الإسلام السياسي وأوضاع المرأة في سوريا والعالم العربي الحاضر والمستقبل

فئة :  حوارات

الإسلام السياسي وأوضاع المرأة في سوريا والعالم العربي الحاضر والمستقبل

الندوة العلمية الأولى بعنوان:

الإسلام السياسي وأوضاع المرأة في سوريا والعالم العربي الحاضر والمستقبل

تقديم د. ميادة كيالي

حوار د. حسام الدين درويش

"أتحدث عن وضع المرأة المسلمة العربية وغير المسلمة في سوريا أو في أيّ أيديولوجية مختلفة يجب أن تنظر إلى موقعها كأنها سيدة نفسها، وهذا أول شيء يجب أن ننتبه إليه"

د. نعمت حافظ البرزنجي

د. حسام الدين درويش:

مساء الخير للجميع، شكرًا للحضور على التفاعل الإيجابي المسبق مع موضوع الندوة الذي يبدو راهناً دائماً؛ لأن أوضاع المرأة تتضمن، دائمًا، شيئًا من الإشكالية في العالم العربي أو الإسلامي. لكن راهنية الموضوع اليوم تبدو أكبر، بفعل الوضع الراهن في سوريا اليوم؛ إذ توجد قوة أو طرف، يمكن القول إنه إسلامي أو إسلاموي أو إسلام سياسي أصولي ...إلخ. وإذا كانت هناك غالباً شكوك حول مدى انسجام الإسلام السياسي أو الحركات الإسلامية مع الديمقراطية، فإن تلك الشكوك والتساؤلات أكبر في ما يتعلق بالحقوق والحريات الاجتماعية عموماً، وحرّيات المرأة خصوصاً. حتى صادق جلال العظم، عندما عرَّف الإسلام السياسي الشامي، قال إنه منفتح سياسيًّا، ومحافظ اجتماعيًّا؛ منفتح على الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية وتداول السلطة ... إلخ، لكنه يبقى عمومًا محافظًا من الناحية الاجتماعية. ومن ثم، فالسؤال حول الواقع الراهن وآفاقه المستقبلية هو سؤال حقيقي. والأسئلة التي يمكن وينبغي أن تطرح ليست على سبيل الاستنكار أو الاستهجان، وإنما على سبيل استفهام. وهناك إجابات متعددة. وثمة حرص ضمني في هذه الندوة، والندوة التي تليها وتتناول في الموضوع نفسه، أن تكون هناك آراء متنوعة من توجهات مختلفة، دينية وغير دينية، مع هذا الاتجاه أو ذاك.

لدينا ستة مشاركين، وسنبدأ برؤية تقدمها د. ميادة كيالي، وهي باحثةٌ وكاتبةٌ سوريةٌ، تحمل شهادة الدكتوراه في الحضارات القديمة، وهي مديرة مؤسسة سراج للأبحاث والدراسات في هيئة أبو ظبي للإعلام والمديرة العامة لمؤسسة مؤمنون بلا حدود في بيروت والشارقة. وقد ساهمت في إنتاج ونشر أكثر من 400 إصدار، شملت كتباً وأبحاثاً متميزة في مجالات الفلسفة والفكر والدراسات الدينية. صدر لها مؤلفات إبداعية، منها: "أحلام مسروقة" (2010)، و"رسائل وحنين" (2013)، وأخرى أكاديمية، منها: "المرأة والألوهة المؤنثة" (2015). و"هندسة الهيمنة على النساء، الزواج في حضارات العراق ومصر القديمة" (2018). تفضلي د. ميادة.

د. ميادة كيالي:

شكرًا دكتور حسام؛

يسرّني أن أرحّب بكم وبكنّ، وأشكركم وأشكركنّ، على تلبية الدعوة والحرص على الحضور وإثراء هذه الندوات بعميق فكركم وفكركنّ.

تأتي هذه الندوة ضمن الجهود المستمرة لمؤسسة مؤمنون بلا حدود في تسليط الضوء على القضايا الفكرية والاجتماعية الأكثر إلحاحاً، ولا شكّ أن قضايا المرأة وحقوقها ومشاركتها الفاعلة في المشهد السياسي وفي التحولات الجيوسياسية التي تشهدها منطقتنا بشكل حصري، تعدّ من الصف الأول من تلك القضايا الملحة.

ندوتنا اليوم، والتي عنونتها ﺑ: "الإسلام السياسي وأوضاع المرأة في سوريا (والعالم العربي): الحاضر والمستقبل"، كان لا بد من عقدها في ظلّ تحولات سياسية واجتماعية كبرى، لا سيما في سوريا بعد سقوط النظام المجرم، وتشكيل حكومة انتقالية، والتحضير لمؤتمر وطني، ولإعادة كتابة دستور يليق بسوريا المستقبل. إنها دعوة للنقاش والتحليل من زوايا متعددة، لإبراز أدوار المرأة وتحدّياتها وآفاقها في هذه المرحلة المفصلية.

منذ تأسيس مؤسسة مؤمنون بلا حدود، كان لي شرف أن أكون جزءًا من هذا المشروع الفكري الذي وُلد من حاجة ملحة لإنشاء منبر أكاديميّ يفتح أبوابه للنقاش والتحليل بعيدًا عن أيّ إملاءات سياسية أو أيديولوجية. وقد كان الدور الذي أوكل إليّ في بداية تأسيس المؤسسة دورًا محوريًّا، حيث كنّا نسافر للقاء المفكرين والمؤسسات لشرح رؤيتنا وأهدافنا في تأسيس هذا المنبر، الذي لا يسعى فقط إلى نشر المعرفة، بل، أيضًا، إلى خلق فضاء حرّ لتحليل قضايا الفكر والمجتمع.

أذكر أن كثيرًا من المؤسسات والمفكرين الذين قابلتهم في البدايات، قالوا لي لاحقاً، في مؤتمرات عديدة نظمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود، أنَّ أحد الأسباب التي دفعتهم للاهتمام بالمؤسسة في بداياتها هو رؤيتهم لي ضمن الفريق المؤسس الذي جاء للتعريف بالمشروع، حيث كنّا حريصين كل الحرص على أن نظهر حقيقة أن المؤسسة ليست مجرد فكرة، بل هي حلمٌ جماعيٌّ يسعى إلى تحويل النقاش الفكري إلى ممارسة مؤثرة في مجتمعاتنا.

وفي هذا السياق، كانت لقضايا المرأة مكانة محورية في عمل المؤسسة منذ البداية، سواء من حيث تناولنا لأهم المواضيع التي تنعكس مباشرة على حقوقها، ولا سيما من خلال دارسة الدين، في صورته التقليدية أو المتجددة، أو من خلال تناول قضايا النسوية بشكل معمق. إضافةً إلى ذلك، حفل الإنتاج المعرفي للمؤسسة بمساهمات لامعة من أسماء كبيرة في التأليف أو الترجمة مثل د. ناجية الوريمي، ود. أسماء معيكل، ود. نائلة السليني، ود. آمال موسى، ود. أم الزين بن شيخة المسكيني، ود. سماح حمدي، ود. فاطمة قشوري، وغيرهن.

وكان أن عالجنا قضايا الإسلام السياسي والتطرف الديني من خلال مشاريع بحثية وسلاسل أكاديمية، بما في ذلك سلسلة "الإسلام السياسي" وسلسلة "التطرف الديني"، التي ركزت على تحليل جذور هذه الظواهر وتداعياتها على المجتمعات، لا سيما على المرأة. المرأة كانت دائماً محورًا في الرسالات السماوية والتاريخ الإنساني، ولكنها أيضاً كانت موضوعاً للتهميش في كثير من الأدبيات والممارسات التي تشكلت عبر الزمن. وفي هذا الطرح، أودّ أن أتوقف عند بعض النماذج وطريقة الدفاع عن مشروعية نموذجها، وكيف يمكن أن نستعيدها في البناء المعرفي والمجتمعي. أريد هنا وفي عجالة أن أتوقف عند نموذجين من النساء أستمدهما من مصدرين:

  • المصدر الأول من النساء الملهمات، تحدثت عنهن النصوص الدينية. ومن القرآن الكريم سأستمد أمثلتي:

1- أم موسى (عليها السلام):

يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص/ 7).

لقد كانت أم موسى (عليها السلام) نموذجاً للأم التي واجهت الخوف وضعف الإرادة البشرية لها كأمّ بفضل إيمانها بوعد الله. هذا المشهد يظهر كيف يمكن للمرأة أن تكون في مركز قرار حاسم يغير التاريخ، بقوة الإيمان الذي يربط على قلبها. فقد كانت موضع ثقة الله تعالى في حمل هذه المهمة التي تفوق قوة ما تحمله في طبيعتها وأمومتها من حرص على أولادها.

2- السيدة مريم العذراء (عليها السلام)

يقول تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ (مريم/29)؛ ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (مريم /30).

لقد واجهت السيدة مريم (عليها السلام) المجتمع بأكمله، وحملت رسالة عظيمة بإيمان لا يتزعزع. ودافعت عن طفلها، وتحملت مسؤولية كبرى في تقديم معجزة الله للناس، رغم أنَّ شعورها بتبعات حملها ووضعها لابنها، وهي الموهوبة للعبادة الخالصة، كانت لتخشع الجبال بتحمله. ومع ذلك أكملت الدرب نحو المجهول، وكانت قوية بإيمانها بوعد الله. ولهذا، كانت سيدة نساء العالمين. وهذا نموذج آخر لمقدرة المرأة على حمل المسؤولية في لحظات تاريخية فارقة تغير مجرى التاريخ.

3- ملكة سبأ:

يقول تعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ﴾ (النمل/ 32).

كانت ملكة سبأ نموذجاً للحكمة والشورى، وقدمت صورة ملكية تعكس قوة القيادة النسائية، عندما تكون مبنية على الحوار والبناء.

لدينا إذن، مصدر مهمّ لتعظيم دور المرأة كما ورد في النصوص الدينية. والقرآن يعترف بدورها في التغيير والبناء، ويقدم أمثلة واقعية لنساء غيّرن التاريخ.

  • ثاني مصدر لنماذج النساء الملهمات، هو في التاريخ الذي وثّق لنا إنجازات نساء كثيرات غيَّرن العالم؛ فالتاريخ هو السجل الإنساني الذي يوثق الأحداث والإنجازات، ومع تطور علم الأركيولوجيا، اكتشفنا آثارًا عظيمة لنساء لعبن أدوارًا محوريّة كملكات وإلهات وعالمات وأديبات وتاجرات وقاضيات، وأيضاً عازفات ومغنّيات ومقاتلات، والأسماء كثيرة، وعلم الآثار يؤكد لنا كل يوم ما جرى في التاريخ على أيديهن.

الفرق بين نموذج النصوص الدينية ونموذج التاريخ في قضية المرأة، هو أنَّ الإيمان بوجود الأنبياء والنساء الواردة قصصهنّ في النص المقدس هو عقيدة دينية تستند إلى تصديقنا أنَّها وحيٌ من الله، بينما وجود ملكة مثل زنوبيا يستند إلى أدلة تاريخية ملموسة يمكن دراستها وتحليلها بعيداً عن الإيمان.

فالإسلام يعترف بوجود شخصيات تاريخية عظيمة من غير الأنبياء، مثل الملكة بلقيس التي ورد ذكرها في القرآن الكريم (سورة النمل، الآيات/ 22-44)، ويبيِّن أنَّ المرأة يمكن أن تكون حاكمة قوية وقادرة، ولم ينكر النص الديني ذلك. فإذا كان يقبل بحقيقة وجود بلقيس، بناءً على النصوص، فإنَّ زنوبيا، التي توثقها النصوص والآثار معاً، أقرب إلى التصديق. والتاريخ الإسلامي، نفسه، يزخر بشخصيات نسائية بارزة، مثل خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها)، وعائشة بنت أبي بكر (رضي الله عنها) وغيرهما، من اللواتي لعبن أدوارًا محوريّة في عصر النبي الأعظم، فإذا كان هذا يُقبل، فلماذا يُرفض أن تلعب امرأة دورًا قياديًّا في فجر الإسلام، ولا يمكنها أن تلعب دورًا قياديًّا مهمًّا اليوم؟ فالحقائق تؤكد أن تغييب دور المرأة كان نتيجة الهيمنة الذكورية، التي هيمنت حتى على تأويل النص الديني، وعلى ممارسات المؤسسة الدينية، لكن ذلك لم يقتصر على عصر بعينه، أو دين بعينه.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هوعن أهمية الحوار. فنحن اليوم بحاجة إلى تجاوز النقاشات حول قضايا مثل المصافحة، أو الحجاب، أو القوامة، أو تعدد الزوجات، فهذه ليست في صلب تأسيس الدولة الحديثة. ما نحتاجه هو تمثيل واضح وحقيقيٌّ للمرأة في كل القطاعات الحيوية، من التعليم والصحة، إلى شؤون الدفاع، والقضاء، والصناعة، والهندسة، والمحاماة. لدينا كفاءات نسائية كبيرة قادرة على قيادة هذه القطاعات والمساهمة الفاعلة في بناء مجتمع متكامل. وسوريا المستقبل بحاجة إلى دستور جديد، يمنح المرأة هذا الحق بشكل صريح، ويضمن لها الفرصة للمشاركة الكاملة في صنع المستقبل.

لا أريد أن أطيل أكثر لكن أودّ أن أقول عن نفسي: "كما آمنت بعظمة نساء القرآن وبحثت في التاريخ عن الملكات والإلهات، وكما عاصرت المبدعات الملهمات الرائعات من النساء، سواء في عملي أو من خلال البحث الدؤوب، فإنني أؤمن اليوم أنَّ المرأة قادرة على إحداث التغيير. وعلينا أن نتيح لها الفرصة، وأن نمنحها المساحة التي تستحقها للمشاركة في صنع المستقبل". وهذه الندوة هي خطوة أخرى في مشوار الأميال الطويلة نحو تحقيق هذا الهدف، ولا سيما في ظلّ التحولات الكبرى في سوريا بعد سقوط حقبة الطغاة، وعودة ينابيع الحرية إلى مجاريها، أو لعلَّها تكون كذلك. وأترك الكلمة للصديق الدكتور حسام الدين درويش.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا لك د. ميادة على كل ما طرحته في ورقتك، وأنتقل الآن إلى د. نعمت حافظ البرزنجي، وهي باحثة متقاعدة من جامعة كورنيل بمدينة إثيكا، بولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تهتم بشؤون التربية والتعليم خاصة فيما يرتبط بالجاليات العربية والإسلامية في الاغتراب، إضافة إلى تركيزها على قضايا المرأة العربية والمسلمة والتعليم السامي في القرآن والحديث. حصلت على البكالوريوس من جامعة دمشق، والماجستير من جامعة كولومبيا، والدكتوراه من جامعة كورنيل. نالت جوائز عديدة، منها زمالات فولبرايت، وجائزة "غلوك" عن أطروحتها حول تعليم المسلمين في أمريكا الشمالية. لها مساهمات مهمة في مجال دراساتها: وقد شملت تحرير أكثر من خمسين مقال، ومراجعات لكتب، وتحرير لمجلات علمية تربوية، ولموسوعات شهيرة. ولها ثلاث كتب: "الهوية الذاتية للمرأة وإعادة النظر بالحديث" (2015)، و"قراءة جديدة للقرآن: الهوية الذاتية للمرأة" (2004)، "الكيان الإسلامي والنضال من أجل العدالة" (1999). فالموضوع الذي نتناوله اليوم هو في صلب اختصاصاتها واهتماماتها، وهي مشكورة جدًّا على استجابتها للدعوة. تفضلي د. نعمت.

د. نعمت حافظ البرزنجي:

السلام عليكم، بسم الله والحمد لله. شكرًا د. حسام، د. ميادة. وأبدأ بتحية الأخوات السوريات اللواتي يقفن دائمًا رافعات رؤوسهن وأصواتهن للدفاع عن حقوقهن، وتأكيد مسؤولياتهن، كما أحيّي الزملاء والزميلات في سوريا، اللواتي شاركنني لسنوات في تدارس القرآن، والذين تعاونوا معي، ولا يزالون يقومون على تطوير التعليم العالي والبحث العلمي واللغوي والفكري عامة.عنوان كلمتي: "المرأة السورية: فعّالة على أرض الواقع، غائبة عن تطوير المعرفة وصنع القرار".

يمثل هذا العنوان تأكيدي المتكرر، في أبحاثي وكتاباتي خلال ما يقارب الستين عامًا، أن المرأة بحاجة إلى تطوير هويتها الذاتية كخطوة أولى لفعالياتها؛ اذ إنها غيبّت لعقود طويلة عن تشكيل وتطوير الفكر الإسلامي. فرغم وجود بعض الكتابات التقدمية من باحثات وناشطات مسلمات، لا تزال المرأة المسلمة العربية غائبة عن تطوير المعرفة وصنع القرار.

أطروحتي هذه لا تزال صالحة اليوم، خاصة بالنسبة إلى المرأة السورية؛ فهي نادرًا ما تشارك في التفسيرات الدينية، ولم يكن لها دور في القرارات التي أدت إلى التغيرات الحالية في القيادة السياسية والعسكرية؛ ذلك وللأسف، على الرغم من أنها كانت ولا تزال تلعب دورًا أساسيًّا في تحقيق تغييرات سياسية واجتماعية وإنسانية على أرض الواقع.

بصفتي باحثةً في الدراسات التربوية الإنسانية والإسلامية المتعلقة بالمرأة المسلمة والعربية، ركزت خلال العامين الماضيين على نشاط المرأة السورية بالتحديد. من بين هذه النشاطات، مشاركتي في مناقشات عبر الحاسب، حول موضوع "التجديد الديني وعلاقته بالمرأة"، مع مجموعة من الرجال والنساء السوريات والعربيات والمسلمات. ولاحظت أن غالبية المشاركات كنّ قلقات بشأن كيفية التغلب على التفسيرات الأبوية للإسلام التي تستخدم "الشريعة الإسلامية" كحجة، وخصوصًا ما يُعرف منها بـ "قانون الأحوال الشخصية"، ولكن القليل منهن ربط هذه التفسيرات بالمشهد الاجتماعي والسياسي القائم، متغافلات عن أن الشريعة الإسلامية في جوهرها هي ما تقره الآية الثامنة عشرة من سورة الجاثية: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَاۖ..."، والتي هي الطريق الموجه بالروح القرآنية لدى المؤمن والمؤمنة الواعية ضميريًّا، وليست قوانين تُفرض من البشر.

ولكم استبشرت خيرًا من نقاش تم حول المشهد السياسي المتغير في سوريا، عندما كانت موجات الأثير على الحاسب مليئة بالأصوات التي تدعو للمشاركة في إعادة تشكيل مشهد سياسي واجتماعي عادل، والذي جعلني أكتب عن هذا الحدث اليوم هو السؤال الذي استمر يطرح نفسه: "كيف يمكننا القيام بذلك؟"

يبدو لي أن طول غياب هويتهن الذاتية وولايتهن وفعّاليتهن في صنع القرار، وتطوير المعارف قد أدى إلى عدم ملاحظتهن أن نشاطهن الاجتماعي لن يترجم مباشرة لتغيير في دورهن القيادي. ربما يرجع ذلك إلى عدم تركيزهن على كون التغييرات في الدور القيادي تتطلب أولا وبالضرورة، إعادة بناء هيكل جديد بمبادئ جديدة وبتفكير جديد، سواء تعلق الأمر بالإسلام أو بأيّ إيديولوجية أخرى تؤثر أو سوف تؤثر في العقول والنفوس.

أكرّر، ربما بسبب نضالهن الطويل خلال العقود القليلة الماضية في محاولة تغيير واقعهن على الأرض، لم تدرك أكثر النساء الحاجة الأساسية لتغيير التصورات الأبوية التي تحكم البنية الاجتماعية والسياسية برمتها، سواء كانت هذه التصورات لها علاقة بالإسلام أو بغير ذلك؛ إذ عندما يواجه الانسان ظروفاً معيشية قاسية، فغالباً ما تتشوش رؤيته عن أن الذي يحدث على الأرض مرتبطا بعملية صنع القرار، وأن ما يحدث ينعكس أيضاً على القيادة في تطوير المعرفة. فالمرأة السورية قد تكون بحاجة للوعي في أن غيابها الطويل قد يمنعها من إدراك العلاقة بين التصورات السلبية عن دورها الذي فرضه المجتمع، وطبيعة القرارات التي أدت إلى تغييبها ولتلك الظروف. هذه التصورات السلبية، التي غالباً ما أصبحت جزءًا من تفكيرها اليومي في تأمين حاجات عائلتها وفي خلق جو بناء وتعاوني، لن تساعدها في تحقيق أهدافها وآمالها الحالية، إلا إذا بدأت بتغيير نفسها؛ فأنا أرى العمل على ذلك بدءًا وأوّلًا!

جوهر أطروحتي هو أن المرأة المسلمة والعربية، بشكل عام، غائبة عن المشاركة الفعالة والمتساوية التي يقوم بها الرجال عادة. إضافة إلى ذلك، فهذا الحرمان من الأدوار القيادية في تلك المجتمعات جعلها غير قادرة على تطوير ولايتها ووصايتها الخاصة وهويتها الذاتية واستقلاليتها التي هي حق لكل إنسان، كما تذكرنا الآيات الأولى من سورة النساء: "يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٍ..." في أننا خلفاء لبعضنا بعض.

فدور المرأة كان مشروطاً وملزماً بلعب دور مكمل لأسرتها الذكورية عن غير قصد منها، ولذلك يتضاعف العبء عليها؛ لأنها لم تعط الفرص الكافية مثل الذكور. وبالنتيجة، فهي لن تتمكن من تغيير التصورات والسلوكيات الذكورية السائدة بالمجتمع، حتى تستعيد أولا هويتها وولايتها الذاتية في صنع القرارات وفي تطوير المعارف. نعم، إنه واجب وعبء ثقيل، لكنه هذا هو الأمر الثاني الذي لا بد منه.

