الإجرام والسرديات الثقافية الناعمة: "الحبس للرجال" و"الحي يروح"؛
فئة : مقالات
الإجرام والسرديات الثقافية الناعمة: "الحبس للرجال" و"الحي يروح"؛
دراسة سوسيو ثقافية
مصطفى البحري[1]
مقدمة:
يتجه تحليلنا إلى اعتبار الإجرام حالة ثقافية تستحوذ على الذوات المحكومة بالدوافع، حيث هجرة الإنسانية إلى الدمار الاجتماعي وخوض تجربة إبادة النفس، واستنزاف روح الجماعة وقيم العيش المشترك، إذ المتعة في الفوضى المعيارية والانحراف السلوكي. فالمجرم ينسلخ من ذاته الواعية، وينطلق نحو لاشعور مهلك، حيث اللاتفاهم واللاتواصل واللاحوار في الفضاء العمومي، إذ توظف القوة لتحقيق المصالح والأهداف مستفيدة من التبريرات الثقافية التي تعزز فكرة الإجرام من خلال حافز السرديات الثقافية التي تحتضن العنف وترفض استيعاب المختلف وحفظ حقه في الوجود.
فالإجرام استفاد من منتجات العقل والمتخيل التي تستوعب الصراع العدواني، وتعتبره حالة ثقافية مضادة تتوسل الاعتراف والحضور في النسيج الاجتماعي، حيث الثقافة في خدمة الصراع العدواني. فبعض السرديات الثقافية قد تحفّز غرائز الإجرام وتمحو قواعد العيش المشترك من خلال مضامينها وتأويلاتها التي تشجع على العنف.
أفرد الباحثون لظاهرة الإجرام مباحث عديدة، ولكن هذه المباحث تقع غالبا في مجال التحليل النفسي والسيكولوجي. لذلك سوف نستفيد من هذا المدخل العلمي المشروع والتفكير في الإجرام أنثروبولوجيا من خلال البحث في السرديات الثقافية الراهنة المحفزة على فعل الإجرام بوصفه حالة ثقافية لا واعية تلبست بالذهنية السائدة، وأسهمت في زعزعة قواعد العيش الجمعي.
فالأسئلة المركزية التي توجه تحليلنا هي:
لماذا البحث عن الإجرام في التنظير الأنثروبولوجي؟ أهي الرغبة في الازدراء بدافع انحياز ثقافي، بغية إثبات أن المجرمين مسؤولون عن انحرافهم السلوكي؟ ثم هل صحيح أن الثقافة السائدة عززت فكرة الإجرام من خلال سردياتها الثقافية المحفزة على تجاوز القانون والتمرد على كل ما هو ثابت؟ والأهم، ماهي تجليات الاحتفاء بالفعل الإجرامي في الفضاء العمومي؟
إن التفكير في الإجرام أنثروبولوجيا يتطلب توظيفا نظريا وجهازا مفهوميا، ليصبح فهمنا للموضوع أكثر وضوحا، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المفهوم في الأنثروبولوجيا يتداخل ويتشابك والمفاهيم الفلسفية والسوسيولوجية وفي صلة مباشرة بالسياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية.
I- في دلالة الإجرام:
نستأنس في هذا البحث، بتوظيف مفهوم الإجرام على اعتبار أنه مفهوم مركزي، نستكشف علاقته بالعنف والصراعات العدوانية، ونتبين حضوره في الفضاء العام من خلال تجلياته وصلته بالثقافة التي تؤسس له تبريرا ثقافيا ومقبولية واسعة في النسيج الاجتماعي.
1- محاولة في تعريف الإجرام: أو في العلاقة بين نمط الفعل ونمط التمثل
يتجه تحليانا بتوظيف مفهوم الإجرام في المتروك الثقافي بصفة عامة، والاجتماعي بصفة خاصة؛ فالإجرام لغة مصدر أجرم يجرم، والمجرم من ارتكب جرما يستحق عليه العقاب، والمجرم بالمعنى القانوني هو الشخص الذي يرتكب فعلا (أو يمتنع عن فعل) يعاقب عليه القانون.[2]
وفي الحقيقة، فإن معظم النظريات الاجتماعية، فسرت ظاهرة الإجرام، انطلاقا من التفاعل بين الأفراد وحتى الجماعات والأنساق الاجتماعية والبنى التحتية المكونة لكل مجتمع، هذا التحليل وبالرغم من أهميته أهمل الدوافع الشعورية واللاشعورية في تكوين سلوك الإجرام، ولعل من أهم الإسهامات الفكرية التي اهتمت بدور العوامل الاجتماعية في إنتاج السلوك الإجرامي وتفشيه في الفضاء العام نذكر فيري[3] الذي يرجع الجريمة إلى ثلاثة عوامل من خلال كتابه "علم الاجتماع الجنائي[4]": عامل طبيعي وجغرافي، وعامل شخصي وعضوي، وعامل اجتماعي. والحق أن التفاعل بين هذه العوامل الثلاثة يختلف باختلاف الجرائم والمجرمين.
