الإبراهيميُّون والعدم أو الكلمة وبشارة اللّاوجود (الجزء الثاني)
فئة : مقالات
كما في سرديَّات المصريين والبابليين كانت سرديَّة الماء قد لعبت أيضاً في نصوص العهد القديم دوراً أساسيّاً في بلورة فكرة خلق العالم. لكنَّ شيئاً جديداً قد أتى به سفر التكوين الإبراهيمي: فهو "قد أعطى أولويَّة للمكر الإلهي على القوّة التكوينيَّة للمياه".[1] إنَّ التوراة العبرانيَّة، لئن كانت تثبت القدرة اللّامتناهية للإله الخالق، فقد كانت صامتة حول المعنى الدقيق لخلق العالم: كان فعل الخلق أهمّ من المادّة التي خُلق منها العالم. وبعد الترجمة السبعينيَّة التي أنطقت التوراة العبرانيَّة باللسان اليوناني حوالي سنة 270 قبل الميلاد، ظهر يهود مُهَلْيَنُون (hellenized Jews) مستعدّون للقبول بالتعاليم اليونانيَّة عن مفهوم المادّة ودوره الأساسي في أيّ تخريج لفكرة الخلق.[2] ففي سفر الحكمة المعروف بعنوان "حكمة سليمان"، (وهو سفر يخمّن المؤرّخون أنَّ تاريخ كتابته يعود إلى عهد كاليغولا 37-41 بعد الميلاد)[3]، جاء ما يلي:
"ولم يكن صعباً على يدك القادرة على كلّ شيء، التي صنعت العالم من مادّة غير مصوّرة (ἐξ ἀμόρφου ὕλης)، أن تبعث عليهم جمّاً من الأدباب أو الأسود الباسلة". (11: 17)
هذا الموقف القابل لمذهب اليونانيين في الخلق من مادّة غير مصوّرة أو غير مشكّلة قد كان سائداً حتى القرن الثاني بعد الميلاد ونجده مستقرّاً لدى كتّاب وفلاسفة يهود آخرين، كما هو الحال خاصَّة لدى فيلون اليهودي، الذي انتهت مسيرته على الأغلب حوالي سنة 40 ميلادي، والذي فكّر في مفردات أفلاطون عن مقولة "الوعاء" الذي يحوي الموجود، إلّا أنَّه كان يفهم معنى "المادّة" فهماً رواقيّاً بوصفها "مبدأ منفعلاً" مقابل العقل بما هو "مبدأ فعّال".[4]
بيد أنَّه في النصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد[5]، وعلى نحو لا يجد أصلاً حقيقيّاً له لا في العهد القديم ولا في التأويل اليهودي له، ودون أيّ مرتكز يشهد له في نصوص العهد الجديد، ظهرت فجأة أطروحة الخلق من عدم باعتبارها موقفاً يمكن تبنّيه لاهوتيّاً والدفاع عنه. إنَّه موقف قد اتّخذه لاهوتيّون مدافعون عن المسيحيَّة (apologists) في أواخر القرن الثاني من قبيل تاتيان السوري (Tatian، ت. 173 م) وثاوفيلوس الأنطاكي (Theophilus، ت. 185 م)، ثمَّ طوَّره جيل لاحق من اللّاهوتيين مثل إرينايوس (Irenaeus، ت. 202 م) وترتوليان الآتي من قرطاج الرومانيَّة والذي عُدّ أبا المسيحيَّة اللّاتينيَّة (Tertullian، ت.240 م) وأوريجانون (Origen، ت. 254 م).[6]
هذا الجيل من الكتَّاب المسيحيين الأوائل هو الذي رسم وطوَّر أطروحة الخلق من عدم، التي أعطت للمعنى الإبراهيمي لفكرة الخلق وخاصَّة لمفهوم الإله الخالق كلَّ هالتها.