السؤال الأساسي الآن: كيف يمكن تحقيق ذلك؟

أرى أن الإجابة تكمن في تقييم النساء لقدراتهن الحالية بأنفسهن، فكما يذكّرنا المفكر والفيلسوف السوري جودت سعيد رحمه الله: "علينا أن نتحرّر من الفيروسات الفكرية حولنا أولاً".

وبصفتي إنسانة وهبني الله العقل والضمير للتفكر، اجتهدت في إعادة فهم معاني الإسلام، مستلهمة من سورة العلق (العلق: 96: 1-3): "ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ...، الذي علّم بالقلم" باستعادة تفهّمي لمعنى "لا إله إلا الله."

سأشرككم ببعض ما قمت به كمثال فقط؛ الاجتهاد لا يكون فقط بالمعنى الديني أو التقليدي، وإنما هو ضروريٌّ في أيّ موضوع، طالما أننا لا نغفل عن النظر للوضع الحالي، وبصورة خاصة لوضع المرأة بموضوعية ومصداقية، وألا نفصله عن سعينا للعدل والقسط عامة.

لقد قررت تطبيق هذه المفاهيم في أبحاثي ونشاطاتي مركزة على الأفراد بعد خمسة وعشرين عامًا من العمل التطوعي مع منظمات العرب والمسلمين في أمريكا، ساعية لرفع مستوى فهمنا للأخلاق الإسلامية وتطبيقها كجزء من الدين. كانت غايتي من التركيز على الأفراد أن أحقق هويتي الذاتية بالإسلام كنظرة عالمية بداية، كما توجهنا سورة (الإسراء 14: 17) "اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا". وكذلك لمساعدة النساء اللواتي تعاونّ معي في تحقيق هوياتهن وولايتهن الذاتية؛ إذ لم نتوان عن استخدام أدوات البحث التربوي والاجتماعي والوعي النسوي كمنظور لإعادة قراءة التاريخ ولتطوير فهمنا للقرآن. وهذا ما مكننا من تطبيق المنهج القرآني لتحقيق مبدأ التقوى في العلاقات الإنسانية عامة عبر سعينا لإيصال الكلمة للجميع دون أن نبثّ الخوف من التغيير!

ختامًا، إنني أؤمن أن العمل على تطوير الهوية الذاتية هو الخطوة الأولى لتحقيق العدالة والمساواة والقسط. التغيير لن يأتي بسهولة، لكنه ممكن بالاجتهاد والعمل الفعّال، مع الحفاظ على الموضوعية والمصداقية في السعي نحوه. وشكرًا لاستماعكم، والسلام عليكم.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلاً لك د. نعمت، من النادر أن يكون الخطاب النسوي متوجهاً إلى نقد ذاتي بهذه الطريقة أو بهذه "الشدة"؛ إذ غالباً ما يكون النقد للآخر.

سنعطي الكلمة الآن للدكتورة أسماء معيكل، وهي روائية وناقدة سوريّة، مهتمة بقضايا النسوية والدراسات السردية والثقافية، وأستاذة مشاركة النقد الأدبي الحديث في جامعة حلب سابقا2004-2012، عملت في مؤسسات أكاديمية قطرية ما بين عامي 2012- 2018. وقد حصلت على الإجازة في اللغة العربية وآدابها، ودبلوم الدراسات العليا الأدبية، والماجستير من جامعة حلب، سورية، وحصلت على الدكتوراه من جامعة عين شمس، جمهورية مصر العربية، لها خمس روايات: 1-"خواطر امرأة لا تعرف العشق". 2-"تلّ الورد".3-"عماتي الثلاث". 4-"الجحش السوري".5-ليالي الخذلان. ولها أربعة كتب نقدية: 1-"الأصالة والتغريب في الرواية العربية".2-"الأفق المفتوح، نظرية التوصيل في الخطاب الروائي المعاصر". 3-"في تلقي الإبداع والنقد".4-"سيرة العنقاء: من مركزية الذكورة إلى ما بعد مركزية الأنوثة". ولها عدد من الدراسات والأبحاث المنشورة في المجلات المحلية والدولية والمواقع الإلكترونية. كما شاركت في العديد من الملتقيات والمؤتمرات العلمية المحلية والدولية. تفضلي د. أسماء.

د. أسماء معيكل:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مساء الحرية عليكم جميعا، واسمحوا لي أن أخصّ بالتحية المرأة داخل سوريا، وتحديدًا المرأة التي ما تزال قابعة في مخيمات النزوح، ولم تتمكن من العودة إلى بيتها المدمر حتى هذه اللحظة، والمرأة التي عاشت وما زالت تعيش في ظل ظروف سيئة، لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة، ومع ذلك مازالت صامدة، وأتوجه بالشكر إلى د. ميادة والدكتور حسام والقائمين على إعداد هذه الندوة المهمة، التي نحن بأمس الحاجة لمثلها في ظل الظروف الراهنة، وضرورة التعرض إلى القضايا الشائكة بلغة الحوار والنقاش الجادّين، بعيدًا عن السخرية والتهكم والتنمر والإقصاء. سيكون مدخلي إلى موضوع ندوتنا بضع تأملات حددتها على النحو الآتي:

لا بد من الفصل بين وضع المرأة في الإسلام، وما منحها من حقوق في مختلف مناحي الحياة، وبين تجلياته في الأنظمة التي اتخذت من الإسلام السياسي هوية لها؛ ففي حين أرادت تلك الأنظمة تطبيق قيم الإسلام وشرائعه في الحياة العامة والخاصة على حد سواء، نجدها عملت على إقصاء المرأة وتأطير دورها في أمور محددة، وحرمتها من حقوقها التي أقرها الإسلام. إن موضوع المرأة موضوعٌ خلافي؛ ذلك أنّ طول ملازمتي له كشفت لي عدم اتفاق اثنين في شأنه؛ فقد تجاذبته الآراء شرقاً وغرباً، ويميناً وشمالاً، ليس لغموضه، بل لأنّه مثار خلاف بين فقهاء المجتمع، والدين، والسياسة، والأدب، فما أن يريد أحد إثارة الحريات العامة، والمساواة بين الجنسين، والمشاركة، والتمكين الاجتماعي، والحقوق المدنية، إلا وينشب نزاع لا نهاية له بين قبول ورفض، وبين استحسان واستهجان، فحال المرأة يتنزّل في هذه الهوّة الفاصلة بين مجتمع ذكوري لم يؤهّل للاعتراف بها، ومجتمع نسوي منقسم على نفسه بين النساء أنفسهن، فما زال قسم لا يستهان به من النساء ينتج الثقافة الذكورية، ويدافع عنها.

ولا بد من الفصل بين وضع المرأة في الإسلام، وما منحها من حقوق في مختلف مناحي الحياة، وبين تجلياته في الأنظمة التي اتخذت من الإسلام السياسي هويّة لها، ففي حين أرادت تلك الأنظمة تطبيق قيم الإسلام وشرائعه في الحياة العامة والخاصة على حد سواء، نجدها عملت على إقصاء المرأة، وتأطير دورها في أمور محددة، وحرمتها من حقوقها التي أقرّها الإسلام. إن الحروب والنزاعات في منطقة الشرق الأوسط، أعادت عجلة الزمن إلى الوراء، ففي ظل الصراعات المختلفة التي شهدناها، حدث تدمير ممنهج لكثير من البلدان والأماكن، وقبل ذلك الإنسان، وفي ظل هذا التدمير نال المرأة ما نالها، ففقدت كل المكاسب التي تحصلت عليها في مسيرة كفاحها الطويل، وقد تلاعبت بها الأنظمة المختلفة، وسعت إلى تسييس قضيتها، فاتخذت منها غطاء لهويتها، ولم تسلم من هذا التلاعب في ما مضى؛ فنظام العلمانية في تركية على سبيل المثال، فرض السفور على المرأة، ومع انتصار الثورة الدينية في إيران فرض الجادور عليها، ومع تنظيم داعش فرض النقاب على المرأة، وتعرضت للسبي، وبيعت في أسواق النخاسة، ما يعني أن المشكلة ليست في الإسلام السياسي فحسب، بل في كل نظام يتخذ المرأة وسيلة لتنفيذ أجندته.

إن كلّ ما مرّت به المرأة، وما تعرضت، وتتعرّض له يرجع، في تقديري، إلى الثقافة الذكورية التي لم تعترف حتى اليوم باستقلالية المرأة بوصفها كائناً حرًّا مساوياً للرجل في الحقوق والواجبات، التي ضمنها لها الشرع، وجاءت التفسيرات الدينية والمجتمعية مجحفة بحق المرأة، مستجيبة للثقافة الذكورية التي تسهم في تعزيز سلطة الرجل وهيمنته وملكيته، والتعامل مع المرأة بوصفها تابعا للرجل، وليست كياناً مستقلًّا بذاته، ولذلك حينما تأتي أيّ سلطة ذكورية استبدادية، بغض النظر عن قناعها الذي ترتديه، ولبوساتها التي تتخذها، تسارع إلى الإعلان عن هويتها، عبر التابع الذي تفرض عليه هيمنتها، ولطالما كانت النساء ذلك التابع!

إن إقصاء المرأة في مجتمعاتنا وتهميش دورها، لا علاقة له بالإسلام السمح، الذي أعلى من شأنها، ومنحها حقوقها كاملة، بل من الأدلجة التي لحقت بالدين، وواقع الحال أن المرأة مستلبة من لدن الثقافة الذكورية التي تتلاعب بها، وتستغلها الأنظمة بمختلف توجهاتها وفقا لأجنداتها، بدون العودة إلى ما تريده المرأة، وحقها في تقرير مصيرها! وموضوع المرأة في بلداننا في غاية التعقيد، ولاسيما في الوقت الراهن، ولعل من أولويات النهوض بالمرأة اليوم، النهوض بقطاع التربية والتعليم، وأن يعاد النظر فيه وفق أسس صحيحة من البداية، أسس لا تعلي من شأن طرف على حساب طرف آخر، وفق تصورات مغلوطة، وتقسيمات جندرية، بل وفق مبدأ تعزيز مفهوم المواطنة الحق، الذي يخلق إنساناً قويًّا يعرف حقوقه وواجباته، التي يضمنها له القانون، بعيدًا عن أيّ تمييز ديني أو طائفي أو عرقي أو مذهبي، أو جندري، والتفاضل بين مواطن وآخر يقوم على مبدأ الكفاءة وحسب.

ولا بد من تفكيك الأواصر المتشابكة، التي حالت دون الاعتراف بالمرأة عنصرًا فاعلًا في المجتمع، وينبغي إيقاظ المرأة من سباتها، وإعادة توجيه نظرتها إلى نفسها، لا بوصفها دُمية لا همّ لها غير الزينة، وعرض المفاتن، والبحث عن الاسترضاء، أو بوصفها فتنة ينبغي المبالغة في سترها وحجبها، مختزلة نفسها في كلتا الحالتين في حدود الجسد، أو قبولها بالدور الذي حوصرت فيه وفق تكوينها البيولوجي، بل بوصفها جنساً مشاركاً للرجل في الأدوار العامة، والمسؤوليات الجماعية، ولعلّ مفهوم الشراكة الحقيقية للمرأة والرجل في مجتمعاتنا ما زال قيد التشكيل، فما اتضحت معالمه، وما استقرّت ثوابته، فيتأتى عنه، على الدوام، نزاع في المحافل الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لكنّه اندرج في صيرورة تاريخية، ستذهب به الى الغاية المنشودة التي لا مهرب منها؛ فلا حياة للرجل إلا بالمرأة، ولا حياة للمرأة إلا بالرجل، وذلك هو الاعتراف الذي تدعمه المسؤولية، وترسّخ ركائزه الشراكة، وبتخلّي أحد الأطراف عن دوره، سوف تنهار الأسس، ويُعاد رسم الحدود القديمة بين الرجل والمرأة، فيرجع بنا الزمن إلى عصر الحريم مرة أخرى.

يمكن تقسيم أوضاع النساء في سورية إلى ثلاثة مستويات؛ الأول: مستوى المرأة التي تمكّنت من مغادرة مناطق الصراع، وانتقلت للعيش في دول مستقرة وآمنة، وانفتحت على عوالم جديدة، ومنحت فرصة في التعرف على حقوقها، وممارسة حريتها، ونجحت في شق طريقها في مجتمعات مغايرة.

والثاني: مستوى المرأة التي علقت تحت القصف والقتل والتدمير، ونزحت وهُجّرت، وعاشت لفترات طويلة في مخيمات النزوح، وما زالت حتى الآن غير قادرة على العودة إلى الأماكن التي هُجّرت منها؛ لأنها لم تعد موجودة، فقد دمرها القصف تدميرًا شاملًا، وهذه المرأة حياتها في المخيمات حياة بائسة، همّها الحصول على المعونات، لتعيش مع أبنائها في ظروف قاهرة، لا تتوفر فيها الشروط الإنسانية للعيش.

والمستوى الثالث: المرأة التي عاشت في ظّل مناطق النظام الفاقد لشرعيته، المنهار على كافة الأصعدة، وهو منقسم بدوره إلى فئتين: فئة فاسدة قيميًّا وأخلاقيًّا، لا همّ لها سوى الإثراء على حساب الفئة الثانية، التي تمثل الشريحة الكبرى في المجتمع، وتعيش في ظلّ ظروف قاهرة، فرّغتها من محتواها، ولم يعد يشغلها سوى تحصيل لقمة عيشها. أمّا مفاهيمها عن الحرية والديمقراطية، والعدل والمساواة، فقد باتت نسيًّا منسيّا. وإذا استثنينا النساء اللواتي تمكّن من الخروج من سوريا، أو أيّ دولة أخرى في عالمنا العربي، تعاني من الحروب والصراعات، فإن باقي النساء دارت بهن عجلة الزمن إلى الوراء، وما حقّقنه من مكاسب قبل الحرب، خسرنها في ظلّ الظروف القاهرة، التي عادت بهن إلى حياة شبه بدائية، فصار الشغل الشاغل للأغلبية بمن فيها من الفئة المثقفة؛ الحصول على رغيف الخبز، والماء، والكهرباء، والوقود. أمّا ما خلا ذلك، فصار يشبه ترفاً فكريًّا، وانفصالاً عن الواقع!

وفي ظلّ التغيرات الجديدة، وسقوط نظام الإجرام في سورية، تنفّس الناس الصعداء، وعبّر رجال ونساء عن فرحتهم بالخلاص الذي انتظروه طويلاً، ورحّبوا بمن جاء سقوط النظام على أيديهم، بعد أن انغلق الأفق، وظنّوا كلّ الظن أن حياتهم ستنتهي إلى ما آلت عليه الحال، في ظلّ النظام المجرم الذي بدا أنه انتصر، وسعت أطراف عربية وإقليمية ودولية إلى إعادة تأهيله، فإذا بالنصر يقلب الموازين، وإلى ذلك ظهرت بعض الهواجس من هوية المنتصر الجديد الإسلامية، وأبدت أطراف عدة تخوّفها، ولاسيما التخوف بشأن النساء وحقوقهن، وفي اعتقادي لا يوجد أي خطر على المرأة، إذا وعت حقوقها، ودافعت عن وجودها، وأدركت دورها، وأعدت نفسها لما تريد أن تكونه، ولا يتعلق الأمر بهيمنة القوى الإسلامية أو غيرها، فالإسلام في جوهره أعطى المرأة حقوقها، وساوى بينها وبين الرجل في والثواب والعقاب، ما يعني أنها مكافئة للرجل في التكليف، ولو كانت أقل من الرجل، وغير قادرة على القيام ببعض واجباته؛ للزم محاسبتها بطريقة مختلفة، فالله العدل لا يمكن أن يخلقها كائناً ضعيفاً هشًّا عاطفيًّا، كما يصورها البعض، ثم يحاسبها كما يحاسب الرجل القوي الجبار!

إن صورة المرأة في القرآن الكريم، وفي التاريخ الإسلامي صورة مشرقة، فهي امرأة قوية يؤخذ بمشورتها، فأم سلمة، هي من أشارت على النبي صلى الله عليه وسلم، بما ينبغي فعله بعد أن امتنع أصحابه عن تنفيذ أمره، في صلح الحديبية، وأم سلمة هي من عاتبت النبي قائلة: ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه، فأنزل الله "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات..." (الأحزاب/ 35)، وشاركت المرأة في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية، والثقافية، فأمّ المؤمنين عائشة كانت تروي الحديث، وتفتي في أمور الناس، ويوم موقعة الجمل سجلت موقفاً سياسيًّا، بغض النظر عن التأويلات التي لحقت بالحادثة، وأنها كانت في الهودج، راجعة من الحج، فغيّرت مسارها، وانضمت إلى طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، تريد الإصلاح، وحتى لو أخذنا بهذا التأويل؛ فإنها تكون بذلك قد سجلت موقفا سياسيا، ومارست دورا في محاولة رأب الصدع بين الأطراف المتنازعة، ولم تكن منعزلة عن الشأن العام، ولم يتعامل معها بوصفها أقل من الرجل. أما خولة بنت ثعلبة، فقد سمع الله جدالها مع النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها، وحوارها معه في موضوع الظهار، فأنزل الله آياته "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير" (المجادلة/ 1)، ليبيّن حكم الظهار في الآيات اللاحقة، وسُمّيت السورة بالمجادلة كناية عنها، والأمثلة كثيرة في المجالات الأخرى في مختلف مناحي الحياة عبر العصور المختلفة، عن نساء مسلمات مارسن مختلف الأدوار في الثقافة والأدب وفي البيع والتجارة، وتولي المناصب المهمة، فولّادة بنت المستكفي كان لديها صالون أدبي تلتقي فيه الوزراء والشعراء، ومن يقلّل من شأن المرأة يستشهد بآيات خارج سياقها للتدليل على تسيّد الرجل على المرأة، والحال هذه فما يخشى منه على المرأة تسييس قضيتها، والتلاعب بها لتثبيت سلطة ما، وهذا ما فعلته أنظمة كثيرة، بمختلف لبوساتها، فقد كشفت التجارب التي شهدناها أن منطلقات كثير من الحكومات والأحزاب لا مشكلة في جوهرها، وأهدافها المعلنة التي تأسّست عليها، لكن انحرافها عن أصولها، لحيازة السلطة والاستئثار بها، هو ما فرّغها من مضمونها.

لعل التحدّي الأكبر أمام المرأة اليوم، هو أن تؤهل نفسها للدور الذي تريده هي، لا الدور الذي يُفرض عليها؛ فلطالما فُرضت عليها أدوار نمطية جاهزة، حاصرتها في إطار حدود جسدها البيولوجي، فمن أدوار المرأة الرئيسة بحسب الثقافة الذكورية المتعة والإنجاب. لذا، جرى تركيز على إمتاع الرجل، ووظيفة الأمومة، وتربية الأطفال، وأنها خلقت لذلك، وما زلنا نسمع عن مثل هذه التصورات حتى اليوم. وفي حقيقة الأمر، فإن إعداد المرأة وتمكينها، يؤهلها للقيام بأي دور؛ فليس هناك مهنٌ نسوية وأخرى ذكورية، بل هناك شخص أُعدّ منذ الصغر للقيام بعمل ما، وآخر لم يُعدّ فحدث التمايز بينهما، ونحن نرى اليوم أن كثيرًا من المهن التي تُصنّف على أنها نسوية قد برع فيها الرجال، وأنّ كثيرًا من الأعمال التي تُصنّف على أنها ذكورية نجحت فيها النساء. ففي الأرياف، على سبيل المثال، تعمل النساء في مختلف الأعمال الزراعية، التي تتطلّب بنية قوية، يعجز عن القيام بها الرجال، الذين نشأوا في المدينة.

ولا بد من العلم والمعرفة، والعمل على تحقيق الاستقلالية المادية، ووعي المرأة الحقيقي بحقوقها وواجباتها، بعيدًا عن العادات والتقاليد المهترئة، التي تحرمها من النشأة الصحيّة، فتُقمع وتُكبت، وتجد نفسها في مجتمع يعدّ عليها حركاتها وسكناتها، فتنكفئ على ذاتها، وتُحرم من حق الحياة الطبيعية، محكومة بمفهوم (العيب)، الذي لا علاقة له بمفهوم (الحلال والحرام)، الذي يتسامح به المجتمع الذكوري أكثر من تسامحه بمفهوم العيب، ولعل نظرة خاطفة على واقع مجتمعاتنا، تُبرز ذلك بوضوح لكلّ متأمل، فالحجاب الذي يفرض على الفتيات في بعض المناطق، لا علاقة له بالمفهوم الديني للاحتشام، ومن العادي جدًّا أن نجد المرأة تغطي شعرها، ولا تلتزم بأخلاق الإسلام وتعاليمه الأساسية، ومع ذلك يتسامح معها المجتمع الذكوري؛ لأنها أمور لا تمسّ سلطته، ووصايته التي يفرضها على المرأة، ما يعني أن الحفاظ على مظاهر التدين، لا علاقة له بجوهر الدين الحقيقي، ولذا فقد بتنا نرى بوضوح مظاهر دينية في مجتمعاتنا، مع غياب للدين.

وإلى ذلك، لم تغب المرأة عن مشهد التحولات السياسية والاجتماعية، التي عصفت بمنطقتنا، فالمرأة خرجت في المظاهرات إلى جانب الرجل، وتعرّضت للاعتقال والتعذيب، والاغتصاب، والموت والتهجير والنزوح، وصمدت على مدار سنوات؛ فعاشت في ظلّ ظروف لا إنسانية، ومع ذلك لم تستسلم، وتأقلمت مع العيش في تلك الظروف، ولم تتخلّ عن أحلامها وطموحاتها، فكثير من الفتيات درسن وتفوقن، وعملن، كما عملت المرأة على سد غياب الرجل، الذي لم يعد موجودا لأسباب متعددة، منها الاعتقال والهرب خارج البلاد، أو بسبب الاختفاء القسري، والموت في المعارك، فحلّت المرأة محل الرجل الغائب في أعمال كثيرة؛ كي تستمر عجلة الحياة، كذلك احتملت التضحية بأبنائها في سبيل الثورة، وهناك نساء استشهد لهن أكثر من ابن في المعارك والاشتباكات، وخاضت إلى جانب الرجل رحلة اللجوء المريرة عبر البحار والغابات، إلى أن وصلت إلى أوروبا، وكثيرات فقدن حياتهن في عمق البحار. فالمرأة كانت شريكة حقيقية في الثورة ضد نظام الاستبداد، وعلى مدار سنين طويلة، كانت تعمل في مختلف القطاعات الصحية، والتعليمية، والثقافية، والزراعية والصناعية، والخدمية، ولذلك لا يمكن لأيّ نظام جديد إقصاءها عن ممارسة أدوارها في مختلف المجالات.