وبقطع النظر عن هذا المنزع النظري، فإننا نعترف بوجد حالة ثقافية جديدة تلبست بالذهنية السائدة التي تعيش إخفاقات ومشكلات اجتماعية والتباس في تمثل مفهوم الفرد ومفهوم الجماعة، مما يخلق شخصية ثقافية ممزقة لا تخضع لإكراهات الضمير الجمعي ولا تملك فردانية إيجابية مؤسسة؛ فالإجرام يستمد حضوره في الذات المعاصرة من خلال حلول هوية جديدة تقوم على ثقافة الاستهلاك الفاحش، مما يعزز رغبته في الاستحواذ والتمرد من أجل تحقيق نزوات الذات التي تحررت من فروض العقل والمتخيل. فهذا الهيجان نحو النمط الثقافي المضاد المعادي للسلم الاجتماعي قد يتعزز بتصورات وتبريرات ثقافية تحاول تكريس تموقع جديد لسلوك الإجرام، وكأنه هوية وفعل ثقافي محمود؛ فالمجرمون يتوسلون العبور إلى عالم الفوضى، ويحاولون التمركز في الفضاء العام وكأنهم جسم اجتماعي حتمي مرتبط بالعوالم الاجتماعية المتغيرة، حيث الهمجية والتمرد الاجتماعي وكأنها عناوين الحياة المعاصرة.
خلاصة القول، إن الممارسات السلوكية الانحرفية استفادت من المرجعيات الثقافية السائدة من خلال المتروك الثقافي الذي يدعم حالة الفوضى والهمجية ويكرس أولوية العنيف والقوي، إذ الذات تهب نفسها لفعل الدناسة وتنخرط في بوتقة الإجرام مستفيدة من الحالة الثقافية الراهنة الداعمة لثقافة الدمار الاجتماعي؛ فالمنظومات الثقافية السائدة ومن خلال مدلولاتها وموروثها الثقافي أوجدت منفذا تبريرا لفعل العنف، وكأنه حالة ثقافية صحية سكنت قلب العمومي واستحوذت على جماليته وحركيته الفكرية على النحو الذي يشرع لتشبث الذات بحب الرذيلة والانخراط في عوالمها المهلكة؛ فالسلوكيات الانحرافية وخاصة الإجرام، استلهمت مشروعيتها وصدقيتها في الفضاء العام من خلال هذا البناء الثقافي المدمر لحياة البشرية؛ فالثقافة هنا في خدمة العنف تذعن لمقولات الفوضى وتنتشي بسرديتها الثقافية التي تستهدف السلم الاجتماعي وتخرب قيم التواصل، مما يضعنا أمام زلزال فكري جديد يستنفد طاقته الإيجابية، وينطلق نحو النفور من الغيرية والانزياح للانتقام من الذات وخوض تجربة التطرف من خلال إجبار الآخرين على الانصياع لرغباتهم، مما يسهم في خلق فوضى اجتماعية وانتشار العنف على النحو الذي يضعنا أنثروبولوجيا أمام أزمة ثقافية تناقلت من جيل إلى آخر، واستفحلت في جل المؤسسات الاجتماعية؛ معنى ذلك أن السرديات الثقافية لعبت دورا أساسيا في إنتاج العنف واستفحاله في الفضاء العام. فمدلول "الحبس للرجال" يحمل شحنة رمزية مكثفة ويدفع للاعتراف بالإجرام وتصنيفه ضمن المبهر والاستثنائي. أما مقولة "الحي يروح" تخفض من منسوب الخوف من السجن، وتضعه في خانة توافه الأمور، حيث يصير الدخول إلى السجن حالة عادية لا تستحق الاستهجان أو الحيرة.