سرديَّة العدم الإبراهيمي 2: أطروحة "الخلق من عدم" (Creatio ex Nihilo) المسيحيَّة
لا ينبغي التعامل مع أطروحة الخلق من عدم وكأنّها مواصلة تأويليَّة لسفر التكوين العبراني بشكل يعبر العهد الجديد المسيحي إلى حدّ القرآن المحمّدي. بل علينا أن نقرأها بوصفها تجديداً فظيعاً في التقليد الإبراهيمي. وعلينا أن نؤرّخ لها بشكل مناسب، وذلك لما تنطوي عليه من دور استراتيجي مهيب في بلورة معنى الاستخلاف وعلاقتنا بسرديَّة الموت في تراثنا العميق، نعني ادّعاء الإنسان الديني أنَّه يستطيع أن يمارس نوعاً من التعالي اللّاهوتي على موته وعلى غيره من البشر بقوّة استثنائيَّة يقتبسها من إيمانه بالإله الشخصي للإبراهيميين، ذاك الذي يستمدّ ماهيته من القدرة غير المتناهية على الخلق من عدم. وعلينا أن نسأل: ما الحاجة الروحيَّة أو الفكريَّة التي دعت المسيحيين الأوائل، وبالتحديد في النصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد، إلى افتراع فكرة الخلق من عدم؟ يقول أحد الباحثين بهذا الصدد: "Creatio ex nihilo يمكن أن تُفسَّر كأفضل ما يكون باعتبارها دفاعاً عن الجزء الأكثر جدلاً من البشارة (kerygma) المسيحيَّة، نعني البعث من الموت".[7]
إنَّ أوَّل مشكل تثيره فكرة البعث المسيحي هو تعارضها المطلق مع مفهوم الموت كما حدّه الفلاسفة اليونان: لا يمكن لمادّة هي وعاء للكون والفساد أن تصبح مقرّاً لإيواء كائن إلهيّ. ومن ثمَّ فإنَّ الحلَّ هو إمَّا التنازل للعقل اليوناني والقبول بأنَّ البعث لم يكن جسديّاً، كما فعل بعض الغنوصيين، وإمَّا تغيير ماهيَّة العقل البشري والبحث عنه في مكان آخر، بحيث يمكن أن يقبل بأنَّ البعث قد كان بعث الجسد وليس فقط بعث الروح. وهو ما فعله تاتيان وثاوفيلوس اللذان حوَّلا أطروحة الخلق من عدم إلى سلاح لإثبات معنى البعث بعد الموت ومهاجمة القول اليوناني بالخلق من مادة غير مصوّرة.[8] ولكن خاصَّة من أجل الدفاع عن فكرة إله خالق يذهب في الحرّيَّة إلى أبعد ممَّا تسمح به مقولة السببيَّة في الفلسفة اليونانيَّة.[9] وذلك مع الإقرار بأنَّ الكتاب المقدَّس برمّته لا يتطلّب أطروحة الخلق من عدم[10]، وأنَّ العهد الجديد لا يقرّر إلّا أنَّ الخلق يدين بنفسه إلى "الكلمة" (λόγος) وهو خاضع لها وحدها.[11]
ويبدو لمؤرّخي الأديان أنَّ تاتيان السوري هو أوَّل من قال إنَّ المادّة نفسها مخلوقة من طرف الله. وهو قول سوف يتحوَّل إلى عقيدة حول الكتاب المقدَّس بقدر ما سينجح المسيحيّون في بلورة تفكير خاص بهم في مساجلات مطّردة مع المذاهب الفلسفيَّة المعاصرة لهم.[12] لكنَّ المسيحيين ربَّما لم يأتوا إلى فرضيَّة الخلق من عدم إلّا لتفسير مفارقة الإله الذي له جسد، ولاسيَّما مسألة البعث من بين الأموات.[13] هذا يعني أنَّ نصوص العهد الجديد تخلو هي الأخرى من أطروحة الخلق من عدم وأنَّها تالية عليها، بل هي قد ظلّت في بعض جوانبها حبيسة التقاليد الشرقيَّة في تفسير الخلق بواسطة سرديَّة المياه[14]، كما نقرأ ذلك في رسالة بطرس الثانية:
"إنَّهم يتناسون، عمداً، أنَّه بكلمةِ أمرٍ من الله وُجدت السماوات منذ القديم وتكوّنت الأرض من الماء وبالماء. وبكلمة منه أيضاً، دُمِّر العالم الذي كان موجوداً في ذلك الزمان، إذْ فاض الماء عليه". (3: 5)
