الإسلام... الدولة والدين هادئة مع محمد عابد الجابري


فئة :  مقالات

الإسلام... الدولة والدين هادئة مع محمد عابد الجابري

الإسلام... الدولة والدين

هادئة مع محمد عابد الجابري

ملخص الدراسة:

تناقش هذه المقالة/الدراسة موقف الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري من مفهوم العلمانية المثير للجدل في الفكر العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهو الموقف المناهض والرافض للفكرة جملة وتفصيلا، على أساس اختلاف التجربتين التاريخيتين الإسلامية والمسيحية، وعلى أساس كذلك أن العلمانية هي فصل الدين عن الكنيسة، والإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة...فالإسلام دين ودولة منذ أن تساوقت الدعوة مع تأسيس الدولة في عهد النبوة في يثرب /المدينة.

المثير...والاستجابة

في العقود الأخيرة من القرن العشرين وحتى السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين كان موضوع العلمانية من أهم الموضوعات المطروحة على طاولة النقاش السياسي والفكري في العالم العربي، كما كان مادة دسمة للسجّالات والمناظرات في الندوات والملتقيات والمؤتمرات ووسائل الاتصال السمعي البصري، وحتى في شبكة التواصل الاجتماعي، كما كان هذا الموضوع "الحسّاس" والباعث على النقاش مجالًا خصباً للبحث العلمي/الفكري في مراكز البحث والجامعات. ولا غرو أن كان طرح فكرة العلمانية في الفكر العربي/الإسلامي هي المُثير، وكانت الاستجابة دائماً هي رفض الفكرة وشيطنة المفهوم، ووضع الداعين لها في قفص الاتهام.

والشيء الملاحظ أن النقاش حول علاقة الدين بالسياسة، قد ازداد سخونة منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كما ارتفع منسوب الاهتمام بالإسلام والتاريخ الإسلامي والشريعة وقضايا السياسة الشرعية والفقه السياسي، وزاد الاهتمام أكثر بموضوعة الدولة والدين والسياسة. وما يلاحظ أن الموضوع الذي نال حصة الأسد هو "جدلية الدين والسياسة في الإسلام المُبكر" وما يرتبط بهذا الموضوع من قضايا ومشكلات وعلى رأسهم مشكلة الخلافة، حيث الصراع الحضاري على السلطة بين كبار الصحابة، ومشكلة الخلافة كانت السبب الرئيس في حدث جلل اسمه الفتنة الكبرى. أما ما جعل هذه القضية تحوز كل هذا الاهتمام في إسلام القرن العشرين هو السقوط المدوي لنظام الخلافة العثمانية السنّية على يد الجنرال التركي مصطفى كمال عام 1924.

أما قضايا التراث وخاصة قضايا التراث الفقهي/التشريعي، فقد كانت ومازالت من القضايا العالقة والعائقة، التي لم يحسم فيها النقاش منذ بدايات تشكل الخطاب العربي الحديث في منتصف القرن التاسع عشر، أقول إن النقاش في إشكالية الدين والسياسة لم يهدأ؛ وذلك بالتزامن مع تصاعد المد الديني الأصولي وظهور وانتشار ما يسمى بإسلام البترودولار، خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط عقب حرب أكتوبر عام 1973، ونشوب الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، وحرب الخليج الأولى بين العراق وإيران عام 1980 وحرب الخليج الثانية عام 1991، وانفجار موجة الإرهاب الأولى والثانية في الثمانينيات والتسعينيات من طرف الجماعات التكفيرية، خاصة في مصر والجزائر وكذلك من الأحداث البارزة، اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 والثانية عام 2000.

كل هذه الأحداث ساهمت في تأجيج النقاش ورفع درجة حرارة السجّال، ودفعت الكثير من الباحثين للكتابة في إشكالية الإسلام والعلمانية. ولهذا، لا نندهش من هذا السيل الجارف من الكتابات في هذا القضية التي لا تسقط بالتقادم، وهي كتابات في شكل سجالات، بين الدعوة المتجددة إلى العلمنة؛ أي زيادة الطلب على العلمنة في الحياة السياسية والاجتماعية، والدعوة المتكررة إلى رفضها.

ولا بد من التنبيه هنا، إلى نوع جديد من الكتابات في الدعوة إلى فكرة العلمانية، وكما أشرنا في دراسة سابقة[1]، بدأ هذا النوع يرى النور مؤخرًا، يحاول أن يتقيد بالصرامة المنهجية والالتزام بالقواعد العلمية/الموضوعية[2].

واللافت للانتباه إلى أن الدعوة الجديدة إلى العلمانية، وبصوت عالٍ هذه المرة، جاءت كرد فعل ضد المشروع السياسي/الديني الأصولي المتنامي في المنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي، هذا المشروع الماضوي الذي يرتكز بالدرجة الأولى على ثلاثة مبادئ، وبعبارة أخرى كان يروم تحقيق ثلاثة أهداف، كُلَّها تصب في بوتقة واحدة هي الأسلمة[3] -Islamisation- إن صَّح هذا التعبير، وهي:

أولا...أسلمة المجتمع: وذلك بتدييّن المجتمع بكل فئاته وشرائحه وطبقاته، بواسطة نشر الثقافة الفقهية في كل مفاصل المجتمع؛ وذلك من خلال الإفراط في بناء المساجد والمدارس القرآنية، ونشر التعليم الديني وتكثيف البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون وفي وسائل التواصل الاجتماعي إلى درجة التخمة، وبالتالي ضرب عصفورين بحجر واحد، تمهيد الطريق أمام ممارسة الهيمنة - hégémonie - على أفراد المجتمع وجماعاته، وخلق رؤية دينية للعالم - la vision du monde - الرؤية التي لا ترى غير الكفر والإيمان والجنة والنار والملائكة والشياطين واليهود والمسيحيين...إلخ.

ثانيًا أسلمة الدولة: وذلك بإتباع تكتيك التَّغلّغل في كافة مؤسسات الدولة (التمكين)؛ أي بالاستحواذ على المناصب الحساسة والسطو على مناصب صنع القرار، وخاصة في القطاعات التي تلبي حاجيات الهيمنة والسيطرة، مثل التعليم والإعلام والشؤون الدينية والأوقاف. وهذا التكتيك يساعد على تحقيق هدف إستراتيجي هو ممارسة السيطرة على الجميع، بعد أن تمت عملية الهيمنة بنجاح وعلى الجميع.