2- التعريف السوسيولوجي: الإجرام تعبير عن الهامشية الاجتماعية
يعبّر الإجرام سيسيولوجيا عن تمزقات الفرد الوجدانية والاجتماعية، ويكشف عن عدم جاهزيّته الذهنيّة والاجتماعية على تقبل الواقع الاجتماعي، فالتغيير الإيجابي بالنسبة إليه لا يكون إلا بولوج عالم الانحراف، حيث الإحباط والعنف والهروب من أعباء الواقع المعيش من خلال استراتيجيا التحفي وراء السلوك العنيف، حيث التعبير السلبي عن الفقر والخصاصة والتهميش بواسطة ردة فعل محفوفة بالمخاطر؛ إذ الذات تنساق نحو الدوافع وتدافع عن حضورها الاجتماعي بالقوة غير عابئة بالضوابط الاجتماعية وقواعد العيش المشترك. فالمجرمون ينشئون فعلا اجتماعيا مضادا، ولا يستطيعون الاندماج في المجتمع بصفة إيجابية على الاعتبار أن الإجرام يُحدث تغييرا سلبيا على الأفراد، ويهدد النسق الاجتماعي. فسلوكياتهم دليل على تخلف الفكر الإنساني، حيث يتم قبول هيمنة العنف والفوضى على السلم الاجتماعي؛ إذ تتشكل ثقافة جديدة تبرر للعنف وللدمار الاجتماعي على اعتبار أن فعل الإجرام مدخل لإبادة الذات وطريق لهدم ما تبقى من جمالية الواقع الاجتماعي.
فالهامشية الاجتماعية تجعل الفرد يحمل صورا قاتمة وعنيفة عن المجتمع، فينخرط في الفضاء العمومي بصفة سلبية ويناضل من أجل كسب موقع اجتماعي، حيث حقل الإجرام مجال للتفاعل والتمأسس والتعويض عن الحرمان الاجتماعي.
وقد اقترن مفهوم التهميش بالأحياء الشعبية، حيث الاقصاء والفقر، وبالتالي الإجرام كردة فعل عنيفة عن مأساويّة وضعهم الاجتماعي وعمق مرارة الإحساس بالازدراء والاحتقار. فشباب هذه الحاضنة السكنية يتشبثون بسلوكياتهم المنحرفة بتمردهم على اعتبار جواز كل أفعالهم وعدم خضوعها لمنطق المعيار الاجتماعي، فالسرقة وقطع الطريق والقتل ممارسات، في نظر المجرمين، لها ما يبررها اجتماعيا على اعتبار أننا امام فعل اضطراري نتيجة الظلم والحيف الاجتماعي. وكأن هؤلاء يحاولون التموقع في الفضاء الاجتماعي من خلال الإجرام والانغماس في الممارسات العنفية.
يتضح أن الإجرام في تونس يغلب عليه الطابع الذكوري، حيث يقوم هؤلاء المنحرفون بممارسة فعل العنف والسرقة، والقتل أحيانا لتحقيق رغباتهم المادية. فهؤلاء الأفراد يستغلون هامش الحرية والإفلات من الضبط الأسري والاجتماعي، فينطلقون نحو تأسيس جغرافيّة نفسية جديدة قائمة على الإحباط والانتقام والعنف، حيث الاستسلام للغريزة وفروضها المدمرة. فنحن إذا، أمام طوائف مضادة للعيش المشترك تتوسل استرضاء الغريزة عن طريق العنف، وتحاول تأسيس جغرافيا ثقافية تسبطن من خلالها قيمها الفوضوية ومعايرها المحفوفة بالمخاطر، حيث وضع الجسد والعقل في حالة موت سريري والتشبث بالمرجعيات السلوكية المدمرة للوجود الفردي والاجتماعي، وكأن المجرمين يسعون إلى الاعتراف بهم كنمط اجتماعي مضاد مدمر للبنى النفسية والاجتماعية. والحق قد استفاد هؤلاء الأفراد من رخو الدولة وضعف عنفها الرمزي والمادي، مما سهل عملية اندماجها في الانحراف، وأحيانا التطاول على هيبتها من خلال الاحتفاء بالفعل الإجرامي وعرضه على العموم، وكأنه حميمية محمودة، حيث يعمد بعض الأفراد لعرض صورهم، وهم يحملون سكاكين وسيوفا تعبيرا عن تمردهم على روح التعايش الجمعي. فالإجرام، اجتماعيا، يهب نفسه للمهمشين، فيدخلهم في عالم الدوافع واللاشعور فيهيمن عليهم ويستحوذ على وعيهم، ويسرق وجودهم الاجتماعي ويضع السلم الاجتماعي في قذارة المدنس.