كلّ حديث عن أطروحة الخلق من عدم في نصوص العهد الجديد هي تخريجات واستنباطات، ولكن لا نعثر على قول فصل يقطع مع تقاليد سفر التكوين.[15] وأوَّل استنباط هو فهم كلمة "كنْ" (Γενηθήτω φῶς، Fiat lux، ليكنْ نور)، أي التكوين بواسطة الكلمة، على أنَّها تعني الخلق من عدم. وأفضل مثال على ذلك من أعمال المعاصرين هو تأويل رودولف بولتمان الذي قرأ العبارة في إنجيل يوحنا (1: 1-3؛ وكذلك 17: 24) على أنَّها تعني الخلق من عدم. وفي المقطع الأوَّل لا نقرأ سوى هذه الجملة: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله. وكان الكلمة هو الله. هو كان في البدء عند الله. به تكوّن كلّ شيء، وبغيره لم يتكوّن أيّ شيء ممّا تكوّن". وهذا التأويل هو حسب أحد الباحثين مجرَّد إسقاط أنثروبولوجي.[16]
وهو معنى قد تمَّت محاولة استنباطه أيضاً من الرسالة إلى العبرانيين: "وعن طريق الإيمان، ندرك أنَّ العالم كلّه قد خرج إلى الوجود بكلمةِ أمرٍ من الله. إنَّ عالمنا المنظور قد تكوَّن من أمور غير منظورة" (11: 3). لكنَّ الخلق انطلاقاً ممَّا هو "غير منظور" أو "غير ظاهر" هو مصطلح مريح بالنسبة إلى تقليد أفلاطوني أو رواقي، لأنَّه يشير إلى مادّة بلا صفات.[17] نحن ما نزال أمام نصوص تقبل فكرة الخلق من مادّة وليس من عدم.
أمَّا الإطار الأنطولوجي الخفيّ الذي يحكم أطروحة "الخلق من مادّة" (creatio ex materia) فهو ما يزال بلا ريب مفهوم "اللّاموجود" كما ضبطه اليونان في قصيدة برمنيدس. وهذا ساطع على سبيل المثال في رسائل بولس، كما نرى ذلك في الرسالة إلى أهل رومية:
"كما قد كُتب: 'إنّي جعلتك أباً لأمم كثيرة'. (إنَّه أبٌ لنا) في نظر الله الذي آمن به، والذي يُحيي الموتى ويستدعي إلى الوجود ممَّا كان غير موجود". (4: 17)
ثمَّة مسافة مفهوميَّة ما يزال يجب قطعها من أطروحة الخلق "من غير الموجود" (ek mê ontos) إلى أطروحة الخلق "من عدم" (ex nihilo). كان القرن الأوَّل الميلادي والنصف الأوَّل من القرن الثاني بمثابة مرحلة وسيطة دشّنت ورشة تدريبيَّة لإعادة تأويل معنى "التكوين" في مفردات أفلاطونيَّة تقول بفكرة "الخلق من مادّة" سابقة وغير متشكّلة. حيث يقول جوستينوس النابلسي أو جوستينوس الشهيد[18] في مصنّفه الأبولوجيا الأولى للمسيحيين (المكتوبة ما بين سنة 153 و161): "ولقد علمنا أنَّ الله في البدء، لأنَّ وجوده خير هو قد أخرج العالم من المادة التي لا صورة لها من أجل الإنسان".[19] وهي مصطلحات أفلاطونيَّة تماماً إلّا أنَّ جوستينوس يفترض أنَّ أفلاطون نفسه قد اقتبسها هو بدوره من سفر التكوين.[20]
كان لا بدَّ إذن من انتظار النصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد حتى تتبلور أطروحة الخلق من عدم بشكل صريح لدى تاتيان الذي ذهب إلى مدى أبعد من أستاذه جوستينوس، وطرح "استعمالها بمثابة تبرير لانبعاث الميّت"[21] من القبر. وصار ممكناً الربط عندئذٍ بين مسألتيْ الخلق والبعث حيث تنبثق حدّة العلاقة المشتبكة بين العدم والموت، بين الخلق من عدم والبعث من الموت. لكنَّ الرهان بلا ريب لم يكن فلسفيّاً بل كان يتعلّق بمسألة حارقة هي تفسير طبيعة المسيح الذي تقرَّر معناه بوصفه "ابن الله" الذي وُلد بلا أب، وصُلب وانبعث من بين الأموات. وهذه مفارقات لم تكن الفلسفة اليونانيَّة قادرة على توفير إطار اصطلاحي ملائم لفهمها من الداخل.