ثالثًا أسلمة القانون: وذلك بإحلال فقه وفتاوى الشريعة الإسلامية التي تشكل مَنطقها وتأسست طرائق ومناهج الاستدلال فيها في القرن الثاني والثالث الهجري في عصر التدوين؛ أي في القرون الوسطى، وبالتالي صدرت في مناخ سياسي/ ثقافي يقوم على التمييز - la discrimination- بين الجنسين الذكر والأنثى، وبين الرعايا، العربي وغير العربي، وبين المسلم وغير المسلم، ويميز بين الطوائف، السنة والشيعة والخوارج، ويميز بين الإنسان العبد والإنسان الحر، أقول إحلال الشريعة القديمة محل القوانين المدنية العصرية خاصة تلك التي تراعي حقوق الإنسان.

وهكذا تم في بعض البلاد العربية إحلال الفتوى في مكان القانون، وتم تداول مفاهيم دينية لاهوتية / محضة من قبيل الحلال والحرام بدل مفاهيم القانون المدني خاصة ذات المرجعية الليبرالية/ الديمقراطية.

رابعا أسلمة الاقتصاد؛ وذلك بإلصاق لفظ الإسلامية على مفاهيم حديثة كأن يقال الاقتصاد الإسلامي، البنوك الإسلامية والصيرفة الإسلامية، بالإضافة إلى تشجيع ما يسمى باقتصاد البازار والسوق الموازية والتجارة الحرة الموازية، وإحلال الزكاة محل الضرائب واعتبار فوائد البنوك ربا!

وكما سبق القول، إن فعل/ مثير الدعوة إلى فصل دائرة الدين عن دائرة السياسة والتبشير بقيم ومبادئ العلمانية، كان يعبقه رد فعل/استجابة، يتمثل في صفارات الإنذار وبيانات الشجب وخطب التنديد ومناشير التحذير من شرور العلمانية والتنبيه إلى مساوئها وخطرها الداهم على العقيدة الإسلامية.

ومن المشاهد المتكررة في التاريخ العربي المعاصر، هو أنه في البداية تعطى إشارة الانطلاق إلى رسالة التبشير بالعلمانية ومزاياها ومحاسنها، ثم يعقبها رسائل الإنذار في الفكر الإسلامي، هذه الظاهرة وقعت في بداية القرن العشرين، وتكررت في بداية القرن الواحد والعشرين في العالم العربي، ويبدو أن الأمر سيتكرر في بداية القرن الثاني والعشرين.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، إنه من السهل معرفة من يرفضون فكرة الفصل بين الشأن الديني والشأن السياسي، ومن لا يحبذون رؤية وجه من أهم وجوه الحداثة السياسية وعلامة من علامات الدولة الحديثة؛ أي الدولة -الأمة التي تشكلت في القرون الأربعة الأخيرة في أوروبا أولا، ثم انتشر هذا النموذج في باقي أرجاء المعمور، بسبب منطق التوسع الرأسمالي/الاستعمار.

أقول إنه من السهل معرفة من يرفضون الفصل وما يرتبط بهذا الفصل من مشتقات، وخاصة مشتقات الحداثة بمفهومها الواسع والعقلانية بمعناها العميق والديمقراطية وما تتضمنه من حقوق وحريات وما تعنيه من فصل للسلطات ومن إجراء لانتخابات حرة ونزيهة.

ومن المعروف أن التيار الإيديولوجي الذي يرى العلمانية مفهومًا غير مرغوب فيه يتمثل أساسًا في جماعات الإسلام السياسي، بكل أنواعها وأشكالها وفصائلها وتنظيماتها، سواء في شكل التنظيم السياسي الحزبي أو شكل تنظيم المجتمع المدني مثل الجمعيات الخيرية، هذه الجماعات التي ترفض الفكرة وتعارض الدعوة إلى العلمانية، كما أنها لا تحبذ طرح الموضوع فقط، بل تلصق بصاحب الدعوة جملة من الاتهامات منها الخروج من المِلّة والمروق عن الدين والردة عن الدين ومعاداة للإسلام؛ ففي المرحلة الأولى تصدر التهم، وفي المرحلة الثانية يصدر حكم "شرعي" بالقتل، وبالتالي يصبح دم هذا المفكر أو الكاتب حلالاً مُستباحًا، وفي المرحلة الثالثة تتولى الجماعات الجهادية تنفيذ الحكم، واغتيال عدد من المثقفين الجزائريين في تسعينيات القرن الماضي خير مثال على ذلك.

ومن البديهي القول، إنه إذا كان من السهل تحديد مناهضي العلمانية، فإنه من الصعب القبض على موقف بعض المفكرين ومعرفة رأي بعض المثقفين والإمساك بوجهة نظر بعض الكتاب في العالم العربي من هذه المسألة التي يفضل الكثير من النخب السياسية والفكرية والأكاديمية الخوض فيها، وحتى بعض الأحزاب السياسية وبعض منظمات المجتمع المدني وبعض أنظمة الحكم، من المحيط إلى الخليج، يرون من الأفضل عدم اتخاذ موقف واضح ومحدد منها طلبًا للسلامة والعافية، إما خوفًا من العامة- la foule- طمعاً في رضاها وسكوتها هؤلاء العامة الذين تكاثر عددهم بسبب الانفجار الديمغرافي، أو رهبة من الخاصة؛ أي من الطبقة السياسية الحاكمة، كما أن بعض المثقفين في هذه القضية يلتزمون الصمت، ويحسبون ألف حساب لجماعات الهوس الديني التي خُلقت لتقتل! أو يسعون إلى إرضاء السلطة السياسية في إطار التطبيل للحاكم الذي هو في حد ذاته يستغل الدين لإرضاء العامة ويوظفه لستر عورة اللاَّشرعية بسبب غياب الشرعية القانونية- الدستورية!

ومن المعروف عمومًا، أن المثقف العربي تتغير مواقفه عندما يتغير موقعه في الخريطة السياسية؛ فموقفه وهو في المعارضة يختلف تماما عن موقفه وهو مع السلطة السياسية أو قريب منها. كما تتغير مواقف المثقف كلما تقدم في السن، وبعبارة أفصح المثقف العربي، وهو شاب هو غيره المثقف وهو شيخ. أما وهو في منتصف العمر، فيتميز موقفه بالتذبذب والتردد، حتى لا نقول بالتناقض، وعندما يبلغ من العمر عُتيا، يتغير موقفه مائة وثمانين درجة- 180- عن الموقف الذي أخذه في كتاباته الأولى.

ولهذا لا غرو أن يبدأ بعض المثقفين العرب مشوارهم الفكر ي والسياسي بوصفهم يساريين، بل ويتبنون المنهج الماركسي- اللينيني، ثم يتحولون في نهاية العمر إلى إسلاميين متشددين، وهناك حتى من الباحثين من ينطلق من الدعوة إلى دولة اشتراكية ويصرخ بأعلى صوته بتطبيق العدالة الاجتماعية، وينادي بتحرير المرأة، بل يصدر "بيان من أجل الديمقراطية" ولكنه ينقلب أيديولوجيًا رأسا على عقب، وينتهي في نهاية المطاف عند المطالبة بدولة إسلامية ويرفع شعار تطبيق الشريعة، ويترشح في الانتخابات رافعا شعار "الإسلام هو الحل"، بل يعتبر المرأة عورة يجب أن تُغطى بالكامل؛ أي يطالب السلطات القائمة أن تفرض على النساء والفتيات أن تلبس الحجاب وتضع النقاب!