فعلى الرغم من كلّ محاولات القمع، والإقصاء، والتهميش؛ لم تفلح الأنظمة الاستبدادية في حرمان الإنسان من سعيه الدؤوب نحو تقرير مصيره، ومحاولته الدفاع عن حقوقه، وإن بدا أنّه في بعض المراحل رضخ لتلك الهيمنة، واستجاب لتلك السلطات القمعية، لكن ذلك لم يكن سوى مظهر خادع؛ فكلّ ما يفرض بالقوة، ولا يعبر عن قناعة الإنسان، سواء أكان رجلاً أم امرأة، وتحديدًا في موضوع الحريات الفردية والمدنية، مصيره إلى زوال، ولا يحقق أهدافه المرجوة مهما طال الزمان، بل يخلق مجتمعاً منافقاً ظاهره شيء، وباطنه شيء آخر، وكلّ تهميش وإقصاء لأيّ طرف، أو مكوّن من مكوّنات النسيج الواحد، سينتج عنه كبت، لا بدّ أن ينفجر يوماً ما، وكلّ تطرف سينتج عنه تطرف مضاد! وقد شهدنا ذلك في سورية، وبلدان أخرى، وسيقع التحايل على ما لا يعبر عن قناعات الإنسان.

ولا يخفى على أحد التحايل على بعض المظاهر المنتشرة في كثير من البلدان، التي تفرض سلطة على بعض الأمور ومنها اللباس، ففرض الحجاب بوصفه هوية دينية، وبشروط محددة كالجادور، والنقاب على نساء لا يقتنعن به، سيؤدي إلى التحايل عليه؛ ففي إيران وبعد عقود من فرض الجادور بالقوة، لم ينجح النظام في خلق قناعة به لنساء مسلمات، في مجتمع ليس فيه التنوع الموجود في غيره من البلدان؛ فالنساء الإيرانيات داخل إيران يتحايلن على الحجاب، ولم يعد الجادور الزيّ الوحيد من جهة، ومن جهة ثانية صارت النساء ترتدي ما تريد من الملابس، رغم ترصّدها ومضايقتها، ولا تهتم كثيرًا بغطاء رأسها الذي لا يستر شعرها المنسدل على ظهرها، رغم خطر تعرّضها للموت، كما حدث لمهسا أميني في السادس عشر من أيلول سنة 2022 في العاصمة طهران، بعد اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق، وتعذيبها بسبب ارتدائها الحجاب بطريقة غير سليمة حسب وصفهم، وأثار موتها غضباً عارماً داخل إيران وخارجها.

ويحدث الأمر نفسه في بلدان أخرى عربية وغير عربية، حيث تتخلّى بعض النساء عن حجابهن بمجرد مغادرتهن إلى مكان آخر، لا تصل إليهن فيه عين الرقيب، ويبالغن في سفورهن بوصفه ردّة فعل على القمع والكبت الذي تعرضن له، وهناك نساء يتحايلن على الحجاب، فلا يولينه أيّ اعتبار، ويرتدين ملابس فاضحة، لا تتناسب مع غطاء رأسهن! ويبالغن في وضع مساحيق التجميل بشكل لافت للانتباه! وكل تلك المظاهر تعبّر عن عدم القناعة بالزيّ المفروض عليهن قسرًا.

وعلى الطرف المقابل في البلدان التي تحكمها أنظمة أخرى، تفرض سلطة دكتاتورية، تعرّضت النساء المرتديات للحجاب للإقصاء؛ ففي سورية التي حُكمت على مدار أكثر من نصف قرن، بعيدًا عن مفهوم الإسلام السياسي أو غير السياسي، وصدّر النظام نفسه بوصفه نظاماً ديمقراطيًّا أقرب للعلمانية، وواقع الحال أنه لم يكن سوى نظام دكتاتوري مجرم، حاول فرض السفور على النساء قسرًا، وحرمت طالبات كثيرات من حق التعلم عقب أحداث حماه في الثمانينيات، في ظل حافظ الأسد، قبل أن يتراجع عن هذا القرار فيما بعد، بيد أن ظلال الأحداث والقمع الوحشي الذي تعرّض له الإخوان المسلمون، خيّمت على المجتمع؛ إذ تحوّل أيّ مظهر من مظاهر التدين إلى شبهة، قد تعرض صاحبها للعقاب، ثم عمل فيما بعد على توظيف الخطاب الديني لتثبيت دعائم سلطته، فحاول وضع فئات تحت جناحه لتلميع صورته، في مقابل منحها قليلاً من ممارسة بعض طقوسها، وقد شهدنا ذلك في أثناء الثورة السورية، فقد سعى بشار الأسد إلى تحشيد علماء الدين لدعم قمعه للثورة، وكانت المرأة مشاركة في ذلك، فلا أحد ينسى ظهور بشار الأسد في صورة جماعية متوسطاً عددًا كبيرًا من القبيسيات، اللواتي اجتمع بهنّ، لكسب التأييد لما يقوم به من قمع لمن ثاروا ضده، بوصفهم جماعات إرهابية متطرفة.

وحدث في تركية، التي فُرض السفور على نسائها، مع نظام العلمانية، الذي أرسى دعائمه مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، ومع صعود حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي، بدأت النساء بالمطالبة بحقهن في اختيار السفور أو الحجاب، بعد سنوات طويلة من منعه، وحالما لمسن تجاوباً، وصدى لمطالباتهن، بدأن بالتحايل على السفور، فصارت بعض النساء غير المقتنعات به، يضعن الشعر المستعار فوق غطاء رأسهن، إلى أن صدر قانون ألغى قانون السفور، ومنح المرأة حقها في اختيار ما تريده من اللباس.

وفي هذا السياق، لابد من الإشارة إلى ما يحدث من خلط كبير، في أثناء الحديث عن حقوق المرأة، ومفهوم تحررها، لم يسلم منه الغرب المتحرر نفسه، ولا سيما حينما يتعلق الأمر بالمرأة العربية، فنجده يبدي تخوفه عليها من الإسلام السياسي، ويختزله على نحو خاطئ بالسفور والحجاب، والأقليات، وواقع الحال أن مفهوم التحرر وحقوق المرأة شيء، وقضية السفور والحجاب شيء آخر، فسفور المرأة لا ينم دائماً عن امرأة حرة حاصلة على كامل حقوقها، وحجابها ليس دليلاً على تخلفها، وانغلاق عقلها، وإقصائها؛ ذلك أن قضية السفور والحجاب، في المجتمعات الشرقية والعربية عموماً، تحكمها عوامل عدة، ففي سورية المتنوعة دينيًّا وعرقيًّا وطائفيًّا وحتى جغرافيًّا، مرتبطة بالعادات والتقاليد والأعراف، والتنوع الموجود في المنطقة؛ بمعنى أن الحرية هي اختيار، وطالما أن مظاهر السفور والحجاب في مجتمعاتنا تحدث بشكل آلي، تقليدًا للأعراف السائدة، فهي خارج شرط الحرية، فالحرية تقاس بحرية الفكر، ووعي المرأة لذاتها وهويتها وحقوقها.

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل مقياس التحرر في الغرب هو سفور النساء؟ وإذا كانت النساء في الغرب سافرات عموما، فهل هذا يعني أن المرأة تتمتع بكافة حقوقها؟! إن الإجابة عن التساؤل السابق في غاية الوضوح؛ فمن المعلوم أن المرأة في الغرب حتى اليوم، ورغم كل مظاهر التحرر والانفتاح، وصعود الحركات النسوية التي أعلت من شأن النساء، إلا أن نساء كثيرات ما زلن يتعرضن للعنف، والاغتصاب، وعلى صعيد آخر يُغفل الغرب، الذي يعلي من مبدأ الخصوصية، خصوصية المرأة الشرقية عموماً، والعربية على وجه الخصوص؛ فلا يلتفت إلى أن ما هو بديهي وأولوية بالنسبة إلى المرأة الغربية، ليس كذلك بالنسبة إلى المرأة العربية والشرقية.

وعليه، فلا يمكننا الركون إلى الأصوات الغربية، التي ارتفعت عقب سقوط النظام المجرم في سورية، مبدية قلقها تجاه المرأة والأقليات، فهل يُقلق الغرب كشف المرأة لشعرها أو تغطيته، ولم يُقلقه قصفها بالبراميل والطيران الروسي، وعيشها على مدار ثلاثة عشر عاماً في مخيّمات النزوح؟! ماذا عن حال النساء في المخيمات، والنساء اللواتي خرجن من المعتقلات؟! إن الغرب الذي يتشدّق بمفاهيم الديمقراطية والحرية، عليه أن يحترم خصوصية مجتمعاتنا وأولوياتها، فبالنسبة إلى المرأة التي كانت تعيش تحت القصف، أولوياتها أن تنجو مع أبنائها وعائلتها من الموت، والمرأة التي ما زالت تعيش في المخيمات، أولوياتها العودة إلى بيتها، وليست متخوفة من مخاوف الغرب المصطنعة عن حقوق النساء والأقليات! فقد شهدت بأمّ عينها كيف كانت تُباد، ولم ينتصر لها الغرب لا بوصفها أكثرية، ولا بوصفها امرأة، وصمت العالم كلّه بما فيه العالم العربي، بل والمجتمع السوري المنقسم على نفسه، فمن كان تحت سيطرة النظام البائد، لم تكن لديه مشكلة في أن يُباد كل من يقطن في المناطق المحررة، بوصفهم إرهابيين وإرهابيات!

وكان من نتائج الحروب المدمرة، أن وجدت المرأة نفسها في مواجهة مصائر مرعبة، فقد تعرّضت للاعتقال والاغتصاب، وكثيرات فقدن أزواجهن، وأبناءهن، واضطررن إلى مواجهة ظروف الحياة القاهرة بمفردهن، كما ازدادت نسبة الفتيات اللواتي في سن الزواج، ولم يتزوجن، في ظل تناقص عدد الشباب من الذكور الذين قضوا نحبهم في المعارك، أو تحت القصف، أو اختفوا بسبب الاعتقال، أو فرّوا من الخدمة الإلزامية خارج البلاد، أو لجأوا إلى بلدان أخرى، بحثاً عن فرصة عيش آمنة، إضافة إلى ذلك ظهر جيل من المطلقات، سواء داخل سورية، أو في بلدان اللجوء، ففي الداخل المأزوم ارتفعت نسبة الطلاق، بسبب تزويج القاصرات غير المؤهلات للزواج، ولكن الوضع المعيشي القاهر، جعل الأهالي يعجّلون في زواج بناتهن، للتخفّف من أعبائهن، ونتج عن ذلك زيجات غير متكافئة، سرعان ما انتهت بالطلاق لفتيات صغيرات لم تتجاوز بعضهن سن العشرين! أمّا في بلدان اللجوء، فبعد أن وجدت المرأة قانوناً يحميها ويراعي حقوقها، لم يعد بإمكانها السكوت، عما كانت تتعرّض له من عنف في بلادها، حيث لا سند لها، فقانون بلادها لا يحمي حقوقها، ولا المجتمع يراعي تلك الحقوق! وبدل أن يغيّر الرجل من عقليته في التعامل مع زوجته، واحترام قوانين البلدان، التي لجأوا إليها، أصرّ على معاملتها بعقليّته الذكورية، فلم تلتزم المرأة الصمت، بعد أن تعرّفت على حقوقها، ووجدت سندًا لها، فاختارت مفارقة زوج يُصرّ على إذلالها، وتعنيفها، وقهرها، ونجحت في إدارة حياتها بعيدًا عنه، ونتج عن ذلك تشتت الأسرة، التي كان ظاهرها المتماسك خادعاً، فهي منهارة من الداخل أصلا، أو آيلة إلى السقوط؛ ولذا فقد تهاوت بسرعة فائقة!

وفي ظلّ الأوضاع الصعبة، التي مرت بها المرأة، فإن مستقبلها بحاجة إلى إعادة بناء من جديد، ولا بد أن يكون البناء على أسس ثابتة هذه المرة؛ فبعد التجارب المريرة التي عاشتها، لا بد أن تنبثق من خلالها امرأة المستقبل، امرأة أقوى؛ فالمرأة التي احتملت ظروف الحرب بمختلف مراحلها وتجلّياتها، هي امرأة جديرة بالتقدير والاحترام، والمشاركة في كلّ مناحي الحياة، وفق مبدأ الكفاءة، لا المشاركة التي تقوم على محاصصة غير معلنة، بتعيين نساء في تشكيلة الحكومة ودوائر الدولة، بوصفهن واجهة تُصدّر للآخر، لإيهامه باحترام حقوق المرأة، وغالباً لا يكون الاختيار وفقاً للمؤهلات، بل وفق تقسيمات مضمرة طائفية، كما كان في يحدث في النظام البائد.

ولا بد من قانون صارم يحمي حقوق المرأة وحريتها؛ فظاهرة التحرش، على سبيل المثال، متفشية في مجتمعاتنا، التي لها صبغة محافظة، ولم يحل دونها ظاهر التدين، والعادات والتقاليد المحافظة، وحتى البلدان التي تحكمها أنظمة إسلامية، تعاني من ظاهرة التحرش بكافة أشكاله، ولا تنجو امرأة من تحرش ما، حتى لو كانت ترتدي النقاب؛ فالعقلية الذكورية تشرعن للذكر الاعتداء على خصوصية المرأة، والتحرش بها، بدون أن يرفّ له جفن، طالما أنه لا يوجد قانون يُجرّمه.

وفي ضوء ما سبق، فإن حرية المرأة ومستقبلها، رهن باجتثاث الثقافة الذكورية التي تكمن وراءها كلّ مآسي المرأة، وسنّ قوانين صارمة، تشارك في وضعها المرأة؛ فكل التشريعات والقوانين والدساتير السابقة، وضعت في ظلّ غياب المرأة، ولذلك جاءت مجحفة بحق المرأة، وتصبّ في مصلحة الرجل، وقد آن الأوان لتشارك المرأة، التي تشكل أكثر من نصف المجتمع، في سنّ قوانينه وتشريعاته، لتكون دساتير البلدان متوازنة لا تميل الكفة فيها لصالح طرف على حساب طرف آخر.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلا د. أسماء، بصراحة لم تتركي أحدًا من سهامك، لا من الداخل ولا من الخارج، لا من المسلمين ولا من غير المسلمين، رجال ونساء...إلخ. وأعطي الكلمة الآن للأستاذ مارسيل موسى، خريج كلية الحقوق من جامعة حمص، وحاصل على ماجستير في العلاقات الدولية أبحاث السلام والصراعات، من جامعة فيليبس ماربورغ – ألمانيا. ورسالة التخرج من سلك المحاماة كانت بعنوان: "المرأة السورية في قانون الجنسية". ورسالة الماجستير كانت بعنوان: "دور المرأة السورية في الحياة السياسية وعملية السلام في سوريا بعد 2011". يقوم بتدريس مادة العدالة الانتقالية واللاعنف مع منظمة تستقل مقرها مدينة جنيف منذ 2019. قام بالعمل مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية في بعض الاجتماعات الخاصة بالشأن السوري، وتدرّب في مركز جنيف لسياسات الأمن، قسم عمليات السلام في مدينة جنيف - سويسرا. يهتم بأمور العلوم السياسية والدبلوماسية والهوية والمساواة ويبحث فيها. تفضل أستاذ مارسيل.

ذ. مارسيل موسى:

شكرًا لك د. حسام، والشكر موصول للدكتورة ميادة، كما أشكر د. عفراء بصفتها واحدة من معلماتي في فترة من الفترات.

بما أننا شعبٌ ينسى، أودّ أن أذكّر، عبر تقديم لمحة تاريخية عن المرأة في مرحلة ما قبل الاستقلال وحتى اليوم، وهي لمحة سريعة جدًّا. لقد كانت المرأة جزءًا من الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي، حيث انخرطت النساء في الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات. كما لعبت المرأة دور القيادة، مثل نازك العبد في جمعية نور الفيحاء أول منظمة سياسية نسوية وطنية، وحملت أيضا السلاح إلى جانب إبراهيم العظمة في معركة ميسلون عام 1920، حصلت على رتبة عسكرية فخرية. ولا ننسى أيضا حصول المرأة في سوريا على حق التصويت والترشح في سنة 1949، ورغم ذلك ظلت مشاركتها محدودة بسبب القيود المجتمعية، وضعف الإرادة السياسية لدعم المرأة. في سنة 1953، ترشحت المرأة للبرلمان، وكان أول المترشحات وداد حداد، وسعاد نوفل، واقتصر دورهنّ في الغالب على ما هو رمزي من دون تأثير حقيقي في صنع القرار. وفي سنة 1976، تم تعيين نجاح العطار وزيرة، واستمرت في منصبها حتى سنة 2000. وفي 2006، أنشئ منصب نائب رئيس الجمهورية للسيدة لأول مرة. لماذا أذكر هذا؟ لأن كل مشاركات النساء في هذه الفترة ما بعد 49، كانت مشاركات رمزية، ولا علاقة للإسلام السياسي بها، لكن ما بعد 2011 وإلى 2024، عندما اشتركت المرأة السورية في الثورة السورية، دعونا نركز على بعض الأرقام، باشتراك المرأة السورية في مفاوضات في عملية السلام، على سبيل المثال في مؤتمر جنيف 1، كانت نسبة تمثيل المرأة 0 %، وارتفع في جنيف 2 إلى 10%، في جنيف 3، تشكل المجلس الاستشاري النسوي أو النسائي بضغط من المبعوث الأممي الخاص بسوريا "ستيفان دي ميستورا" والأمم المتحدة، ثم ارتفعت النسبة في جنيف 4 و5 إلى 15%، حتى وصلت في جنيف 6 و7 إلى 20%، كل هذا بضغط من الأمم المتحدة. وعلى الطرف الآخر، وُوجِهت مشاركة المرأة بممانعة من التيارات ذات الإيديولوجيات المتشددة، وعلى رأسها التيارات التي تتبنى فكر الإسلام السياسي. نتكلم عن هذا؛ لأن مشكلة الإسلام السياسي الآن حاضرة، وخاصة مع المرأة. إن الإسلام السياسي لم ينجح بشكل عام في أي بلد....ولم يحدث فيها أي تغيير، على سبيل المثال ينظر الإسلام السياسي حتى الآن، في أهلية المرأة، وأقصد بالأهلية، أهلية المشاركة السياسية، حيث هناك افتراضٌ ضمنيٌّ غير مباشر عند متبني الحركات الإسلامية أو الإسلام السياسي لقدرة المرأة على المشاركة أو على القيادة بحد ذاتها....دون أن يعلنوا ذلك بشكل علني، ويتخفون وراء تمجيد ظاهري لدور المرأة بوصفها الأم التي تربّي الأسرة، وتربّي الرجل الذي سوف يقود المجتمع أيضا، وبالتالي تمجيد هذا الدور كأمّ، يزيحها من أيّ طموح سياسي. من جهة أخرى، ثمة إشكال للأسف لدى المرأة، فعندما وُضِعت في هذا الدور المكتوب أو المرسوم لها، تنحّت عن دورها في المشاركة في العملية السياسية، بالإضافة إلى التفسير الضيق للنصوص الدينية في بعض المناطق السورية، حيث يتم استخدام التفسير التقليدي للنصوص الدينية لتبرير فرض القيود على حقوق المرأة في مجالات العمل والتعليم، وفي الحريات الشخصية مثل اتخاذ قرارات بشأن الزواج أو الميراث، والحل لذلك هو تشجيع التفسير الديني المتوازن، لماذا؟ لأننا حتى الآن لا يجوز لنا أن ننقد التراث الفقهي، فهو صنيعة البشر، وليس كلمة الله؛ فهل يجب لنا أن نعبد الله من كلام الفقه ولدينا القرآن. يجب علينا أيضاً، أن نركز أكثر على التفسير الديني المتوازن، وخاصة النصوص التي تركز على حقوق المرأة وعلى العدالة والمساواة. وهنا أستحضر ما استشهدت به د. نعمت، المفكر السوري رحمه الله جودت سعيد، الذي رفض التفسير التقليدي للنصوص الدينية التي صنعت من المرأة أداة، لأداء شيء معين، وقال إن المرأة هي قيمة إنسانية وأساسية لها الحق في المشاركة، وأيضا بسبب إيمانه باللاعنف والمساواة والعدالة التي تحكم العلاقات بين الجنسين. لذلك، كان يقول لنا يجب أن يزيد إشراك المرأة في الحياة السياسية، شكرًا.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا لك ذ. مارسيل، رغم أن الحديث عن المشكل لوحده يعطي إشارات للحلّ، لكنك حاولت الحديث عن مكامن المشكلة، ومكامن الحلّ أيضًا، طبعاً. والسؤال الذي سنعود إليه: هل المشكلة في التفسير الخاطئ والحل في التفسير الصحيح؟ هل التفسير التقليدي هو المشكلة، والحل في التفسير المنفتح أو الجديد؟ هل المشكلة نصية؟ ومن يمتلك القراءة الأصح للنص؟

ننتقل الآن إلى د. عفراء، وهي كاتبة وأكاديمية كندية-سورية، وأستاذة مساعدة في قسم الثقافات والأديان بجامعة كونكورديا في مونتريال. تُعرف بإسهاماتها في قضايا اللاعنف، التأويل، والإصلاح الديني والسياسي. كانت من الموقعين على إعلان دمشق قبل الربيع العربي وعضوة في المجلس الوطني السوري في بدايات الثورة السورية. وقد حصلت على الدكتوراه في الفلسفة والأديان المقارنة من جامعة كونكورديا، وأتمت بكالوريوس في العلوم السياسية والأنثروبولوجيا من جامعة مغيل في مونتريال، وماجستير في الإعلام والصحافة من جامعة كارلتون في أوتاوا. وعملت مع عدة منظمات في المجتمع المدني السوري، وأسهمت في تطوير مناهج وبرامج لبناء السلام الاستراتيجي وحل النزاعات بالتعاون مع جامعة جورج ميسن الأمريكية. كما كان لها عمود أسبوعي في صحف ومجلات متعددة على مدى العقدين الماضيين، حيث ناقشت دور الحوار واللغة في الإصلاح الاجتماعي والسياسي. تفضلي د. عفراء.