ولذلك كان أوّل مطلب طرحه تاتيان هو إثبات "قِدم الله" أو معنى كونه خارج الزمان أي "لا بدء له" (ἄναρχος)، وهو "بدء لكلّ شيء"، لكونه معنى مقوّماً لمقولة "البشارة"؛ وهو معنى يتناقض مع القول الرواقي عن الله والمادة بوصفهما مبدأين اثنين. ولا مخرج من مثل هذه الصعوبة إلّا بالدفاع عن إله يوجد وحده بالكلّيَّة ويكون قادراً على خلق المادّة نفسها. وبذلك كان تاتيان أوَّل من قال تاريخيّاً بأطروحة الخلق من عدم.[22] وإن كان ثمَّة من ينسب أوَّل استعمال لهذه الأطروحة إلى ترتوليان.[23]
يقول تاتيان: "وذلك أنَّ المادّة ليست، مثل الله، بلا بداية؛ ولا هي، من حيث هي بلا بداية، تملك قوَّة مساوية لقوَّة الله؛ إنَّها مخلوقة، وليست منتَجة من قِبل أيّ موجود آخر؛ بل هي قد حُملت إلى الوجود من قِبل صانع كلّ شيء وحده".[24]
ليس من المصادفة قول تاتيان في إثبات أنَّ المادة مخلوقة وأنَّ الله لا يخلق من مادة قد جاء في كتاب عنوانه "إلى اليونانيين" (πρὸς Ἕλληνας): لم يكن يمكن توجيه معركة التحرُّر من مفردات الأنطولوجيا اليونانيَّة إلّا إلى اليونانيين. ومن المثير أنَّ تاتيان يفتتح خطابه بدعوة اليونانيين إلى التواضع أمام الأمم "البربريَّة" التي اقتبسوا منها كلَّ شيء يفتخرون به قائلاً لهم مخاطباً: "هل ثمَّة واحدة من مؤسَّساتكم لا تدينون بها في الأصل إلى البرابرة"؟[25] الفلك من البابليين والسحر من الفرس والهندسة من المصريين والكتابة من الفينيقيين... إلخ، ثمَّ يسرع إلى التخرُّص على الفلاسفة اليونان مثل ديوجان الذي عاش في برميل ومات بسبب أكله أخطبوطاً نيئاً، أو أفلاطون الذي بيع في سوق النخاسة، أو أرسطو الذي تملّق الإسكندر الفتى المعتوه وقال إنَّ الله لا يعلم ما دون فلك القمر...إلخ.[26] كان تاتيان -في صيغة مثيرة من النزعة "الديكولونياليَّة"- يدافع عن حقّ البرابرة في إنشاء مؤسَّسات خاصَّة بهم، وخاصَّة عن حقّهم في الإيمان بما لا يمكن للفلسفة اليونانيَّة أن تقوله أو تبرهن عليه.
