الإسلام السياسي في العالم العربي؛ من المسجد إلى الجامعة
فئة : مقالات
في غفلة منا ومن سردية التحرر والانعتاق، كُتمت أصوات محمود درويش ومارسيل خليفة وأميمة الخليل والشيخ إمام، وبحت حنجرة الأبنودي وصلاح جاهين وفؤاد نجم ومظفر النواب...إلخ، وأصبح المسرح كما الموسيقى حرام، وأصبحت المرأة من حبائل الشيطان، بعدما صار حتى صوتها عورة، وتلحفت الطالبات سواد الكفن باسم اللباس الإسلامي، وعمت الأسواق والحارات، كما الجامعات أشرطة الشيخ كشك، وسؤال منكر ونكير، وعذاب القبر، وتحول الحرم الجامعي إلى ساحة للاقتتال باسم الحقيقة المطلقة، واستوى الحوار والاختلاف والجدل والتحليل والنقد مطابقة، وتحول المثقف إلى داعية، فما الذي وقع؟
ما الذي حصل، حتى تحولت النهضة العربية إلى انتكاسة، وتحول النصر إلى نكسة، وتحولت بلدان العالم العربي بعد الربيع إلى خريف، إلى أرض للخوف، بعدما تحولت ثقافة الحياة إلى ثقافة الموت؟
برهن الربيع العربي أن ما شهدته التيارات الإسلامية باختلاف توجهاتها ومساراتها من انتعاشة في زمن عودة الديني وفق أشكال تدين كرنفالية أكثر راديكالية، راجع إلى استفادتها طيلة عقود من الجهل والفقر، ومن تواطؤ الغرب مع الأنظمة التي شجعت ازدهارها، وهو واقع لم ينفصل يوما عن التوسع الرأسمالي أكثر من الفشل التنموي في حد ذاته على تعبير الاقتصادي المصري الراحل سمير أمين، ففشل مسلسل التنمية والتحديث الذي يمتزج فيه الداخلي بالخارجي، قاد هذه الجماعات إلى صدارة الحركات الاجتماعية المناهضة ظاهريا لواقع التفقير والاستبداد، والطامحة ضمنياً واستراتيجيا إلى السلطة، بإعلان الإسلام هو الحلّ، وكأن المجتمعات العربية لم تسلم بعد. ولهذا، فتحليل خطابها يكشف عن وجهها الحقيقي المختفي وراء أقنعة التقوى والدين، مما يجعلها حركات سياسية بإيديولوجية دينية تقليدانية. وأمام الفراغ الإيديولوجي-اليوتوبي، الذي كانت تمثله الأحزاب اليسارية التقدمية، باتت الحركات الإسلامية التي استغلت هذا الفراغ مهيمنة على الجامعات في جل الدول العربية التي كشف الربيع العربي على مدى انتشارها وتوغلها الإيديولوجي في كافة المؤسسات الاجتماعية والتربوية.
بيد أن العودة إلى تاريخ كل تيارات الإسلام السياسي التي انبثقت عن السلفية بشقيها الوهابي والإخواني، تقودنا إلى استحضار وظيفة المسجد السياسية، والتي انتعشت بشكل كبير في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، نتيجة الانفراج الذي عرفته هذه السلفية في علاقتها بالأنظمة العربية، وخاصة في مصر والعربية السعودية، إذ ستشكل الحرب الأفغانية السوفياتية (1979-1989)، محطة أساسية لتحالف هذه السلفية بين مكونيها الوهابي من جهة، والإخواني من جهة أخرى، وهي المرحلة نفسها التي ستشهد ميلاد مفهوم الجهل المقدس بتعبير أوليفي روا، والقاضي بفصل الدين عن الثقافة، بمحاولة تصديره إلى كل الجغرافيات مهما اختلفت الثقافات؛ فبعدما كانت الوهابية نهجاً دينياً مرتبطا بتراب ومناخ شبه الجزيرة العربية، وتحديداً بالعربية السعودية، بتحالف الشيخ محمد عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود بن مقرن بن مانع آل سعود مؤسس الأسرة السعودية الحاكمة، سنة 1857، سرعان ما سوف تنتقل إلى دين قابل للتصدير في نهاية السبعينيات من القرن العشرين، بفضل التحالف الذي أبرمته الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، بغية جمع المقاتلين من كل البلدان الإسلامية والعربية لهزم الجيش السوفياتي، الذي كان يناصر الحكومة الأفغانية حينها، والتخلص من الخصم التاريخي لأمريكا ووضع حد نهائي للحرب الباردة، إذ ستعمل العربية السعودية على تصدير الوهابية إلى جميع البقاع الإسلامية، خاصة مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بما شكلته من نموذج يحتذى به في تصدير الثورة الدينية، وبداية التبشير الإسلاموي، باعتبار أن شعار: "الإسلام هو الحل"، سيشكل دعامة إيديولوجية لما بات يعرف بالإسلام السياسي، وهو ما أكده ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للواشنطن بوسط، عقب زيارته للولايات المتحدة الأمريكية في 20 مارس 2019، قائلا: "لقد نشرنا الوهابية بطلب من الغرب الحليف للسعودية باستخدام أموالنا لمنع تقدم الاتحاد السوفياتي في دول العام الإسلامي، وأن الاستثمار السعودي في المدارس والمساجد حول العالم مرتبط بالحرب الباردة".
