"الإسلام الإسباني في القرن السادس عشر: هُويات مُوريسكية مُقاومة"
فئة : قراءات في كتب
"الإسلام الإسباني في القرن السادس عشر:
هُويات مُوريسكية مُقاومة"([1])
لئن كان حضُور الإسلام في أوروبا شمال جبال البيريني خلال الفترة الحديثة قد لقي في السنوات الأخيرة عناية خاصّة من الباحثين، حيث يُمكن أن نذكُر كتاب الأستاذين برنارد فينسنت والأستاذة جاكلين دخلية: "المسلمون في تاريخ أوروبا: اندماج غير مرئي"[2]، أو كتاب الأستاذة لوسات فالنسي: "هؤلاء الغرباء القريبون. المُسلمون في أوروبا من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر"[3]، فإنّ موضوع الإسلام في إسبانيا خلال الفترتيْن الوسيطة والحديثة قد لقي ومازال عناية كبيرة من قبل الباحثين.
لئن اهتم مُؤرّخو الفترة الوسيطة بخصوصيّة الحضارة الإسلامية في الأندلس؛ أي عندما كان الإسلام هو دين الدولة أو الأغلبية -على الأقلّ في مستوى الهيمنة على السلطة-، فقد درس مؤرّخو الفترة الحديثة (منذ بداية من القرن السادس عشر) الإسلام وقد تحوّل إلى ديانة أقلّية أو بالأحرى ديانة سرّية، أتباعُها الذين تحوّلت تسميتهم من "الأندلسيّين" إلى "الموريسكيين" Moriscos في حالة اضطهاد أو مُراقبة متواصلة من قبل محاكم التفتيش والسلطات المركزية والمحلّية.
في إطار مُتابعة المرحلة الثانية والأخيرة من الإسلام في إسبانيا؛ أي الإسلام السرّي يتنزّل كتاب الأستاذ برنارد فينسنت: "الإسلام الإسباني في القرن السادس عشر: هُويّات مُوريسكية مُقاومة". قبل أن نخُوض في محتوى هذا الكتاب المهمّ، علينا بدايةً أن نُقدّم بعض الملاحظات حول عنوانهِ، فهو يُؤكّد توجّه الكاتب الذي أعرب عنهُ طيلة ما يجاوز الأربعين عاما من البحث، وخصوصًا في كتابه المشترك مع أنطونيو دومنغاث أورتيث: "تاريخ الموريسكيين: حياة ومأساة أقلّية"[4]؛ أي اعتبار الإسلام والموريسكيين جزءًا من التاريخ الإسباني، لا كما سوّق منظّرو التاريخ التبريري الإسباني[5]، وحتّى بعض الكتّاب المُعاصرين، الذين اعتبروا الإسلام والموريسكيّين غُرباء عن شبه الجزيرة الإيبيرية عُمُومًا، ومُجرّد قوس صغير في تاريخ إسبانيا، أغلقتهُ قرارات الطرد التي أصدرتها السلطات الإسبانية ما بين عامي 1609 و1614.
كان لهذه المُقاربة التي دعّمها برنارد فينسنت في التعامل مع التاريخ الموريسكي تأثير هامّ على مسارات البحث، حيثُ سار على نفس الدرب خوسيه ماريا برسفال José María Perceval الذي قام تحت إشراف الأستاذ فينسنت بإنجاز أطروحة دكتورا تحمل عنوان: "أنماط كراهيّة الأجانب والعنصرية، صورة الموريسكي عند الملكية الإسبانية، من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر"[6]. كذلك من بين الأعمال الحديثة يمكن أن نذكُر كتاب: "شرق إسباني" لمارسيدس غارثيا أرينال وفرناندو رودريغاث مديانو[7].
إذا كان الجُزء الأوّل من عنوان الكتاب يُؤكّد على انتماء الإسلام والموريسكيّين إلى إسبانيا وتاريخها، فإنّ الجزء الثاني: "هويّة مُوريسكية مُقاومة"، يُؤكّد نقطة مهمّة، حاول المُؤلّف إبرازها في العديد من محاور الكتاب؛ أي أنّ تعريف الجماعة الموريسكية، لا يقُوم فقط على المكوّن الديني، بمعنى الانتماء للدين الإسلامي، بل يقوم كذلك على مكوّنات ثقافية عديدة، صنعت الهوية الموريسكية؛ أي: اللغة العربية أو جمعها مع اللغة الإسبانية حسب الجهة، اللباس، الأكل، العادات.... إلخ.
يتكوّن الكتاب من مُقدّمة وعشرين مقالاً، وقع تدوينها ما بين 1971 و2016. هذه المقالات يمكن تقسيمُها إلى ثلاثة محاور رئيسة:
أوّلاً: نظرة مُجتمع الأغلبية (المسيحيّون القدماء) للموريسكيين.