د. عفراء جلبي:

نشرت على صفحتي قبل يومين، قصة حوار دار بين الكاتبة والمفكرة السورية صاحبة التوجهات اللاعنفية، الأستاذة نوال السباعي، وعن شاب من الجيش الحر في 2014، حيث كان يظهر على صفحتها ويجادلها على مدى أوقات طويلة عن عدم جدوى اللاعنف وما تطرحه من أفكار سياسية وطروحات فكرية بناءة، حتى تمادى في المشاغبات، فكادت أن تطرده من الصفحة، فقال لها يا خالة يا خالة أصلًا أنا أشعر أني سأستشهد؛ وفعلا بعد فترة علمت بنبأ استشهاده.

هذه القصة مهمّة؛ لأنها تختزل ليس مأساة الثورة السورية فحسب، ولكن مأساة المنطقة مع كلّ الطيف السياسي وما مر به الشباب المناضلون خلال حقب عديدة بما فيها الحقبة اليسارية والفدائيين وخطف الطائرات، ومؤخرًا الهجوم الشنيع في 7 أكتوبر والعقاب الأشنع والإبادة التي تتعرض لها غزة الآن. وطبعاً رأينا ما قدمه السوريون والسوريات من تضحيات خيالية يكاد يشيب له الولدان، (بل شابوا من العذاب والاختفاءات القسرية والقصف بالبراميل على مدن بأكملها). مع النظر لهذه التضاريس الشائكة والوعرة، نرى شباب المنطقة تنغلق الأبواب في وجوههم، فيلجؤون لأدوات تورطهم أكثر وأكثر في متاهات عسكرية ومتطرفة وبأثمان باهظة، لا تقدر الشعوب على دفعها ولا تطيق ولا يتحملها العقل والقلب. في العقود القليلة الأخيرة كان الإسلام السياسي هو الطاقية الجديدة بعد الطاقية اليسارية التي اختارها الشباب المناضل، وكانت أيضا بأثمان باهظة. لهذا، علينا التساؤل حقًّا كيف نخرج من هذه العذابات، وكيف يمكن لنا أن نتوجه من صراع الأجساد والبارود إلى صراع الأفكار وصناديق الانتخاب.

ولكن أريد أن أرجع إلى الوراء قليلاً، لماذا كان الإسلام السياسي الخيار عند الشباب بعد فشل الخيارات الأخرى؟

هناك شعور بخيانة المسؤولية أو الخذلان للعدالة في طبقات عميقة في أركيولوجيا المخيلة الإسلامية، بأننا نقضنا أهم عرى الإسلام، عندما صار انقلاب على الخلافة الراشدة التي كانت تؤسس لنموذج تبادلي تشاركي بدون حكم العائلة وبدون حكم السيف. وأننا أعدناها هرقلية لنعود ونقع تماماً في المنظومة نفسها التي أراد فيها المسلمون التأسيس لنوع مختلف من الحكم الرشيد، وخاصة بعد تعدد الشعوب والانتماءات التي صارت ضمن هذا الحكم. ولكن مع انقلاب معاوية، رجعنا لحكم الوراثة والعائلة بغلبة السيف والعنف. وحتى العالم الإسلامي بشقّيه السنّي والشيعي، كان مشروع صراع عائلي قبلي بين بني أمية وبني هاشم، والذي سبق صراعهما القبلي ولادة الرسول (ص)، وتواصل بعد وفاته على شكل صراع مذهبي إلى وقتنا. وهذا الشعور بفقد الحكم الراشد، هو شعور ثقيل وعميق ضمن اللاوعي الجمعي الإسلامي، ولا يمكن تجاهله. وحتى الحديث المعروف يسجل هذا الرعب الدفين بفقدان العدالة وهذا النموذج من الحكم. ونقرأه في حديث أبي أمامة الذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة." وعلى فكرة، فإن هذا المشاعر ليست حكرًا فقط على المسلمين، وإنما هي مبثوثة بأشكال مختلفة في الأديان السماوية وغيرها من أديان الكوكب كلّه، هذا الهوى الدفين في أعماق الإنسان نحو العدالة والإحسان. فعندما قال المسيح: "لقد ضيعتم أقدس شيء في الناموس، العدل والمحبّة والرّحمة"، فإنه كان يشير تماماً إلى هذا التوق لمساحات التراحم، وليس فقط التوقف عند استعمال الفقه الخشبي لمزاولة الدين. ولهذا، فإن هذا الحديث في التراث الإسلامي، ومقولة المسيح، كلاهما يشي أيضاً بكيف تمسك المسلمون بفزع بتفاصيل فقهية خشبية، عندما خافوا من ضياع كلّ شيء. وفي حالة المسلمين الهوس الفقهي بعد أن فقد المسلمون الخلافة الراشدة، والتي لم يعين فيها خليفة ابناً أو يقم بانقلاب عسكري. ورغم قصرها لكنها تمثل واحة كثيفة في مواجهة زخم صحراء مليء بالعنف والغزوات، إن اردنا استعمال مصطلحات المفكرة الأمريكية الألمانية حنة أرندت. وإن أردنا أن نستعمل أفكار خالي جودت سعيد هنا، فهو أيضاً قال إن المسلمين لم يسمّوا أحدًا بعد الخلفاء الراشدين حاكماً راشدًا. (حتى لو لقب هارون الرشيد نفسه بهذا أو المعتصم بأمر الله أو المتوكل على الله).

هذا التوق لمفاهيم العدالة ولفترة الخلافة الراشدة هو ما يدغدغ مشاعر المسلمين والمسلمات، حتى عند غير المتدينين منهم، إذا أردنا أن ندخل في المخيال العاطفي الجمعي في منطقتنا؛ لأنه يخلق نوعاً من الفانتازيا السياسية الجمعية؛ فكلنا نعرف عن عدل عمر وعن تواضعه وعن مسكنه البسيط، وكيف وجده رسول كسرى نائماً عند شجرة، فأجابه عمر لمّا استغرب المشهد، "عدلت فأمنت فنمت." أو عندما قال لامرأة عارضته على ملأ من جمهور غفير، فقال أخطأ عمر وأصابت امرأة، وأيضا تعيينه لنساء وشخصيات بعيدة عن عائلته، وتعيينه لإمامات وقت القادسية إسوة برسول الله (ص) الذي عيّن أم ورقة في المدينة، أو وضعه بلالا الحبشي مؤذّناً له. هذه القصص والمفاهيم لها دلالات خفيّة من المهم إعادة إعرابها بطرائق جديدة. ولكن مهمٌّ أن ندرك أيضا أن عبارة الخلافة الراشدة فيها شقين: شق الخلافة وشق الرشد؛ فأيّهما يريد الناس حالياً في منطقتنا، وخاصة تلك التي تتجلى في تطلعات الشباب في حركات الإسلام السياسي؟ الخلافة أم الرشد؟ هذا سؤال لم نطرحه بجرأة على أنفسنا. ولعل من الفوائد الإيجابية التي ظهرت بعد الظلال القاتمة التي ألقتها قوات داعش على تضاريس المنطقة أن الناس بدأوا يعرفون ماذا يريدون؛ لأن الأكثرية قالت توبة، توبة! لا نريد خلافة! ولكن هل يمكن أن يُنتزع منهم/أو منهن التوق إلى الرشد؟ أظن هنا مربط الفرس؛ لأن هذا التوق إن دققنا فيه، فهو توق لسلطة تُؤسس مبادئها على التبادلية والتشاركية، وعلى قيم العدالة والإحسان والأمان. وهذه الموارد الأخلاقية في المخيلة الجمعية هي أيضا موارد معنوية سياسية هائلة من الممكن أن تُسخر لتخدم بناء الدولة الحديثة، الدولة الجديدة، على أسس المواطنة المتساوية تحت سيادة القانون في السياق السوري الحالي. وقد تتنج أجواء وقيم لتصبح عناصر فكرية تساعد الجيران في المنطقة في تحولات ديمقراطية أكثر إنسانية؛ أي بدون خسائر لأي طرف- بدون تضحيات خيالية من الشعوب وبدون انتهاكات فظيعة من الحكام، بدون أن يتحول الناس لضحايا والحكام لمجرمين؛ أي النجاة لنا جميعاً.

السياق السوري درس كبير!

ومبادئ الحكيم الرشيد الذي يراود الأغلبية السكانية في المنطقة، لا يدرك فيها الشباب الثائر أنها ترتكز في مضمونها السياسي على مفاهيم التبادلية والتشاركية في السلطة (رغم أنهم تغنّوا بعمر لما دخلوا حلب مؤخرًا)، ولكن ما يقلقني أيضا السكر والدوخة مع رموز الدولة الأموية. لهذا مهمٌّ أيضاً، أن ندرك أن منظومة الرشد في المقام الأول إطار فكري وسياسي يحتاج لفهم وتفكيك لفهم عناصر الرشد فيه، وليس فقط خلفاء تتطاير رؤوس أعدائهم في البلاط المستبد. وهذه العناصر إن دققنا فيها ترتكز بنظري على قيمة تحييد السلاح كأداة للفصل في الخيارات السياسية، وأن الرشد الذي عرفه المسلمون الأوائل ولو لفترة وجيزة أسس نحو تكريس هذا المفهوم لوضع السيف تحت امرة الدولة، وبالتالي أن من استعمل السيف خارج الدولة سُمي بـ"الخوارج." تماما كما أكد المسيح هذه القيم النبوية لما أراد أحد حوارييه الدفاع عنه، فقال له: "أعد السيف لغمده، فمن أخذ بالسيف، بالسيف يهلك".

وكم نحن محظوظون الآن! فرغم تضاريسنا الصعبة، يمكن أن نرى بوضوح أيضا أن سقوط النظام كان أقرب إلى تهاوي الاستبداد بعد تفاصيل وتعرجات كثيرة، وفي النهاية بطريقه حرص فيها الداخلون المحرّرون على حقن الدماء. هذا الحدث أيضاً يحتاج لإعادة تأويل؛ لأنه يمكن أن يصير مدخلاً لتأسيس مفاهيم سياسية جديدة تبعدنا عن منطق السيف، وتدخلنا في منطق العقد الاجتماعي والتحرير بالتراضي والتحرك نحو إعادة بناء على أساس سيادة القانون والمواطنة المتساوية.

هذه القيم المفصلية في المنظومة الراشدية التبادلية والتشاركية تعني ضمنيًّا وحتميًّا مشاركة المرأة في السلطة. ولهذا، فإنّ دور المرأة مفصلي في الحوار والتفاوض مع الإسلام السياسي الحالي، ليس لتكون صمدية أو مشاركِة هامشية، بل كشريكة ومحاورة ندية وناقدة للممارسات الاستبدادية والإقصائية من أي طرف كانت. وأريد أن أركز أن هذا الدور ليس من قبيل أخذ حقوقها من طرف ما، أو من موقع المطالبة بالتضمين لها من جهة معينة، وإنما من قبيل المسؤولية المدنية (civic duty) التي تأخذها على عاتقها؛ أي الواجبات السياسية التي تهم المواطن والمواطنة اللذين يدخلان الآن في عقد سياسي جديد مبني على التراضي من قبل الأطراف كلّها.

ولهذا، فإن هناك أهمية خاصة نحتاج أن ننتبه إليها بالنسبة إلى الطريقة التي ستشارك فيه المرأة في إعادة إحياء مجتمع مدمر كما في السياق السوري. وهذا يأتي برأيي ليس فقط من مبدأ المطالبة بالحقوق والحريات كما أشرت، وإنما بمبادرة المرأة نفسها في ممارسة واجباتها لبناء السياق السياسي الذي سيمهد لإحياء الثقافة التي ستكون فيها المرأة مشاركا بشكل عفوي وندي؛ لأنها أصلاً متواجدة في كل السياقات وخاصة بزخم أكثر بعد الحرب واضطرار النساء لدعم عائلاتهم ماديًّا ومعنويًّا. فالمرأة السورية تحديدًا حملت مسؤوليات وواجبات كبيرة، وتراكمت عندها معرفة وخبرة في ظل ظروف صعبة. وهذه المعارف والخبرات والصلابة النفسية موارد حقيقية في هذه اللحظات المفصلية.

وهنا سأستشهد بمقولة لخالي جودت سعيد، عن الحرية التي عادة ما يُعبر عنها (والتي صارت مثل البرمجة في العقلية الجمعية) أن "الحرية لا تُعطى، وإنما تؤخذ" (وتكاد تشعر أن المعنى في بطن الشاعر يقول إن "الحرية تُنتزع عنوة أو حتى تُسرق خلسة"). ولكن خالي كان يقول: "الحرية لا تؤخذ ولا تُعطى! وإنما تُمارس! ونقف نحن مسؤولين ومسؤولات عن هذه الممارسات، ونكون مستعدين لدفع ما يترتب عليها".

وانطلاقاً من هذا الانقلاب في مفهوم الحرية كممارسة للحق والواجب، وليس كمطالبة للحقوق، فإن ممارسة المرأة لحريتها ومكانتها وواجباتها يكون امتدادًا طبيعيًّا ليقظة السيادة الذاتية، التي تحدثت عنها د. نعمت قبل قليل وكذلك د. أسماء، والتي هي متاحة لكل بني وبنات آدم وحواء. فهذا قانون كوني كما أشار إليه القرآن "ولقد كرّمنا بني آدم"؛ لآنه عندما تستيقظ روح الله في الإنسان (أو المرأة في سياق نقاشنا)، فإنها لا تنتظر من إنسان آخر أن يمنحها كرامتها، ولا تنتظر الإذن أو السماح لقول الكلم الطيب أو ممارسة العمل الصالح. فكما نقرأ في القرآن "مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ."

وبرأيي، فإن فتح الحوار المجتمعي على قضايا المرأة، سيكون أحد أهم المفاتح المهمة في حلّ مشكلة التشنج بين الدين والسياسة أيضا؛ لأن المفهوم السطحي للعلمانية أن الدين أمرٌ شخصيٌّ والسياسة أمر عام، ولكن النسوية الغربية قلبت هذه المفاهيم، عندما أدخل النساء عبارة "الشخصي هو سياسي" في نهاية الستينيات مع حركات الطلاب والموجة النسوية الثانية، والتي أدخلتها الكاتبة كارول هانيش إلى الحوار الجمعي بمقالة لها بهذا العنوان (The Personal is Political)؛ أي إن كل العلاقات التي بين الناس بما فيها ما يحدث داخل الأسرة هي أيضا نوع من إدارة علاقات القوة، ولذا فهي سياسية وليست هامشية أو خارجة عن الهم السياسي في المجال العام؛ لأن كرامة الإنسان لا تظهر في الشارع، ثم تختفي فجأة في البيت كما يحدث مثلا في حالات العنف الأسري أو حرمان النساء من التعليم والنمو المعرفي أو استعمال القدرات والخبرات في المجال العام. وربما من المفاجئ إذن، أن نجد هذا المفهوم الشخصي للسياسة يخلق تقاطعاً بين الإسلام السياسي الذي يرفض أن يكون الدين أمرًا خاصًّا في البيت، محصورًا بين الإنسان وربّه. مع مفهوم النسوية الخاص أيضا سياسي؛ لأنه إن نظرنا في كلّ الأديان، فإننا نجد أن من مركزية الكود الوراثي فيها أن العلاقة مع المقدّس تتجلى في العلاقات مع "الآخر"، وليس في المنزل فقط، بل في الشارع أو حتى قول الحق في وجه سلطان جائر في بلاط الحكم. وهذا يعني أن الدين ليس حقًّا أو امتيازًا شخصيًّا بقدر ما هو أيضا مسؤولية أخلاقية أمام الخالق، يتم امتحان صلاحها بصلاح الطريقة التي نتعامل بها مع المخلوق.

وبنظرة سريعة على السياق السوري، ندرك كم أن السياسي هو شخصيٌّ، بل شخصي بحت. فبيوت العزاء ودموع الأمهات والأرامل الآن هي أمور شخصية حميمية لا يمكن فصلها عن الشأن السياسي العام؛ لأن الشخصي في سوريا صار سياسيًّا، والسياسي صاغ كل جوانب الحياة الشخصية عند الناس، وصاغ كل أنواع الفقد والرثاء والتضحيات وقصص النضال. فسوريا أظهرت بكلّ وضوح أن السياسة تصيغ الشخصي، كما يصيغ الشخصي السياسة.

هذا لا يعني أن الإسلام السياسي رهين لنموذج استبدادي بشكل حتمي، أو أنه مصمم لاختطاف الشخصي تحت مسوغ الشريعة، رغم أنه عرضة بشكل كبير؛ لأن يكون كذلك في السياق السوري، وأن يعود الحكم أمويًّا وتحت سلطة أبوية احتكارية. (فهناك لحظتان في تاريخنا، عندما أبعدت التفكير النخبوي الإنسان العادي من المشاركة في صناعة القرار السياسي. فقد أسقطت المرأة من دورها السياسي (عندما رمى المجتمعون أمّ سلمة من هودجها، لما حاولت أن تفرق الجموع التي تظاهرت عند بيت الخليفة عثمان بن عفان، ورمزيًّا لم تعد بعدها أمّ سلمة إلى هودجها وصوتها بعد تلك اللحظة. وأيضا هناك اللحظة التي سقط فيها الرجل من دوره، لما رفع معاوية السيف، وقال مشيرًا لابنه يزيد من لن يقبل بهذا، فله هذا ورفع سيفه عالياً.

ولهذا، فإن المشكلة ليست دينية، بل هي مشكلة تقديس الإكراه وأدواته، ولأن مشكلة العنف هذه تمثل أيضا مخاضاً عامًّا في المنطقة كلها، وتشكل تحدّياً أوسع من ضيق أي منظومة فكرية، مما يضع السلطة الجديدة أمام خطر الوقوع مرة أخرى في منظومة القمع، كما حدث مع الاشتراكية أو الليبرالية في المنطقة، والتي وقعت في فخّ النماذج الأمنية القمعية، أو كما في الحالة السورية تحت النظام السابق، والتي قدمت أقصى التطرف في نموذج دولة الإبادة والتوحش. وفي النهاية، كان الإسلام السياسي من اقتلعها من جذورها بعد أن خرج متمرّساً في هذه التضاريس الوعرة الجلفة. ولهذا، فإن التحدي الحقيقي أمام هذه الجهات الإسلامية في سوريا والشباب المعاصر بشكل عام في المنطقة، هو القدرة على استعادة المنظور النقدي والخروج من منظومة العنف والتعويل على أدوات الإكراه التي تقود لاحتكار المجال السياسي. ومن هنا، فإن العودة لنموذج الرشد والقيم التبادلية والتشاركية قادرة أن تقدم صدى من التاريخ لبناء نموذج مستقبلي جديد، له وقع في ذاكرتنا الجمعية، ولكن له أيضا اتصال بنماذج الحكم الرشيد المعاصر وممارسات وتجارب الديمقراطية في بقية العالم في آخر 300 سنة.

هذه اللحظة هي فرصة تاريخية حقيقية لإعادة تفعيل قيم أصيلة في تاريخنا ومنطقتنا لصياغة المجال السياسي بطرائق تسخر الموارد الدينية وكل التراكمات والمعارف الإنسانية كمصادر لتأسيس دولة تكافلية حديثة؛ أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين. هذه القيم يمكن أن تصبح أدوات خلاقة لتوسيع مساحات فيها مودة وعدالة في المجال العام، وأيضا في المجال الشخصي. وهذه معادلة لا يمكن حلها بدون حضور المرأة بشكل فعال وحقيقي.

وبالمناسبة أحبّ أن أنهي كلمتي هذه بخبر مفرح؛ لقد أقامت الحركة السياسية النسوية السورية مؤتمرها الأول قبل يومين، في 8 كانون الثاني في العاصمة دمشق في الذكرى الشهرية الأولى لانتصار الثورة، (بعد مؤتمرات أخرى في المهجر سابقا)، وكان مؤتمرًا ناجحاً ومزدحماً بالنساء والرجال! والسلام عليكم وعليكن جميعا!

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلاً لك، ونعود إلى د. محمد حبش، وهو مفكر وباحث إسلامي سوري متخصص في الدراسات القرآنية وتجديد الخطاب الديني. عمل على تقديم قراءة معاصرة للنصوص الدينية تواكب التحديات الراهنة. شغل مناصب قيادية في مؤسسات دينية وأكاديمية وله العديد من المؤلفات. وحالياً هو أستاذ الفقه الإسلامي في "جامعة أبو ظبي"، في الإمارات العربية المتحدة. تفضل د. محمد.

د. محمد حبش:

شكرًا أخي د. حسام، وشكرًا للمتحدثات الكريمات. في الواقع، كنت أرغب اليوم في أن أكون مستمعاً، لكن لا بد أن أضيف شيئًا بسيطاً. طبعاً، لا زلت أعيش غمرة ما تعيشونه جميعاً من الفرح بزوال الطغيان، وحضور الأمل في سوريا الجديدة.

كان هذا الأسبوع الحمد لله، غنيًّا في دمشق، تمكنا من اللقاء بالعديد من الذين يحملون فكرًا تنويريًّا في دمشق، والذين يريدون أن يقدموا أيضا خبراتهم وقدراتهم من أجل سوريا الجديدة. بعد ذلك، غادرت دمشق وانتقلت الآن إلى الحرم الشريف في جوار النبي صلى الله عليه وسلم، بهدف العمرة، ووجدت الفرصة، مع ذلك، لأشارككم في هذا اللقاء.

