الإسلام والتكنولوجيا: مداخل منهجية
فئة : مقالات
قد يبدو الربط بين الإسلام والتكنولوجيا، في هذا المقام، غير ذي موضوع كبير. فهذا مستوى وذاك مستوى آخر. وقد يبدو من قبيل الترف الفكري الذي قد لا يفيد قارئًا أو يقدم طرحًا. ومع ذلك، فإنّ إثارة قضايا من هذا القبيل تبدو ذات راهنية كبرى، ليس فحسب لأنّها باتت موضوعًا مركزيًّا من مواضيع سوسيولوجيا الأديان، ولكن أيضًا لأنّ الإبداعات التكنولوجية قد رفعت في وجه الدين، تحديات جوهرية نادرًا ما يتم الالتفات إليها.
بيّن أنّ الذي يهمنا هنا ليس هذا الجانب من الإشكالية. الذي يهمنا أكثر إنما التساؤل في مدى التوافق أو الممانعة بين عناصر الثنائية موضوع هذه المقالة: الإسلام من جهة والتكنولوجيا من جهة أخرى.
ولعل أول مدخل منهجي أساس يكمن في أنّنا لو اعتبرنا الإسلام (ديانة) والتكنولوجيا (تقنيات أو علوم تقنيات)، فإنّنا قد نذهب إلى حد الجزم بأنّ ثمة تمنعًا واضحًا بينهما، على الأقل على اعتبار الإسلام يحيل ظاهريًّا على التقليد، في حين تحيل التكنولوجيا مظهرًا على الحداثة. لكن الأمر قد لا يكون كذلك بالمرة، لو اعتبرنا الإسلام يعبر عن تقليد حي سارٍ، والتكنولوجيا على تقدم حي جارٍ.
ثمة إذن وجهان اثنان للإشكالية المطروحة:
+ الوجه الأول ويتمثل في التعامل مع هذه الإشكالية من زاوية ثنائية التقليد والحداثة. ومؤدى هذا التعامل أنّ طرح العلاقة بين الدين والتكنولوجيا هو شبيه وإلى حد بعيد، بذاك الطرح التقليدي الذي كان ولربما لا يزال يتساءل عن علاقة الدين بالعلم أو عن علاقة الإيمان بالعقل.
بيد أنّ المعالجة من هذه الزاوية غالبًا ما تضع وجهًا لوجه الدين، باعتباره تقليدًا يحيل على نماذج من الماضي تجووزت، والتكنولوجيا باعتبارها حداثة تفعل في الحاضر وتجتهد لاستباق المستقبل.
يترتب على هذه المقاربة نتيجتان اثنتان:
°°- النتيجة الأولى أنّ هذه النظرة غالبًا ما تفضي إلى خلاصة ألا توافق ممكن بين طرفي المعادلة، الدين والتكنولوجيا، إذا لم يكن من زاوية الطبيعة والطابع، فعلى الأقل من جهة الخلفية ومنطق الإحالة.
°°- أما النتيجة الثانية فتحيل على موقف كلا الطرفين بعضهما من بعض. الوارد هنا، والحالة هذه، أنّ الدين سيرفض التكنولوجيا حتمًا، وهذه الأخيرة ستتنكر للدين لا محالة، لا سيما وهي ترى كيف أنّ وقعها كبير على مستوى تنظيم حياة الأفراد والجماعات.
يجب أن ننتبه هنا إلى أنّ إلصاق التقليدية بالإسلام لا يضمر أي حمولة قدحية، قد توحي بالرجعية أو بالتجاوز. على العكس من ذلك تمامًا. إنّها تشير فقط إلى أنّ الإسلام دين سماوي يتعدى تاريخه ال 1400 عام. كما أنّ إلصاق الحداثة بالتكنولوجيا لا يعني أنّها رديف لها، بقدر ما تعني أنّها نتاج علاقة مستجدة للمسلمين معها.
ومع ذلك، فإنّ الذين يقرؤون العلاقة بين التكنولوجيا والإسلام (والدين عمومًا) من منظار التنافر والتمنع، لا تعوزهم "الدفوعات" في ذلك:
°- ففي حين، يقول هؤلاء، إنّ الإسلام يفرز حضارة الخضوع لله وللقرآن الكريم، فإنّ التكنولوجيا تحيل على "حضارة خضوع الإنسان للطبيعة ولتحولاتها".
°- وفي حين، يتابع هؤلاء، أنّ الإسلام يركز على الأصول الأولى للرسالة في صفائها ونقائها، فإنّ زمن التكنولوجيا يحيل على التقدم والإبداع، وعلى الحياة العملية الأفضل التي يوفرها.
