الإسلام والمستقبل
فئة : مقالات
الإسلام والمستقبل
"وعود الإسلام" صيغة تبدو في نظر البعض مقولة دينية متجاوزة، وتبدو في نظر البعض الآخر أنها مقولة أيديلوجية تطمح لتجعل من الدين سلطة فوق الدولة والمجتمع...ما يعدنا به الإسلام ليس أي شيء من هذا الذي يظنه البعض، نتيجة فهمهم الماضوي للإسلام، وهو فهم يختزل الإسلام في الطقوس والأشكال، ويختزله في عالم الأشخاص والأشياء، دون أن يرى فيه مجالا واسعا للأفكار والقيم والأخلاق والبناء والتجديد الحضاري بهدف ترشيد وهداية الإنسان في الوجود، نحو كل ما يعلي من قيمته بكونه أعلى شأنا من مختلف الكائنات من حوله، أو نتيجة فهمهم الذي يرى في الدين أمرا متجاوزا، فهو في نظرهم مسألة هامشية في حياة الإنسان، في غفلة عن أن أمر "الدين لا يقوم على أساس وهمي ولا على عدد من الأفكار الخاطئة التي تم تكوينها في طفولة الإنسانية، بل إنه يقوم على أكثر الأسس صلابة في وجود الإنسان إنه الوعي الباطني بالحقيقة. وأن كل اعتقاد ديني، إنما يقوم على اختبار نفسي للوحدة الكلية للوجود في وعي بالغيب [...] إن الدين هو الحالة المثلى للتوازن مع الكون، والعبادة كيفما كانت صيغتها، وإلى من أو ماذا يكون توجهها، هي معبر إلى البقاء في الحقيقة، وحالة وجود في الواحد، حالة الوجود الحق".[1]
تعود صيغة "وعود الإسلام" إلى المفكر الفرنسي روجيه جارودي، وهي عنوان لأحد أهم كتبه الذي صدر عام 1981م، وقام بترجمته إلى العربية مهدي رغيب، وترجمه فيما بعد العديد من المترجمين، الكتاب في غاية الأهمية لما تضمنه من طموحات وأهداف سامية، صيغة وعود الإسلام صيغة صادمة، فليس هناك من الأقدمين والمحدثين من ألف كتبا واختصر فحواه في هذا الأفق المرتبط بالمستقبل، ففي الثقافة الإسلامية وفي الثقافة الغربية كلما ذكر الإسلام، إلا تم ربطه بالماضي وبالتاريخ بدءا من تجربة الرسول الأعظم عليه السلام.
ينبغي ألا نغفل أن الإسلام قوة حيّة، ليس كامنا فقط في ماضيه، إنما في كل ما يمكن أن يقدمه لصنع المستقبل، [2] وقد يقول قائل إن هذا أمر يتعلق بمختلف الأديان، فكلها لها وعود ولها مستقبل. صحيح أن مختلف الأديان لها مستقبل، ولكن ليس لكل الأديان نفس المستقبل؛ لأن الأديان تختلف من حيث رؤيتها الى العالم والإنسان والوجود...فالدين الذي يمتلك رؤية للعالم قادرة على خلق نوع من التآلف والتكامل المنهجي، بين الدين ورؤيته الأخلاقية للعالم والعلم وآفاقه التحليلية للعالم، هو دين المستقبل الذي يمكن أن يجد حلًّا لمقولة صراع العلم والدين، أو مقولة، الدين حالة نفسية عابرة اعترضت الانسان. الدين على هذا المنوال هو دين الإنسانية، وهو دين قادر على استيعاب مختلف الأديان، لا ينفيها ولا يتصادم معها، ولكن يحتويها من داخل سياقه العام. إنه الدين الذي يمتلك روح الدين بدل طقوسه وأشكاله التي تتجدد وتتغير وتتحول عبر الأزمنة والأمكنة. وباختصار الدين على هذه الشاكلة نور يسع الجميع ويسع مختلف الثقافات. وفي هذا السياق، نفهم قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (النور/35).