في الحقيقة، يجب أن نقول إن مستقبل ما نتطلع إليه في قضية المرأة، يرتبط بالخيارات التي يوفرها الفقه الإسلامي، وهي خيارات يمكن أن تتفق مع كثير من القيم التي يدعو إليها كل من يريد تمكين النساء. ويجب أن نعلم أن سوريا الجديدة ستكون إسلاميّة، لقد تم تأكيد ذلك بشكل مؤكد لم يعد هناك مكان للجدل، سوريا الجديدة كما ينص الرجال الذين نجحوا في تحرير سوريا، واستطاعوا أن يقدموا بديلاً عن الحكم الطاغي الذي كان سائدًا، أعلنوا بوضوح أن سوريا ستكون دولة إسلامية مدنية. أعتقد أن الجدل حول علمانية الدولة أو إسلامية الدولة لم يعد مجدياً؛ هناك توجه واضح، وهو أنها دولة إسلامية مدنية.

ولكن الدولة الإسلامية ليست بالضرورة نمطاً واحدًا، الدولة الطالبانية دولة إسلامية، والدولة الإيرانية دولة إسلامية، والدولة الأردوغانية، والدولة الماليزية، فهذه كلها أنماط من الإسلام السياسي، ويجب أن نعترف بأن كثيرًا من هذه الخيارات حققت تقدماً غير عادي للنساء، ونجحت المرأة في أن تكون فاعلة في الحياة العامة، مع أن الدثار والغطاء والشعار والهدف الذي تعمل في ظلّه، هو الإسلام السياسي؛ يعني أنا لا أجد من المناسب أن نكون في مواجهة مع الإسلام السياسي؛ فالإسلام السياسي يعني محمدًا وأبا بكر وعمر وعثمان وعلي، كلهم مارسوا الإسلام السياسي بشكل ما. دعونا نتحدث عن إسلام تشاركي، يقبل الآخر ويحتكم إلى صناديق الاقتراع، وإسلام آخر استبدادي، يرفض الآخرين. إذن، المسألة ليست في جوهر الخطاب الإسلامي، وإنما في تموضعه في المشاركة والشورى مع الآخرين.

عندما نقول إن قرار الإدارة الجديدة في سوريا الآن، وهو قرار لا يبدو أنها تُنازَع فيه، هو أن سوريا ذاهبة لتكون دولة إسلامية، ولكن يجب أن نخفف من غلواء الرعب من هذه الكلمة؛ لأن الإسلام يحتوي على خيارات فيما يتصل بالنساء والرجال تقدمية إلى حد كبير، ويمكن أن تسهم في بناء الحياة وإغنائها.

لدينا تاريخ من مشاركات النساء في التاريخ الإسلامي، وفي التراث الإسلامي، وأدوار متقدمة نجحت المرأة في تحقيقها. واليوم، عندما نتحدث عن الإسلام بصيغته الجديدة، يجب أن نتحدث بشكل أساسي عن الأنماط المتاحة؛ فالفقه الإسلامي منجم غني، يمكن أن تتوفر فيه خيارات متعددة وكثيرة التنوع فيما يتصل بشؤون النساء، ربما أبدو هنا تعميميًّا، ولا أضع اليد على الجرح، ولكن لا بد من مواجهة الأسئلة الكبيرة فيما يتصل بالنساء.

نعم، دعونا نتحدث عن التجربة التركية على سبيل المثال، خاصة أن سوريا الجديدة مدينة بدور أساسي تركي قام بتبييئ هذا الواقع الجديد في سوريا؛ تركيا يحكمها حزب إسلام سياسي منذ 25 عاما. منذ هذه المدة، يحكم حزب العدالة والتنمية، ولكن كلنا يعلم أنه لا قلق على الحريات في هذا البلد. لقد استطاع الإسلاميون أن يوائموا الواقع، وأن يطوروا أنفسهم حتى الخطاب الإسلامي نفسه في العدالة والتنمية قبل 25 عاما، ليس هو الخطاب الذي يعمل في ضوئه الإسلاميون في 2025. لذلك، يجب أن لا تبتلعنا الإسلاموفوبيا. نعم، هناك مخاوف من الانزلاق إلى التطرف، ولكن جهود الذين يريدون أن يقدموا الإسلام في صورة حضارية وتقدمية يمكن أن تثمر في هذا السبيل. أنا أعتقد أن القوانين الإسلامية التي تسود في 55 دولة إسلامية الآن هي قوانين عادية، تشبه قوانين الأمم كلها، سواء في الأحوال الشخصية أو حتى في قضايا العقاب.

لقد نجحت 55دولة إسلامية من أصل 57 دولة في تجاوز العقوبات التقليدية التي تتصل بتعذيب الجسد، وتحولت إلى عقوبات إصلاحية، ولم تخرج من عباءة الإسلام. إنها تتحدث عن الإسلام كمصدر من مصادر التشريع، ولكن لم يعد في قانون العقوبات والجنايات. في 55 دولة إسلامية الآن، لم يعد هناك شيء يمس الكرامة الإنسانية أو يمارس فيها التعذيب ضد الإنسان. إذن، مع كل التحفظ، فقط أريد أن أقول، إن علينا أن لا نبالغ في الإسلاموفوبيا، علينا أن نتيح الفرصة لمنجم الفقه الإسلامي، ليقدم حلولاً واقعية وتقدمية ومرنة فيما يتصل بقضايا النساء وقضايا الرجال، شكرًا لكم.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلًا د. محمد. سأطرح أسئلة تتعلق بمحورين رئيسين؛ الأول موجه إلى د. ميادة، ود. نعمت، ود. أسماء؛ لأنه يشمل الإشكالية نفسها لديهن، السؤال الأول سيكون عن ثنائية، قالت د. نعمت إنها شغلتها مبكرًا: لماذا هناك مبادئ إسلامية، لكن التطبيق مختلف؟ ويتعلق السؤال الثاني بإسلامية الدولة والنقاشات التي عدنا إليها حول "كينونة المرأة وأهليتها"؟

د. ميادة، من اللافت للنظر أنك اخترت كلمة نموذج للحديث عن تصوُّرٍ ما للمرأة في النص الديني، في القرآن. ولا أحد يماري في أنه أهم النصوص والمصدر الأساسي. ويبدو واضحًا أنه يخالف النموذج الذي تحدثت عنه السيدة عائشة الدبس، في إدارة الشؤون السياسية في الحكومة السورية الانتقالية، مع العلم أن النموذج الذي قدمته ترى أنه مستمد من القرآن أيضًا. السؤال هو لماذا يقدم هذا الإسلام السياسي، المحافظ غالباً، هذا النموذج المنغلق الذي يرى أن موقع المرأة ومكانتها في البيت، وأنها غير مؤهلة لأن تقوم بهذا الدور أو ذاك، أو في هذا المجال أو ذاك؟

أما بالنسبة إلى د. نعمت، فتحدثت عن ازدواجية، حتى عندما تكون فاعلة على أرض الواقع. فهناك غياب لهويتها الذاتية وولايتها في صنع القرار. وفي مجال آخر، تحدثت عن فرق أو اختلاف، وربما تناقض، بين ما نقرؤه عن المبادئ الإسلامية في القرآن، وبين ما يمارسه المسلمون في أرض الواقع. وهنا نعود إلى النموذج الذي قدمته د. ميادة، والنموذج الذي قدمه أشخاص أو يمارسه أشخاص آخرون في السلطة.

دة. أسماء قدمت إجابة، لكن هذه الإجابة تستدعي أو تستثر سؤالًا أو أسئلةً. فهي قالت بوجوب الفصل بين المساواة الحقوقية والكرامة التي أعطاها القرآن أو الإسلام للمرأة، والتفسيرات الدينية والاجتماعية الذكورية التي تقصي المرأة أو تقلل من أهميتها. وشدَّدت على "براءة" الإسلام من تلك التفسيرات. لكن السؤال هنا هو: لماذا حصل هذا الفرق أو الاختلاف بين المعنى المفترض للنص وتفسيراته؟ هل الإسلام النصي أو الأول بريء فعلًا من هذا المعنى؟ هل الغرض من القول بوجود هذا الفرق أو الاختلاف هو تبرئة الإسلام بغض النظر عن مدى (لا-)موضوعية ذلك الثول؟ لكن بعيدًا عن التبرئة أو التجريم، لماذا حصل هذا الفرق الذي تحدثت عنه د. نعمت، وتحدثت عنه د. ميادة، وأشرت أنت إليه أيضَا، دكتورة أسماء؟

لنبدأ مع الدكتورة أسماء.

د. أسماء معيكل:

في الحقيقة هذا سؤال في غاية الأهمية، وأعتقد أن الإجابة عنه، لها علاقة بالعودة إلى ما قبل الإسلام؛ لأن الثقافة الذكورية التي تحدثت عنها، ليست وليدة الإسلام؛ فهي موجودة من قبل في الحضارات القديمة، موجودة منذ أرسطو الذي عاب على المرأة كونها امرأة، ونظر إليها على أنها كائن شائه، فحينما يحدث خلل في الخلق، تأتي المرأة؛ بمعنى أن المرأة رجل ناقص. وحينما ننظر إلى الأمر من هذا المنظار، نعرف أن هناك ثقافة ذكورية، ثقافة أبوية متغلغلة في لا وعي المجتمعات، سواء العربية أم غيرها، وقد دعت الديانات السماوية بما فيها الإسلام، وكذلك الديانات الأخرى، إلى إحلال قيم الخير والعدل والمساواة، ونجحت في إرساء دعائم القيم الإنسانية الكبرى؛ وسعت إلى جعلها منهاج حياة، وواقع الحال أن الخلل لا يكمن في النصوص الدينية، بقدر ما يتأتى من تجلياتها وطريقة فهمها وتأويلها؛ بمعنى آخر المشكلة ليست في الدين بوصفه نصًّا مقدساً، بل في الممارسة والتطبيق الخاطئ له؛ ففي الدين الإسلامي بحسب القرآن الكريم لا فرق بين إنسان وآخر، سواء أكان رجلاً أم امرأة، إلا بالتقوى، ومعيار التفاضل بين البشر بغض النظر عن جنسهم هو التقوى، لكن ما يجري في الواقع خلاف ذلك، فالبشر ما زالوا يتفاضلون فيما بينهم وفق تقسيمات عرقية وإثنية وطائفية وطبقية وجندرية، ولم تتمكن المجتمعات كلها بما فيها تلك التي توصف بأنها متقدمة من اجتثاث الثقافة الذكورية بشكل تام؛ لأنها متجذرة بشكل عميق في المجتمعات، وتعيد إنتاج نفسها بطرائق شتى؛ ومن الملاحظ أنها تزدهر في المجتمعات الفقيرة التي ينتشر فيها الجهل والتخلف وفي مراحل ضعف الأمة، فمع ازدهار الإسلام في المراحل الأولى، تلاشت سطوتها قليلاً، لكنها أعادت إنتاج نفسها فيما بعد؛ ولذلك عادت بقوة أكبر، فحينما جاءت داعش على سبيل المثال، عادت إلى سبي النساء باسم الدين، وبيعت النساء في أسواق النخاسة، وحاولت فرض قيود وأشياء لم تعد المجتمعات المدنية تقبل بها؛ من قبيل حظر سفر المرأة بدون محرم، ومنعها من العمل، وفرض النقاب، وإقامة الحدود عليها، وتزويج القاصرات، وإحياء مفهوم ملك اليمين، وغيرها.

د. حسام الدين درويش:

إذن المسألة تتجاوز الإسلام، وهي مسألة متجذرة في الثقافة ما قبل الإسلام، ومستمرة.

د. نعمت، لا أعرف إن كنت توافقين على هذا الرأي. ما تفسيرك لهذه الثنائية بين النظر والعمل، بين المبادئ النظرية في القرآن والممارسات عند المسلمين؟ تفضلي.

د. نعمت حافظ البرزنجي:

أوافق د. أسماء، ولكن أضيف أن المهم ليس فقط المجتمع القائم وما يدور في المجتمعات والنفوس الذكورية التي لا تزال تحكم المجتمعات، وإنما ما تقوم به المرأة ذاتها بتحليل هذه الأفكار. وهنا أحبّ أن أناقش أو أحاور مع د. محمد، مع كلّ احترامي، لا أوافق أن التركيبة التركية هي مثال، ولا أوافق على قوله إن الدول 55 إسلامية، فيها قوانين تشبه القوانين في الدول الأخرى، وبصورة خاصة الأحوال الشخصية، وأنا أتابع ما يدور الآن في حوارات مجموعة أندونيسية، والتي تمثل الإسلام المدني؛ لأنها تشمل كثيرا من الحضارات والديانات، ولكن الأحوال الشخصية فيها لا تزال كما وضعها الفقهاء. ولذلك أقول للدكتور محمد، آسفة. نحن نستأنس بأقوال الفقهاء والمفسرين الذين سبقونا، ونقول هم رجال اجتهدوا، ولكن اجتهادهم الآن لا يصلح في هذا المكان والزمان، ونحن نساء نجتهد الآن ونريد أن نعيد التفكير من جديد كما ذكرت، بوضع بناء جديد بأفكار جديدة متجددة بعيدة عن كل هذه الأفكار السابقة، ليست لأنها خاطئة، ولكن كان لها مكانها وتصوراتها الخاصة في ذلك الوقت، ونحن لنا تصورات ومرجع تاريخي مختلف، ومرجع واقعي مختلف يجب أن لا ننساه، ونعود للنظر إليه، أهمه هو إحقاق العدل والمساواة بين الجميع، وبصورة خاصة المرأة التي كما وجدت أحد الأسئلة على التشتت، نعم هي غيّبت وغابت. غيّبت لأنها كما ذكر المثال سابقاً، عندما أنزلت أسماء من الهودج على الأرض، بقيت المرأة على الأرض بصورة عامة، ولكن هي غابت لأنها لم تصح من هذا الحدث، ولا تزال تنظر إليه كمثال عام ونموذج، لا نريد نماذج، نريد أن المرأة ذاتها تفكر بما لديها من قدرات خاصة، وإمكانيات تستخدمها في المجتمع لرفع مستوى تفكيرها وتفكير الناس الذين حولها بصورة خاصة الذكور في عائلتها؛ لأنها إذا لم تستطع أن تغير المحور الصغير حولها أولا، لا يمكنها أن تغير المحور الأبعد في المجتمع أو في الجماعة المحلية، وشكرًا.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا د. نعمت. ما رأيك د. ميادة؟

د. ميادة كيالي:

يمكنني أن أستلهم مما سمعته جوانب مهمة للنقاش؛ د. محمد قال: "لا خوف علينا، ولدينا منجم في الإسلام يمكننا أن نختار منه"، وأنت د. حسام، أشرتَ إلى النموذج الذي قصدته د. عائشة الدبس، حتى وإن لم تذكره صراحةً، إلا أن حديثها أوحى بأنَّ هذا النموذج هو الصورة النمطية للمرأة: التي يُعتبر بيتها جنتها، المصونة، والتي يُقدَّم لها فيه كل شيء، حيث تمارس أدوارًا محدودة مسبقًا، محصورة في الأمومة ورعاية الأسرة.

لقد أشارت كلٌ من د. عفراء ودة. نعمت، وأنا، إلى وجود نماذج متعددة في التاريخ الإسلامي يمكننا إعادة قراءتها ودراستها بعيدًا عن الانتقائية الأحادية. ليس هذا فحسب، بل بصفتي باحثة في التاريخ القديم، اكتشفتُ أنَّ هناك تاريخًا كاملاً للمرأة تعرّض للإقصاء أو التعتيم، لكن مع تطور علم الآثار، ظهرت معطيات أجبرتنا على إعادة النظر في هذا التاريخ. فك رموز الكتابات القديمة، وتحليل الأساطير والنقوش، والاستفادة من التقنيات الحديثة في دراسة المكتشفات الأثرية، ساهمت جميعها في إماطة اللثام عن أدوار نسائية مهمّة كانت غائبة عن السرديات التقليدية.

نحن بحاجة فعلية إلى إعادة استكشاف هذا المنجم المعرفي لاستخراج هذه القصص وإعادة تأطيرها في سياقنا المعاصر. وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا يتم انتقاء نموذج واحد فقط للمرأة؟ النموذج الذي يحصر دورها في رعاية الأسرة واستمرار النوع، حيث يُقدَّس هذا الدور حصريًّا تحت شعار: "الجنة تحت أقدام الأمّهات"، بينما يتم تهميش بقية أدوارها؟

هذا يقودني إلى سؤال جوهري آخر: عندما نتحدث عن المرأة التي نريدها اليوم، هل نوفّر لها البيئة التي تمكّنها من التعلم، والعمل، والمشاركة الفاعلة؟ هل هناك بنية تحتية داعمة في المجتمع لتحقيق ذلك؟

إذا ركزنا على سوريا، نجد أننا بحاجة ماسّة إلى وضع أسس واضحة لدعم المرأة وتمكينها، حتى تستطيع ممارسة جميع أدوارها بفاعلية، لكن كيف يمكننا فرض نماذج جديدة ومغايرة على النساء في بيئات تعاني من الفقر، والتهجير، والظلم، حيث تحتاج المرأة أولًا إلى استعادة إنسانيتها وكرامتها؟

من هنا، تبرز ضرورة تسريع خطوات إعادة البناء كأولوية، ويبرز كذلك دور المؤتمر الوطني كوسيلة لاكتشاف توجهات المستقبل. ومن الضروري إجراء حوار جادّ ومستمرّ مع القائمين على السلطة اليوم؛ لأن النضج السياسي والاجتماعي الذي تطمح إليه د. عفراء لا يمكن تحقيقه دون حوار متبادل.

نحن لا نكفّر أحدًا، ولا نشيطن أحدًا، كما لا يمكن لأحد أن يكفّرنا أو يشيطننا، بل المطلوب هو إيجاد أرضية مشتركة للحوار والتفاهم، بما يسمح لنا جميعًا بالتقدم نحو مستقبل أكثر إنصافًا وعدالة.

د. حسام الدين درويش:

تعيدنا هذه النقاشات إلى الوراء، إلى مسائل يفترض أننا تجاوزناها. هذا ما أشرت إليه أنت، دكتورة ميادة، والأستاذ مارسيل، وآخرون. الآن سنناقش هل المرأة مؤهلة لأن تستلم منصب وزير الدفاع أم لا؟ هل هي مؤهلة لتعمل في هذا المنصب أم لا؟ هل هي مؤهلة لاتخاذ قرار في هذه المسألة أو لا؟ فهل نحن بحاجة إلى العودة إلى هذه النصوص؟ العودة إلى فقه جديد، وإلى رؤية جديدة، ليكون للمرأة حق في أن تعمل أو لا تعمل، تصافح أو لا تصافح، تتحجب أو لا تتحجب، أم إن هذه المسألة، في الإطار السياسي، في إطار مسألة الدولة، متروكة للمرأة نفسها؟ فهل الأمر متروكٌ للمرأة لكي تقرر بنفسها، أم ثمة حاجةٌ، في هذه المسألة؛ إلى كهنوتٍ ما؟

د. عفراء، قالت إن المشكلة لم تعد في الخلافة، وإنما في الرشد، لكن أقول إن المسألة أو الإشكالية تتعلق بماهية الإسلامية المزعومة أو المفترضة للدولة. وقد تحدث د. محمد حبش ببساطة عن أن الدولة إسلامية. والإسلامية تعني الفصل بين الجنسين في الأماكن العامة، كما يحصل في بعض الحدائق، ويمكن أن تعني عدم حضور النساء في الوفود الرسمية. فهل إقصاء المرأة من الأماكن العامة هو سمة للإسلامية؟ وهل تكمن المشكلة في النص المفسَّر أم المفسِّر؟

سأبدأ مع مارسيل، أنت تقول إن التاريخ شهد عمومًا قدرة النساء على أن يكنَّ فاعلات. لكنك، في مواجهة المشكلة الراهنة تقدم تصوُرًا مثاليًّا للمشكلة والحال معًا. فمن وجهة نظرك، تكمن المشكلة في الفقه وفي التفسيرات، ويكمن الحل في وجود تفسيرات جديدة. فهل هذا الحل هو المطلوب في رأيك؟

ذ. مارسيل موسى:

لا أريد أن أربط الحل فقط بإعادة التفسير الديني أو تفسير ديني متوازن، بل على العكس. وقبل أن أبدأ في الجواب، دعني أنطلق من سؤالك هل المرأة مهيأة أم غير مهيأة....إذا وضعنا على جنب، وهو يشهد على ذلك، نرجع إلى العلوم الطبيعية، صدرت دراسات علمية كثيرة تتحدث عن غياب الفروق؛ ومن ذلك ما يروج في الحياة العامية أن المرأة ناقصة عقل، وهي كلمة خطأ علميًّا، ومن ثم فالمرأة مؤهلة لأن تكون وزيرة الدفاع من الناحية العلمية؛ ففي دراسة أنجزتها الأمم المتحدة، تشير إلى أنه كلما زاد اشتراك المرأة في عملية السلام على سبيل المثال، في طاولة المفاوضات، زادت نسبة النجاح للوصول إلى الحل بنسبة 30%، وهذا أجرته الأمم المتحدة على مجموعة من المفاوضات التي حصلت في بقاع العالم، في بلدان عاشت حالة الحرب، وأنهتها بتفاوض، هذا في ما يتعلق بالشق الأول من السؤال. أما الشق الثاني والمتعلق بالتفسير الديني، أقول إن التفسير الديني يلعب دورًا كبيرًا، ونحن اتجهنا جازمين أن الدولة ستكون دينية حسب قول د. محمد، فإذا اعتمدنا على هذا الرأي، علينا البدء بتغيير التفسير الديني؛ لأن ثمة تفاسير تبرر أو تعارض مشاركة المرأة، هذا بالإضافة إلى التحديات الاجتماعية والثقافية، والتي تعد من القضايا التي يجب مواجهتها؛ نحن كذلك، وإن كانت المرأة والمعتقدات الثقافية في بعض المجتمعات التي لم تتح لها الفرصة لأن تثقف وتتمكّن، وبالتالي تؤمن بأدوار محددة لها مسبقاً. بعيدًا عن كل هذا، سواء التفسير الديني أو التحديات الاجتماعية والثقافية، وحتى الاقتصادية، علينا حصر المسألة، بحثاً عن حلّ بالقانون...وعلى سبيل المثال ذكر د. محمد دولة تركيا، وإن كانت دولة يحكم فيها الإسلام، لكن هي محدودة بدستور، لا أصفه علمانيا، بل مدني؛ فكلمة علمانية تحمل بعض الحساسية في سوريا. فالقانون هو الذي وضع حدًّا لحركة الإسلام السياسي في تركيا.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلًا ذ. مارسيل.

