكير في أي تحرك آخر. ولذلك، نراها بكل الديانات، تقول الدراسة، تراهن على الشباب وعلى أنظمة التربية والتعليم، لأنّ هذه المستويات ستجعلها تؤثر في بنية المجتمع وبنيانه، من خارج دواليب الدولة والسلطة ودون أن تتحمل المسؤولية في ذلك، أو تحسب عليها إخفاقات الدولة في تدبير هذا المجال.
من هنا، يأتي تركيز التطرفات الدينية على تقديم الخدمات للجماهير (بمقابل زهيد وبدون مقابل في الغالب الأعم)، لأنّ ذلك يمنحها الدعم والشرعية السياسية بطريقة غير مباشرة، ويساعدها في الآن ذاته، على الترويج لرؤية المجتمع وشكله الذي تنشده أو تطمح لإقامته، حتى وإن تطلب ذلك من لدنها كثيرًا من الصبر والمكابدة والجلد.
+ الوهم الثالث: التطرفات الدينية هي قوى سياسية لا تختلف عن باقي القوى السياسية الحاضرة على الساحة.
ولما كان الأمر كذلك، فإنّ هذه التطرفات تطالب (والحالة هذه)، باسم التعددية السياسية والتنوع الاجتماعي، بحقها في أن تعامل كأيّ قوة سياسية أو اجتماعية أخرى، وألا تخضع للتمييز أو لمصادرة الحق في الوجود والحضور على أساس من هذه الخلفية أو تلك، من هذه النظرة المسبقة أو تلك.
بيد أنّ القائم، حسب الدراسة، أنّ هذه التطرفات إنّما تعمد إلى توظيف الديموقراطية والركوب على ناصيتها والتستر خلفها، فإذا كان تصورها للتعددية يمكنها من المساهمة السياسية، فإنّها تعمد بمجرد التمكن من الحق ذاته، من الانقلاب على المسار، والدفع بألا يكون للآخرين مساهمة تذكر، ومن ثمة من وجود وحضور بالساحة العامة حتى.
+ الوهم الرابع: التطرفات الدينية تطرفات متخلفة ومتأخرة.
التطرفات الدينية، حسب الدراسة، تعمل على نطاق كوني، تعتمد وتوظف الخطاب والسياسات النيوليبيرالية وتلجأ للتكنولوجيا المعبرة عن الحداثة. بالتالي، فعلى الرغم من كونها تبقى متشبثة بالأصالة "النقية" وبالطهرانية، فإنّها لا تتوانى عن الاعتراف (وإن ظاهريًّا) بأنّها جزء من العالم الحديث ومن الحداثة، حتى وإن تشبثت في قرارة نفسها بـ"التاريخ المجيد والمشرق" الذي كان عليه تراثها.
ومع ذلك، فإنّ الدراسة لا تتلكأ في القول بأنّ هذا التذبذب في الموقف لا ينفي عن هذه التطرفات صفة الرجعية والتأخر، كونها تأخذ بالمظهر ولا تؤمن أصلاً بالجوهر. لا بل، تتابع الدراسة، ولا ينفي عنها مناهضة الحداثة عندما تبدو لها مهددة لمرجعياتها، أو متحاملة على "القيم" التي تريد الترويج لها.
+ الوهم الخامس: التطرفات الدينية لا توجد إلا في بعض الديانات وبعض الجهات.
تقول الدراسة في هذا الباب: اليوم "وفي مناخ الحرب على الإرهاب، فإنّنا نزعم بأنّ التطرف الديني هو التطرف الإسلامي. والنتيجة أنّنا نشيطن ديانة محددة، ونوسع زاوية النظر لنعتبر أنّ كل المومنين بهذه الديانة هم متطرفون". إنّه من الخطأ حقًّا، وفق الدراسة، الاعتقاد بأنّ التطرف يطال هذه الديانة دون تلك، ومن الخطأ أيضًا الادعاء بأنّ ثمة دينًا لا يطاله التطرف.
بهذه الجزئية، يبدو أنّ الاعتقاد بـ"احتكار" هذه الديانة دون تلك، للتطرف، هو أمر تنقصه الدقة، إذ بكل ديانة منسوب ما من التطرف، قد يتمظهر بالمجال العام وقد لا يتمظهر.
+ الوهم السادس: التطرفات الدينية تريد سياسة شفافة وعفيفة.
هذا الوهم يشي بأنّ هذه التطرفات إنّما تتطلع للتميز عن باقي القوى الاجتماعية والسياسية. إنّه تصور تبني عليه هذه التطرفات شرعية جديدة، على النقيض من الشرعيات القائمة، والتي لا تسلك في سياستها مسلكًا شفافًا أو عفيفًا (بمنطوقها هي).
تقول الدراسة بخصوص هذه الجزئية: إنّ التطرفات الدينية "تتذرع بقلقها على ضمائرنا وأرواحنا ونسيجنا الاجتماعي. إنّها تدعي الاستقامة والنزاهة. ولذلك، فهي عندما تمارس السياسة، فإنّما تمارسها بترفع وبتجنب لكل محاباة".
وعلى هذا الأساس، يكون من الهين على هذه التطرفات أن تصوغ عالمًا ملؤه التقاطبات والثنائيات، دونما ترك أثر للمناطق الرمادية الوسيطة: الخير والشر، المؤمن والملحد، المستقيم والمنحرف...إلخ. بالتالي، وبناءً عليه، فإنّ كل معارضيها إنّما يدخلون في خانة التصنيف السلبي والقبيح.
+ الوهم السابع: التطرفات الدينية تدافع عن الفقراء والمحرومين.