قال: "أيُّها اليونانيّون، لماذا تصنعون من اختلاف المؤسَّسات سلاحاً وتصوّبونه ضدّنا كأنَّنا في حلبة ملاكمة في الإلياذة (pugilat)؟ لماذا تكرهونني مثل مجرم خطير لمجرَّد أنَّني لا أريد أن أتوافق مع عادات البعض؟...أنا أعرف ما معنى العبوديَّة. وذلك أنَّه ينبغي تكريم الناس طبقاً لطبيعة البشر، ولكنَّ الله هو وحده الذي يجب أن أخشاه. الله الذي هو غير منظور لأعين البشر، الذي لا حيلة لهم في إدراكه...إنَّ إلهنا لا بداية له في الزمان، فهو وحده البداية، وهو نفسُه بدايةُ كلّ شيء. إنَّ الله روح، وليس هو بمحايث للمادّة، بل هو الخالق لأرواح المادّة وخالق الصور التي فيها...نحن نعرفه بخلقه، وبآثاره نحن نتصوَّر قدرته غير المرئيَّة. وأنا لا أريد أن أعبد مخلوقاته، التي صنعها من أجلنا".[27]
نحن أمام تحرُّر مختلف التعبيرات: فبعد التحرُّر الأنطولوجي من التصوُّر الفلسفي للخلق من مادّة أقدم تاتيان على تحرُّر هوويّ من كبرياء اليونانيين باختلافهم؛ وتوَّج ذلك بتحرُّر أعلى رتبة هو التحرُّر الروحي من المفهوم اليوناني للألوهيَّة. وأقوى تعبير علينا ذكره هنا هو إدخال مفهوم "الروح" الذي هو توقيع إبراهيمي تماماً يقطع المسافة التي يرتبك أمامها الفلاسفة، تلك التي تفصل معنى "النفس" (ψυχῇ) الوثنيَّة عن "الروح" (Πνεῦμα) التوحيدي. وبهذه العدَّة أقدم تاتيان على الدفاع عن فكرة البعث بعد الموت التي هي ترجمة تفصيليَّة لأطروحة الخلق من عدم.
إنَّه لا يمكن (حسب العقل اليوناني الأفلاطوني أو الرواقي) أن نتصوَّر البعث الشخصي للجسد بعد موته إلّا إذا قبلنا بفكرة الخلق من عدم. كان هذا أمراً محذوراً تماماً بالنسبة إلى اليونانيين، ولذلك فإنَّ المسيحيَّة لم تكن ممكنة بوسائل الفلسفة اليونانيَّة، على الرغم من أنَّ لغة الكتابة والترجمة للنصوص المقدَّسة قد كانت هي اليونانيَّة. وكان ذلك بمثابة تمرين رائع على معنى الخلق من عدم: لقد نجح المسيحيّون في خلق لغة يونانيَّة خاصَّة بهم بإمكانها خلق أطروحات وأفكار غير يونانيَّة تماماً، نعني غير أفلاطونيَّة أو غير رواقيَّة. فاللغة لم تكن حاجزاً أبداً بل كانت ورشة للتمرين على الانتماء إلى ثقافة لم توجد بعد.
لقد عاد تاتيان إلى فكرة سفر التكوين عن "البدء" لكنَّه نقل معنى "كن" من البداية في الزمان إلى البداية في "الكلمة" أو في "اللوغوس". الخلق هو "قوَّة الكلمة" (λόγου δύναμιν)، وليس مباشرة "المادة" من قِبل "الصانع". ولأنَّ الكلمة هي أوَّل ما يخرج من الله فإنَّ الكلمة كانت ولا شيء معها، فالخلق لاحِقٌ على وجودها. ويقيم تاتيان توازياً مثيراً بين الخلق والكلام: إنَّ الخلق الإلهي هو فعل كلامي محض. كلّ مادّة مخلوقة هي نطق أو تعبير (προβάλλω، proballo) في معنى نموّ البذرة أو الورقة أو الانبثاق، وهو لفظ ورد في نصوص العهد الجديد.[28]
وبهذا المعنى فقط ـأنَّ الخلق محض كلمة- كان الله "وحيداً". إنَّ توحّده الأصلي السابق على الخلق شرط لبلورة فكرة الخلق من عدم. ويلجأ تاتيان هنا إلى استعارة المشعل: مشعل واحد يمكن أن نقتبس منه نيراناً عدّة، كذلك كلّ من ينطق بالكلمة فهو يقتبس من خلقه. إنَّ الوجود مثل اقتباس النار من مشعل واحد سابق وأصلي ووحيد. وهذا المشعل لا يدين لأحد ولا لأيّ شيء بشيء. وهنا بالتحديد يصبح الدفاع عن إمكانيَّة البعث من الموت ممكناً بوسائل جديدة.