وفي المقابل، كان هناك ثلة من المفكرين العرب لهم مواقف واضحة ومحددة من فكرة الفصل هذه، كما اتسمت كتاباتهم بالجرأة والشجاعة إلى درجة التهور من مسألة العلمانية من البداية حتى النهاية، وجاءت نصوصهم في منتهى العقلانية والنزعة النقدية وإنتاجاتهم الفكرية تنضح بالحداثة والتنوير، نذكر منهم وهذا على سبيل المثال ليس الحصر.. فؤاد زكريا ونصر حامد أبو زيد وعلي مبروك وياسين الحافظ وهشام شرابي وصادق جلال العظم وجورج طرابيشي وجورج قرم وعبد المجيد الشرفي وعزيز العظمة وناصيف نصار.[4]

لا ديمقراطية ولا عقلانية...بدون علمانية

ونحن في هذا المقال/الدراسة سوف نناقش موقف وأفكار الأستاذ الجابري ذات الصلة بالإسلام والسياسة. ومن المعروف أن هذا المفكر المغربي، هو صاحب المشروع الفكري العقلاني- النقدي "نقد العقل العربي" وصاحب الدراسات والمؤلفات الكثيرة في الفلسفة والثقافة والفكر والتراث وفي الفكر العربي المعاصر؛ وذلك في إطار السياق العام الذي نبحث فيه، وهو سياق العلمانية في الخطاب العربي المعاصر، وفي إطار الإشكالية التي نتحرك من خلالها، والتي صُغناها في عدة دراسات في سؤال إشكالي هو: كيف تناول الفكر العربي قضية العلاقة بين الدين والدولة منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم؟

ومن البديهي القول إن الفكر الإنساني، أيًّا كان هذا الفكر، سواء أكان فكرا فلسفيا أو دينيا أو تاريخيا أو علميا، ليس فقط أن هذا الفكر يجب أن يُناقَش ويُنقَد، بل ومن الضروري أن يقيم ويراجع ويعدل ويُنقَض.

ونحن في هذه المقالة/الدراسة، لسنا بصدد محاكمة هذا المفكر العربي الكبير؛ لأنه في نهاية المطاف هناك عدة عوامل هي التي تحدد توجهاته الإيديولوجية وتصوراته الفلسفية، ولا يهمنا إن كان يسبح مع التيار أو يسبح ضد التيار، فهذه مسألة متروكة للتاريخ، ثم إن المفكر أو الكاتب أو المثقف حر في أفكاره ومواقفه وفي سباحته، لكن ما يهمنا هو الانسجام الفكري والتناسق المعرفي والترابط المنطقي في الأفكار، ويهمنا إن كان الموقف تقدميا وصاحب رؤية مستقبلية أم كان الموقف رجعيا وصاحب رؤية ماضوية، وبعبارة أخرى نروم التركيز على الجانب التقدمي/النهضوي/التنويري في إنتاجات المفكرين، كما نتوخى تحديد الخطوط الفاصلة بين المعقول واللامعقول في كتاباتهم ومواقفهم.

والحقيقة التي لا مراء فيها أن صاحبنا، وفي كثير من قراءاته وتحليلاته النقدية للخطاب العربي، سواء القديم أو الحديث يتميز بقدر كبير من الصرامة المنهجية والتماسك المنطقي وبقدرة كبيرة على إقناع الملتقي لنصوصه ولخطاباته والقارئ لكتبه ومقالاته، ولكن في إشكالية العلمانية والإسلام جانبه الصواب، فوقع في جملة من التناقضات، وهو ما دفعنا إلى مناقشة مواقف وأفكار أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الرباط، لعدة اعتبارات أهمها أنه محسوب على المفكرين العرب المناهضين للعلمانية.

أما المنهجية التي سنتبعها في هذا لمقال، فهي عرض موقف الجابري كما هو، مع الحجج والبراهين ومناقشتها؛ أي القيام بدراسة تحليلية – نقدية لهذا للموقف المعارض لأطروحة استقلال الشأن الديني عن الشأن السياسي.

أعلن المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1935-2010) موقفه الواضح والمُحدَد من العلمانية في أكثر من مقال في أكثر من كتاب[5]، وهو مثله مثل جيل من الباحثين ومن المفكرين العرب الذين اشتهروا بأنهم من أصحاب المشاريع الفكرية التي ظهرت في الساحة الثقافية العربية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، نذكر منهم حسن حنفي وحسين مروة وطيب تيزيني ومحمد أكون. والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن هذا المفكر، إن كان يتميز بشيء، فإنه يتميز بالمعرفة العميقة للتراث العربي/الإسلامي وتخصصه في الفلسفة الإسلامية كتابة وتدريسا، ومعرفة واسعة بالفكر الأوروبي الحديث والمعاصر والفلسفة الغربية، كانت السمة الغالبة عليه هي النزعة النقدية والمنهج التحليلي- النقدي، والاستخدام الإجرائي للمفاهيم المعاصرة ومقولات الفكر العالمي بطريقة بها قدر لا يستهان به من المرونة والسهولة وبقدر من الوعي، بأهمية هذا المفهوم أو ذاك، وبطريقة استخدام وتوظيف هذه النظرية أو تلك وبأسلوب لغوي، أقل ما يمكن قوله عنه أنه أسلوب سهل ولكنه مُمتنع.

وبالتالي ما يلاحظ على كتابات ونصوص الجابري هو التوظيف الجيد والواعي لمفاهيم العلوم الإنسانية واستفادته من الفكر الغربي عموما، والفرنسي المعاصر خصوصا- وهو بالمناسبة فكر قائم على أسس علمانية- خاصة المنهج البنيوي وتوظيفه لمقولات ومفاهيم ومنهجيات من قبيل اللاشعور السياسي inconscience politique)) والمخيال الاجتماعي (imaginaire social) المجال السياسي (champs politique) وهي مفاهيم تعود في معظمها للفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، وهم كثر ونذكر منهم الأنثروبولوجي كلود ليفي شتراوس ولوسيان غولدمان وريجيس دوبريه ولوي ألتوسير وبرتراند بادي وميشيل فوكو، كما وظّف الأستاذ الجابري مفاهيم ومقولات ومصطلحات الثورات الفكرية المعاصرة، والتي كانت من صنع سيغموند فرويد وكارل ماركس وجورج لوكاش وأنطونيو غرامشي. لكن ما كان ينقص صاحب مشروع "نقد العقل العربي" هو تلك الجرأة في نقد المسلمات التي تميز بها فلاسفة وعلماء أوروبا في العصر الحديث، كما كانت تنقصه الشجاعة الفكرية في اقتحام السياج الدوغمائي، وخاصة نقد التراث وبصورة أخص نقد الخطاب الديني القديم والحديث، وهذا ما ظهر جليًا في موقفه المناهض للعلمانية؛ إذ يرفضها رفضا قاطعًا وغير مبرر في بعض الأحيان، مثله مثل بعض المفكرين البارزين نذكر منهم حسن حنفي وبرهان غليون؛ فالجابري يرفض أي شكل من أشكال العلمنة ومن كل النواحي من حيث اللفظ والمعنى والأغراض[6].