فإذا كانت الحرب السوفياتية الأفغانية قد دامت عشر سنوات، فإن هذا العقد من التاريخ المعاصر سيشكل مرحلة تحول في وظيفة المسجد من الديني والتعبدي الخالص إلى السياسي التعبوي، إذ ستتشكل معظم التيارات والجماعات التي كانت مكلفة بإرسال المقاتلين العرب إلى أفغانستان انطلاقا من المساجد، التي تحولت إلى فضاءات للخلوة الدينية وللاعتكاف لتجييش الناس ودعوتهم للوهابية، باعتبارها العودة الخالصة إلى الأصول الإسلامية الصحيحة، التي جاءت لنصرة الإسلام والمسلمين ورفع راية الجهاد، حيث ستشهد خطب يوم الجمعة تحوّلا كبيراً في بنية خطابها الدعوي. وأمام تدفق المساعدات والهبات السعودية للأنظمة العربية، خاصة مع الانتعاشة الكبيرة التي ستعرفها أسواق البترول بعد حرب أكتوبر 1973، والتقارب السعودي المصري وإعلان أنوار السادات سياسة الانفتاح لدخول مصر نادي الغرب الرأسمالي بنهجها سياسة السوق، بما يعني ذلك من بداية تخليها عن المعسكر الاشتراكي من جهة، والتقارب السعودي العربي والأمريكي من جهة أخرى.
إن أسلمة الجامعات والمجتمعات العربية معناه القضاء على التعددية والاختلاف والانتصار للصوت الواحد وللمطابقة، وهو ما يعمق من أزمة التبعية والتخلف على كافة المستويات
هكذا إذن، ستفتح الأنظمة العربية خط التنسيق مع الإسلاميين، وتشجع التقارب الإخواني- الوهابي من جهة، وتشدد بالمقابل الخناق على الأحزاب اليسارية والتقدمية التي اشتد خطابها النقدي وشعبيتها في السبعينيات، لطالما كانت ضد التحالف العربي الأمريكي في الحرب الأفغانية، مما سيجعل من هذه العشرية بداية حاسمة في تاريخ حركات الإسلام السياسي التي لم تكتف بأسلمة المجتمع، مستغلة في ذلك الفقر والجهل والهشاشة، بل بدأت في اختراق الجامعة، حيث سرعان ما سوف تدرك أنها المؤسسة التنويرية الوحيدة التي تشكل حصنا منيعا أمام استراتيجيتها التعبوية، خاصة وأنها بحكم المرحلة التاريخية كانت تقدمية يسارية، إذ سرعان ما ستبدأ سلسلة الاعتقالات والاختطافات التي تطال المناضلين اليساريين بالجامعات، مقابل تشجيع التيارات الإسلامية للهيمنة على الحرم الجامعي. من هنا، فالجامعة باعتبارها أساساً مؤسسة معرفية لإنتاج الفكر العلمي، العقلاني والتنويري تحولت إلى مشتل لتكوين وصناعة الغلو والتطرف بشتى أشكاله، وعلى رأسها التطرف الفكري ، وهو ما جعلنا أمام إشكالية كبيرة تتجلى في تكوين نخب تقليدانية لا تؤمن بقيم الحداثة والعقلانية. الأمر الذي توضح بكل جلاء بعد الربيع العربي بصعود الإسلاميين إلى الحكم في عدد من البلدان العربية، أو هيمنة بعض تياراتها على بلدان أخرى، وبروز جماعات أكثر راديكالية من قبيل داعش والنصرة...إلخ. إن دراسة التيارات الطلابية الحالية، والنخب التي تخرجت من الجامعة، يكشف لنا عن التمزق الخطير الذي عرفته وتعرفه هذه الأخيرة بميلاد نسخ هجينة في شتى التيارات، مفسحة المجال للإسلام السياسي الذي استكمل انتعاشه الاجتماعي وامتداده الجماهيري بسيطرته على الحرم الجامعي، والهامش العربي بشكل عام.