قال: "وكما أنَّني لم أكن قبل أن أولد وكنت أجهل من يجب أن أكون...وكما أنَّني، بعد أن ولدت، أنا آمنت بوجودي بمقتضى ولادتي، كذلك، أنا الذي ولدت، والذي بسبب موتي لن أكون ولا أحد سيراني بعدُ، أنا سوف أكون من جديد، تماماً كما ولدت بعد زمن فيه لم أكن موجوداً. وإذا ما أحرقت النار جسدي البائس، أو ضعت في نهر أو في بحر، أو مزّقت الحيوانات المفترسة أشلائي، فإنَّني أمانة (dépôt) في مخزن سيّد موسر. والفقير -أي الذي لا إله له (ἄθεος)- لا يعرف هذه الأمانة، لكنَّ الله، مولاي وسيّدي، متى شاء ذلك، هو سوف يرمّم الشخص (ὑπόστασιν) الذي لا يراه إلّا هو وحده ويعيده حالته الأولى".[29]
كان القصد من أطروحة الخلق من عدم إذن هو تحرير الله المسيحي من سطوة الأنطولوجيا اليونانيَّة التي حرمته من أقدس صفاته: أن يخلق بشكل حرّ، وكان لا بدّ بذلك أن يكون سابقاً على مادّة العالم بل خالقاً لها. ولكنَّ بيت القصيد في كلّ ذلك لم يكن الله بمجرّده، بل كان لبّ المسألة هو بلورة سياق يجعل فهم طبيعة المسيح، فهم طبيعة الكلمة، أمراً ممكناً. كان ثمَّة رؤية جديدة للعالم تحتاج إلى تبرير روحي، حتى ولو لم يكن تبريراً ميتافيزيقيّاً على عادة اليونان. كان ثمَّة حاجة إلى بلورة إنسانيَّة جديدة قادرة على فهم ما وقع والانتماء إليه من الداخل. كان القصد السياسي هو وضع حدٍّ فاصل بلا رجعة بين قدرة الله وقدرة البشر: بين من يخلق من مادّة ومن يخلق من عدم، بين الأنثروبولوجيا الوثنيَّة واللّاهوت التوحيدي. وفي هذا السياق أصبح ممكناً بلورة رابط غير مسبوق بين الحريَّة والتعالي: إنَّ الله وحده يمكنه أن يكون حرّاً، لأنَّه يمكنه أن يتعالى على مخلوقاته، لكنَّ ذلك لم يكن يمكن تصوُّره أو الدفاع عنه من دون إقرار أطروحة الخلق من عدم.
مع ثاوفيلوس (ت. 183م)[30] -وهو من البطاركة السريان في أنطاكية، الذي خاض معارك عنيفة دفاعاً عن المسيحيَّة الناشئة ضدَّ الوثنيين اليونان وضدَّ اليهود المعاصرين- تبلور خروج مسألة خلق العالم من فلك الكسمولوجيا ودخل إلى أفق اللّاهوت، وصار الحديث مستقرّاً عن الخلق الإلهي من عدم بناءً على أنَّ الله هو الذي خلق المادَّة الأولى نفسها.
