الإسلاموفوبيا
فئة : مقالات
هل أتاك حديث الإسلاموفوبيا ؟ إن تناهى إلى سمعك هذا الحديث، فلا تعجبنّ ولا تنكرنّ ولا تقولنّ إنّك لم تر الأديان الأخرى سماويّها ووضعيّها متبوعة بلواحق الفوبيا، فتلك مأساة السرير البروكستي، لأنّه غربيّ الابتداع على كلّ حال. إن الإسلام يتراءى كفوبيا في الغرب منذ يبدأ تصوّر الإسلام كآخر من ألدّ الأعداء وتصوّر غيره كآخر وديع فهو وليّ حميم؛ ولذلك فلا بد من دفع اللاوعي الغربي إلى سطح الوعي عبر عيادة نفسيّة تكشف مخابئ الرّهاب الذي أصاب عالما له تاريخ لم يداو بشكل جيّد بسبب تهوّد الأطبّاء. حين اخترق الإسلام الأصولي عاصمة الأنوار اهتز الفرنسيّون جميعهم. لم يكن ذلك خوفا من الإرهاب، أو ذعرا يخفي توجّسا من حركات عنف وهجمات دمويّة فحسب، لم يكن توقّعا مرضيّا لهجمات تحيل عاصمة الموضة إلى عاصمة للفوضى وحسب، وإنّما كان كلّ ذلك – وقبل كلّ ذلك – سليل صدمة فكريّة و نفسيّة في أعمق أعماق الفرنسي الذي اعتقد أنّه حسم مسألة العلاقة بين الدين والدولة منذ أمد بعيد، أو لعلّها طعنة في خاصرة اللاّوعي الغربيّ عموما، ذاك الذي كانت معركته طويلة مع الدين، وقد بات يرى عودة الدين أو عودة الديني(le religieux) كما يقول مارسيل غوشيه، بل لعلّه في أغوار نفسه يتساءل: هل هي عودة الدين إليه أم عودته هو إلى الدين، عودة الابن الضال؟
يبدو أن المواطن الغربي هناك لا يعنى كثيرا بالتفاصيل، فلا يفرّق بين عربي ومسلم وشرقي، لأنّ الدين والعرق والجهة والحضارة تشترك في أنّ صورها تنعكس في مرآته أشباحا للموت، وكلّ من يمتّ بصلة إلى هذا العالم، فهو مصدر الشرّ الكونيّ. الأسلاموفوبيا والعروبوفوبيا والشرقوفوبيا، وغيرها من أمراض الغرور الغربي التي تكاد تكون وباء عاما في الغرب، إلاّ من عصمه الله ممن سمحت له الظروف بأن يطّلع على أصل المأساة الإنسانية في التاريخ الحديث .أمّا السواد الأعظم من جموع العالم الغربي، ففي لا وعيه تاريخ صراع دموي يمتدّ من الحروب الصليبية، ويتواصل إلى أحداث سبتمبر بالولايات المتحدة الأمريكية، وما تلاها من من أحداث عنف وإهراق لكؤوس الحياة. ثم تعقد المؤتمرات العالميّة لمعالجة معضلة الإرهاب. من أكثر ما يبعث على السخرية – والفكر الموضوعي هو الفكر الساخر كما يقول باشلار – أنّ القوى العالميّة أثبتت أنّها قوى صناعيّة بالفعل – تصنع الحروب، و تصنع الأحزاب، وتصنع الأنظمة، و تصنع المعارضة، وتصنع الأسلحة، وتصنع الأزمات - تصنع كلّ أطر الدمار وتستنبت كلّ بذور القتل ثمّ تنظّم لقاءات دولية لبحث قضايا الإرهاب، عن الإرهاب يتساءلون ؟ و يكون الخوف ويكون العداء. استبطن الفرد الغربي هذا العداء، ولم تفلح الديموقراطية و اتفاقيات حقوق الإنسان والمنظمات العالمية ومعاهدات السلام في التخفيف من هذا الخوف المستبطن. وهل زال نظام التفرقة العنصريّة البغيض من جنوب إفريقيا بعد أن جرّبوا جميع أدوية الحب، ودعوا تحت وميض الشمس ملائكة السماء الثامنة؟ ذاك أيضا تاريخ طويل من الصراع والعنف والكراهية والدماء، والأرض لا تشرب الدماء. فوضى الموضوع الفلسطيني تجعل الولادة من الدبر أقرب، تحيل إمكانية اللقاء الحضاري الآمن مخبوءة في مصباح علاء الدين. يحتاج العالم إلى معالجة هذه القضية بشكل عاجل وحازم من أجل أن يحافظ على بعض توازنات هذا الكوكب .