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، لا أحد ينكر أن هذا المفكر ناقد العقل العربي قام بجهد كبير فيما يخص تحليل وتفكيك النظام الثقافي/المعرفي العربي /الإسلامي، القديم والمعاصر، في سلسلة من المؤلفات التي حركت المياه الراكدة في الثقافة والفكر، ومن هذه الكتب نذكر "الخطاب العربي المعاصر" و"تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي" و"العقل السياسي العربي" و"العقل الأخلاقي العربي".

واللافت للنظر أن أستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس، ظل متَمسكا بموقفه المُناهض لفكرة استقلال الشأن الديني عن الشأن السياسي، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي وحتى وفاته عام 2010.

وغني عن البيان أن هذا الموقف كان واضحًا كل الوضوح من خلال الحوار المُسمى بحوار المشرق والمغرب بينه وبين المفكر المصري الكبير حسن حنفي، والذي نشرته مجلة اليوم السابع الفلسطينية الصادرة في باريس عام 1989، ففي ردّه على مقالة زميله المشرقي المعنونة بـ "الإسلام لا يحتاج إلى علمانية غربية". يرد عليه عابد الجابري في مقالة بعنوان "الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة" ومن العنوان يتَكشَّف البيان. وواضح من عنوان المقال أنه يرفض فكر العلمانية بوصفه شعاراً مزيفًا ... ومن وجهة نظره طبعا! وفي هذا الصدد يقول الأستاذ الجابري: ".. مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مُزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات".[7]

ولذا يقترح شعارات أخرى، والغريب في الأمر أن هذه الشعارات المقترحة هي نفسها شعارات الحداثة الغربية أو هي الوجه الأخر للحداثة، وبالتالي هي كذلك شعارات مُزيفة حسب منطق عابد الجابري! حيث يقول: "...و في رأيي من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية"[8]

أما التبرير الذي يقدمه صاحبنا في اختياره لهذا الشعار، فهو قوله: "إن الحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة هي حاجات موضوعية، فعلا إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها عندما يعبر عنها بشعار مُلتبس كشعار العلمانية...و في رأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية.."[9]

وهذا النص يحتم علينا طرح سؤالين هما: هل فعلا شعار العلمانية شعار مُزيّف؟ وهل شعار "الإسلام دين ودولة" شعار حقيقي؟ وللتذكير شعار "الإسلام دين ودولة" ما قال به أحد من القدامى لا في السياسة الشرعية ولا في الفقه السياسي. أما أول من قال به، فهو الشيخ حسن البنا (1906-1947) في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كانت الدعوة في مرحلة "المسكنة"؛ أي في مرحلة الكلام، ثم تحول مع تأسيس التنظيم الخاص إلى شعار "الإسلام مصحف وسيف"؛ أي في مرحلة الرصاص، مع تأسيس التنظيم الخاص بقيادة عبد الرحمن السندي.

ونسجًا على منوال الجابري وحسب هذا المنطق الذي يفكر به، وفي هذه الحالة شعار الديمقراطية هو كذلك شعار مزيف؛ لأنه لا يطابق حاجات المواطن العربي في الغذاء والإيواء والدواء والكساء؛ أي لا يحقق الحاجات البيولوجية للإنسان العربي، ولا يجسد على أرض الواقع الحقوق الاجتماعية ولا مبدأ العدالة الاجتماعية الذي كانت ترفعه الحركات اليسارية ليس فقط في المنطقة، بل في العالم كُلَّه.

وإذا دققنا في خريطة الإيديولوجية العربية المعاصرة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، نجد أن الكثير من التيارات لم يكن مفهوم الديمقراطية موجودا في قاموسها السياسي ولا مطروحا في جدول أعمالها.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن التيارات الإسلامية كُلُّها ترفض الديمقراطية- وإن قبلتها فعلى مضض-وترى فيها غزوا ثقافيا ونبتا شيطانيا[10]، ينتمي إلى فصيلة الأفكار الغربية المستوردة[11].

والجدير بالذكر أنه حتى جماعة الإخوان المسلمين، وهي الجماعة الأكثر اعتدالا ووسطية من بين كل تيارات الإسلام السياسي، قد قبلت بنوع من الديمقراطية، هي ديمقراطية الانتخابات أو ديمقراطية الصندوق، فهذه الجماعة قَبلت اللعبة الديمقراطية بهذه الصيغة وعلى مضض، وظهر ذلك جليًا أثناء ما يسمى بالربيع العربي. أما التيارات المسماة بالوطنية والقومية، فهي لم تهضم مفهوم الديمقراطية، بل إنها كانت تعتبره من الهرطقات[12].

وبالإضافة إلى ذلك، العلمانية هي الوجه الآخر للديمقراطية؛ بمعنى أن الدول العلمانية هي دولة محايدة تجاه جميع الديانات، وتقف على مسافة واحدة من جميع الطوائف، وتضع جميع المذاهب وجميع الكيانات، سواء أكانت دينية أم غير دينية على نفس خط الانطلاق، بالتالي الدولة الحديثة لا شأن لها بالمعتقد الديني، لا بمعتقد الأقلية ولا بمعتقد الأغلبية، ولا بأي معتقد ديني سماوي أو أرضي!

خلاصة القول الدولة تضمن فقط حرية ممارسة الشعائر والطقوس الدينية، كما تسهر على حماية حرية الاعتقاد وحتى عدم الاعتقاد، فالناس أحرار من يشاء فليؤمن ومن شاء لا يؤمن، فالدولة لا تحاسب الناس على إيمانهم ولا تعاقب تارك الصلاة ولا تعتقل الذي لا يصوم، ولا يهمها إن كان هذا الفرد مؤمنًا أو ملحدًا، ولا تُعر اهتماما إن كان هذا المواطن يعبد صنما أو يعبد بقرة أو يقدس شجرة، كما لا يعنيها إذا كان الناس يعتنقون المسيحية أو اليهودية أو الإسلام أو البوذية الزرادشتية.