في هذا السياق، بتنا نشهد فصلا تعسفياً بين الوسيلة والهدف، بين القوى الفاعلة والقوى الارتكاسية بتعبير نتشه، فاشتغال هذه الحركات هو نتاج استلهامها لتقنيات ووسائل التأطير والتعبئة التي تميزت بها الأحزاب والتيارات التقدمية، لكن المنتوج بطبيعة الحال مختلف عما كانت تصبو إليه القوى التقدمية نفسها، والتي بدأت منذ ثلاثة عقود من الزمن في نهش جثتها من الداخل أكثر من الخارج، ناهيك عن المسخ الإيديولوجي والسياسي الذي باتت تعرفه اليوم. هكذا تحولت كل الأحزاب السياسية بما فيها تلك التي كانت تحوز الشرعية التاريخية والشعبية إلى أحزاب بدون هوية، مما يفسر حدة الثقافة التقليدانية التي باتت تنتشر بقوة في الفضاء العام والخاص على السواء، والتي ساهمت في إنتاجه بشكل أو بآخر الجامعة، بعدما فقدت وظيفتها التنويرية، نتيجة تحالف الأنظمة مع تيارات الإسلام السياسي والتضييق على اليسار التقدمي منذ سبعينيات القرن الماضي، بمنع أصوله الفكرية في الفلسفة والعلوم الاجتماعية التي أغلقت معظم شعبهما في الجامعات العربية.
تاريخياً، ارتبط اليسار فكرياً بالماركسية العلمية، على المستوى المرجعي النظري، وبالاشتراكية والشيوعية على المستوى العملي، ولذلك لا يستقيم التحليل إلا إذا استحضرنا هذين المستويين؛ فالمستوى العملي والبراكسيسي عرف قمة توهجه مع توهج الاتحاد السوفياتي وعموم المعسكر الاشتراكي في الستينيات والسبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات، من خلال محور الممانعة للغرب الرأسمالي الليبرالي في توحش ليبراليته بزعامة الولايات المتحدة الامريكية، الذي كان يغذي فكر التحرر والانعتاق، والرغبة في كسر شوكة الاستعمار المادي والرمزي من خلال فك قيد التبعية والاستلاب الفكري الغربي، وبسقوطه تهدمت كل السرديات الكبرى، وبات العالم يعيش تحت وطأة سردية الليبرالية المتوحشة، بما هي سردية تعيد إنتاج الفقر الديني والمعرفي بتجديد أشكال التدين الطقوسي بعد إفراغه من روح الدين، الأمر الذي ينطبق على التدين بالعالم العربي والإسلامي بشكل كبير.
لقد كانت الماركسية اللينينية تغذي فكريا وثقافياً مختلف أشكال الإيدولوجيات اليسارية وخطاها التقدمية، وتمنحها أفقاً مرجعياً من خلال نماذج الدول الاشتراكية والشيوعية التي لم تذخر جهداً في مد يد المساعدة لمختلف التيارات اليسارية بالعالم العربي والعالم ككل، من أجل تقوية معسكرها. لكن بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين، مرورا بالحرب الباردة وضمور التجربة الاشتراكية في دول أمريكا اللاتينية، وقع شرخ كبير بين المستويين السالفي الذكر، بين المرجعي النظري والعملي البركسيسي؛ (أي الممارسة)، وإذا استعملنا تعبير لينين سنقول إن التوافق بين النظرية والممارسة تعرض للشرخ على مستوى الممارسة السياسية، مما أفقدها معناها النقدي. الشيء الذي عجل بدخول العالم مرحلة التشيؤ والاستلاب الاقتصادي والثقافي والديني على حد سواء.