ما يهمنا أن مفهوم الهامشي له دلالة على الفرد أو الجماعة الاجتماعية المعزولة التي لا تندمج في المجتمع، وتنتمي إلى جماعة أقلية التي لا تستطيع التأقلم والانخراط في الحياة الاجتماعية الواسعة، مما يضطرها لخوض تجربة الإجرام لتحقيق وجودها الاجتماعي. ففرض الذات والاعتراف بالكينونة المهمشة لا يكون إلا في إطار السلوك العنفي؛ بمعنى أن البنية التفاعلية التواصلية قائمة على الاعتراف بالإجرام كفعل اجتماعي اضطراري يتغذى من الوضع المزري للأفراد، حيث البطالة والخصاصة والفقر.
نتعرف أن فهم هذا السلوك لا يمكن أن يكون إلا في إطار براديغم البنيوية التكوينية التي تناولت مفهوم الصراع لدى بيار بورديو الذي يرتبط بجميع أشكال النظم الاجتماعية. فالمجال الاجتماعي هو في الأصل مجال للقوة تميزه طبيعة العلاقات والتفاعلات القائمة بين الأفراد المشاركين فيه، مما يؤدي وجود علاقات قوى تأخذ شكل الهيمنة. فالإجرام هو نتيجة طبيعية للنظام الرأسمالي و"لمؤسساته الإيديولوجية القائمة على الهيمنة والسيطرة وإخضاع الآخرين[5]". فهذا الصراع "قد يظهر بين الإدارة والعمال، بين المجرمين ورجال الشرطة أو قد يظهر بين صديقين أو أفراد العائلة أو زملاء العمل يتصارعون على هدف مشترك وقد يؤذي الآخرين، كما قد يساعد النظام الاجتماعي على التماسك[6]". فالفضاء الاجتماعي محكوم بالرغبة في السيطرة والهيمنة على المواقع الاجتماعية، حيث الصراع واللعب على التموقع داخل الفضاء الاجتماعي.
هذا التبرير السوسيولوجي للإجرام، القائم على اعتبار المجرمين فئات اجتماعية تعيش الإقصاء ومحرومة من الفرص اللازمة لتحسين أوضاعها الاجتماعية الاقتصادية، موغل في الوضعانية على اعتبار أن السلوكيات الانحرافية لا ترتبط بالضرورة بحالة الفقر والخصاصة، حيث نجد العديد من أبناء الأثرياء والطبقة المتوسطة، وأحيانا من المتعلمين من يعيشون تهميشا مختلفا واغترابا اجتماعيا حقيقيا يقودهم إلى الانخراط في الممارسات الإجرامية.
خلاصة القول، إن الإجرام سواء كان تعبير عن الهامشية الاجتماعية أو دليل على منطق الصراع الذي يحكم البنية الاجتماعية، فإنه انحراف اجتماعي يهدد تماسك البناء الاجتماعي ويشرع للفوضى المعيارية والفردانية، حيث الاناء تتمرد على الضمير الجمعي وتمهد الطريق للدمار الاجتماعي، إذ الخراب يسكن قلب النسيج الاجتماعي، ويحدث وضعا لا اجتماعيا يستند إلى مفاهيم الذاتية والأنانية ومنطق القوة على اعتبار أن هذا الفضاء الاجتماعي مجال للهيمنة والقوة والعنف على النحو الذي تنتعش الذات من قذارة الفعل الانحرافي، وتنسجم في في سردياته العنيفة حيث الدمار الاجتماعي والانزياح نحو هدم حصون المفاهيم والمرجعيات الكبرى التي تكرس نظرية الاستقرار الاجتماعي. فالإجرام إذا، ممارسة اجتماعية منبوذة وسلوك انحرافي خطير ينبئ بتمزق مؤسسات المجتمع كالأسرة والدولة، ويؤهل الفرد لخوض تجربة التطرف والانسياق نحو العنف المقدس.