ومن البديهي القول إن الأفراد الذين يعيشون في كنف الدولة، هم مواطنون بالدرجة الأولى، لهم نفس الحقوق ولهم نفس الواجبات، هم مواطنون-citoyens - وليسوا رعايا -sujets - ولا أهل ذمة! هم مواطنون بغض النظر عن معتقداتهم الدينية والمذهبية والعرقية، والمواطن في الدولة العلمانية الحديثة، يحاسب على مخالفته للنظام العام ويعاقب على خرقه للقانون فقط[13].

أما إذا كانت الدولة مُنحازة إلى دين الأكثرية من السكان ونصت في دستورها، على أن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للدولة والشريعة الإسلامية هي أحد مصادر التشريع الرئيسة، أو هي المصدر الرئيس للتشريع، ونصت على أن من شروط تولي الرئاسة والسلطة السياسية، الانتماء الديني أو الطائفي والمذهبي، فمن الطبيعي أن يترتب على ذلك سلسلة من الانحيازات لصالح الطائفة والمذهب، وتحدث تجاوزات ضد طوائف أخرى ومذاهب أخرى وديانات أخرى.

والنتيجة هي: هضم الحقوق وتقييّد الحريات للأقليات الدينية، ومنها الحق البسيط في بناء دور العبادة وفي حرية ممارسة أبسط الشعائر الدينية.

وفي هذه الحالة كيف يمكن التأسيس لنظام سياسي ديمقراطي، إذا كانت سياسة الدولة قائمة على التمييز بين المواطنين على أساس ديني وطائفي ومذهبي، كما هو حاصل في بعض البلدان العربية. ولهذا من الصعب إن لم نقل من المستحيل زرع بذور النظام الديمقراطي، بدون أسس علمانية وفي نفس الاتجاه الرافض لأي نوع من أنواع الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية، يقول محمد عابد الجابري: "...أنا أرى أن الإسلام دنيا ودين، وأنه قد أقام دولة منذ زمن الرسول، وأن هذه الدولة توطدت أركانها زمن أبي بكر وعمر، وإذن فالقول إن الإسلام دين لا دولة هو في نظري قول يتجاهل التاريخ .."[14].

ومعنى هذا الكلام أن الإسلام التاريخي هو الذي تأسست في ظله أركان الدولة، دولة النبوة ودولة الخلفاء/الصحابة، وهذا راجع لأسباب وعوامل تاريخية، وما دام الأمر كذلك، فيجب أن يبقى هذا الشكل من الدولة كما هو عليه، حتى إشعار آخر، هو الإطار المرجعي-التاريخي الذي يجب أن يستنسخ وتكون عليه الدولة العربية الحديثة؛ أي تحاكي نموذج دولة النبوة والخلفاء/الصحابة. هذا هو المعنى الذي فهمناه من كلام ناقد العقل العربي. أما نحن، فنتبنى الرأي القائل إن دعوة الإسلام عندما ظهرت في الجزيرة العربية لم تظهر داخل دولة؛ لأنه لم تكن هناك دولة في المنطقة. أما المسيحية، فقد وجدت نفسها زمن ظهورها داخل دولة كاملة الأركان، هي الإمبراطورية الرومانية / البيزنطية، وهذه إحدى الفروقات الكبيرة بين الإسلام والمسيحية. أما الإسلام، فقد جاءت دعوته في منطقة خالية ليس فقط من السياسة بل من الدولة! وفي حقبة سميت بعد الإسلام بالعصر الجاهلي، والجاهلية هنا تأخذ معنى غياب الوازع الديني والضابط القانوني؛ أي غياب الدولة.

ولذا كان لزامًا على المسلمين والعرب وفي إطار التأسيس للجماعة والاجتماع الجديد بناء السلطة السياسية أولًا، وهي الشكل الجنيني للدولة ثم تم الانتقال - بعد حرب أهلية ضروس - إلى دولة عربية -إسلامية المضمون ساسانية الشكل ثانيا؛ أي دولة بمقاييس ذلك العصر[15]، مع نهاية الخلافة القرشية/ القبلية، خلافة القادة التاريخيين المؤسسين للحكم التشاوري (الشورى)، أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، القائم على مبدأ الاختيار، وبداية قيام دولة الأمويين التي قام ملكها على أسس عشائرية وعلى الشوكة والغلبة والقوة مع الآباء المؤسسين للملك الوراثي العضوض، معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم.

وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة في غاية الأهمية، هي أن كل جماعة بشرية لا بد لها من سلطة سياسية في أي زمان وأي مكان، سواء أكانت عشيرة أو قبيلة أو جماعة دينية، وعندما نقرأ التاريخ السياسي للبشرية، نتأكد بالأدلة والشواهد التاريخية أن كثيرا من التجمعات البشرية القديمة التي كانت قائمة على روابط الدم والدين انتقلت على مراحل من التجمع البسيط، وهو العشيرة أو القبيلة إلى التجمع الأكثر تعقيدًا وهو الدولة، والدولة تطورت من دولة قديمة إلى دولة حديثة[16].

وكما نعرف اليوم الدولة بالمفهوم الحديث ظاهرة حديثة ظهرت فقط في القرون الأربعة الأخيرة في أوروبا، وفي ما بعد تم تعميم نموذج الدولة الحديثة في كافة أرجاء العالم وما كان في العصور القديمة والوسطى من مملكات وإمبراطوريات، وهو الشكل القديم للدولة.

مسألة أخرى لابد أن نشير إليها ونحن نناقش مفكرا من المختصين في مفهوم "المسكوت عنه"، وهي أن الإسلام، وحسب المنطق الأرسطي، هو أحد مصدقات مفهوم الدين، وبعبارة أفصح نقول مفهوم الدين هو عقيدة ما يؤمن أصحابها بوجود إله أو الله أو يهوه، هذه العقيدة تترجم في مجموعة من العبادات مثل الصلاة والصوم والحج وتتجسد في عدد من الطقوس والشعائر الدينية. أما مَصِدْقات هذا المفهوم فهي الإسلام، المسيحية، اليهودية، البوذية والهندوسية. ولهذا، فالإسلام دين يرتكز على مجموعة من العبادات والاعتقادات والمعاملات والشرائع. وما حدث في التاريخ العربي الإسلامي هو تحول قبيلة (قريش) بالتحالف مع مجموعة قبائل العربية في الحجاز، ومع التراكم التاريخي والتجربة السياسية الحاصلة في يثرب/ المدينة، هذه القبيلة انتقلت وتطورت من التنظيم الاجتماعي إلى التنظيم السياسي؛ أي إلى دولة، وباختصار القبيلة تحولت إلى دولة، لها جيش نظامي وسلطة سياسية واقتصاد ريعي، ولكن هذه الدولة حافظت على العصبية القبلية وبقيت السلطة في يد قبيلة قريش وعشيرة عبد مناف وسلالة بني أمية. وقد لَعبت الدعوة الدينية الإسلامية دورًا حاسمًا في هذا الانتقال من هذا التجمع البسيط إلى التجمع الأكثر تعقيدًا[17].