د. عفراء، ببساطة المشكلة ليست خلافة أو رشدًا، بل المشكلة في هذه الإسلامية بمضامينها المحددة التي تعيدنا إلى الوراء لمناقشة مسائل متقادمة وغير متناسبة مع النظرة المساواتية للمرأة بوصفها مواطنةً. فهل نحن بحاجة إلى الإسلام الصحيح للوصول إلى الحال المنشود، أم بحاجة إلى أن يتوقف هذا الإسلام، بغض النظر عن أشكاله، عن التدخل في حياة الآخرين وفرض رؤيته عليهم؟ تفضلي د. عفراء.

د. عفراء جلبي:

أنا أشعر أن الإشكالية ليست دينية بقدر ما هي أخلاقية وسياسية. وخاصة لأننا نعيش إشكاليات منظومة الاستبداد ومنظومة الطغيان. ولذلك، كلما غيّر الشباب الطواقي بالمنطقة والحكام والثائرين عليهم، فإننا واقعون في حلقة مفرغة؛ يعني أن الذين في الحكم يأتون بالسيف والذين يقتلعونهم يعودون بالسيف. منذ وقت معاوية نحن تحت حكم السيف. والرشد في رأيي هو الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وخلق فكرة التراضي. وكثير من المسلمين لا يدركون كم كان نموذج معاهدة المدينة وثيقة مدنية فعلاً أو حتى "علمانية" بمعنى حيادية الدولة عن المصالح الدينية، مع أن الكلمة صارت حساسة بسبب مضامين تاريخية وسياسية عديدة لا يخلو منها التاريخ الاستعماري أيضا. ولذلك، أقول أحياناً بعض الكلمات معتقلة، ولا أذكرها. وحتى كلمة "نسوية" كلمة معتقلة إذا لاحظتم. فثمة كلمات معتقلة لا بد لها من بديل يمثل عنها، قبل أن تعود من الاعتقال في الأقبية أو يتم تحريرها أو دفنها. هناك كلمات قد لا تعود لنا بسبب أثقال تاريخية وايديولوجية. ولكن عودة لمعاهدة المدينة، الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقل في حياته "القرآن دستورنا"، مع أنه هو الذي تنزل عليه القرآن، وإنما اعتمد حتى بعد أن صار حاكماً في المدينة على معاهدة سياسية ببنود دقيقة. ولهذا، لا يمكن إنكار هذه التجارب التاريخية، ولا يمكن إنكار أن هناك جانباً سياسيًّا من الديانة الإسلامية. وحتى الإنجيل فيه أبعاد سياسية كثيرة؛ يعني إنه لا يمكن فصل السياسي عن الديني؛ لأن السياسي فيه دائماً بعد أخلاقي؛ لأنها هي إدارة العلاقات بين الناس. وعندها علينا أن نسأل، على أيّ مبادئ ندير هذه العلاقات، وعلى ماذا نتراضى؟ لكن النموذج الذي خلقه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ولاحظوا كيف يثرب سماها "المدينة" كرس مفاهيم المدنيّة والحكم المدني. وحتى قبل هذا كانت قبل أن يذهب إلى المدينة بيعة العقبة الأولى، ثم تلتها بيعة العقبة الثانية. وحتى بعد أن ذهب إلى المدينة أعاد وطلب بيعة أخرى من أجل التراضي المجتمعي؛ أي لكي لا تُغتصب السلطة، ويتم تأسيس حكم بالتراضي وتحت عقد اجتماعي سياسي. وصارت معاهدة المدينة التي لم تكن معاهدة دينية على فكرة، وإنما كانت معاهدة تنص على تساوي الواجبات والحقوق في هذا العقد الاجتماعي السياسي الذي دخل إليه كل الأطراف. أما الدين، فكان قناعات شخصية؛ أي متمثلاً في المبدأ القرآني: لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي؛ وأيضا في آيات: فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. ولذلك، فجزئية الحكم السياسي هي أن نتفق في الحدود الأدنى. وحتى عمر، عندما جاء لم يسمّ نفسه خليفة رسول الله؛ لأنه بدأ ينتبه مع بناء الدولة أنها هيكلية إدارية حيادية، فسمى نفسه أمير المؤمنين، ولم يسمّ نفسه أمير المسلمين؛ أي هو مدير إداري لكافة الناس في هذه المنطقة؛ لأن كثيرًا من المناطق التي كانت تحت حكم المسلمين، كان الذين دخلوا الإسلام أقلية، مثل بلاد الشام أو حتى فارس. وكثير من الناس لا يعرفون أن فارس مثلا أخذت 400عام حتى أسلمت. لهذه الدرجة كان انتشار الإسلام بطيئًا في تلك المناطق، مع أن الناس يحبون أن يرموا جزافا بدون معرفة التفاصيل التاريخية عبارة "انتشار الإسلام بحد السيف". هذا غير صحيح تاريخيًّا. ليس هذا فقط، بل منعت الدولة الأموية الناس من الدخول إلى الإسلام، وصار موضوع نظام الموالي مثل نظام الكفيل؛ يعني ممكن القول إن نظام الكفيل اُخترع منذ ذلك الوقت. ما أريد قوله إن هذه النماذج التاريخية هي ليست ملزمة لنا، لكن أنا أستعين بفكرة حنا أرندت، حين تسمي الدخول إلى تجارب ترتكز إلى فكر تشاوري تبادلي مع تحييد السلاح، تسميها "المعجزة السياسية"، وتستشهد بفكرة الإغورا، ومجلس الشيوخ اليوناني، رغم أنه نظام أبوي، استبعدوا منه النساء والعبيد وغير الملاك للأراضي، وكانت فقط الطبقة النخبوية، تقول رغم كل نقائصها، كانت حدثاً إعجازيًّا؛ لأنهم خرجوا من تحكيم السيف والعنف إلى الدخول إلى مساحة يتم فيها إدارة الأمور بتحريك اللغة والحوار. ولهذا، فإن الفعل السياسي هو فعل لتحريك اللغة وإدارة الموارد بشكل يضمن الحد الأدنى من الكرامة، وهي قالت أنا لست مطلعة على كل النماذج الحضارية في تاريخنا البشري، لكن هذه الواحات السياسية ظهرت في كل الحضارات ومهم البحث فيها. ولذلك، أنا شخصيًّا أعتبر أن الفترة الراشدية، والجلسة التي صارت في سقيفة بني ساعدة، مع كل الانتقاد الذي يمكن أن نوجهه لها، كان نوعاً من قبول الحالة التشاركية، وعدم تعيين حكم العائلة أو الاحتكام إلى السيف. برأيي من الجيد أن نستشهد بهذه الأمثلة، ليس لأنها ملزمة؛ لأنه حتى القرآن انتقد الفكرة الأبوية والاعتماد على التراث، ولكن لأنه ممكن أن تخدم حاضرنا أيضا. ولكن نقد الحالة التراثية أيضا يساعدنا على الاختيار والغربلة؛ لأن النبي عندما يأتي بفكرة جديدة، تقول الأقوام إنا وجدنا آباءنا على هذا، وإنا على آثارهم لمقتفون، والشيطان يقول أو لو كان آباؤهم لا يعقلون، أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير. والمسيح يقول اعرفوا الحق، والحق يحرركم. هذه فكرة السيادة الذاتية التي تحدثت عنها الدكتور نعمت، وهي التي تصير الأرضية لعودة الضمير الحي حتى نحل مشاكلنا في العصر الحالي. ونحن محظوظون؛ لأنه عندنا تراكمات معرفية وممارسات ديمقراطية في بناء الدولة الحديثة التكافلية تحت سيادة القانون خلال الثلاثمائة سنة. فهذه التجارب أمامنا كأمثلة وأنواع مختلفة من الأنظمة السياسية التي نجحت بدرجات مختلفة في سياقات متغايرة وحاجات مختلفة. فمثلا العلمانية الأمريكية مختلفة جدًّا عن العلمانية الفرنسية. ولا ننسى أن الأثقال التاريخية وخاصة بسبب الاستعمار الفرنسي في منطقتنا تحديدا نخاف من مصطلح العلمانية؛ لأنه فعلا تم استخدام قيم العلمانية مع قبل الغرب وخاصة في سياقات استعمارية لممارسة القمع وتهميش "الآخر" مثلا قبل فترة صدر في مقاطعتنا الفرنسية قرار يمنع الرموز الدينية في المجال العام؛ فرانسوا لوغو رئيس المقاطعة العلماني الفرنسي، فهو يمكن اعتباره نسبيًّا موتور يمينيًّا، مع أن مقاطعتنا عادة تكون فيها القضية الفرنسية وقضية الهوية يسارية ولكن بالتعامل مع الآخر يتم استعمال العلمانية بطريقة يمينية قمعية.

أمامنا تجارب حديثة وعندنا تراكمات معرفية، وإذا كان لدينا وعي ستتسخر لنا جميعاً. كان خالي جودت دائما يستشهد بآية "سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه". ونحن إذا كان لدينا وعي، فالعلمانية ستتسخر والدين سيتسخر، وكل مواردنا المعرفية ستتسخر، وعلاقاتنا أيضا ستتسخر، بينما حالياً في المنطقة لا الليبرالية خدمتنا ولا العلمانية، ولا اليسار ولا اليمين ولا الإسلام. كل العقود التي عشتها منذ طفولتي والمنطقة غارقة في حروب، وكل الأيديولوجيات تتمخض عن أفكار متطرفة إقصائية، حتى التي كانت علمانية تحولت إلى أجهزة إبادة. ولذا، فنحن أمام منعطف خطير جدًّا. علينا الآن الخروج من الاستبداد بكافة الأدوات وبكافة الموارد المعرفية. الأنظمة الاستبدادية تحاصر اللغة، ولهذا تحبس الأجساد؛ لأن حبس الجسد من أجل حصر حركة اللغة عند هذا الإنسان أو الإنسانة المفكرة. نحن حررنا الآن الجسد في سوريا، وعلينا مسؤولية كبيرة أن نعيد تحرير العقل.

وأحب أن أختم بمقولة شركسية لجدتي الشركسية، كانت تقول مثلا من أيام أجدادهم من القفقاس: "إذا العقل لم يتعب، فالجسد سيتعب كثيرًا". ونحن في حالتنا، استيقظ الجسد وحرّر نفسه، وبالتالي سنتعب إن لم يستيقظ العقل بسرعة. مهم أن يستيقظ العقل حتى يرتاح الجسد.

د. حسام الدين درويش:

تحرير العقل هو إيقاظ العقل، ونقاشات العقل هي الهدف الرئيس من هذه الندوة، وهي تحاول الإسهام في هذا الأمر وتحقيقه، من خلال مشاركاتكم.

د. محمد، نقول مرة ثانية ما قالته د. نعمت: الآن هناك مشكلة حقيقية في رؤية إسلامية الدولة التي تتحدث عنها؛ ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالمرأة أو النساء ومسائل الأحوال الشخصية عمومًا. ففي هذا الخصوص، تبدو التشريعات المستندة إلى رؤية إسلامية مجحفةً بحق المرأة، وهي تعيدنا إلى مناقشات متقادمة ويفترض انها بائدة في دولة المواطنة: هل تصلح المرأة أم لا تصلح لأن تكون مواطنة؟ هل يمكن وينبغي لها أن تتمتع بكل الحقوق والحريات التي يتمتع بها الرجل؟ فما ردك؟

د. محمد حبش:

في 2005، خضنا في البرلمان في مجلس الشعب السوري مناقشة حامية جدًّا من أجل حق الحضانة للمرأة، كانت المفاجأة أن الذين وقفوا ضد هذا الحق أكثرهم نساء، وهم لا ينتمون إلى تيارات إسلامية بقدر ما كانوا ينتمون إلى تيار البعث نفسه، ولكن في النهاية هم أبناء بيئتهم ومجتمعهم الريفي. هذه البيئة هي التي فرضت عليهم أن يقفوا ضد مصالح المرأة، وأن يحاولوا إيقاف تقدم هذا القانون الذي نجح في النهاية في رفع سن الحضانة. ما أردت قوله إن تطوير قانون الأحوال الشخصية ليس مستحيلا، ولكنه ليس سهلا أيضا، ويجب أن لا ننتظر قرارًا سياديّاً لتطوير قانون الأحوال الشخصية؛ الأحوال الشخصية هي مسألة تخص المجتمع، وعندما نتحول من دولة استبدادية إلى دولة ديمقراطية، سيبدو التغيير أصعب أيضا؛ لأن البيئة الديمقراطية لتمكين النساء غير متوفرة. الآن هذه الأفكار التي نطرحها في تمكين النساء وتوفير فرصها الحقيقية في العمل والأداء هي أفكار ما تزال الآن تحارب مجتمعيا قبل أن تحارب دينيًّا وسلطويًّا.

كثير من النسويات ينتظرن أن تقوم السلطة بدور استبدادي لصالح العلمانية، وإجبار الناس على التحول إلى قوانين أحوال شخصية أكثر عدالة أو أكثر استجابة لحقوق النساء. أعتقد أن الأمر ليس بهذه الطريقة أبدًا؛ الجانب الديني هو جانب مرن جدًّا، ويمكن الحصول على اجتهادات فقهية تلبّي حاجات النساء إلى الحد الذي يرضي طموح كل من يؤمن بتمكين النساء؛ في القرآن الكريم نتحدث عن نساء نبيّات، عندما تكون مريم في رأي القرطبي وابن حجر وابن حزم عندما يشار إليها كنبيّة، وكذلك الطبري، ونتحدث عن بلوغ المرأة رتبة النبوة، في رأي هؤلاء الفقهاء الكبار، والذين لا ينازع في مكانتهم الفقهية؛ فمن الطبيعي إذن أن لا تُصدّ المرأة عن مكان هي كفء له، وأن تتولّى كل الوظائف التي تريد.

تطوير قانون الأحوال الشخصية هو نضال مجتمعي لن يجدي معه تدخل السلطة، سواء كانت سلطة علمانية أو سلطة إسلامية، لن تستطيع تغيير المجتمع، هذا جهاد، ما تقوم به الحركات التي تؤمن بحقوق المرأة في إطار النقاش المجتمعي هو الكفاح الصحيح للوصول إلى هذا الهدف، وأنا أقول لكم بكل أمانة، إذا تم التحول إلى مجتمع ديمقراطي، فإن تطوير قانون الأحوال الشخصية سيكون بالصعوبة نفسها التي نواجهها الآن. نحن أمام مجتمع لا يزال إلى الآن يرفض كثيرًا مما نعتبره نحن حقوقاً للمرأة. عندما تطرح مسألة المساواة، ستجد أن كثيرًا من النساء يخضن حوارات طويلة جدًّا ضد مساواة المرأة باعتبار أنها لا تتناسب مع المجتمعات التي ينتمين إليها. أعتقد أن الدين قادرٌ على أن يستجيب لقانون أحوال شخصية متطور.

ذات يوم، قال شيخ الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي، عندما كانت مصر تخوض مرحلة تجديد تشريعي وقانوني، أيام الملك فاروق، جمع رجالاً حقوقيين يثق فيهم من خبراء القانون، وقال لهم اكتبوا القانون الذي تجدونه مناسباً لمصر، لا تفكروا أبدًا في المرجعيات، عندما يتم تجهيز القانون، أنا من أقدم لكم البراهين الشرعية على صواب هذا القانون؛ لأن الفقه الإسلامي هو منجمٌ كبير متراكم، وهو ليس رأياً واحدًا يتم الحسم فيه.!!

نعم، نحن نواجه الآن خطاباً سلفيًّا يرفض التجديد في الدين، ويرفض الرأي الآخر، ولكن أيضا المجددون والذي يؤمنون بمرونة هذه الشريعة موجودون ويناضلون فيها. أنا شخصيًّا، أعتقد أن تطوير قوانين الأحوال الشخصية هو جهاد مجتمعي، وليس قرارًا حكوميًّا استبداديًّا. البرلمانات الحقيقية الحية هي التي تتحرك بنهوض المجتمع، وليست تلك التي تتحرك بقرار من السلطة.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلا د. محمد.

هناك توجّهٌ أحياناً عند بعض النخب لرمنسة الإسلام؛ أي تقديم صورة رومانسية جميلة ولطيفة للإسلام، بغض النظر عن (لا-)موضوعية تلك الصورة. ويتحدث آخرون عن أن هناك إسلاماً واقعيًّا فيه ما يخيف، وهو ما نسميه إسلام سياسي أو غيره. ويتجلى هذا المخيف، تجليًّا خاصًّا، في رؤية ذلك الإسلام للمرأة وتعامله معها. ويعيد هذا الإسلام المخيف الحديث نظريًّا عن عدم أهلية المرأة، ويحدّ من حرياتها، ويشكك في إمكانياتها، ويقصيها من المناصب. فأين أنتم من هذا الإسلام عندما ترمنسون الإسلام عمومًا؟

د. عفراء جلبي:

استفدنا كثيرًا من مالك بن نبي، حيث تحدث عن الثنائيات الحادة؛ شيء نستسهل عمله، أو شيء يستحيل عمله، مثل قضية من قضايا المنطقة أو القضية الفلسطينية. فإما أن نهجم عليهم وننتصر بشكل خيالي، أو يستحيل كلّياً حل المشكلة مع إسرائيل. أو يقول إن الشباب دائما يعيشون بين حالة الطاهر المقدس والدنس الحقير. وإذا لاحظتم، الخطابات الآن في المجال العام تقع في هذا الثنائيات الحادة. ثمة عالم فلكي فلسطيني تواصل معي قبل عدة أيام، بعد أن تابع بعض مقابلاتي، وكان يعمل في ناسا لسنوات طويلة. هل تعرفون ماذا قال لي؟ قال لي: لا أفهم كيف لا تملّين من قضية المرأة، وهذا الهاجس الذي لا يغادرك، بينما الإسلام أعطى المرأة أعلى مكانة ممكنة، وضعها لبناء الأسرة والجيل القادم، وصلى الله وتبارك. كيف ترد على مثل هذا الشخص؟ العالم في الفيزياء والفلك والغائب عن الإضافات التاريخية أو حتى الأسئلة التي تم طرحها في تراثنا نفسه. فقلت في نفسي: لماذا لا تملّ أنت من القضية الفلسطينية؟ لكن قلت له باقتضاب، لن تفهم أيضاً هاجس أمّ سلمة التي سألت الرسول ص: لماذا يخاطب القرآن الرجال لوحدهم، ولا يخاطب النساء؟ ولم أكن أريد الدخول معه في مجادلة، فشكرته وقلت: على كل حال لا تكترث أنت لمثل هذه الأمور فلديك قضايا تكفيك.

فهذا عالم فلكي، ويظن أن المرأة دورها الأمومة فقط. وهذا مهم، ولكن هل يعني هذا أنها غير قادرة أن تقوم بأي شيء آخر؟ أو أن الإسلام فعلا وحقًّا لا يطلب منها شيئًا آخر؟ كيف سيكون شعوره، وهو الذي عنده هوس بالفلك وبالفيزياء الفلكية، أن يقول له أحدهم أنت العب كرة هناك، وحين تكبر اهتم بتربية أولادك في البيت وبصحة عائلتك وحاجاتهم، ولا تتبع شغفك ولا تتبع ما تميل له من أمور علمية أو قضايا عامة. ماذا سيحدث لشغفه العلمي لو عاش في مثل هذا الخطاب الذي يوجه دائما للطفلة الصغيرة. وكأن هذا الشغف لا يصيب الطفلات الصغيرات.

في الفضاء العام عندنا إشكاليات كبيرة بين شيطنة الإسلام، وبين أن الإسلام حلّ كل المشاكل، بينما يمكن أن نخرج من هذه الثنائية، ونعتبر الدين أحد المصادر المعرفية المهمة. وممكن أن تكون الظاهرة الدينية والاهتمامات الروحية مصادر خلاقة في أي مجتمع. وهذه فكرة بول ريكور، الفيلسوف الفرنسي، الذي رأى أن الدين يمكن أن يقع في مطب تكرار المعارف والممارسات، ويمكن أيضا أن يؤدي دورًا خلّاقاً. حتى في السياق المسيحي نجد هذه التجليات العنيفة أو التكرارات التقليدية. فنحن نعرف تاريخ الحروب الصليبية، وحاليا أيضا صعود اليمين المتطرف العنصري الذي يخرج من الولايات المتحدة. لكن لا يمكن أن نختزل الديانة المسيحية في سياقات تاريخية ضيقة، ونقول إن هذه هي المسيحية؛ لأن المسيحية في المقابل تجلب في ظواهر كثيرة. فالمسيحية أيضا حركت حركة السود، وألهمت حركة الحريات المدنية والحركات اللاعنفية العظيمة في الولايات المتحدة، كلها نبتت من الفكر المسيحي الخلاق. فأنا أقول إن كل ما تقولونه صحيح؛ لأن هناك أوجهاً متعددة للإسلام، وأيضا أوجهاً متعددة للعلمانية. وفي رأيي، أن ما نقوم به في هذه الندوة، مع الشكر للدكتورة ميادة وللدكتور حسام، أننا نفتح مساحات آمنة للحوار ولإعادة فك الاعتقال عن اللغة، وتحريك المفاهيم حتى نستطيع أن نخلق فعلا دولة حديثة بمعايير حديثة حيادية، لكن لا يشعر الإنسان المسلم أو المسلمة أنهم متخلفون، وأن عليهم أن يصمتوا؛ فهذه أزمة هوية، وممكن أن تساعد أدواتهم أيضا في البناء والإبداع.