العنف الذي تأتيه بعض الفصائل و الجماعات الإسلاميّة المسلّحة يجعل الذعر الغربي مبرّرا. لكن بعض المنظّمات الحقوقيّة في فرنسا تبيّن أن نسبة الإرهاب الذي وراءه المسلمون في أوربا مثلا لا يمثّل غير1%من الإرهاب العام الذي تمارسه الدولة والجماعات اليمينية المتطرّفة ومافيات تبييض الأموال و تجار السلاح والمخدرات و الرقيق والأبيض. لكنّ وسائل الإعلام التي تتلاعب بها اللوبيات المعقّفة تأخذ على عاتقها مهمّة تكبير الصور التي تتّصل بالمسلمين، و تضخّم من حجم الحركات العنيفة التي يأتيها بعض المتطرفين. وتؤكّد بعض المنظمات المناهضة للعنصرية (ENAR) أنّ الضغط والتضييق المسلّط على المسلمين يطال بالدرجة الأولى النساء (لجنسهن أوّلا وللباسهن الخاص ثانيا) والمنشآت الإسلامية (المساجد أساسا). وفي فرنسا على سبيل الذكر، يشتدّ العداء للمسلمين من معظم رجالات السياسة سواء أكانوا من أهل اليمين أو من أهل اليسار. فاليمينيّون يناهضون المسلمين بحجّة أنّهم يمثّلون تهديدا لنمط حياة الفرنسي ولرؤيته للعالم والوجود والمعيش ولصورة فرنسا الحضارية عموما، واليساريّون يتعلّلون بأنّ المسلمين يمثّلون تهديدا صارخا للاّئكية الأثيرة في نفوسهم. هناك إذن شبه اتفاق غربيّ على محاربة الآخر - وهو المسلم بامتياز- منقوش في اللاوعي المعرفي للفرد الغربي. وهذا اللاوعي المعرفي[1] يجعله يتصرّف بشكل آليّ وبصورة ميسمها العنف المضاد، وتتقوّى لديه حساسية الكراهية تجاه الآخر الذي تنجم له صورة نمطية في الشكل (السمرة، اللحية، الجلباب...) وفي الاسم (محمد، أحمد، علي، أسامة...) وفي الكنية (أبو عياض، أبو حمزة، أبو سيف....).
لكن الإسلامفوبيا هاجرت إلينا، واستشرى الخوف من الإرهاب الأصولي في البلاد العربية أيضا، وإن كان خوفا من صنف آخر. يحتاج منّا فهم هذا الخوف إلى التمييز في عالمنا العربي بين بلاد المشرق وبلاد المغرب. كان هشام جعيّط قد بيّن أهمّ ما يميز العالمين، وأهمّ ما يحدّد سمات الشخصيّة في البيئتين ثقافيّا وتاريخيّا. في المغرب الإسلامي نمط ثقافة أقرب ما يكون إلى النمط الليبرالي الأوروبي بسبب عمق البصمة الاستعمارية الفرنسية أساسا. إنّه فضاء لم يعرف الاحتلال التركي المباشر، وإنّما عرف مجموعة من تجارب التحرّر في الفكر والسياسة لم يعرفها أهل الشرق العربي. ولذلك فالإسلام العروبي البدويّ والنجديّ الوهابيّ لم يكن أبدا يستطيع أن يمرّ في الجداول المغربيّة ولا كانت الحداثة الفكرية في المغرب الإسلامي تستطيع أن تمرّ عبر مضائق الفكر الر جعي الآسن . إنّ الفكر في المشرق لم تخصبه بذور الثقافة الغربيّة بشكل مباشر، وهذا ما جعله يرى الحداثة في مرآة مشقوقة ويرى التاريخ في صفحة ماء مهتزّة. إنّ التمزّق الذي عرفته شخصيّة الفرد المغاربي سمحت له بأن يقيم مسافة مع ذاته، وسمحت له بالنتيجة أن يدرك الحقيقة التاريخية للذات ولعلاقتها بالآخر ، وجعلته في قدرة على تمثّل الانفتاح والاختلاف واستيعاب العالم الخارجي بأريحية أكبر. أضف إلى ذلك أنّ المغرب العربي الإسلامي عرف شبه توحيد ديني ظهر في مآذن الاتجاه السنيّ وسلطان المالكية على خلاف المشرق الذي "بدءا من مصر تتعدّد فيه ليس فقط الأديان، وإنّما الطوائف حتى داخل الإسلام، وتتعدّد فيه الطوائف إلى درجة مسّت في بعض الأحيان بتلاحمه ووحدته وحتى داخل كيان دولتي واحد".[2] لكنّ أهل المشرق اليوم وأهل المغرب باتوا تحت مهاوي الخوف على سواء. شيوخ البترودولار ضخّوا كل طاقاتهم لتصدير النسخة القبليّة من إسلام هارب من التاريخ في معركة مع عراقة الفرنكوفونية. وباء الجاهليّة الجهلاء ينتشر بلا هوادة، سحب التعصّب الأعمى تتراكم، ومعاقل الغرور الأخرق لا تهدأ.