من هنا أصبحت التيارات التقدمية واليسارية في ظل استبدادية الأنظمة العربية بين مطرقة سياسة الانفتاح وسندان ليبرالية هذه الأنظمة التي لم تستطع تحقيق الاستقلال الكامل، وظلت مستعمرة اقتصاديا وثقافياً، على المستوى الخارجي، واستبدادية على المستوى الداخلي، ومن الطبيعي أن تكون توجهات هذه التيارات والأحزاب مناهضة للأنظمة السياسية، مما جعل المواجهة تحتد في العالم العربي، فيما بينها، وطبعاً كان الإسلام السياسي هو المستفيد.
في هذا السياق، جاء تشجيع الدول العربية للفكر الإسلامي من أجل كسر شوكة اليسار وامتداداته الشعبية وقوته الاقتراحية وسمعته الدولية، وهو الخطأ نفسه الذي تكرر في معظم البلدان العربية وعلى رأسها مصر، حيث منح أنوار السادات صك الغفران للإخوان المسلمين وكافة تيارات الإسلام السياسي، وهكذا وبشكل منهجي أفرغت الساحات الجامعية من مناضليها وقادتها السياسيين "اليساريين"، وأدخلوا السجون، وبدأت الساحة تفرغ من جهة، وتملأ بالإسلاميين من جهة ثانية، وهي المرحلة التي شهدت كما سبق الذكر إغلاق شعب الفلسفة وعلم الاجتماع، وتشجيع شعب الدراسات الإسلامية والشريعة التي بقيت طويلا شُعبا لا تضم من ضمن موادها لا الفلسفة ولا علم الاجتماع ولا باقي المواد الأدبية بما في ذلك النقد والفنون، وخلال المرحلة نفسها، أشاعت الأنظمة مثلها في ذلك الحركات الاسلامية بأن الفلسفة معادل موضوعي للإلحاد، وأن الفكر الاشتراكي خطر أحمر يهدد العباد كما يهدد هويتهم ودينهم، مما عمل على اجتثاث الفكر التقدمي والاشتراكي والعقلاني لصالح الفكر التقليداني، بتقييد وتحجيم حرية الأحزاب والتيارات اليسارية التي انتعشت بشكل كبير في الجامعات حينها.
إن ما انتبهت إليه التيارات الإسلامية في الستينيات وبداية السبعينيات، بعد أن بدأ نجم الفقيه وسلطته في الأفول، بفعل هيمنة النخب المتعلمة الحداثية على الحقل السياسي، من خلال امتلاك هذه النخب لدبلومات جامعية ذات الاعتبار، وبالتالي لسلطة رمزية، هو ضرورة حصول أطرها على مستويات من التعليم تؤهلها لولوج سوق المنافسة من خلال تغيير صورة الفقيه شكليا، ناهيك عن الهيمنة فكرياً على المدخلات الجامعية، وطرائق ومناهج تكوينها، ولهذا عملت من داخل الأنظمة نفسها، وبدعهما ضدا على القوى التقدمية واليسارية، وضداً على الفكر الحداثي والعقلاني على تفريخ وحدات التكوين والبحث في سلك الماجيستير (باختلاف أشكاله وتسمياته: دبلوم الدراسات العليا المعمقة، الماستر...) والدكتوراه في شعب الفقه والشريعة والدراسات الإسلامية باعتمادات يفوق بكثير ما تشهده شعب الفلسفة والعلوم الاجتماعية والقانونية مجتمعة، من غير أن تلزم الحكومات ووزارات التعليم العالي هذه الوحدات والشعب باعتماد الفلسفة والعلوم الاجتماعية ومواد التفتح التي تعلم التفكير والنقد والتحليل، وإلا لكنا قد ولجنا مرحلة تجديد الخطاب الديني وتحديثه منذ عقود.