°- كما أنّه في حين، يؤكد هؤلاء، تركز التكنولوجيا على التطبيقات العملية وعلى التجارب الفعلية، يبقى الإسلام (يقصدون المسلمين) رهين علوم نظرية، لم تستطع إفراز نخب تحول هذه المعارف إلى تطبيقات ومنتوجات تفيد منها البلاد والعباد.
من الطبيعي، والحالة هذه، أن يرد أصحاب الأطروحة المقابلة برفض كل ما سبق، لا بل واعتباره تحاملاً مجانيًّا على الإسلام وعلى المسلمين. وحجتهم في ذلك هو القول بأنّ الإسلام إنّما هو دين العقل بامتياز، وألا تناقض بينه وبين العلم إطلاقًا، بدليل أنّ التاريخ يثبت أنّ العالم العربي/الإسلامي كان مهد العلوم الغربية غرفت منه ولعقود طويلة خلت، وأنّ تراجعهم في ذلك إنّما مرده عوامل كثيرة، لعل أقواها على الإطلاق ظروف الاستهداف والاستعمار التي تعرض لها.
ولذلك، فهؤلاء لا يعتبرون التكنولوجيا نتاجًا غربيًّا، بقدر ما يعتبرونها نتاجًا كونياًّ، أسهمت كل الحضارات (وضمنه الحضارة العربية/الإسلامية) في تراكماته ومنجزاته، لا بل إنّ العديد من الدول الإسلامية لا ترى حرجًا في استيراد التقنيات، أو تكوين الخبرات العلمية والفنية من حيث هي جزء من مشروعها التنموي العام.
+ أما الوجه الثاني للمعادلة المطروحة، معادلة الإسلام والتكنولوجيا، فيحيل على إشكالية الثنائية بين التقليد والنهضة.
ليس ثمة تصور واحد موحد بالإمكان الارتكان إليه لفهم هذه الإشكالية، إلا أنّنا نجد توجهات مختلفة بالإمكان اختصارها في الثلاثة الأساسية ضمنها:
°°- التوجه الأول، توجه راديكالي صرف، يؤكد ضرورة الاحتكام الحرفي لنص القرآن في التفكير كما في السلوك. إلا أنّ هذا التوجه، وإن كان لا يرفض التكنولوجيا جملة وتفصيلاً، فإنّه يرفض الانبهار بمستجداتها أو الخضوع لتوجيهاتها، أو اعتبارها العنصر المحدد لباقي العناصر.
إنّ هذا التوجه لا يمنح "استقلالية" ما للتكنولوجيا. إنّ وجودها، بنظره، يجب أن يخضع "للوجود الديني" تحت مسوغ ألا عيب في أن يكون سلوك الفرد تقليديًّا، وأن تكون ممارسته عصرية أو حداثية. لكن المحك في السلوك كما في الممارسة إنّما يجب أن يكون الاثنان في خدمة الدين بهذا الشكل أو ذاك.
°°- التوجه الثاني ومفاده أنّ التأويل الإسلامي (والاجتهاد تحديدًا) لا يجب أن يقف عند "حقيقة" أنّ الإسلام يدعو إلى النشاط التكنولوجي، ولكن أيضًا إلى أنّ هذا النشاط "لا يجد هويته إلا في خدمة الإسلام". ومما يؤكد ذلك، من هذه الزاوية، أنّ الإسلام إنّما عمد قصدًا إلى حصر مجال الممنوع، وترك الباقي مباحًا، أي خاضعًا للاجتهاد والتدافع.
°°- أما التوجه الثالث فيرى أنّ تحقيق النهضة لا يجب أن يقتصر على التكنولوجيا، باعتبارها تقنيات تدخل في هذا المسلسل الإنتاجي أو ذاك، بل يجب أن يتبع ذلك تفعيلها لتطاول البنى الفكرية والاجتماعية التي تفعل التكنولوجيا ذاتها فيها وتتفاعل معها.
التكنولوجيا هنا لا تتعايش فقط مع هذه البنى، بقدر ما تدفع بجهة تطويرها وتكييفها ولم لا "تثويرها" من الداخل، إن كانت حقًّا وحقيقة عصية على التحول، غير عابئة بتطلعات وآمال النهضة.
إنّ القصد مما سبق، ليس إثبات التوافق أو التنافي القائمين أو المفترضين بين الإسلام والتكنولوجيا أو نفيهما. القصد إنّما إعمال البحث عن (وفي) جوانب التفاعل التي تقوم (أو هي قائمة) بين "ظاهرتين" متنافيتين في مظهرهما، لكنهما محفزتان بعضهما بعضًا في الزمن والمكان.