ونستطيع أن نقول إن الدين الإسلامي كان بمثابة الإيديولوجيا التي سوغت ذاك التحول من الشكل القبلي البسيط إلى شكل الدولة- الدولة بمعايير تلك الحقبة التاريخية- وبررت أسس إنشاء الدولة وشروط بقائها بمفاهيم دينية محضة من قبيل الجهاد والفتح والغزو والغنيمة والخراج والجزية والخلافة و"دار الحرب" و"دار الإسلام".

وما نخلص إليه أن منطقة الجزيرة العربية، كانت تمر بتحولات تاريخية كبرى في القرن السابع الميلادي، وكان الإسلام هو الفكرة أو الروح أو المطلق بتعبير هيغل، الذي حرك التاريخ في تلك المنطقة.

الإسلام والسلطة الدينية

من الحجج التي يقدمها صاحب شعار الإسلام دين ودولة قوله: "...ومنها أن مضمون أو مضامين هذا الشعار مرتبط بظاهرة دينية حضارية لا وجود لها في التجربة الحضارية العربية الإسلامية، وأكثر من ذلك يشجبها الإسلام ويفصل نفسه عنها. أعني بذلك ظاهرة "الكنيسة" بوصفها جهازا تراتبيًا هو المرجع في الشأن الديني يمارس سلطة روحية على الأفراد في مقابل السلطة الزمنية التي للحكام وينازعه عليها.. الدولة تملك أبدان الناس، والكنيسة تملك أرواحهم. وهذا لا يتأتى إلا في المجتمع الذي يكون فيه الدين مبنيا، لا على العلاقة المباشرة بين الإنسان والله، بل على علاقة تمر عبر "رجل الدين" الرجل الذي يتخذ العمل الديني مهنة ووظيفة، ويرتبط تنظيميًا بهيئة دينية عليا تعتبر نفسها المُشرِّع الوحيد في ميدان الحياة الروحية...".

والحقيقة أن هذا الكلام به قدر كبير من التجني على التاريخ الإنساني، ومن تجاهل للتاريخ الإسلامي، حيث تواجد وبقوة رجال الدين كما تحالفوا مع السلطة السياسية، ومازالوا كذلك حتى اليوم. ومن الأفكار الأساسية الأخرى التي ما فتئ داعية القطيعة الإبستمولوجية يرددها في ما يتعلق بمناهضته لشعار العلمانية شكلاً ومضمونًا، هي أن الإسلام ليس كنيسة كي نفصله عن الدولة، وهو يقول ذلك مستخدماً القياس الأرسطي كما يلي:

المقدمة الكبرى: العلمانية هي فصل الكنيسة عن الدولة.

المقدمة الصغرى: الإسلام ليس فيه كنيسة.

النتيجة: الإسلام لا يحتاج إلى علمانية[18].

والحقيقة أن المرء لا يحتاج إلى ذكاء كبير للكشف عن فساد هذا القياس؛ لأن المقدمة الكبرى خاطئة والصغرى كذلك خاطئة[19]، فليس صحيحًا تعريف العلمانية بأنها فصل الدين عن الكنيسة، بل هي فصل الدين، أي دين عن الدولة، وتحديد الدائرة التي تتحرك فيها الشؤون السياسية والدائرة التي تتحدد فيها الشؤون الدينية[20].

وليس صحيحًا أن يقال إن الإسلام ليس فيه كنيسة كي نفصله عن الدولة؛ فالطفل الصغير في السنة أولى ابتدائي يعرف أنه لا توجد كنيسة في الإسلام، ولكن وكما يقول ناقد نقد العقل العربي جورج طرابيشي: "...أجل وبداهة ليس فيه كهنوت ولكن فيه ككل دين رجال الدين ورجال الدين المسلمون ليسوا كهنة، ولكن وظيفتهم مثل أي رجال دين وهي القيام بشؤون هذه الوظيفة...وقد يقع خلاف على جواز هذه التسمية بالذات (رجال الدين) ولكن لا يمكن أن يقع خلاف على الواقع التاريخي لوجودهم، فهم موجودون وقد كانوا دائما موجودين.. فلا دين بلا رجال دين، إذن ليس في الإسلام كنيسة ولا كهنوت ولكن فيه سلطة دينية .."[21] نعم، ليس الإسلام كنيسة ولكن فيه سلطة دينية راسخة وقوية ومخيفة ولها أنياب ومخالب، وهذه السلطة الدينية في بعض مراحل التاريخ العربي الإسلامي مارست الإرهاب الفكري ضد كافة أشكال الإبداع والابتكار والتجديد قديمًا وحديثًا، وأرهبت كل من تُسوّل له نفسه التغريد خارج السرب، ولعبت دورا كبيرا في القضاء على العقل والفلسفة والمنطق، وما حدث قديما لابن رشد[22] الذي أُحْرِقَت كتبه أمام عينيه، وكاد أن يقتل لولا أن فر بجلده، وما تعرض له حديثا، عدد من الباحثين أمثال طه حسين وعلي عبد الرزاق ونصر حامد أبو زيد وفرج فودة من محاكمات وتنكيل ومضايقات، بل ووصل الأمر إلى الاغتيال السياسي.[23]

العلمانية...مشكلة المسيحيين العرب!

مسألة أخرى يثيرها الجابري هي أن شعار العلمانية طرحه مسيحيون في الشام للمطالبة بالاستقلال عن الترك ولمواجهة شعار الجامعة الإسلامية؛ أي إن شعارا مسيحيا خاصا بالمسيحيين العرب!

ونحن أيضًا نتفق معه في هذه النقطة الأخيرة، بأن مقولة استقلال الشأن الديني عن الشأن السياسي تبناها في البداية ثلة من المفكرين المسيحيين العرب في الشام؛ منهم بطرس البستاني وفرح أنطون وشبلي شميل لمواجهة شعار الجامعة الإسلامية الذي نادى به السيد جمال الدين الأفغاني. وصحيح أن فصل الدين عن السياسة كانت أحد مطالب هؤلاء المثقفين المسيحيين، منذ منتصف القرن التاسع عشر، ولكن هذا ليس معناه أنه شعار مسيحي خالص، كما أن المطالبة بالدستور نادى بها مجموعة من النهضويين المسلمين؛ نذكر منهم الشيخ محمد عبه وعبد الرحمن الكواكبي وأحمد لطفي السيد؛ أي إن هذا المطلب خرج من بين سطور خطاب الإصلاحية العربية[24]، وبالتالي هذا لا يبرر إطلاقا الزعم بأن الدستور كان مطلبا إسلاميًا.