ثانيًا: الضغُوط التي مارسها مُجتمع الأغلبية على الموريسكيين من أجل سحق هويّتهم ودمجهم في مجتمع الأغلبية ومُقاومة الأقلية الموريسكية لهذه الضغوط.
ثالثُا: إبراز التنوّع والاختلاف بين الموريسكيين البلنسيّين والغرناطيّين، بين القاطنين في المناطق الحضريّة والريفيّة، وحتّى بين القرى المُتجاورة.
بالنسبة إلى المصادر المُعتمدة في هذا الكتاب، فهي حسب المُؤلّف: وثائق محاكم التفتيش التي تركتها عن زيارتها لجهة ريبيرا بلنسية La Ribera valencienne في 1574، ومُذكّرات فرنثيسكو نوياث مولاي Francisco Núñez Muley أحد الأعيان الموريسكيّين الغرناطيين.
منذُ المقال الأوّل، يؤكّد المؤلف على موضوع أساسيّ نرى أنّ الكتاب الذي نحن بصدد تقديمه قد نجح في إبرازه بشكل جليّ؛ أي ضرورة التفصيل في التعامل مع الجماعة الموريسكية، أو الاختلاف داخل الجماعة الموريسكية، "فـكلّهم - ليسوا - واحدًا" كما كان يقول رجل الدين والإخباري الإسباني خايمي بليدا Jaime Bleda. في هذا المستوى، يُؤكّد الكاتب أنّ الاختلاف لا يقتصر على المناطق الجغرافيّة الكبرى أي مثلا بين موريسكيّي بلنسية وغرناطة أو بين موريسكيّي قشتالة وأراغون، بل يشمل الاختلاف حتّى القُرى المتجاورة، مقدّمًا على ذلك مثال قرى دي ريبيرا بنيمودو Benimodo، بنيمسلم Benimuslem، كارلت Carlet، فإذا كان مُعظم سُكّان القرية الأولى لا يحسنون الكلام باللغة الإسبانية، فإنّ معظم سكّان القريتين الأخيرتين (خصوصًا من الرجال) قادرون على الإجابة عن أسئلة محاكم التفتيش باللغة الإسبانية.
لا يشمل الاختلاف داخل المجموعة الموريسكية فقط الجانب اللغوي، بل يشمل كذلك الجوانب الفيزيولوجية، فكما يبيّن في المقال الثالث المعنون بـ: "ماهي الصفات الفيزيولوجية للموريسكي؟"، نجد من بين الموريسكيين وكجميع الشعوب: الطويل والقصير؛ الأشقر والأسمر...، فلم يكونوا جميعًا كما حاول أن يصوّرهم منظّرو الطرد، سمرًا، يُشبهون سكّان شمال إفريقيا، بل يُؤكّد فينسنت على غياب أو طفافة الاختلاف بين الموريسكيّين والمسيحيّين القدماء.
ومن الجوانب أيضا التي تُؤكّد التنوّع داخل الجماعة الموريسكية، والتي لم تحضر بصفة قوية في هذا الكتاب، الحالة الإيمانية للموريسكيّين. فإن كُنّا نجد مجموعات مهمّة قد حافظت على إيمانها الإسلامي، فإنّ أعدادًا أخرى قد اعتنقت الديانة المسيحية، فهنا يمكن أن نُشير إلى حالة الريكوتي في رواية دون كيخوت، أو إلى عديد الوثائق الأرشيفيّة الإسبانية التي تتحدّث عن عودة أعداد من الموريسكيّين بعد صدور قرارات الطرد، وإعلانهم بأنّهم مسيحيّون ويرغبون في الموت كمسيحيّين.
اعتناق أعداد من الموريسكيين للمسيحية أو نجاح عملية تحويلهم الديني من الإسلام إلى الكاثوليكية، هو كما يبرز المؤلف نتيجة لضغط الأغلبية (المسيحيّين القدماء) على الأقلية من أجل الاندماج دينيًا وثقافيًا في المجتمع الإسباني. هذا الضغط يمكن القول إنّهُ قد تمظهر في اتجاهين: من جهة ضغط ناعم (اتجاه ترغيبي) يظهر في مختلف حملات التبشير كمهمّات برتلومي دي لوس أنخلس Bartolomé de los Angeles التي حدثّنا عنها الكاتب في المقال الثامن عشر؛ ومن جهة ثانية ضغط قاسٍ (اتجاه عقابي) يظهر في تحقيقات ومحاكمات محاكم التفتيش، التي حدّثنا عنها المُؤلّف في مقاله السادس عشر من خلال مثال محاكم التفتيش في قرية بنيمودو، حيث بيّن كيف كان رجال هذه المحاكم يبحثون عن أبسط التفاصيل الدينيّة أو الثقافيّة التي تربط المُتّهم بالإسلام. فقد كان المُحقّقون يبحثون إن كان الرجال مختونين أو لا، أو إذا كان الشخص يحمل اسمًا عربيًا بالإضافة إلى اسمه المسيحي، وإذا كان يُصلّي، يصوم، يحتفل بالأعياد الدينيّة الإسلامية كعيديْ الفطر والأضحى...