د. حسام الدين درويش:

د. عفراء، أنت أشرت إلى تعبير مفتاحي في فكر دكتورة نعمت: "أزمة هوية"، وهي أزمةٌ في رؤية المرأة لذاتها ولدورها، ورؤية الآخرين إليها.

د. نعمت، في الحديث عن هوية الإسلام، عن أيّ إسلام نتحدث تحديدًا؟ هل نتحدث عن الإسلام الرومانسي أم عن الإسلام المخيف؟ وفي كل الأحوال، عن أي إسلامـ تحديدًا، تتحدثين أنت؟

د. نعمت حافظ البرزنجي:

أنا أتحدث عن الإسلام في النص الأساسي الذي أتى به الإسلام، وهو القرآن. لا يمكن أن نميز تفسيرًا عن آخر الآن، نريد أن نعود إلى النص الذي يقرر، وعلينا أن ننظر إلى النص بمنظار جديد للزمان والمكان الذي نحن فيه، ولما لوضع المرأة الحالي. أنا لم أذكر أن هناك أزمة في هوية المرأة، لا أقول إن هناك أزمة، ولكن أقول إن المرأة يجب عليها أن تعيد النظر في الهوية التي أعطاها المجتمع؛ الهوية السلبية على أنها خاضعة ومكملة، وأنها يجب أن تقبل بما يقول المجتمع أو الذكور في السلطة. لا، أنا أقول إن المرأة يجب أن تقف بنفسها رافعة صوتها ورأسها، وأن تتحدث بما تفهمه من القرآن؛ لأن هذا هو الذي يحدد هويتها؛ القرآن هو الذي يحدد هوية المرأة، وليست السلطة أو أي حركة نسوية أو نسائية أو ما غيرها. المهم أن نعود ونتذكر هذا الموضوع، وشكرا.

د. حسام الدين درويش:

د. محمد هل من تعقيب؟ ثمة محاولة لرمنسة إسلام ما، وإظهاره بصورة إيجابية جميلة، في تجاهل أو تعام أو تضادّ مع إسلام يخيف في بعض أجزائه أو معالمه، ومنه هذا الإسلام الحاضر الآن في سوريا، ما رأيك؟

د. محمد حبش:

أعتقد أن التخويف من الإسلام غير واقعي؛ نحن لا نتحدث فقط عن رؤية رومانسية نقدمها للإسلام، نحن نتحدث عن رؤية واقعية. أنا أتحدث بالأرقام هناك 57 دولة إسلامية ينص دستورها على أن الإسلام دين الدولة، وأن التشريع الإسلامي هو مصدر أساسي من مصادر التشريع، لا توجد دول غير طبيعية؛ السعودية الآن التي هي أكثر الدول تشبثاً بالقيم وبالروح الإسلامية، أمكن التحول إلى مجتمع طبيعي، مجتمع مرن يستجيب لحاجات العصر من دون أن يقال إن السعوديين تزندقوا أو كفروا أو خرجوا من الإسلام، والأمر نفسه يحصل في كل الدول الإسلامية. هناك دولتان فقط، يمكن أن تجد فيهما ممارسات تمييزية ضد الآخر، وهما بشكل أساسي إيران وأفغانستان؛ يعني دولة شيعية متشددة، ودولة سنية متشددة.

د. حسام الدين درويش:

د. محمد، هذه الحجة تم الرد عليها من طرف د. نعمت، وهي أنه في قوانين الأحوال الشخصية المتعلقة بالنساء في هذه الدول الأخرى، هناك تمييز (سلبي) ضد المرأة.

د. محمد حبش:

هذا التمييز ليس نتيجة لانغلاق الفقه الإسلامي، الفقه الإسلامي قادر على تقديم حلول قوية ومرنة جدًّا، غير أن المجتمع مازال متمسكاً بتقاليد قاسية؛ جرب الآن مجتمع إدلب، مجتمع ريف حلب، مجتمع ريف دمشق. عندما تطرح قضايا أساسية للمرأة، المجتمع نفسه، مازال يرى هذه التطويرات اعتداء على القيم المجتمعية المستقرة. أعتقد أن النضال هو نضال مجتمعي، ولا يجب أن ننتظر من أحد أن يغير مدونة الأحوال الشخصية المتقدمة في البلاد العربية، أكثر المدونات تقدماً هي المدونة المغربية، وعندما قدمها الملك، قال لقد اخترت لكم هذا بوصفي أميرًا للمؤمنين، وقد تمت دراسة هذه المدونة عبر فقهاء شرعيين متخصصين، لقد نجح في تقديم المدونة من خلال الأفق الإسلامي، ولكن بأدوات دستورية. نحن نعتقد الآن، أن تطوير قانون الأحوال الشخصية ممكن، وليس الفقه الإسلامي هو الذي يقف عقبة فيه، إنما التقاليد الموجودة في البيئات الريفية تحديدًا، والتي لا تتقبل ذلك، ... باختصار، أنا لم أجد هذه القيود، لم أجد ما يرعب في الشارع السوري. وجدت الناس كما تركتهم، لم أجد في المجتمع السوري من يرغم الناس على الحجاب، أو على أداء الصلاة؛ الصلاة كانت ممنوعة خمسين سنة. أما الآن، فالناس تعبر، ربما في ساحة في الجامعة أو في ساحة في مكان، لكن لن تتحول سوريا إلى جوامع. هذا المشهد الذي نراه هو نتيجة طبيعية ردة فعل لقمع وديكتاتورية وبطش، وإذلال للهوية الإسلامية مارسه النظام خلال السنوات الأخيرة على الأقل خلال 14 سنة الماضية. أنا لم أجد في سوريا الآن أي مظاهر من هذه التي يتخوفون منها؛ يوم عيد الميلاد، ورأس السنة، ربما كانت الأفراح في هذه السنة أكثر من السنوات الأخرى، ولا أعتقد أن الأمر يتجه إلى ما يخيف. دعونا نتفاءل، ونثق في قوة الفقه الإسلامي كمنجم عريض جدا فيه كل الآراء، ونستطيع أن نتخير منه ما يناسب مجتمعاتنا.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا على هذه الأخبار العظيمة، فنحن في حاجة إلى أن نتذكر ونذكر ونعرف هذه المسائل التي ربما لا يعرفها كثيرون. وتجدر الإشارة إلى أن أرقى المدونات، من منظور إنصاف النساء، هي التي في تونس، وليس في المغرب، التي تحتل المرتبة الثانية على الأرجح. والمثير للتفكير هنا أن تونس (العلمانية) والمغرب (الإسلامية) فيهما أكثر مدونات تقدماً.

د. محمد حبش:

المدونة المغربية أكثر تقدّماً من المدونة التونسية، خاصة في موضوع الإرث.

د. حسام الدين درويش:

المثير للمسألة أن المغرب هو أكثر دولة تستحق لقب دولة إسلامية، وتونس أكثر دولة تستحق دولة علمانية، وفي الحالتين المدونة أكثر تقدّماً من كل الحالات العربية الأخرى. إذن إسلامية أو علمانية الدولة لا بالضرورة تفضي إلى نتيجة واحدة. فالطرفان قد يقودان إلى النتيجة نفسها.

د. ميادة كيالي:

أودّ أن أشير إلى نقطة جوهرية أراها مهمة في هذا النقاش. نحن هنا نتحدث عن قضايا المرأة في سوريا، لكننا نفتقد أصوات النساء اللواتي يعشن في قلب المعاناة داخل دمشق، حلب، أو غيرها من المدن السورية. هؤلاء النساء يعشن التجربة الفعلية: يناضلن، يعملن، يربّين أبناءهن، ويواجهن تحديات المجتمع المباشرة. في حين أننا، من مواقعنا، قد نكون أحيانًا نناقش الأمور من خارج هذه المعاناة الفعلية.

في هذا السياق، أودّ أن أشارككم قصة ذات دلالة، خصوصًا مع الضجة التي أُثيرت حول رفض أحمد الشرع مصافحة وزيرة الخارجية الألمانية، وأيضا مع ما قيل هنا عن التشدد الاجتماعي، والفصل بين النساء والرجال في الباصات.

لديّ صديقة كانت من أوائل الأشخاص الذين عملوا مع د. محمد شحرور رحمه الله، وكانت تنضد كتبه الأولى على الآلة الكاتبة. كانت تؤمن بأفكاره تماما، لكنها في الوقت ذاته كانت تنتمي إلى بيئة محافظة، وترتدي اللباس التقليدي الذي تتبعه القبيسيات، مع الحجاب الكامل. ومع تطور فهمها، أصبحت مقتنعة تمامًا بأن الحجاب ليس فرضاً دينيًّا بالشكل الذي تم تصويره لها منذ طفولتها، لكنها لم تستطع خلعه بسبب ضغط المجتمع والأهل. في أحد الأيام، كنا نعمل معاً في مختبر المحافظة كمهندسات، وجاءنا زائرٌ غريب كبير في السن، وكنا في جلسة صباحية مختلطة من المهندسين والمهندسات، اقترب هذا الشخص من صديقتي ليصافحها، لكنها وضعت يدها على صدرها رافضة المصافحة. هذا التصرف أثار غضبه، فقال لها باستنكار: "إن كنت ترفضين مصافحتي بحجة أن ذلك حرام؟ إذن أنا أقول إن جلوسكِ أصلًا في العمل وعلى هذا الكرسي حرام!" تدخلتُ حينها، وقلت له: "هي لا تمتنع عن المصافحة فقط لأسباب دينية، ولكن لأنها وجدت في ذلك راحة نفسية. المسألة لم تعد تتعلق فقط بالدين، بل أصبحت خيارًا شخصيًّا." وهنا تكمن المسألة التي أريد الإشارة إليها.

في المجتمعات التي تعيش تحولات اجتماعية وسياسية معقدة مثل سوريا، هناك العديد من العوامل التي تفرض نفسها على السلوك الفردي، وقد لا يكون الأمر متعلقاً بالتشدد أو الانغلاق، بقدر ما هو استجابة لضغوط الواقع. البعض يظن أن من يرتدي الحجاب أو يرفض المصافحة هو شخص متشدد دينيًّا، بينما في الواقع، قد يكون الأمر مجرد استجابة للبيئة الاجتماعية، ومحاولة للمواءمة بين القناعات الشخصية ومتطلبات المجتمع. وهذا يقودنا إلى سؤال يفرضه الحديث عن قضية "فصل النساء عن الرجال في الباصات" والتي تم التطرق لها في النقاش من أكثر من طرف، السؤال هنا: هل نظرنا إلى الشارع السوري اليوم؟ هل درسنا نسبة النساء المحجبات؟ هل فهمنا السياقات الاجتماعية التي أدت إلى هذه الممارسات؟

ما أريد قوله هو أن الواقع الاجتماعي في سوريا معقد، ولا يمكن اختزاله في ثنائية "تشدد مقابل تحرر". هناك خصوصيات اجتماعية يجب أن تُفهم قبل إطلاق الأحكام أو افتراض أن المجتمع يتجه نحو مزيد من التشدد فقط.

د. حسام الدين درويش:

ترى الأستاذة ريم الدندشي، أن المرأة هي المعتقلة الأكبر أو الضحية الأكبر في أي دولة تريد أن تكون إسلامية. والسؤال موجه للدكتورة أسماء، نظرًا إلى أنك ترين أن لا علاقة للإسلام بالإجحاف المذكور، هل ترين أن الارتباط بين إسلامية الدولة والإجحاف بحق المرأة يعود إلى الصدفة فقط؟ هذا من ناحية أولى. من ناحية ثانيةٍ، لماذا ثمة وصاية على النساء؟ وهذه الوصاية لا يقوم بها الإسلام السياسي فحسب، بل هناك اتجاه تحرري نسوي يريد أن يفرض على النساء أيضا شكل الحرية. وهذا ما أشارت إليه د. أسماء في مسألة اللباس.

السؤال كذلك موجه إلى ذ. مارسيل: المسألة ليست دينية؛ المسألة اجتماعية وسياسية، لكن ليست دينية، رغم أنك أكدت أن المسألة دينية جزئيًّا على الأقل.

بالإشارة إلى السيد إياد حسن، الموجودون في السلطة حالياً ليسوا رجال دين، وهم لا يدعون أنهم رجال دين. هم متدينون بأيديولوجيا دينية، لكن ليسوا رجال دين. والاتجاه السنّي الإسلامي عموماً يرفض أن تكون هناك دولة دينية. فمفهوم الدولة الدينية مرفوض أصلاً لدى كل المسلمين باستثناء القائلين بولاية الفقيه. لكن ثمة تحول مع أفغانستان طالبان، بوصفها دولة رجال الدين. لكن سوريا الآن ليست دولة رجال الدين؛ بلدولة متدينين بأيديولوجيا دينية، وهذه مسألة مختلفة.

د. أسماء معيكل:

لقد وضحت من البداية أن المشكلة ليست في الإسلام، وليست في تجلياته فحسب، بل المشكلة في الثقافة الذكورية المجتمعية المتجذرة في واقع المجتمعات العربية، والإسلامية، وفي الشرق عموماً، والتي تتلاعب بالدين ليواكب تصوراتها.

د. حسام الدين درويش:

الدكتورة أسماء، السؤال الموجه إليك واضح: كلّما أريد للدولة أن تكون إسلامية، كانت المرأة ضحية؛ هذا قول السيدة ريم، أنت ماذا تقولين؟

د. أسماء معيكل:

المرأة ضحية في غير الدول الإسلامية أيضاً، فالمرأة ضحية سواء في دولة تتبع نظاماً إسلاميًّا أو نظاماً آخر، ولذلك ضربت أمثلة في بداية حديثي، حينما قلت إن تركيا حينما اتخذت من العلمانية نظاماً لها، سارعت إلى فرض قانون السفور، وتطبيقه على النساء؛ يعني على الضلع الأضعف بحسب الثقافة الذكورية، وحينما انتصرت الثورة الدينية في إيران، أول شيء قامت به فرض الجادور على النساء أيضا. إذن فالمرأة هنا يُتلاعب بها، ولا تُترك لتقرير مصيرها. أنا مع أن تختار المرأة أن تغطي جسدها أو تعريه، فهي حرة. أما أن تفرض عليها أشياء بدون إرادتها لتنفيذ أجندات أخرى، فهذا غير مقبول، هذا أولاً، ثانياً: إن القانون هو الذي يحفظ حقوق المرأة؛ ففي تركيا، حينما صعد حزب العدالة والتنمية لم يحوّل الدولة إلى دولة إسلامية، حتى وإن كانت لديه توجهات إسلامية، لكنه أعطى المرأة بعض الحقوق التي حرمها منها نظام العلمانية، وظلّ القانون يحافظ على الحقوق الأخرى التي ضمنها لها القانون؛ اليوم في تركيا المرأة مساوية للرجل في كل شيء، وقد استفادت من نظام العلمانية ومن توجه حزب العدالة والتنمية الإسلامي...

د. حسام الدين درويش:

لكن هناك إقرار، حتى من حزب العدالة والتنمية وأردوغان، بأن الدولة التركية علمانية. نحن نتحدث عن دولة تريد أن تقول عن نفسها إنها إسلامية.

د. أسماء معيكل:

دولة علمانية بنكهة إسلامية، منحت المرأة مزيدًا من المكاسب في تركيا، وهذا ما نريده، نحن اليوم نريد دولة مدنية ولتكن بنكهة إسلامية، لا بأس لا توجد مشكلة في ذلك، بل ربما تزيد من مكاسب المرأة والحصول على حقوقها من كلا الجانبين. أما أن تفرض قوانين تعود بالمرأة إلى الوراء، فهذا غير مقبول، وعلى المرأة نفسها أن تعبر عن هذا، فحين تعد المرأة نفسها ضحية وتركن إلى ذلك، وتتخلى عن أدوارها؛ فمن غير المتوقع أن يمنحها إياها الطرف المستفيد من إقصائها، وقد أشارت د. نعمت إلى قضية مهمة، تتعلق بإعادة صياغة المرأة لهويتها، لكن هل المرأة قادرة على فعل ذلك؟! المرأة اليوم داخل سوريا منقسمة إلى أقسام متعددة، مع أن المرأة كانت شريكة في كل شيء؛ المرأة خرجت في المظاهرات، وتعرضت للاعتقال، وخاضت رحلة اللجوء والنزوح، وعاشت في ظروف إنسانية صعبة قاسية جدًّا، إلا أن الظروف القاهرة التي تحيا في ظلها اليوم ليست ملائمة، لتتمكن من العودة إلى بناء نفسها كما طلبت د. نعمت، ولتفعل ذلك يجب على الأقل أن تكون متعلمة، في زمن حُرمت فيه فتيات كثيرات من التعليم، في ظل العيش في مخيمات النزوح، وتحت قصف البراميل والطيران...

د. حسام الدين درويش:

دكتورة نعمت: الفقه ليس مسؤولًا، والنموذج الغربي مشوه، وليس نموذجاً صحيحاً؛ ما رأيك؟

د. نعمت حافظ البرزنجي:

لنترك النموذج الغربي، ونترك النموذج الإسلامي الأول، لنبدأ بما لدينا الآن، نحن في واقع مهمّ جدًّا. نعم، المجتمعات لا تزال تتأثر بالأديان، سواء كانت مسلمة أو بوذية أو غير ذلك، وتتأثر بإيديولوجية مختلفة، علمانية أو غير ذلك، ومن ثم لا يمكن فصل المجتمع عن السياسة، هذه النقطة الأولى. النقطة الثانية، نعم، ضروريّ أن المرأة تتحدث عن حقوقها؛ لأن صوتها كان مكتوماً لفترات طويلة. وأقول نعم، المرأة السورية الآن متمكنة من أن تقوم بهذا، وأنا عندي أمثلة كثيرة كما ذكرت بكلماتي لعقود طويلة، أقوم مع مجموعات سورية لتدارس القرآن، وغيرت هؤلاء النساء ما يكون بها؛ الأحوال الشخصية، والمعاملة الأسرية، ثم المعاملة المحلية، والآن تحاول أن تقوم بتوسيع هذه الحلقة في المجتمع بصورة عامة. فإذن هناك نساء متمكنات. والنقطة الثالثة، ليس موضوع تعلم أو عدم تعلم، أو عدم قدرة على القراءة والكتابة، لا. كنت في إحدى المجموعات الإسلامية النسوية في باكستان الجاهلة، وعندما ذكرت لهن بعض الأشياء، أوقفتني إحداهن وقالت: لا، نحن نعرف هذه الأشياء، نعرف أن الدين يعطينا إياها، ولكن نحاول أن نغير ما بالنفوس، وهذا دورٌ مهمٌّ وكبيرٌ، ولذلك نحن ننظر إلى المرأة ليست فقط كأنها امرأة، وإنما المرأة هي التي تربّي الرجال الذين يمكنهم أن يرفعوا أصواتهم، وينادوا بحقوقهم. هذه نقطة مهمة جدًّا، لا ننظر إلى المرأة؛ لأنها امرأة فقط، بل لأن لها دورًا مهمًّا في التربية، وهذه هي النقطة الأساسية التي انطلقت منها؛ فالتربية الأساسية بالمفهوم الشخصي الإنساني، أن لا ينظر إلى نفسه على أنه أدنى من الآخر.

د. حسام الدين درويش:

بالنسبة إلى سؤال د. يوسف، يبدو أن المسألة لا دينية، ولا قانونية، ولا سياسية؛ المشكلة – في الإطار المغربي – مشكلة اجتماعية. وهذا يتقاطع مع قول د. محمد حبش: لا تكمن المصيبة (الأساسية) في الفقه ولا في الدين ولا في التفسيرات، لأن المسألة اجتماعية بالدرجة الاولى. دكتورة نعمت ما رأيك في هذا الصدد؟ تفضلي.

د. نعمت حافظ:

كما ركزت منذ قليل، ليس هناك فاصلٌ بين المسألة الاجتماعية أو السياسية؛ لأن السياسة هي جزء من تحريك المجتمع. ماهي السياسة؟ السياسة وضعت لاختيار بعض الأشخاص ليحكموا على الأرض بين أفراد المجتمع. ومن ثم لا يمكن فصل القضيتين؛ النقطة الثانية هي لا يمكن فصل القضية الاجتماعية عن الدين بصورة عامة. وأنا أحدد بالأخ الكريم ظاهر بالنسبة إلى النص القرآني، أنا أتحدث عنه بالنسبة إلى المرأة المسلمة والمسلم، ولا أحدد هذا الموضوع بالقرارات في سوريا؛ لأننا نعلم أن الشعب السوري هو متعدد الأشكال بالدين وبالأيديولوجيات وبالتصورات المختلفة. ولذلك، لا يمكن أن نحدد أي قرار سياسي بصورة معينة، وإنما نستلهم ببعض المبادئ، سواء كانت مبادئ أخلاقية أو غير ذلك، سواء كان مصدرها الدين أو أي إيديولوجية أخرى. فهذه نقطة مهمة أحب أن أركز عليها. النقطة الثالثة والأساسية التي يبدو أن الكثير لم ينتبه إليها، وهي أنني لما أتحدث عن هوية المرأة المسلمة، لا أتحدث عنها بشكل انفرادي كما استعملتها بعض المجتمعات الغربية، أن نركز على ما يريد الفرد فقط بدون أن ننتبه إلى أن حقوق الفرد تتوقف عند حرية الآخر، وهذا الذي يجب أن ننتبه إليه دائما. النقطة الأخيرة، وهي موضوع الطلاق، يا سبحان الله نحن نخاف من كلمة الطلاق؛ لأننا كنا نشعر أن الطلاق فقط بيد الرجل، والمرأة المغربية أو أي امرأة الآن دخلت في مجتمع متنور في مفاهيم القرآن والنص القرآني، المرأة المسلمة بصورة خاصة شعرت أنها تستطيع أن تمارس حريتها بطلب الطلاق هي نفسها، لا تخاف من ذلك؛ لأنها كانت تخاف أن تمنع من أولادها أو تحرم من إرثها...الآن شعرت أن لديها الحقوق القرآنية، النصوص القرآنية التي تمكنها من التفوه بذلك، وأذكر لكم حادثة أساسية، عندما دخلت أمريكا عام 1967 للدراسة، ولمقابلة زوج المستقبل رحمة الله عليه، أول شيء انتبهت إليه هو مطالبة الحركة النسوية التي كانت قد بدأت في ذلك العام بالطلاق، وكانوا يريدون الطلاق، وفي الوقت نفسه كانوا يحذرون المسلمات من أن دينهم لا يعطيهم العدل. فلذلك، أردت أن أشرح وأن أبحث في هذه المواضيع، وأرى لماذا تنادي الغربيات بالطلاق، بينما نحن في الإسلام نحذر من الطلاق؛ هذه نقطة مهمة يجب الانتباه إليها. الموضوع ليس هو هذا الموضوع الجذري، الموضوع ما هو موقف المرأة، وكيف تمكنت من الوقوف ومطالبة حقوقها عندما تفهمتها بدقة، والمهم أن الرجل لم يفهمها بشكل جيد، ولم يفهم أن مطالبتها بالطلاق هو لتخرج من هذا الظلم الذي عاشت فيه لسنوات. طبعاً، أنا لا أريد أن أدخل في الماضي بأنظمة مختلفة؛ لأن هذا حديث آخر. أنا أتحدث عن وضع المرأة المسلمة العربية وغير المسلمة في سوريا أو في أي أيديولوجية مختلفة يجب أن تنظر إلى موقعها كأنها سيدة نفسها، وهذا أول شيء يجب أن ننتبه إليه، وشكرا.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلًا.