تجديد بات أولوية ملحة في البلدان العربية والإسلامية على حد سواء، إذ إن الاطلاع على مناهج التدريس بالجامعات العربية كفيل بمعرفة مسببات الإخفاق الكبير الذي تعانيه مختلف الشعب الجامعية، وعلى رأسها شعب الدراسات الإسلامية، حيث إن دراسة المناهج التربوية بمختلف الأسلاك التعليمية، بما فيها الجامعية، تكشف لنا بالملموس دورها في ترسيخ التعصب الديني والثقافي، بكل ما يرتبط بذلك من تغييب لقيم الحرية والاختلاف والتسامح والتعايش، والتي بدونها يستحيل الحديث عن المواطنة. وإذا كانت بعض البلدان قد تنبهت لخطورة هذه الأسلمة التي طالت حتى الجامعات، من خلال تجديد وتحديث المناهج، وانفتاحها على مواد علمية وندوات فكرية ذات أبعاد تنويرية مهمة، فإن واقع حال الشعب بالجامعات ما يزال سجين الرؤية التقليدانية للمنهاج الديني، وهي الرؤي نفسها التي ما تزال تتحكم في التكوين بجامع الأزهر الشهير، وفي كافة الكليات الدينية بباقي البلدان العربية، التي أصبحت كلياتها مباحة أمام الشيوخ والأئمة والدعاة لإلقاء محاضراتهم الدينية، دون التوفر أحيانا حتى على مستوى الثانوي.
تجديد الخطاب الديني يتطلب حتميا نخبا وأطراً ذات تكوين عقلاني وعلمي كفيل بالمساهمة في تنوير المجتمعات ورقيها
لقد كانت استراتيجية التيارات الإسلامية في أسلمة الجامعات تمر عبر ملء الفراغ الذي أحدثته ضربات فأس الأنظمة لرأس التيارات التقدمية واليسارية والقوى العقلانية والحداثية، وامتلاك مريديها لدبلومات وشهادات تثمن خطابهم، وتجعل سلطة هذه التيارات الدينية سلطة معرفية ظاهرياً مادام المجتمع لم يصل درجة النفاذ إلى جوهر خطاباتها الاجتماعية والسياسية، فما بالك بالدينية. وتحليل الخطاب الاجتماعي واللاوعي الجمعي يكشف عن مدى دهاء هذه الجماعات، فالدكتوراه التي كانت أعلى وأرقى دبلوم علمي يؤهل النخب لولوج سوق الشغل والابتكار وامتلاك الخطاب الاجتماعي والسياسي والثقافي، صارت تؤهل الإسلاميين لإعادة إنتاج امتلاك سلطة الفقيه، بتحصينها وفق استراتيجية الشرعية المنبثقة من الدين نفسه، فـ "العلوم" بين قوسين، والتي ليست سوى دراسات وشعب تتمركز حول الشريعة والفقه أصبحت علوما شرعية تحظى بهالة من التقديس والإجلال، مقابل تسفيه العلوم الحقة والعلوم الإنسانية على حد سواء، وهو ما يتضح من خلال استراتيجية التسمية والتنخيب (صناعة النخب)، إذ إن النخب الدينية تحوز شرعية الفضيلة والعلم الشرعي؛ فالفقيه الذي يحوز الدكتوراه في الشريعة أو الدراسات الإسلامية، يلقب بفضيلة الدكتور، وهو حكر عليه دون غيره من زملائه الذين يحوزون دكتوراه في العلوم الإنسانية أو الحقة، وحتى إن كان مخترعاً أو عالماً كما هو متعارف عليه دولياً، فإنه يبقى دون مرتبة الفضيلة، ودون مرتبة العلاَّمة، إذ فوق علمه يأتي العلم الديني الذي لا يحوزه سوى الفقيه، سواء أكان داعية أو مرشداً، وإذا كان فوق كل ذي علم عليم، فالفقيه وارث للعلم الإلهي، ومتحدث باسم السماء، وهو ما يمنح الشيخ الذي لم يحرز على شهادة جامعية كبرى، ماجستير أو دكتوراه، تشريفاً مخصوصاً، فحتى إن حرم من لقب العلاَّمة، فلا يحرم من لقب الفضيلة، فينادى عليه بفضيلة الشيخ.
ضمن هذا السياق، نستحضر ارتباط التنخيب بمختلف وسائل الاتصال الجماهيرية من مجلات وكتب وأشرطة، بل وانتقل الأمر إلى توظيف الإذاعات وفضائيات بعينها أخذت على عاتقها التأسيس لما بات يعرف بالإعلام الديني من خلال برامج للفتوى والدعوة، بيد أن المرحلة الأساسية تمثلت في هيمنة الكتاب الإسلامي على المكتبات والمعارض العربية، نتيجة الدعم الوهابي بيترودولاري، مما جعل ثمن البيع يكاد يكون رمزياً، مقارنة بالكتاب العلمي والثقافي والإبداعي والتنويري عموما، الذي لم يحظ بأي دعم أو تشجيع، وهو ما ساهم في صناعة نخب إسلاموية، تحول أعضاؤها بفضل الميديا إلى مشاهير، سرعان ما اقتحموا مجال العلوم الحقة بعدما سفهوا العلوم الإنسانية.