II- المقولة الأنثروبولوجية للإجرام والسرديات الناعمة:
1- سردية الرجولة والتأسيس لقداسة المدنس:
ثمة من يرى أنّ معرفة العلة لا يؤدي بالضرورة إلى حل المشكل الاجتماعي على اعتبار أن العلاقة بين العلة ونتائجها علاقة ضعيفة ومرتبطة بعدة متغيرات. وضمن المجازفات الأنثروبولوجية في دراسة ظاهرة الإجرام، فإننا نعترف بوجود حالة ثقافية جديدة تلبست بالإنسان المعاصر الذي انطلق نحو تحرير الذات من ثوابت العيش المشترك والانتصار لثقافة النزوة والهمجية، حيث خوض تجربة الإجرام والانغماس في زمنية الهروب من الواقع الاجتماعي، إذ الذات تسبطن ذائقتها الثقافية الجديدة وتنحني لثقافة الدمار الاجتماعي، وهو ما يتعزز بسرديات ثقافية وسياقات تداولية في الفضاء العمومي تستحوذ على ذهنية الفرد وتستدرجه نحو استبطان الانحراف الاجتماعي وتقبله، وكأنه سمة ثقافية محمودة، إذ يقال ّ "الحبس للرجال" و"الحي يروح"، فكأن الرجولة لا تكتمل إلا بدخوله السجن وارتكاب الانحراف. فالمجرم، ثقافيا، فعله مدنس. لذلك، يجب أن نضحي به وندخله السجن حتى نطهّر الجماعة من دنسه. لكن لمّا يدخل السجن يصبح "رجلا"، فيتحول دنسه إلى قيمة مضافة ويصبح محل تقديس اجتماعي؛ فالأفراد ينظرون لكل من تورط في قضايا الإجرام ودخل السجن، على أنه "رجلا" يستحق الاحترام والقداسة، فهم لا يتبرؤون منه، يعتزون بتجربته ويعتبرونه أحيانا مصدر إلهامهم وطموحهم نحو عالم اللذة والمتعة. فالمجرم الذي يدخل السجن يحمل رمزية المغامرة والرجولة، ويعبر عن تفاقم الفردانية وتفكك القيم الجماعية، فهذه الثقافة تجمّل الإجرام وتسوّق له، وتبحث له عن شرعية ومقبولية في الفضاء العمومي. فكأننا أمام تحفيز ناعم على ممارسة فعل الإجرام وعدم اعتباره سلوكا محفوفا بالمخاطر لا ينتمي لقيم الفردانية الإيجابية، ولا إلى مبادئ الوحدة الاجتماعية، وما يتصل بها من خنوع لضوابط الضمير الجمعي.
فالإجرام إذا، لا علاقة له بالسرديات الاجتماعية الكبرى كالفقر والتهميش، حيث يمكن أن ينخرط الفرد في فعل الإجرام في أية لحظة على اعتبار أننا في مجتمع استهلاكي مندفع نحو البضاعة الجديدة ورغبته الملحة في استخدامها واستهلاكها وتملك مضامينها الجاذبة، هذا الاندفاع نحو السلوك الاستهلاكي قد يقود الفرد إلى فعل الإجرام لأجل تحقيق حاجة تافهة كالحصول على هاتف جوال أو ساعة إلكترونية؛
معنى ذلك أن الإجرام لم يعد مرتبط بالسرديات الثقافية الكبرى أو القضايا الكبرى كالأخذ بالثأر والدفاع عن الشرف أو خصومة جماعية، بل أصبح مرتبط بصراعات وحاجات تافهة تعكس الحقيقة الإنسان المعاصر الذي انغمس في عالم التفاهة والرذيلة وتلذذ بلحظة الاندفاع نحو عالم الإجرام، حيث الانسلاخ من المقدس والثابت والانزياح نحو الأفكار الهادمة التي تنشط بفعل الإخفاقات الفردية والجماعية مما يعزز نقمة الفرد وقابلية دخوله عالم الإجرام من أجل تأسيس هوية ممزقة بين ما هو جمعي، وماهو فردي؛ معنى ذلك أن الإجرام وبحكم التحولات المجتمعية الراهنة استبطن في الذهنية السائدة على أنه حقيقة ثقافية مطلقة يجب تقبلها والتعامل معها على أنها حالة صحية، ففعل الإجرام لم يعد يخضع لسيرورة الخبرة كما في السابق إذ يمكن أن يتحول الفرد في لحظة معينة إلى المجرم، حيث الصراعات اليومية التافهة والنقاشات العمومية العنيفة التي يمكن أن تؤدي إلى فعل القتل.
فالهشاشة الاجتماعية والنقمة من الذات والمجتمع جعلت من فعل الإجرام، وكأنه حدث عابر لا يحدث غرابة وحيرة اجتماعية واستهجان جماعي، خاصة وأن فكرة الموت فقدت هالتها ورمزيتها الاجتماعية والثقافية، وانخرطت في سياق المعيش اليومي والاعتيادي.