دكتورة عفراء، في مداخلة الدكتورة نعمت ثمة نقد ذاتي، أو تحميل كبير للمسؤولية للمرأة. وهذا يتقاطع مع ما طرحته العزيزة سعاد أبو داود: مسألة المسؤولية. فمن المسؤول عن الإنجاح أو الإفشال، نيل الحقوق أو قمع الحقوق أو منعها؟ في إحدى المداخلات، ورد أنه يجب ألا ينظر أي إنسان لنفسه على أنه ضحية. بل ينبغي له أن يؤمن أنه قادر على أن ينال حقوقه أو يتنازل عنها. فإلى أيّ حد ترين أن المجتمع أو الدولة أو القانون مسؤولٌ عن الظلم الذي تتعرض له المرأة؟ أم أنت ترين أن المرأة توجد بالفعل في موضع يسمح لها بأن تنال أو تتنازل عن حقوقها؟

د. عفراء جلبي:

حين تحدثت عن أهمية التواصل مع النماذج التاريخية، وفي الوقت نفسه ممارسة العدسة النقدية النسوية، فأنا أدعم ما تقول د. نعمت. وهذا لا يعني ما قالته ريم، وأظن أنها كانت حذرة من بعض النساء اللواتي يكون عندهن هذا الارتكاز، ولا ألومهنّ على هذا، حين يسمعن عن أشياء دينية وتاريخية، لا يعني أننا سنضع السقف عند هذا. بالعكس، أنا أرى أن كل مشاريعنا هي تراكمية وتفاعلية وتشاركية؛ فنحن عندما نتحدث عن بعض النماذج التاريخية حتى نؤصل لقصة المرأة عبر التاريخ، لا يعني أننا سنقدم فكرًا تقليديًّا غير قادر على التفاعل مع الحاضر. لهذا، نحن النساء السوريات مثلا لسنا مستعدات، كما ظهر جليًّا قبل أيام، أن نستغني عن الملكة زنوبيا. وسعدت لما أشارت ميادة الغالية أيضا إلى نموذج ملكة سبأ. أنا أريد أن أوضح كم هو مهمٌّ إعادة إعراب موضوع الحقوق والواجبات وتقليب الزوايا في التعاطي معها؛ لأني بشكل عام أميل إلى نموذج غاندي الذي قيل له سندعوك إلى مؤتمر لحقوق الإنسان، فقال لن آتي، ولكن إذا دعوتموني إلى مؤتمر عن واجبات الإنسان سآتي إليه.

فسوريا الآن لا تخرج من حقبة فاسدة فقد، وأننا نريد إصلاح بعض الأشياء هنا وهناك، بل إن سوريا تخرج منهكة ومدمرة إنسانيًّا وعمرانيًّا؛ أي البناء في الأرض والإنسان يخرج زحفاً من السجون. الوضع مأساوي جدًّا، وأنا أجد هنا أن دور المرأة ليس أن تجلس وتطالب بشيء، والنساء لا تفعل هذا أصلا، بالعكس بل هن يأخذن روح المبادرة، وهنا أعود لمفهوم وقيمة القيام بالدور الاجتماعي من زاوية "الواجبات السياسية" (السيفيك ديوتي) الذي تكلمت عنه في البداية، من مفهوم أن خدمة هذه الحقبة التي خرج منها السوريون تأتي من زاوية الواجبات السياسية. ولماذا التفكير النسوي مهمُّ في هذا المجال؟ لأنه أيضا يجلب معه طبقات جديدة من التفكير والحلول العملية. فأنا كأمّ أشعر أن التفكير الأمومي تفكير ليس مجرد غريزة، كما تعلمنا من الفيلسوفة سارة راديك التي كتبت في التسعينيات كتاب Maternal Thinking: Towards Politics of Peace، والذي صار كلاسيكيًّا عن التفكير الأمومي كعنصر مركزي في الفعل السياسي، لتمكين التوجه نحو سياسات أكثر سلاماً. ووضحت فيه الكاتبة أن الأمومة ليست غريزة بحسب، وإنما هي أيضا استراتيجية وتحضير وتخطيط وفعل، وهي تفكير سياسي وحماية للحياة وعناصر استدامتها. أنا عندي شباب، وتأثرت بخالي وبوالدي، وأعطوني عشق الفلسفة. وفي المقابل، أدخلتني إلى القضايا السياسة أمّي وخالتي اللتان كانتا تتابعان تفاصيل الأمور السياسية. فنحن عندنا تشاركية في حياتنا العائلية، وأنا كأمّ عندما أرى شباب سوريا والكميات التي ضحوا بها، أشعر أننا نحن من منظور نسوي علينا مسؤولية هائلة في التدخلات السياسية، وعلينا أن ننقذ أولادنا. وكما كان خالي في كل خطبة عيد يقول إن إبراهيم لما قال له الله، لا أريد التضحية بابنك، كانت هذه لحظة مفصلية في تاريخ الجنس البشري، توقفوا عن التضحية بأولادكم!

كثير من التفكير الديني يتحدث عن الشهادة في الجهاد، والتفكير اليساري يقول إن الحرية ثمنها غال، ولابد من التضحية في سبيل الوطن. رغم اختلاف الأرضيات لكن يتفقون في الهدر. من المهم أن يُدخِل التفكير الأمومي العدسة النسوية النقدية في الحوار السياسي العام، وحتى أن يصير لها تمثيل وتدخل في التفكير العسكري وقرارات وزارة الدفاع، حتى لا يتورط الرجال بمغامرات عسكرية بدون حسابات استراتيجية دقيقة. علينا واجب أن نحمي أولادنا، علينا واجب أن نساهم في أن يتعافى مجتمعنا. أنا سمعت أنه مات بعض المعتقلين الذين خرجوا؛ لأنهم لم يتلقوا العناية الصحية والنفسية، وقد حزّ هذا في قلبي. مازلت أبكي مع صديقات على فقد أولادهن وإخوانهن. آمنة خولاني التي هي نائبة رئيسة مدنية، اتصلت بها وبكينا سوية؛ ثلاثة من إخوتها لم يعودوا، البارحة في تواصل كتابي مع أم غياث، السيدة ميادة العبار ثلاثة من أولادها لم يعودوا، وأخوها كذلك. صديقتنا أم صهيب، السيدة فاطمة الحريري، اثنان من أولادها لم يعودا. أنا بعيدة وتركت سوريا منذ الطفولة، وأعرف كل هذه النقاط من الفقد والعذاب والرثاء، فتخيلوا الذين يعيشون هذه الحقائق وتعرضوا لكل هذه التجارب. لهذا من المهم جدًّا أن يتحقق تواصل مع نساء المخيمات، مع أهالي المفقودين وأن نبدأ التفكير في طرائق جديدة من التخطيط السياسي. وأنا ألوم الإدارة الجديدة بأنهم لم يكن أهالي الشهداء والمفقودين أول ناس رحبوا بهم وتحدثوا معهم، أهالي المفقودين، زوجات المفقودين، المعتقلون، أمهاتهم أولادهم وآباؤهم. من المهم جدًّا أن نستعيد هذه الكرامة، وأن يشعر الأهالي بمكانتهم. ولهذا كله، ومع كل هذه التجارب الوعرة، أجد أن دور المرأة يأتي من مكان مسؤولية، ونحن النساء الذين سنرفع هذا السقف؛ فنحن لن نطلب من الرجال أن يعطونا أو يسخوا علينا؛ لأن علاقتنا مع الله، وكرامتنا لا تأتي من بشر. "ولقد كرمنا بني آدم"، فنحن متصلون في هذه الكرامة بالخالق ونقف بشكل متساو بين بعضنا. وأنا في رأيي كنساء مع روح المبادرة عندنا، سنزيد في كرامة الرجال أيضا. على الأمهات والجدات أن يشاركن في صناعة القرارات العسكرية؛ لأن شابًّا من فلسطين قال لي مؤخرا: أنا أجد أن النسوية هي صراع، قلت له: صراحة وصدقاً من كل قلبي، وهو قد فقد ابنه عمره ذو العشر سنوات، أن نسويتي نابعة من أن ابنك عبد الله لا يقتل بقذيفة من إسرائيل؛ نسويتي نابعة من ألا يُعذب شاب في سجن منسي، نسويتي نابعة من أن تمارس النساء دورهن، وأن يوسعن مساحات الرحمة، وأن ترفع المرأة السقف للجميع، وليس للنساء فقط، فهي ليست صراعاً، وإنما هي لتوسيع مساحات التكافل والرحمة بيننا، شكرًا.

د. حسام الدين درويش:

د. أسماء، ثمة نقطتان أثارهما د. محروس؛ الأولى تتعلق بالإسلاموفوبيا، الرهاب من الإسلام، الخوف المفرط من الإسلام، والقول إن تلك الإسلاموفوبيا غير موجودة سوى في الغرب. فهل توافقينه؟ والنقطة الثانية، تتعلق بالحديث عن ان إسلامية الدول الإسلامية ليست مضادة للمرأة بالضرورة. ويبدو أنك تتفقين مع ذلك، لكن تلك الإسلامية مغايرة لتلك التي تريدها جماعات الإسلام السياسي. تفضلي.

د. أسماء معيكل:

أعتقد أن مصطلح الإسلاموفوبيا ظهر في الغرب، لكنه انتشر فيما بعد في مناطق أخرى كثيرة، والخوف من الإسلام في بلدان العالم العربي موجود، خصوصاً عند بعض الفئات المحددة. بالنسبة إلى المسألة الثانية، فإنني أرى، أن كل الأنظمة التي تتكئ على الإسلام في حكوماتها، مجحفة بحق المرأة؛ لأنها ليس لها علاقة بالإسلام الحقيقي. ولذلك، حينما نعود إلى النماذج المشرقة، التي كانت موجودة في الإسلام الحقيقي، لا نرى لها أثرًا على أرض الواقع اليوم؛ فالأنظمة الإسلامية، التي تدّعي أنها تمتثل للإسلام وتعاليمه، ليس لها منه سوى الاسم، وفي حقيقة مضموناتها وتطبيقاتها، وتجلياتها على أرض الواقع، لا تحقق شروط الإسلام الحقيقي، وفي ما يخص قضية المرأة على سبيل المثال؛ نجد في مجتمعات هويتها إسلامية، كيف تتعرض المرأة للعنف، والتحرش، والاغتصاب، ولا تأخذ كامل حقوقها، وتُحرم من الميراث، ولا توجد مساواة في كثير من الأشياء؛ فأين الإسلامية في هذا الموضوع؟! أما بالنسبة إلى سوريا، فأنا أريد أن أشير إلى نقطة مهمة تتعلق بواقع سوريا الراهن، في روايتي "تل الورد" عنونت الفصل الأخير بحبطراش، وحبطراش في اللهجة السورية تعني الشيء حينما ينكسر ويتهدم ويتهشم، ولا يمكن إعادة إصلاحه مرة أخرى، وحقيقة هذا حال سوريا اليوم، فسوريا خرجت من حقبة استبدادية طويلة مدمرة على كافة الأصعدة، دُمّر فيها كل شيء في جميع قطاعات الحياة، إضافة إلى تفشي الفساد، وحينما أرى مشهد الأبنية المهدمة، والمرافق المهدمة....أشعر بفداحة الأمر، وأن التركة ثقيلة جدًّا، وعلينا جميعا أن نكون عوناً لبعضنا؛ لإعادة إعمار هذا البلد، وفي مثل هذه الحال علينا أن نكون متفائلين وواقعيين في آن؛ لأن الإصلاح والتغيير لن يحدث بشكل سريع، علينا أن نصبر قليلاً، أن نعطي فرصة للحكومة الجديدة، لنرى ما الذي ستفعله، وأنا شخصيا متفائلة؛ لأنني ألمس مرونة في أداء الحكومة واستجابتها للتغيير لما فيه صالح سوريا. أما الأصوات التي تصعد أحيانا وتدلي بتصريحات أو تعليقات، فأرى أنها إما متعجلة، أو غير واعية تماماً بالشيء الذي تعبر عنه، لم يمر سوى شهر على تحرير سوريا، وخلال شهر لا يمكن أن أتوقع، أو أنتظر أن تنتهي كل أزمات حقبة الاستبداد، وما خلّفه على مدار أكثر من نصف قرن، دعونا نتذكر أن النساء ما زلن في المخيمات، ولذلك وجهت لهن تحية في بداية مداخلتي، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هي أولويات هؤلاء النساء اللواتي ما زلن يعشن في المخيمات؛ هل سيكون ارتداء الحجاب أو عدمه أولوية بالنسبة إليهن؟! والجواب في اعتقادي، إن أولوية أي امرأة في المخيمات أن تعود إلى بيتها المدمر، وأن يعاد إعماره أولا. وعلى صعيد آخر، فإن المرأة السورية شاركت في كل شيء، وهي امرأة قوية، خرجت في المظاهرات، وتعرضت للاعتقال، والاغتصاب، وضحت بأبنائها، وحلّت محل الرجل في ظل غيابه بسبب الاعتقال، أو الهرب من الجندية الإجبارية إلى أوروبا، عملت مكانه في كثير من الأعمال، بما في ذلك الأعمال التي تصنف على أنها ذكورية. إن المرأة قادرة على أن تحلّ في أي موقع، إذا ما أُهّلت بشكل صحيح، فكيف نستبعدها من بعض المواقع، وندّعي أنها بسبب طبيعتها البيولوجية، لا يمكن أن تكون مثلا وزيرة دفاع(د. حسام: كينونتها). بالنسبة إلي هذا الكلام مرفوض؛ لأن المرأة حينما تؤهل بشكل صحيح، وتوضع في ظروف تضطرها إلى العمل، فهي قادرة على أن تقوم بكل الأعمال، ويمكن أن نلمح ذلك بوضوح في الأرياف، فنجد المرأة تعمل في أعمال شاقة، لا يقدر عليها الرجال أحيانا، ولذا فلا يجوز إفراغ المرأة من مضمونها، وإقصائها عن المشاركة في بعض المهام؛ بحجة أنها لا تناسبها، هذا كلام غير مقبول نهائيًّا. الأمر الآخر الذي ينبغي أن نشير إليه صدور تصريحات، وأنت أشرت إلى شيء ما من هذا القبيل، تؤكد أن أولويات المرأة، تتمثل في رعاية بيتها وزوجها، وتربية أطفالها، من وجهة نظري أرى أن مثل هذا التصريح ناتج عن تصور قاصر؛ لأنه يفترض ضمنيًّا، أن كل النساء متزوجات، وأمهات عندهن أطفال، عليهن أن يعطين لهم الأولوية. وبحسب الواقع، فإن المجتمع السوري اليوم، يعاني من ازدياد كبير في نسبة غير المتزوجات ممن هن في سن الزواج، فهناء نساء كبيرات، مؤهلات، متعلمات، أستاذات جامعيات، وطبيبات، ومهندسات، ومعلّمات، وغيرهن في مهن أخرى، غير متزوجات، في حلب على سبيل المثال، أعرف من طالباتي وزميلاتي أكثر من دكتور في الجامعة، وهي غير متزوجة؛ فهل أولوياتها أن تجلس في البيت لتهتم بالأولاد، أي أولاد؟ بماذا ستهتم؟ أرى أن هناك قصورًا في التنظير لبعض الأشياء، أو أن الأفكار غير واضحة تماما في الأذهان. أضف إلى ذلك فكرة تحديد نموذج محدد، لا يوجد نموذج محدد، ولم يحدث على مر العصور أن كان هناك نموذج واحد محدد لكل النساء، هناك نماذج كثيرة، وعلينا أن نترك للمرأة حرية اختيار النموذج الذي تريده، بما ينسجم مع قناعاتها ومبادئها ومعتقداتها، وبما لا يتعارض مع مفهوم المواطنة والمساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات، وأرفض أي وصاية من الرجل على المرأة، فهي وحدها من يقرر ما تريده.

د. حسام الدين درويش:

د. ميادة، في خصوص مسألة الأولويات، هناك كثير من التعليقات. فهل الوقت مناسب الآن للتحدث عن المرأة؟ الوضع في سوريا غاية في التعقيد وفي السوء، خدمات أساسية ومتطلبات الحياة ليست موجودة، ونحن نتحدث عن المرأة! هل هذا ضروري او مفيدٌ أو مناسبٌ الآن؟ ألا ينبغي الحديث عن مسائل أخرى؟ ما رأيك، في هذا الخصوص؟ تفضلي.

د. ميادة كيالي:

عندما أعلنّا عن هذه الندوة، لاحظنا انقساماً واضحاً في ردود الفعل؛ قسمٌ رأى أن هذه الندوة ستسمّم المجتمع السوري، نظرًا لانعقادها تحت مظلة "مؤمنون بلا حدود"، فتمت شيطنتها بالكامل. في المقابل، هناك من اعتبر أن هذه الندوة تمثل ترويجًا للسلطة الحالية، التي ترتدي غطاءً إسلاميًّا. وهنا أود أن أؤكد، كما أفعل في كل مرة: هذا المنبر هو منبر للنقاش الحرّ، الرصين، والمتبادل، حيث يُحترم فيه الرأي، ويُعطى كل إنسان الفرصة للتعبير عن وجهة نظره والمشاركة الفاعلة.

أما عن مسألة أولوية الحديث عن قضايا المرأة في ظل الأوضاع السورية الصعبة، فالإجابة واضحة بالنسبة لي: هذا هو المجال الذي نستطيع العمل فيه، وهذا هو المشروع الذي نحاول الاشتغال عليه. صحيحٌ أن هناك من يسألنا: "ما الحل؟ ما المشاريع التي قدمتموها؟" لكن الحقيقة هي أننا نعمل ضمن إطارنا الفكري والمعرفي، ونحاول إحداث تغيير في هذا المجال، وهذا بحد ذاته جزءٌ من الحل.

أنا من الأشخاص المتفائلين، وأؤمن بأن هناك مساحات يمكن البناء عليها. أتذكر قبل أن أغادر سوريا في التسعينيات، كنت ألاحظ أن الفتيات في عمر 14-16 عامًا، خصوصًا من أقاربي، كنّ محجبات منذ الصغر، حيث انتشر الحجاب بشكل واسع خلال تلك الفترة. وبالنسبة إلى كثيرات منهن، لم يكن الحجاب فقط خيارًا دينيًّا، بل كان بمثابة "درع حماية" اجتماعي يسمح لهن بالتحرك بحرية، حتى خلال أوقات متأخرة من اليوم. حينها، كنت قد تخرجتُ كمهندسة وبدأتُ عملي، وكنتُ أستطيع التنقل وحدي بسهولة، وهو ما لم يكن متاحًا لكثير من الفتيات الأصغر سنًّا.

لكن اليوم، تغير المشهد بالكامل مع الانفتاح على وسائل التواصل الاجتماعي. لم يعد هناك شيء قادر على إعادة المرأة السورية إلى "نقطة الصفر". حتى الفتيات المحجبات، انظروا إليهن في الاحتفالات: يرقصن، يغنين، ويعشن حياتهن بحرية. انظروا إلى مستشفى "المجتهد"، الذي كان فيما مضى أشبه بـ"زريبة" صنعها النظام، بالأمس شاهدنا طبيبات، أطباء، ممرضات، وممرضين ينظفون، يرمّمون، ويدهنون الجدران، في مشهد يبعث على الأمل.

وهذا هو الرهان الحقيقي: هل يمكن لهذه "القيادة الإسلامية"، التي جاءت من مرجعية متشددة، أن تتحول إلى دولة مدنية حقيقية؟ نحن لا نمارس "شيطنة" لهذا الواقع كما فعل البعض معنا قبل بدء الندوة، لكننا أيضًا لا نمارس التفاؤل الرومانسي غير الواقعي.

سنظل نتابع، نناقش، ونتفاعل، كلٌ من موقعه، بأفكاره ومشاريعه، ونأمل خيرًا.

د. حسام الدين درويش:

شكرًا جزيلاً للجميع، وأترك المجال لك دكتورة ميادة للإعلان عن الندوة القادمة.

د. ميادة كيالي:

ستكون الندوة القادمة في الموضوع نفسه؛ لأن الموضوع يحتاج على ما يبدو إلى المزيد من التنوع في وجهات النظر، وستعقد يوم الجمعة 17-01-2025، وستضم كوكبة من السيدات، وأتمنى أن يكون أحد المشاركين أو إحدى المشاركات من الداخل السوري قصد نقل الصورة من الداخل.

د. حسام الدين درويش:

سنحاول أن نكون نحن هذا الداخل، قصد الانفلات من ثنائية الداخل والخارج.