قال: "إنَّ أفلاطون وتلاميذه يعترفون حقّاً بأنَّ ثمَّة إلهاً غير مخلوق، هو أبٌ وصانعٌ لكلّ الأشياء، لكنَّهم يضعون في الوقت نفسه مبدأين غير مخلوقين: الله والمادَّة التي يقول إنَّها قديمة معه. فإذا كان هذان المبدآن غير مخلوقين بالقدر نفسه، فإنَّه ينتج عن ذلك أنَّ الله لم يصنع كلّ الأشياء، وأنَّ هيمنته ليست مطلقة، كما يدّعي أصحاب أفلاطون. وفضلاً عن ذلك، إذا كانت المادَّة غير مخلوقة مثل الله، فهي سوف تكون مساوية له وتكون مثله غير متحرّكة...ففي أيّ شيء سوف تتمثّل قدرة الله إذا كان قد خلق العالم من مادَّة موجودة سلفاً؟ فلو أعطيتم لأحد العمّال المادَّة التي هي ضروريَّة في عمله لصنع لكم كلَّ ما تريدون. أمَّا قدرة الله، فإنَّما هي في أنَّه يُخرج كلَّ ما يشاء من الذي لا يكون (ex ouk onton)... في أنَّه يُخرج وأخرج من الذي لا يكون كلَّ ما أراد وعلى النحو الذي أراد".[31]
لقد نبَّه بعض الباحثين إلى فرق لطيف في التعبير عن معنى العدم بين عبارتين تمَّ تداولهما في اللغة اليونانيَّة المستعملة في هذه النصوص أكانت وثنيَّة أو مسيحيَّة: إنَّه الاختلاف في الصياغة بين الإشارة إلى أنَّ العالم هو بالنسبة إلى الله من قبيل "غير الموجود" (μὴ οντα ,mē onta)) في معنى اللّاوجود أو العدم النسبي الذي توصف بها الأشياء التي تحدث أو تولد بعد أن لم تكن؛ وبين القول إنَّ الخلق من عدم، أي من شيء لم يكن ولا يكون (ouk ontos، οὐκ οντως)، في معنى اللّاوجود المطلق أو العدم.[32] إنَّ ما وقع هو القرار التأويلي الذي اتّخذه دارسون ومؤرّخون كبار للنصوص المسيحيَّة بأن يفهموا "الذي لا يكون" على أنَّه هو المقصود من عبارة "ex nihilo" التي سادت في النصوص المسيحيَّة اللّاتينيَّة، أي عبارة "الخلق من عدم". وهو قرار تأويلي وليس تقريراً معرفيّاً.[33]
إنَّ الخلق من عدم فكرة لا توجد في نصوص المسيحيَّة قبل أواخر القرن الثاني، وهذا يعني أنَّ أطروحة الخلق من عدم قد ظهرت بشكل صريح عندما صار الخلق مسألة لاهوتيَّة صرفة ولم تعد تدين بمفرداتها إلى الجدل الكسمولوجي على طريقة اليونان. ولأوَّل مرَّة طُرح السؤال بشكل محض عن الله بوصفه خالقاً وليس بوصفه "صانعاً" (δημιουργός, démiourgos) بالمعنى الأفلاطوني الذي هيمن على مفهوم الله منذ محاورة طيماوس (المكتوبة حوالي 360 قبل الميلاد). لكنَّ الظهور المفاجئ لأطروحة الخلق من عدم حوالي سنة 180م في نصوص تاتيان السوري وثاوفيلوس الأنطاكي هو قرار لاهوتي تمخّض عن جدل عنيف مع الرواقيين، وخاصَّة مع الأفلاطونيين المعتدلين. وكان ذلك بمثابة نتيجة فلسفيَّة[34] لجدل في مسألة بعينها هي التصوُّر الأفلاطوني المعتدل لمفهوم الإله المكتفي بذاته.[35]
عند هذه العتبة وقع تغيُّر جذري في إشكاليَّة التكوين/ الخلق التوحيديَّة عندما دخل مفهوم "العدم" بوصفه مفهوماً صريحاً ومركزيَّاً. وهذا خطّ سوف يستمرُّ مع مجيء القرآن، ثمَّ مع أسئلة علم الكلام حول حقيقة العدم، وهو تساؤل سوف يظلُّ حيّاً يقضُّ مضجع الفلاسفة واللّاهوتيين إلى تخوم الفلسفة المعاصرة من هيغل إلى ديريدا. لكنَّه في كلّ المرَّات هو قرار نظري ينبثق من نزاع تأويلي تحرّكه إواليَّة سياسيَّة خفيَّة هي العلاقة الهشّة والمركّبة بين تقنيات الاستخلاف (أو مواصلة الله بوسائل بشريَّة) وتأويلات العلاقة مع الموت بوصفه الأفق المعياري الداخلي لكلّ أنواع الحريَّة. فحين يكتشف الإنسان أنَّه حرّ إزاء موته تصبح كلّ تجارب الله ممكنة.