ما يهمنا أن مقولة "الحبس للرجال"، باعتبارها موروثا شفويا مشتركا بين جل الشعوب العربية، والتي اقترنت حسب بعض الروايات بالفترة الاستعمارية، حيث يزجّ المناضلين والمقاومين في السجن نتيجة وقوفهم ضد الاستعمار، وضد هيمنته المطلقة. فالسجن وصم اجتماعي مرتبط أساسا بعدم احترام قواعد العيش المشترك وبالخروج عن القانون، لكن هنا يمثل فخرا ومجالا للاعتزاز والرجولة؛ إذ العائلة تحتفي ضمنيا من خلال هذه المقولة، بانتماء أبنائها إلى عالم الانحراف والإجرام. ولعله نوع من أنواع السرديات الثقافية الناعمة التي تبرر العقوبة السجنية، وتؤصل للعنف والدمار الاجتماعي على اعتبار أنها انحرفت عن سياقها الدلالي والتاريخي، وانخرطت في توظيفات مبررة لفعل الإجرام، حيث التظليل والإيهام وتنقية الممارسات الإجرامية واعتبارها فعل اجتماعي اعتيادي لا يهدد السلم الاجتماعي ولا يؤثر في استمرارية المؤسسات الاجتماعية. فهذه الخلفية الثقافية التي تختزل الرجولة في معاني القوة والعنف وإباء الظلم قد تؤسس لمشروعية ثقافية جديدة تسبطن الإجرام وتصبغه مقبولية اجتماعية، حيث المخيال في خدمة النمط الثقافي المضاد المهدد للوجود البشري.
والأكيد أن هذه المقولة الشائعة تعزز فكرة "المجتمع الذكوري"، حيث الصورة النمطية لصالح الذكور إذ دخول الرجل السجن لا يندرج ضمن الوصم الاجتماعي بقدر ما هو حالة طبيعية محفزة لقيمة الرجولة، وهو ما يعكس حقيقة الشعور الكامن الذي يتلبس بالشخصية المعاصرة التي تدعي الحداثة، وهي تستبطن قيم المحافظة والنظرة الدونية للمرأة. ففكرة الذكورية تجعل المجتمع موضع استفهام بمعنى أنّ الذهنية الوضعانية لم تقطع مع الأفكار التقليدية في حركة المجتمع، حيث عودة المفاهيم والمرجعيات القديمة، وكأننا نقفز بالتاريخ للوراء، بل إننا أحيانا ننتعش من البناء الفكري المحفز على استرجاع الماضي واشتعال النعرات الجماعية التي تخترق سلطة الدولة وسلطة السائد.
خلاصة القول إن السرديات الثقافية الشائعة مثل "الحبس للرجال"، "الحي يروح" و"الحبس كذاب"، تمثل تعبيرات ثقافية تشرع ضمنيا للممارسة الانحرافية، وتؤسس لفكرة قداسة المدنس حيث من المفترض أن يكون السجن للمنحرفين والمجرمين والخارجين عن القانون وليس للشرفاء. ومهما يكن، فإن هذا المتروك الشفوي الثقافي يوظف بوجهين مختلفين يمكن تلخيصها فيما يلي:
- وجه تبريري: محاولة وجود مبرر ثقافي يشفع للمجرم انحرافه، وينزعه من خانة الوصم الاجتماعي، ويبرئ العائلة من فعل الإجرام ويجعلها أحيانا في موقع قوة.
- وجه تخفيفي: البحث عن تعلة ثقافية من أجل استبطان فعل الإجرام وخلق مقبولية خادعة تتنفس بها الذات وتعبر بها مرحلة الحزن والتعاسة.
2- السرديات الثقافية الناعمة وحافز الشهرة والتقليد:
نؤكد أن العديد من المقاومين والمناضلين الذين شاكسوا النظام القائم في مراحل الاستعمار أو الانتداب الأجنبي دخلوا السجن، وكتبوا تاريخا نضاليا نتيجة صمودهم وتشبثهم بأفكارهم ومعتقداتهم التي تخالف السائد وتحرض على فعل المقاومة. كما زج بالعديد من المفكرين وأصحاب النظريات الكبرى في قضبان السجون، ويمكن ان نسرد العديد من الحكايات التي تعلقت بالمناضلين والمفكرين الذين دخلوا السجن وانطلقوا نحو بناء صورة جديدة على الواقع السجنى وتأسيس ملحمة ثقافية تشع على الإنسانية وتجعلها تقيم مراجعات على ما هو ثابت. فعلى سبيل المثال يستحضر الأفراد شخصية "علي شورب" ويعتبرونها ملهمة ومؤثرة في تبرير الإجرام على النحو الذي يصطبغ فيه فعل المقاومة بالانحراف، فتتشكل لديه صورة ثقافية تحفز على التمرد وتجاوز القانون، واستبطان مفاهيم القوة والعنف وكأنها سمات اجتماعية محمودة تستمد عتوها من رمزية هذا المثال الثقافي المنشود. فالإجرام ينتعش من الذاكرة الشعبية من خلال ذوبان المخيال في رموز الانحراف والانشغال بسردياتها اللذيذة، حيث النضال ضد الاستعمار ومشاكسة رجال المستعمر، وفي نفس الوقت ممارسة العنف والانحراف. هذه الازدواجية السلوكية، بين ما هو نضال وما هو تمرد، أسهمت في ترسيخ هذا الرمز الثقافي ووظفته لصالح حالة ثقافية مدمرة للسلم الاجتماعي، حيث اللا تناسق واللا تواصل في النسيج الاجتماعي؛ معنى ذلك أن هناك تعابير عديدة لدى المجرمين تظهر العلاقة بين العنف والمقاومة، بشكل ساطع، لفظة "الحبس للرجال" التي تفصح عن معاني القوة والرجولة، وكأن السجين هو رهان المعارك الكبرى التي تستهدف النظام القائم والحيف الاجتماعي.