وثمة ملاحظة في هذه القضية المثارة، وهي أن القضية ليست من طالب بالعلمانية أولاً، المسيحي أم المسلم؛ لأن الكثير من النهضويين المسيحيين العرب كانوا من أنصار الخلافة الإسلامية، وكانوا لا يجدون حرجا في أن يكونوا من دعاة الجامعة الإسلامية، كما كان بعض المثقفين المسلمين يعارضون الدعوة إلى الجامعة الإسلامية.

ما نستنتجه أن مسألة المطالبة بالعلمانية تتأرجح بين خطاب الإصلاحية والخطاب الليبرالي داخل دار العروبة[25].

والجدير بالذكر كذلك أن شعار العلمانية، كما يحلو للجابري أن يسميه، ونحن نتفق معه في ذلك إلى حد كبير، رُفع بوصفه حلاًّ لصراعات دموية طائفية وقعت بالفعل، وجرت على أرض الواقع في الشام عام 1860، كما أن الدعوة اليوم إلى الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية ليست ترفًا فكريا، بل بسبب تورم الخطاب الديني والضغط الفكري والإرهاب الجسدي الذي مارسته جماعات التطرف الديني والإسلام السياسي على المسيحيين وعلى المسلمين، داخل دار الإسلام وخارج دار الإسلام، سواء بسواء.

وبالتالي، فإن العلمانية هي ليست قضية المسيحيين العرب، كما اعتقد عابد الجابري، بل إنها أصبحت اليوم قضية المسلمين أيضا، سنة وشيعة وخوارج. لقد باتت اليوم مشكلة إسلامية، بالنظر إلى الإرهاب الذي مارسته الجماعات الدينية الإسلامية في كل مكان من الكرة الأرضية. والإرهاب هو أعلى مراحل التطرف الديني، والذي بلغ ذروته مع ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). ثم لا ننسى أن بنية خطاب التطرف الديني قائمة أساسا على الربط المحكم بين ما هو دين وما هو سياسة.

مسألة أخرى، لابد من مناقشتها أثارها أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الرباط، مرارًا وتكرارًا، وهي مسألة علاقة المفاهيم بالسياق التاريخي الذي نشأت فيه، وكذلك قضية اختلاف اللغة واختلاف التجربة واختلاف الفضاء الحضاري. وفي هذه النقطة بالذات يرى صاحب كتاب "نحن والتراث" أن العلمانية هي نتاج التجربة التاريخية الأوروبية في العصر الوسيط التي كانت تجمع بين السلطتين الروحية ممثلة في الكنيسة، والزمنية ممثلة في الدولة وفي هذا الصدد يقول الناقد الأول للعقل العربي في القرن العشرين: "..إن هذا الشعار نفسه يحيل لفظه إلى مضمون لا يشكل جزءًا لا كبيرًا ولا صغيرًا من الموروث العربي الإسلامي، الأمر الذي يجعل تحديد معناه يتطلب أول ما يتطلب كتابة تاريخية في تجربة تاريخية أخرى لا يجمعهما مع التجربة العربية الإسلامية فضاء حضاري واحد؛ وذلك إلى درجة أنه يستحيل وضع مقابل صحيح ومقبول باللغة العربية للفظ الذي يعبر عن ذلك المضمون في موطنه سواء في ذلك لفظ اللائكية أو لفظ السيكولارية..."[26] ولا يتوقف الجابري عند هذا الحد، بل يمضي قدمًا في رفضه لهذا المفهوم الذي يعد في نظرنا المدماك الأساس في الحداثة السياسية، يرفضه من حيث المبنى ومن حيث المعنى من خلال التأكيد على اختلاف التجربتين الحضاريتين الإسلامية والمسيحية كما ذكرنا سابقا. وبعد أن أكد على وجود تراتبية في الديانة المسيحية ممثلة في جهاز الكنيسة وعلى وجود رجال الدين هم بمثابة واسطة بين الله والإنسان، ينتقل عابد الجابري إلى الدين الإسلامي في عملية مقارنة مع الدين المسيحي، حيث يلاحظ خلو الإسلام من التراتبية ومن الواسطة ومن رجال الدين، وفي هذا المضمار يقول أستاذنا الجابري: "... وغني عن البيان القول إن هذا الوضع غريب تماما عن الدين الإسلامي وأهله، فالدين الإسلامي قوامه علاقة مباشرة بين الفرد البشري وبين الله، فهو لا يعترف بأي وسيط، وليس فيه سلطة روحية من اختصاص فريق وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر .."[27].

وفي مناقشة هذه الأفكار وهذه الآراء نقول إنه لا جدال أن المفاهيم والمقولات الفكرية والفلسفية لا تهبط من السماء وليست نباتات فطرية، بل هي إفراز لبيئة تاريخية معينة ولنظام معرفي محدد، ولكن هذا لا يمنع من أن المفاهيم عابرة للحضارات، فكثير من الألفاظ والمصطلحات العربية انتقلت إلى اللغات الأوروبية، كما أن كثيرا من الكلمات والمقولات الفارسية أخذت مكانها في اللغة والثقافة والحضارة العربية.

هذا من جانب ومن جانب آخر، لا أحد يجادل بجد، في اختلاف السياقات التاريخية للمجتمعات وتباين التجارب الحضارية للأمم، ولكن هذا لا يشكل عائقًا ولا مانعاً من التعلم من تجارب الآخرين ومن أخذ الدروس والعبر من التاريخ الإنساني، بإيجابياته وسلبياته. أما القول إن التجربة التاريخية الإسلامية تخلو تمامًا من جهاز ديني/كهنوتي يقوم بالوساطة بين الله وبين الأفراد، فهذا قول به قدر من الشطط، وقد يكون صحيحا على المستوى النظري؛ أي على مستوى الإسلام المعياري إسلام النص المؤسس، لكن الإسلام التاريخي والاجتماعي والواقعي كانت هذه السلطة الدينية موجودة؛ لأنه وبكل بساطة لا يخلو ولم يخل عصر أو مجتمع من رجال الدين.

ونحن نعرف أن رجال الدين في التاريخ الاسلامي حازوا على النفوذ والجاه والسلطة، كما مارسوا الهيمنة والسيطرة على العامة؛ أي كانت لهم سلطة روحية طاغية وكانت هذه السلطة الروحية، إما مستقلة أحيانًا وإما كانت محكومة من السلطة الزمنية أحياناً أخرى، ثم ألم تكن الخلافة تجمع بين الشأن الديني والشأن الدنيوي وبقي الأمر كذلك حتى جاء مصطفى كمال وفصل بينهما أولًا عام 1922، ثم ألغى الخلافة ثانيا في عام 1924.