(يتبع)
[1]- J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo: Matter, Creation, and the Body in Classical and Christian Philosophy through Aquinas. A Dissertation in Religious Studies. University of Pennsylvania, 1995. https://repository.upenn.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=2119&context=edissertations 08/ 07/ 2018, p. 79: “However, in contrast to both Egypt and Babylon, Genesis prioritizes the art of God over the generative power of waters.”
[2]- Ibid. p. 89 sqq.
[3]- David Winston, the Wisdom of Solomon, Anchor Bible Series, Garden City, NY: Doubleday, 1979, p.3.
[4]- J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. cit. p. 91-95.
[5]- Gerhard May, Creatio ex Nihilo: The Doctrine of 'Creation out of Nothing' in Early Christian Thought, Edinburgh: Clark, 1994.
[6]- Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. cit. p. 102 sqq.
[7]- Ibid. p. 102: « Creatio ex nihilo can best be explained as a defense of the most controversial part of the Christian kerygma, the resurrection of the dead.”
[8]- Ibid. p. 103.
[9]- Gerhard May, Creatio ex Nihilo: The Doctrine of 'Creation out of nothing' in Early Christian Thought, op. cit. p. 2.
[10]- Ibid. p. 24.
[11]- Ibid. p. 29.
[12]- Ibid. p. 150: “Tatian is the first Christian theologian known to us who expressly advanced the proposition that matter was produced by God. We are concerned here with an idea which sooner or later had to be drawn from the biblical belief in creation, as soon as Christian thought engaged in a critical debate with the philosophical doctrine of principles. »
[13]- Jonathan Goldstein, "Creatio Ex Nihilo: Recantations and restatements," in: Journal of Jewish Studies 38 1987), no. 2, pp. 187-194.
[14]- J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. cit. p. 107.
[15]- Ibid.
[16]- Robert Kysar, Voyages with John: Charting the Fourth Gospel. Baylor University Press, Waco, Texas, 2005, p. 12 -15.
[17]- J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. cit. p. 108.
[18]- Justin de Naplouse ou Justin Martyr (100-165).
[19]- Justin, Apologies. Texte grec et Traduction. Paris, 1904. Première apologie, X, 2, p. 17.
[20]- Ibid. LIX, 1-6, p. 123-125.
[21]- J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. cit. p. 114.
[22]- Ibid. p. 118.
[23]- Gerhard May, Creatio ex Nihilo: The Doctrine of 'Creation out of nothing' in Early Christian Thought, op. cit. p. 137.
[24]- Tatien, Discours aux Grecs. Paris, 1902. Chap. V.
[25]- Ibid. chap. 1.
[26]- Ibid. chap. 2.
[27]- Ibid. chap. 4.
[28]- إنجيل لوقا، 21: 30 (في معنى "أورقت" الأشجار)؛ أعمال الرسل، 19: 33 (في معنى "الدفع" نحو الأمام).
[29]- Ibid. chap. VI.
[30]- J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. cit. p. 121 sqq.
[31]- St Theophile d’Antioche, Les trois traites à Autolycus. Livre second, IV: « … La puissance de Dieu consiste à tirer du néant tout ce qu'il veut… c’est qu'il tire et qu'il a tiré du néant tout ce qu'il a voulu et de la manière qu'il l'a voulu. »
[32]- Blake T. Ostler, « Out of nothing: A History of Creation Ex Nihilo in Early Christian Thought”, in: FARMS Review 17/2 (2005), p. 264 sq.
[33]- Ibid. p. 266.
[34]- Ibid. p. 319.
[35]- J. Noel Hubler, Creatio ex Nihilo. Op. cit. p. 123 sq.