إنّ التطرفات الدينية تدعي بذلك وقوفها في وجه الرأسمالية وفي وجه عتاة العولمة، وتدعو فضلاً عن ذلك، إلى الدفاع عن العدالة الاجتماعية. ولذلك، فإنّ الذين يترشحون ضمنها في الانتخابات، إنّما يرفعون لواء الاحتكام إلى مبادئ الدين لأنّه، في الاعتقاد الشعبي على الأقل، هو نموذج العدالة والمساواة.
تقول الدراسة بهذا الخصوص: "في عالم اليوم، حيث المؤسسات العمومية لم تعد تساعد المجموعات المحرومة، وحيث الفجوة تتعمق بين الأغنياء والفقراء على المستوى الوطني كما الدولي، فإنّ رفع راية العدالة يعتبر أقوى وسيلة لدفع الناس إلى تبني قضية المتطرفين".
صحيح أنّ الذي يقدمه المتطرفون للشرائح الاجتماعية المحرومة لا يمكنها من العيش الكريم، لكنه يمنحها على الأقل إمكانية إشباع الحاجيات الدنيا من موارد وخدمات. وصحيح أنّهم لا يخلقون شروط التنمية أو يواجهون جذور الفقر، لكنهم يضمنون مع ذلك لهذه الشرائح بعضًا من وسائل الحماية ضد الجوع أو البرد أو التشرد.
+ الوهم الثامن: التطرفات الدينية تمجد الحياة والعائلة.
إنّها تدعي بذلك أنّ إيديولوجيتها "طبيعية" ومرتكزة على الإيمان. وهو غير حال "الذين يواجهون أو يعارضون التطرفات الدينية".
وعلى هذا الأساس، فإنّ هذه التطرفات إنّما تدفع بنموذج تكون العائلة قوامه والأبوية شكله والرجل محوره. بالآن ذاته، فإنّها لا تتوانى في الدفاع عن توزيع للعمل تراتبي ومبني على أساس الجنس، يحافظ لكل طرف على "دوره الطبيعي"، الذي من خاصياته الكبرى عدم الأخذ بمبدأ المساواة أو الندية بين الجنسين.
+ الوهم التاسع: التطرفات الدينية "تدافع عن تقاليدنا وهوياتنا الأصلية".
على هذه الخلفية، نرى أنّ هذه التطرفات تنفق الكثير من الجهد ومن المال، بغرض إبراز أنّها هي الممثل "الحقيقي" للإسلام أو للمسيحية أو لليهودية أو لما سواها.
بالآن معًا، فإنّ التطرفات الدينية غالبًا ما تدعي أنّها الجهة الحامية الحقيقية للثقافة المحلية. بالتالي، فإنّ اعتماد هذا المبدأ يمنحها "شرعية" معينة، شرعية الوقوف في وجه هيمنة الآخر، ديانات ومعتقدات وثقافات، وفي وجه "أبناء الوطن" أيضًا إن هم لم يسلموا بهذا الطرح، أو يمتثلوا لتوجهاته.
المفارقة هنا، برأي أصحاب الدراسة، تكمن في قدرة التطرفات الدينية على تأكيد أنّ تصورها هو تصور كوني التوجه، عالمي المنحى، لكنها تعلن تشبثها في الوقت نفسه، بـ"التقاليد الثقافية المحلية الأصلية".
هناك إذن ما يشبه "الاحتكار" للتفسير وللتأويل، وهذا ما يمنح هذه التطرفات قوة سياسية واجتماعية كبرى، أي أنّ مناهضيها لا يستطيعون الإتيان بذات الرؤية، وجعلها هي "القاعدة" التي تدير مفاصل الفضاء العمومي العام.
+ الوهم العاشر: التطرفات الدينية "قوى لا تقهر".
بهذه النقطة، تلاحظ الدراسة أنّ هذه التطرفات قد نجحت في "إثارة انتباه الحكومات الوطنية والدولية، وكذا باقي الفاعلين السياسيين، بذريعة أنّها تكون حقًّا وحقيقة قوة اجتماعية وسياسية مهمة". وهذا ما يعطيها القدرة على أن تكون فاعلاً في السياسات العمومية، ويمنحها فرص الحصول على التمويلات من هنا ومن هناك.
إلاّ أنّ الدراسة تعتبر أنّ التضخيم من حجم التطرفات الدينية قد يفضي إلى منحها سلطًا وقدرات أكثر مما تستحق أو مما هي عليه.
لذلك، فإنّها ترى أنّ "تقييمًا متوازنًا لنقط قوة وضعف التطرفات الدينية، والاعتراف بالسياق العام الذي تفعل فيه القوى الاجتماعية والسياسية، سيكون من شأنه تطوير استراتيجيات قمينة بمواجهة هذه التطرفات".
بناءً على كل هذه الأوهام، تخلص الدراسة إلى استنتاجين أساسيين اثنين تنصح بأخذهما في الحسبان لدى أيّ معالجة لظاهرة التطرفات الدينية:
°°- الاستنتاج الأول ومفاده أنّ "الأوهام التي تأسست لدينا بخصوص التطرفات الدينية، كما الأوهام التي تريد التطرفات الدينية تجذيرها في نفوسنا، تتقاطع في الغالب وأكثر مما قد نظن ونزعم".
°°- الاستنتاج الثاني ومؤداه أنّ تعرية هذه الأوهام غالبًا ما يتم بطرق شبيهة، بصرف النظر عن الديانات والجهات. إنّها إيديولوجيات لا أقل ولا أكثر. وككل الإيديولوجيات، فإنّها لا بد وأنّها تسقط في مطبات مبالغاتها وتجاوزاتها وتفسيراتها المختزلة.