في هذا المستوى؛ أي رغبة محاكم التفتيش في محو هويّة الأقلّية الموريسكية، يُؤكّد فينسنت أنّ المحقّقين لم يكونوا يبحثون فقط عن إدانة المتّهم، بل كانوا يبحثون دائمًا عن "حُماة الهويّة" أو على حدّ تعبيره: "الوسطاء الثقافيّين"، أو: "المُهرّبون الثقافيّون". رغبة المُحقّقين الملحّة في قطع حبل التواصل الثقافي بين أجيال الموريسكيّين، قابلها كما يُبرز الكاتب مقاومة قويّة من أفراد الأقلية، حيث وإن كان الفرد يعترف بأنّهُ قد مارس بعض العبادات الإسلامية، فإنّهُ لا يعترف بمن علّمهُ تلك العبادات، وإذا تعلّق الأمر بالختان فجميع الموريسكيّين، يؤكدّون نسيانهم تمامًا لهذه العمليّة.
في نفس الإطار، عملت السلطات الإسبانية على تحويل الفضاء العامّ من فضاء إسلامي يُعبّر عن هويّة الأقلية، إلى فضاء مسيحيّ يُعبّر عن هويّة الأغلبيّة. من هنا وكما يُظهر المقال الرابع عشر تمّ تدمير أو تحويل وظيفة المساجد والحمّامات واحتلّ مكانها كنائس وبناءات مسيحيّة، بل تجاوزت الأغلبيّة في محاولتها سحق هويّة الأقلّية الموريسكيّة الفضاء العامّ إلى الفضاء الخاصّ، حيثُ أُمر الموريسكيّون بترك أبواب منازلهم مفتوحة يوميْ الجمعة والأحد وفي الأعياد الدينية.
الموضوع الثاني الذي نرى أنّ الكاتب قد نجح في إبرازهِ، هو موضوع ازدواجيّة الهويّة الموريسكية، والتي كانت نتيجة حالة الضغط والمقاومة التي عاشتها الجماعة الموريسكية؛ بمعنى أنّ ضغط الأغلبيّة المسيحيّة أكسب الهويّة الموريسكية مكوّنات مسيحيّة-إيبيرية، في حين أنّ المُقاومة حفظت المكوّنات الإسلامية-العربية-البربرية (الأندلسية)، لتكون النتيجة الهويّة الموريسكية التي تقوم على الازدواجيّة.
تقريبًا كُلّ المقالات الواردة في الكتاب تؤكد على هذه الازدواجية، كموضوع ازدواجية استعمال اللغة الذي عالجهُ الكاتب بإطناب في المقال الثاني عشر. فقد كانت اللغة الإسبانيّة هي لغة الفضاء العامّ: التجارة، المعاملات التجارية، الكنيسة... في حين كانت اللغة العربية هي لغة المنزل والتواصل بين أفراد العائلة وربّما كذلك الجماعة الموريسكيّة.
أيضًا هذه الازدواجية، تظهر في الازدواجية الدينيّة؛ أي بين الإسلام دين الجماعة أو الدين المُؤمن به سرًّا والديانة المسيحية، ديانة الأغلبية أو الديانة المفروض اعتناقها على الموريسكيّين. فمنذُ صدور قرارات التعميد القسري للموريسكيّين في بداية القرن السادس عشر لم يعد هناك وجود علني للإسلام في شبه الجزيرة الإيبيرية.
كنتيجة لهذه الازدواجية الدينية حمل العديد من المُوريسكيّين اسمين اثنين: واحد عربي سرّي، هو الاسم الذي يُعرف به الفرد في المنزل أو بين أفراد الجماعة، والثاني إسباني هو الاسم الرسمي الذي يُعرف به الفرد أمام السلطات الرسمية والدينيّة، فمثلا الموريسكي عصمت شرشل حمل اسم ميكال وفاطمة أصبحت أنجيلا (لمزيد التفاصيل حول هذا الموضوع انظر المقال العاشر). أيضًا يمكن أن نُظيف مثال الموريسكي الشهير، أحمد بن قاسم الحجري الذي كان اسمهُ المسيحي ديغو بخارانو.