وفيما يخص مسألة التراتبية وخلو الإسلام منها، فهذا أيضا غير صحيح؛ لأن الإسلام الشيعي/الاثني عشري فيه التراتبية ومؤسسة الأزهر السنية في مصر فيها تراتبية، وبالمناسبة ألم يشكل شيوخ الأزهر سلطة روحية، وكانوا ومازالوا سوطا مسلَّطا على رقاب على الفنانين والمفكرين والباحثين؛ فهذه المؤسسة الدينية منعت أعمالًا إبداعية من النشر وصادرت أبحاثا فكرية من السوق، وقدمت بلاغات للنائب العام ضد هذا المفكر وذاك الباحث، بل ووصل بها الأمر إلى رمي باحث متميز في غياهب السجون هو إسلام بحيري، فالعبرة ليست في وجود وأو في عدم وجود سلطة رجال الدين، بل في الدور الذي يقومون به والمهام المنوطة بهم، والتي تتجاوز في كثير من الأحيان الدائرة الدينية إلى دوائر السياسة والإبداع الفني والأدبي، بل وحتى إلى الاقتصاد وأنماط المعيشة والسلوك الأخلاقي والاجتماعي.

 

مصادر ومراجع

  1. كمال عبد اللطيف: العرب والحداثة السياسية دار الطليعة ط1 بيروت 1997
  2. محمد عابد الجابري وآخرون: حوار المشرق والمغرب، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف ط2 بيروت 2010
  3. محمد الحداد: حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي: دار الطليعة. ط1. بيروت.2002
  4. محمود أمين العالم وآخرون: الإسلام والسياسة موفم للنشر الجزائر 1995
  5. أمين سمير وبرهان غليون: حوار الدولة والدين المركز الثقافي العربي. ط1. بيروت.1996
  6. محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي. مركز دراسات الوحدة العربية. ط1. بيروت 1992
  7. عادل ظاهر: الأسس الفلسفية للعلمانية: الأسس الفلسفية العلمانية، دار الساقي، ط2 بيروت 1998
  8. نصر حامد أبو زيد: نقد الخطاب الديني. سينا للنشر. ط2. القاهرة 1994
  9. علي أومليل: الإصلاحية العربية والدولة الوطنية. المركز الثقافي العربي. ط3. الدار البيضاء. 1985 المغرب.
  10. محمد عابد الجابري: في نقد الحاجة إلى الإصلاح: مركز دراسات الوحدة العربية. ط1. بيروت.2005
  11. سيد قطب: معالم في الطريق دار الشروق بيروت 2008
  12. يوسف القرضاوي: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا. سلسلة حتمية الحل الإسلامي، مؤسسة الرسالة ط1 بيروت 1971
  13. مصطفى دحماني: فضح الزمن الأصولي. قراءة تحليلية/نقدية لبعض مفاهيم الحركات الإسلامية المعاصرة. مجلة دراسات عربية. العدد7/8 السنة 30ايار/حزيران. مايو/يونيو 1994 بيروت. لبنان.
  14. مصطفى دحماني: نقد الجهل الخالص...قراءة تحليلية في مفهوم العلمانية. مؤسسة مؤمنون بلا حدود. 26 يونيو 2024
  15. مصطفى دحماني: هكذا تكلم العلمانيون العرب...طروحات وطروحات مضادة. مؤسسة مؤمنون بلاحدود، 7 ماي 2024
  16. سعد الدين إبراهيم وآخرون: الدولة والمجتمع في الوطن العربي. مركز دراسات الوحدة العربية .ط1 بيروت 1989

[1] - مصطفى دحماني: نقد الجهل الخالص...قراءة تحليلية في مفهوم العلمانية. مؤسسة مؤمنون بلا حدود. 26 يونيو 2024

[2] - كمال عبد اللطيف: العرب والحداثة السياسية، دار الطليعة ط1 بيروت 1997 ص 29

[3] - مصطفى دحماني: فضح الزمن الأصولي. قراءة تحليلية/نقدية لبعض مفاهيم الحركات الإسلامية المعاصرة. مجلة دراسات عربية.العدد7/8 السنة 30ايار/حزيران. مايو/يونيو 1994 بيروت. لبنان ص47

 

[4]- مصطفى دحماني: هكذا تكلم العلمانيون العرب...طروحات وطروحات مضادة...مؤسسة مؤمنون بلاحدود ..7 ماي 2024

[5] - محمد عابد الجابري: في نقد الحاجة للإصلاح، مركز دراسات الوحدة العربية.ط1 بيروت 2005 ص77 و83

[6] - المصدر نفسه ص 77

[7]- محمد عابد الجابري وآخرون: حوار المشرق والمغرب، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف ط2 بيروت 2010 ص 79

[8] - المصدر نفسه ص 79

[9] - المصدر نفسه ص 78

[10] - سيد قطب: معالم في الطريق دار الشروق بيروت 2008 ص 22

[11] - يوسف القرضاوي: الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا. سلسلة حتمية الحل الإسلامي، مؤسسة الرسالة ط1 بيروت 1971 ص 48

- [12] محمد الحداد: حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي العربي: دار الطليعة. ط1. بيروت.2002 ص 71

[13] - محمود أمين العالم وآخرون: الإسلام والسياسة، موفم للنشر، الجزائر 1995 ص 166

[14] - محمد عابد الجابري وآخرون: المصدر نفسه ص 79

[15]- أمين سمير وبرهان غليون: حوار الدولة والدين. المركز الثقافي العربي. ط1. بيروت.1996 ص 72

[16] - سعد الدين إبراهيم وآخرون: الدولة والمجتمع في الوطن العربي. مركز دراسات الوحدة العربية. ط1 بيروت 1989 ص 22

[17] - محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي. مركز دراسات الوحدة العربية. ط1. بيروت. 1992.ص 132

[18] - محمد عابد الجابري وآخرون: المصدر نفسه ص 83

[19] - جورج طرابشي: الأنتلجانسيا العربية والاضراب عن التفكير، ضمن كتاب "حوار المشرق والمغرب"، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف ط2 بيروت 2010

[20] - عادل ظاهر: الأسس الفلسفية للعلمانية: الأسس الفلسفية العلمانية، دار الساقي، ط2، بيروت 1998ص 41

[21] - محمد عابد الجابري وآخرون: المصدر نفسه ص 236

[22] - محمد زنيبر: ابن رشد والرشدية في إطارهما التاريخي ضمن كتاب ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع ط1 بيروت 1981 ص 7

[23] - نصر حامد أبو زيد: نقد الخطاب الديني. سينا للنشر. ط2. القاهرة 1994ص 21

[24] - علي أومليل: الإصلاحية العربية والدولة الوطنية. المركز الثقافي العربي .ط3.الدار البيضاء .1985.المغرب ص 6

[25] - محمد عابد الجابري وآخرون: المصدر نفسه ص 247

[26] - محمد عابد الجابري: في نقد الحاجة إلى الإصلاح: المصدر نفسه ص 83

[27] - المصدر نفسه ص 84