وصلتَ أخيرا يا نكدي، تعرّفتُ إلى أشكالك ونامت دعتي في زواياك. أوقفتني على أصل قبليتي عاريا أمام التاريخ والأنثروبولوجيا. فما العمل؟ قالوا بالأمس حين رمنا النهضة: من أين نبدأ؟ واليوم نقول كيف ننتهي؟ كيف لرأس موثوق إلى المقصلة أن يحلم؟ أمّا وقد انبعثت الساحرة من وراء العزى من جديد، فلا مناص من بعثة أخرى. ليست بعثة في العقيدة، فقد كفتنا التجربة المحمّدية الرّائدة هذا الجهد، وإنّما لا بد من بعثة فكرية، لا مناص من طوفان علمي وثقافي يغسل أدران التخلّف القروسطي التي غشيتنا كالقدر الأعمى. ما ينقصنا هو تلك الكتلة التاريخية بتعبير غرامشي، طبقة ثقافية تذري بجذور الطبقة العتيقة التي تقتل كل نسغ للحداثة، فكر جديد يقلع طفيليّات الفكر الرجعي من الأصول. لا مناص من كسر البديهيات وطرح السؤال، "بعث الفراغ فيما يبدو ممتلئا وإحداث الفجوة فيما يبدو متصلا، وبعث الشكّ فيما يبدو مسلّما، وتوليد البارادوكس في ما يعتبر دوكسا".[3] حين تزعزعت عروش الأنظمة الاستبدادية بعد الثورات العربية، انبعثت إلى السطح خفافيش الماضي التي كانت تحتمي بظلمة الزمن الغابر. وضعت دثار الوثوقيّة الرعناء و خرجت تعلن الجهاد على العباد، وكان أوّل ضحاياها الإسلام من سلم الإسلام وطوبيا الإيمان، إلى التكفير والهجرة والحدّ والنصرة وفوبيا الأديان رهط من أنصاف المتعلّمين يرفعون ألوية الدعوة، والدعوة قد اكتملت منذ زمن بعيد؛ ولذلك فهم يكفّرون مجتمعهم ثم يستتيبونه ويتوجّهون إليه بالدعوة. من قال إن الإسلاموفوبيا ستتحوّل من بلاد الإفرنج لتطالنا، هل يقيمون الدليل لنا علينا ؟ إنّنا في حاجة فعلا إلى طوفان علمي ومعرفي، إلى تأسيس عميق لفكر النقد و الشكّ، إلى تعليم ثقافيّ على أسس التاريخ، إلى ترسيخ أنطولوجي لمبدأ الاختلاف، إلى نشر إتيقي لقيم النسبيّة والتاريخية، إلى كسر الأصنام الفكرية والعقائدية، من أجل إيمان لا يعرف الكره.
[1]ظهرت عبارة اللاوعي المعرفي في التسعينات في مجال علم النفس المعرفي و قد أخذت وجوها ثلاثة :إدراك من دون وعي، وتصرف آلي، وتعلّم مضمر (معجم العلوم الإنسانية بإشراف جون فرانسوا دورتيه و ترجمة جورج كتورة ،كلمة و مجد المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع الطبعة الثانية 2011 ص 910.
[2] هشام جعيط ،طرح لجدلية التعدد و الوحدة في المغرب العربي الاسلامي بصفة أعم ،مجلة الثقافة المغربية عدد22.23 ماي 2003 ص 9.
[3]عبد السلام بنعبد العالي ،لعقلانية ساخرة ،دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء المغرب ،ص36.