بالعودة إلى شخصية "علي شورب" التي يسعى العديد من الأفراد إلى تقليد ومحاكاة بطولاتها المزعومة، حيث الرغبة في الإجرام ناتجة عن المحاكاة التي تحفزها مقولات ثقافية مبثوثة في الفضاء العمومي، حيث المير اث الثقافي المشترك يحتفي بما تعتقده الجماعة، وتؤمن به على النحو الذي تصير فيه المقولات الثقافية الكاذبة حقيقة مطلقة يستبطنها ضحايا الرغبة المقلدة، فيتجمّل السجن بالرجولة ويتحول السجين إلى مثال ونموذج يحتذى به على الاعتبار أن "الحبس للرجال"، هذا الاجماع والتقديس لمكانة السجين هو في الحقيقة نوع من التبجيل الرمزي الذي يحفز عملية الإجرام.
تبقى مقاربة هذه السرديات الثقافية من زاوية التحليل الأنثروبولوجي مرتبطة أساسا بالشروط الاجتماعية والثقافية التي تتصل بالتجربة الذاتية والاجتماعية في ممارساتها وتمثلاتها، حيث النزوع نحو حفظ الذاكرة الجماعية والتلاعب بمضامينها وتوظيفها نحو مآلات مهددة ومدمرة للوجود الاجتماعي، حيث يستلهم الأفراد هذا الاعتباط الثقافي على النحو الذي يراهن فيه الخطاب الثقافي المضاد على العنف ويستمد شرعيته من الأمجاد، حيث الاستدعاء اللافت للذاكرة الجماعية، باعتبارها "عظمة معرفية" كما يقول بول ريكور، ومن ناحية أخرى، وبفضل حلول السرديات الثقافية المحفزة على فعل الإجرام، ترسخت الفكرة وسيطرت على ذهنية المتلقي، إذ صار الانحراف موضوعا عموميا ومسارا سلوكيا مستحوذا ومتلبسا على كينونات الأنا والآخرية، فالإجرام يأخذنا إلى عالم الامجاد ويحلق بنا عاليا إلى سرديات الماضي، حيث الحماسة والفتوة. وضمن هذا السياق، يقول بول ريكور إن "الذاكرة معرّضة للاستعمال وسوء الاستعمال، وإن سوء الاستعمال يتأتى من قمعها أو إجبارها او التلاعب بها[7]"، إذ يمكن أن يستثمر الأفراد رمزية الذاكرة الجماعية، فيتلاعب برمزيتها ويستثمر تضميناتها نحو التقرب من النمط الثقافي المضاد، حيث الانحراف والتوظيف الخبيث للإرث الثقافي والاجتماعي. فهذا التخفي وراء القديم من الأجل تبرير الإجرام يقوي مقبولية العنف ومشروعيته في ذهن المتلقي.
الخاتمة:
أصبحت عملية إعادة إنتاج العنف، من خلال السرديات الثقافية السائدة، مستمرة وجزءا من المشهد الاجتماعي التونسي، حيث يصعب الفصل بين فعل المقاومة وفعل الإجرام في الذهنية الثقافية السائدة؛ إذ المجرم يعتقد أنه يدافع عن الجماعة ويحميها من تسلط النظام القائم، فهيكلة الانحراف لا تخضع بالضرورة لمحددات اجتماعية كالفقر والتهميش، فتستند على مرتكزات ثقافية تكتسب مشروعيتها من موروث شعبي يحتفي بالسجن بوصفه فضاء مؤسسا للرجولة والفحولة، حيث إسقاط معاني القديم على الواقع الاجتماعي الجديد واستثمارها من أجل تبرير العنف وإيجاد ألية ثقافية تؤسس لمنطق الإجرام تتسرب للجسم الاجتماعي بطريقة ناعمة وسلسة، فيقتنع بها الفرد وينخرط في سردياتها العنيفة، حيث يصبح المخيال والذاكرة الجماعية في خدمة الدمار الاجتماعي.