مفهوم الإسلام من جهة روحه وجوهره، ودلالته المعرفية والثقافية والحضارية، يأخذ قيمة وكينونته من السلم والسلام والأمن والأمان والرحمة، كقاعدة أساسية في بسط مقصد التعارف بين الشعوب ذات الخصوصيات الثقافية المتعددة عبر العالم، في حاضره وفي ماضيه ومستقبله؛ فالآيات من القرآن الكريم والأحاديث من السنة النبوية التي تحث على هذا المقصد، كثيرة ومتنوعة من بينها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات) وقيمة التعارف هنا لا تنحصر في جانب اللفظ الذي يميز اسم وصفات شعب ما عن غيره من الشعوب، فهي تمتد بشكل أساسي إلى الجانب العلمي والمعرفي لكل شعب ولكل ثقافة ولكل حضارة، في رؤيتها للحياة وللوجود وللإنسان، مما يجعل من قيمة التعارف حاملة من حوامل التواصل الثقافي والحضاري عبر العالم، بين مختلف شعوب وثقافات الحضارة في الوقت الراهن، وهي تنشد قيم السلام والتعاون والبر والتكافل وتسعى جاهدة للحد من كل أشكال الحرب والعدوان، فقيمة التسامح التي عبر القرآن الكريم عنها بمفردة العفو والصفح والغفران والإحسان، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)﴾ (الحجر) قال تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾ (الأعراف) لا تتحقق ولا تتعزز في الواقع بين عموم الناس إلا بالعلم والمعرفة والعناية اللازمة بأمر ثقافة التسامح بمفهومها العام، وببسط سبل التواصل الذي يحقق التعارف بين الناس على المصلحة التي تراعي الصالح العام. فبسط ثقافة التسامح بين مختلف شرائح كل المجتمعات، كفيلة بالرفع من قيمة المواطنة، وفي تقوية العلاقات والروابط الاجتماعية بين كل الناس، وفي إشاعة الاحترام المتبادل والتعاون على حل كافة المشاكل التي تهدد وجود الإنسان في كل مكان، وفي الحد من الكراهية والعنف والجريمة.
يمتلك الإسلام في ماضيه تجربة حضارية وثقافية فريدة من نوعها وغير مسبوقة من نوعها؛ لأنها تجربة حضارية بنيت على التداخل في مختلف المعارف بين عالم الغيب وعالم الشهادة بين الأخلاق والطبيعة بين المثال والواقع؛ فالقارئ لمختلف العلوم الإسلامية يجدها تتداخل وتتكامل فيما بينها؛ إذ تجمع بين علوم الدنيا والدين العلوم التي تدرس الطبيعة والعلوم التي تحث على القيم والأخلاق، وهي تجربة قادرة لتجعلنا نتوقع بأن الإسلام معول عليه في المستقبل. فعلينا ألا نغفل بأن الاسلام "يكمن في مستقبلنا أكثر مما يكمن في ماضينا؛ لأن الإسلام لم يكتف بجمع الثقافات العالمية، بل عمل على إخصابها ونشرها من بحر الصين إلى الأطلسي، ومن سمرقند إلى تومبكتو، أقدم وأسمى ثقافات الصين والهند والفرس واليونان والإسكندرية وبيزنطة، بل قد لإمبراطوريات متفككة، ولحضارات محتضرة، روح حياة جماعية جديدة، ورد للبشر ولمجتمعاتهم أبعادها البشرية والإلهية المميزة، وروح الجماعة والتسامي."[3] هذه التجربة الغنية للإسلام في ماضيه وغيرها ستؤهله لقيادة الحوار والتواصل ما بين الشرق والغرب، على يقين بأن مستقبل العالم يكمن في الحوار، ولا مستقبل مع الصراع، ومقولة الصراع هذه مقولة بنيت على أساسها الحضارة الغربية، التي جعلت من العلم موضع صراع مع الدين، وجعلت الشعب موضع صراع مع الحاكم، فالديمقراطيات وحد للصراع السياسي بين مختلف الأطراف السياسية، وجعلت من الآخر موضعا للصراع؛ فالصراع جزء لا يتجزأ من منظومة الثقافة الغربية التي انقسمت على نفسها طيلة القرن العشرين، ما بين المعسكرين الشرقي والغربي؛ ففكرة صراع الحضارات "صامويل هنتنجتون" هي مقولة تعود جذورها إلى الثقافة الغربية. أما الشرق، فيرى بأنه لا بديل عن الحوار.
والحوار قيمة عليا في الإسلام، وهي قيمة ترتبط ارتباطا وثيقا بقيمة الشورى في القرآن الكريم؛ فإذا كانت الشورى تدور في مدار إبداء الرأي من لدن ذوي الاختصاص في مختلف مجالات الحياة؛ وفي مختلف قضايا الدين والدولة والمجتمع... فإن بسط مختلف الآراء ووجهات النظر؛ والتقريب فيما بينها؛ لا يتحقق إلا من خلال الإعلاء من قيمة الحوار والشورى؛ ما بين مختلف الفاعلين والمتدخلين بآرائهم ووجهات نظرهم؛ وقد جاء في القرآن الكريم قال تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (الشورى/38) قال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر﴾ (آل عمران/159).
[1] فراس السواح، دين الإنسان، بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، الطبعة الرابعة 2002 دار علاء الدين للنشر والتوزيع.ص.391
[2] روجيه جارودي، الإسلام دين الإسلام، ترجمة، عبد الحميد بارودي، دار الإيمان، دمشق، (دون تاريخ) ص21
[3] نفسه، ص 21