من هنا تكتمل التراتبية التي أقامها الإسلام السياسي للعلوم، بنحت مفهوم الإعجاز العلمي للقرآن، والذي أصبح له متخصصون ودارسون، مما جعل نخبه من الشيوخ والدعاة يفتون في الطب والصيدلة والفيزياء النظرية والكيمياء كما يفتون في اللباس والأكل والشرب والنوم واليقظة، وفي الحياة والموت، وما بعدهما، بل ويعارضون النظريات والاكتشافات العلمية، من كروية الأرض ودورانها حول الشمس، إلى علم الأجنة والهندسة الوراثية، إلى الفيزياء وعلم الفلك وما إلى ذلك.... ناهيك عن معارضة الطب واكتشافاته بابتكار الرقية الشرعية التي تجاوزت الإنسان إلى الجن، بحيازتها شرف الشرعية لغة واصطلاحاً، لانتمائها إلى مجال الشريعة، بما هي فوق العلم والعلماء. ولهذا، فلسان حالهم يقول: ''إن علماءنا يعتبرون، ويقولون، ويفتون....وفي ذلك يتوفرون على الشهادات والدبلومات التي تؤكد مصداقيتهم العلمية وصدق خطابهم الديني'' ، وهو ما أصبح استراتيجية تمكينية بالنسبة إلى نموذج الفقيه التقليداني بعد تراجع الفكر التنويري.
لقد تقلصت مساحات ومدارات الفكر الحر والأنوار بما يقتضي ذلك من حوار وقبول بالاختلاف إلى الحد الأدنى الذي بدأ ينبئ بالكارثة، حتى أنه بات لهؤلاء الشيوخ والدعاة مناصرون ومتتبعون من داخل كليات العلوم نفسها بمختلف البلدان العربية. ولطالما أن الفشل العربي الحضاري والتنموي، هو فشل فكري بالدرجة الأولى، فإن تجاوز هذا الفشل لن يتم دون تجاوز جذوره الفكرية. وإذا كان الأفول اليساري والتقدمي على المستوى العالمي هو ما أنتج توحشا في الليبرالية وفصلها عن أسسها العقلانية والأنوارية، وجعل العالم يئن تحت وطأة الاستغلال والبؤس الاجتماعي، فإن المناعة التي كان يقيمها الفكر اليساري انتهت إلى فراغ، استغلته كل التوجهات والتيارات اليمينية المتطرفة في العالم بما في ذلك تيارات الإسلام السياسي، خاصة إذا علمنا توحدهما معاً في مفهومي الاستيلاب والتنميط، وهو ما يستدعي المعرفة النقدية كحل استراتيجي لتفكيك خطابهما معاً، مما يجعل العودة الإبستيمية والإبستيمولوجية في الوقت ذاته إلى فكر اليسار ضرورة ملحة.
الآن وبعد أن توضحت الصورة، وأصبحت الرؤية واضحة للشعوب كما الأنظمة، بعد الربيع العربي الذي كشف الأقنعة، وجعل الشعوب التي كانت تراهن على الإسلام السياسي تعيش مرارة التجربة وخرابها، بات الأمر يتطلب إرادة سياسية قوية في تحديث الفضاء العام، وإعادة النظر في المناهج التعلمية والجامعية، وتثمين الفكر الحر والتنوير الذي لن يتحقق إلا بإشاعة العقل والعقلانية، وهي أسس يجب أن تتأسس عليها مختلف المناهج والكليات ذات الصلة بالدراسات الإسلامية، كما هو الأمر بالنسبة إلى باقي التخصصات على حد سواء، خاصة وأن تجديد الخطاب الديني يتطلب حتميا نخبا وأطراً ذات تكوين عقلاني وعلمي كفيل بالمساهمة في تنوير المجتمعات ورقيها. إن أسلمة الجامعات والمجتمعات العربية معناه القضاء على التعددية والاختلاف والانتصار للصوت الواحد وللمطابقة، وهو ما يعمق من أزمة التبعية والتخلف على كافة المستويات.