فالخطاب الثقافي هنا، ومن خلال مقولات "الحبس للرجال" و"الحي يروح" يستنجد بمضمون التراث الشعبي، ليضفي قداسة عل المدنس ويحقق صفة الرضاء على الأفعال المذمومة. والأهم من هذا أن هذا التناقض في تمثل الموروث الثقافي يعطي أولوية للاعتباطي والهامشي، ولا يعير أية قيمة أخلاقية للانحراف ولا إلى مخاطره، ويفرض رؤية اختزالية للإجرام تقوم على اعتباره مبدأ ثقافيا وحالة اجتماعية حتمية قد تتمايز بتمردها على السلطة الجماعية وفروضها الأخلاقية. فالإجرام، بفضل هذه السرديات الثقافية، ضمن مقبولية سلسة، وكأنه نوع من البطولات والفعل النفعي، حيث التصور الجديد للسلوك الفردي والاستسلام للأفكار المدمرة للسلم الاجتماعي على النحو الذي يصير فيه العنف ممارسة إنسانية ممجدة، مما يضعنا أمام تساؤل حول الذاكرة الجماعية ومضامينها الثقافية المغشوشة.
قائمة المراجع والمصادر:
- أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية: إنجليزي فرنسي عربي، الطبعة الأولى، مكتبة لبنان، بيروت.
- ستيفان تونيلا، سوسيولوجيا الفضاءات الحضرية العامة، ترجمة إدريس الغزوانوي، المجلة العربية لعلم الاجتماع: إضافات، الجمعية العربية لعلم الاجتماع، العدد 46، بيروت 2019.
- أكسيل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف، القواعد الأخلاقية للمآزم الاجتماعية، ترجمة جورج كنورة، المكتبة الشرقية، بيروت، 2015.
- غوستاف لوبان، سيكولوجيّة الجماهير، ترجمة هشام صالح، دار الساقي، الطبعة الألى، بيروت، 1991.
- نادية رضوان، الشباب المصري المعاصر وأزمة القيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997.
- خميّس طعم الله، مناهج البحث وأدواته في العلوم الاجتماعي، مركز النشر الجامعي، الطبعة الأولى، تونس 2004.
- جيل دوليز، الاختلاف والتكرار، ترجمة وفاء شعبان، المنطقة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009.
قائمة المراجع والمصادر باللغة الفرنسية:
- N, Fraser, Qu’est –ce que la justice sociale ? paris, 2011.
- Claud Levi-strauss, la pensée sauvage, Plon, Paris, 1962.
- Fichier G.N (2005), les concepts fondamentaux de la psychologie sociale, 3éme Edition Paris, Dunod
- Georges Balandier, anthropo- logiques, librairie générale Française, Paris 1985.
- Marcel Paquet, René Magritte la pensé visible, Ed. Bendikt Taschen, Germany 1992.
- Pierre Bourdieu, la distinction, critique sociale du jugement, Ed Minuit, Paris1979.
- Alfred Pacquement, Richard Serra, Ed, centre Pompidou, Paris, 1993.
- Benjame Melkevik, Tolérance et modernité juridique, Presses de l’université Laval, Canada 2006.
قائمة المواقع الرقم
- https://ar.wikipedia.org/wiki/
- https://www.imlebanon.org/
- https://science-juridique.blogspot.com/
[1] - باحث تونسي في علم الاجتماع
[2] مصدر رقمي مأخوذ بتاريخ 23-09-2021 https://l.facebook.com/l.php?u
[3] وهو عالم الإجرام الإيطالي ولد في لومباري عام 1956 ومؤسس المدرسة الابطالية لعلم الإجرام. شغل منصب رئيس تحرير صحيفة الاجتماع الإجرامي.
[4]مصدر رقمي بتاريخ 20-09-2021 https://stringfixer.com/ar/Enrico_Ferri
[5] طاهر لقوس علي، السلطة الرمزية عند بورديو، الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، 2017، ص. 42 و43
[6] فهمي سليم الغزي واخرون، المدخل إلى علم الاجتماع، الطبعة الأولى، دار الشروق للنشر والتوزيع، لبنان، 1993، ص. 166
[7] عقيل البكوش، سياسة الذاكرة في سياق العدالة الانتقالية: حالة هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، مجلة إضافات، عدد46، الجمعية العربية لعلم الاجتماع، بيروت، 2019، ص. 168