في مستوى الموضوعيْن الأساسييْن اللذيْن نرى أنّ هذا العمل قد أثبتهما؛ أي موضوع تنوّع وازدواجية الهوية الموريسكية، يُمكن أن نضيف أنّ هذه الخصوصية لم تقتصر فقط على فترة ما قبل الطرد -الفترة التي يتناولها الكتاب- بل تواصلت بعد الطرد في بلدان الشتات. فمن بين الأمثلة العديدة التي يمكن أن نُحيل عليها، نُذكّر في موضوع التنوع، باختلاف المجموعات المستقرّة في تونس. فمثلاً بعض المجموعات اختارت الاستقرار بمعزل عن المجموعات الموريسكية الأخرى، كالموريسكيّين الكتالانيّين بقريش الواد، الواقعة على ضفاف وادي مجردة جنوب غرب مدينة تونس، أو الموريسكيّين الأورناتشيّين الذين كوّنوا شبه "جمهورية" بمدينة سلا المغربية. أمّا في موضوع الازدواجية اللغوية والثقافية، فيمكن أن نُحيل أيضًا على الجماعة الموريسكيّة المُستقرّة في تونس، حيثُ بقي عددٌ من أفرادها (في تستور خصوصًا) يُحافظون على اللغة الإسبانية، بالإضافة إلى استعمالهم للعربية إلى ما بعد أكثر من قرن من وصولهم إلى البلاد (انظر يوميّات الراهب الإسباني فرنثيسكو خيميناث)، بل وبقوا إلى اليوم يحافظون على بعض العادات الإيبيرية في الطبخ والاحتفالات...
إجمالاً، يُمكن التأكيد مرّة أخرى على أهمّية هذا الكتاب، الذي ضمّ مجموعة مهمّة ومتنوّعة من المقالات التي اختارها الأستاذ برنارد فينسنت من بين عشرات الدراسات التي دوّنها حول الموضوع الموريسكي. أهمّية الكتاب لا تظهر فقط في سعة اطّلاع المؤلّف على بيبلوغرافيا الدراسات الموريسكية أو السنوات الطويلة التي قضّاها في هذا المبحث، بل تظهر أيضًا في المقاربة التي اتّبعها الأستاذ فينسنت، حيث كان ينطلق من التاريخ المحلّي إلى التاريخ العام، ومن التاريخ الفردي إلى تاريخ الجماعة، ممّا جعل هذا العمل ثريّا بالتفاصيل والأمثلة، فضلا عن كونه ثريّا بالاستنتاجات المهمّة.
[1] Vincent (Bernard), L’Islam d’Espagne au XVI siècle: Résistances identitaires des morisques, Sant-Denis, Edition Bouchene, 2017. 285p.
[2] Vincent (Bernard), et Dakhlia (Jocelyne) (dir.), Les Musulmans dans l’histoire de l’Europe, t. I: Une intégration invisible, Paris, Albin Michel, "Bibliothèque Histoire", 2011.
[3] Valensi (Lucette), Ces étrangers familiers. Musulmans en Europe (XVIe-XVIIIe siècle), Paris, Éd. Payot & Rivages, impr. 2012
[4] Domínguez Ortiz (Antonio), Vincent (Bernard), Historia de los moriscos: vida y tragedia de una minoría, Madrid, Revista de Occidente, 1978
[5] من بين كتاب "التأريخ التبريري" يُمكن أن نذكُر:
Bleda (Jaime), Defensio fidei in causa neophytorum sive Morischorum regni Valentiae totiusque Hispaniae, Valencia, Apud J. C. Garriz, 1610; Crónica de los moros de España, Valencia, Felipe Mey, 1618; Fonseca (Damián), Justa expulsión de los moriscos de España, Rome, Jacomo Mascardo, 1612; Aznar Cardona (Pedro), Expulsión justificada de los Moriscos españoles, Huesca, P. Cabarte, 1612; Guadalajara y Javier (Marcos de), Memorable Expulsión Y Justísimo Destierro De Los Moriscos De España, Pamplona, Nicolás de Assiayn, 1613; Producción y destierro de los Moriscos de Castilla, hasta el valle de Ricote, con las dissensiones de los hermanos Xarifes, Pamplona, Nicolas de Assiayn, 1614.
[6] José María Perceval, Arquetipos de la xenofobia y del racismo: La imagen del morisco en la monarquía española durante los siglos XVI y XVII, Bernard Vincent (dir. tes.). École des Hautes Études en Sciences Sociales (EHESS),1993.
[7] García-Arenal (Mercedes) ; Mediano (Fernando Rodríguez), Un Oriente español - Los moriscos y el Sacromonte en tiempos de Contrarreforma, Madrid, Marcial Pons, Ediciones de Historia, 2010.