الإسلاميون المعتدلون وصراع البقاء
فئة : مقالات
الإسلاميون المعتدلون وصراع البقاء
العلاقة بين الإسلاميين المعتدلين - أحزاباً وحركات - وبين السلطة السياسية القائمة حالياً في العالم العربي هي علاقة ملتبسة وضبابيّة،أو هي في الحقيقة علاقة عدم ثقة وعدم فهم متبادل بين طرفين متناقضين في الأسلوب والمنهج والفلسفة السياسية التي تحكم منظوريهما إلى الدولة والمجتمع وتدبير العلاقة مع الغرب بصفة أساسية، ولا نستثني من هذا الأنظمة الملكية الأكثر محافظة والأكثر ارتباطاً بالنخب الدينية التقليدية سلفية كانت أم صوفية، لأنّ طبيعة الرهانات مختلفة تماماً، كما أنّ التحالفات الاجتماعية والسياسية المنتجة داخل تلك الدول اعتمدت على عناصر متداخلة يصعب تفكيكها في ظلّ النمط المحافظ الذي راكمته تلك الأنظمة تاريخياً في ممارستها للحكم.
لهذا ليس من السهل لكلا الطرفين القبول باللعبة الديمقراطية كما تمّ التنظير لها غربياً، وكما تمارسها الأنظمة العلمانية في ظل الاقتصاد الرأسمالي؛ لأنّ مفهوم الديمقراطية يقتضي بداهة في شقه النظري أن يتم الاستعاضة عن الأنماط التقليدية بأنماط حديثة تجد مرجعيتها في المؤسسات وسيادة القانون وفصل السلطات، ومنظومة متكاملة من القيم الدستورية والحقوقية تضمن التشارك في ممارسة السلطة السياسية بناء على سقف وتوافق اجتماعي وأخلاقي جديد وتحالفات طبقية جديدة.
كما أنّه ليس من السهل الانتقال إلى نظام ديمقراطي حقيقي، حتى في ظل عملية انتخابية نزيهة قد تحمل الإسلاميين إلى الواجهة في تدبير الشأن العام بوجود هيمنة خارجية ممتدة منذ الحقبة الاستعمارية، تتحكم في إطار النظام الما بعد كولونيالي post-colonialisme عبر تكريس التبعية في جميع مجالات التدبير العمومي خاصة المجالات الاقتصادية.
النماذج السياسية التي بين أيدينا اليوم بعد حراك الربيع العربي، بدءاً بحزب العدالة والتنمية المغربي مروراً بحزب النهضة التونسي إلى حزب الحرية والعدالة المصري تؤكد نظرياً مدى الإعاقة المزمنة التي تعاني منها الأحزاب الإسلامية التي يشكك خصومها في نواياها الحقيقة وموقفها من الديمقراطية وفي قدراتها العملية وفي ضحالة ثقافتها السياسية، زد على ذلك مواقفها من الحريات الفردية وحقوق المرأة والتيارات المعارضة (العلمانية واليسارية بشكل أساسي)، ذلك لأنّ قبولها الشكلي بالعملية الانتخابية ورهانها على قواعدها الجماهيرية، وإن حسم لعبة النتائج والأرقام لصالحها، فإنّه لم يضمن لها المناخ والإمكانات لتفكيك البنى الرجعية والتسلطية المسؤولة عن إنتاج الفساد والتسلطية والعمالة للغرب، لأنها لا تملك في الحقيقة مشروعاً سياسياً قادراً على تقديم الإجابات العملية عن واقع الأزمة.
وواهم من يظن أنّ الأحزاب الإسلامية الرابحة في الانتخابات ستستطيع أن تقضي على تلك البنى عن طريق خطاب أخلاقي وتدابير سطحية متراكمة، لأنها في النهاية ستبدو بمظهر القابل لتلك البنى والمتعايش معها، بل ستظهر مدى تهافت خطاب الإصلاح والتغيير الذي ترفعه في وجه النخب السياسية التاريخية، وكلما مرّ الوقت ازداد ذلك الشعور رسوخاً عند الجماهير مع إصرار الأحزاب الإسلامية المعتدلة على الاستمرار في الطريق نفسها ونهج الخطاب نفسه، الذي سيتآكل حتماً مع ازدياد الاحتقان الشعبي وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
عدم القدرة على التغيير الجذري وتكريس الشكل المحافظ للسلطة السياسية يعبّران عن الطبيعة الحقيقة للأحزاب الإسلامية المعتدلة التي تتبنى خيار المشاركة السياسية، انطلاقاً من تصور أخلاقي موهوم للعمل السياسي، ينظر إليه خصومها باعتباره استغلالاً للدين وباعتباره توجهاً رجعياً سيؤدي في النهاية إلى القضاء على المشروعية الانتخابية التي حققت لهم الأغلبية في المؤسسات التشريعية ومن ثمّ الممارسة الجزئية للسلطة التنفيذية.
في الحالة المغربية حزب العدالة والتنمية المعتدل الذي يترأس أمينه العام عبد الإله بنكيران الحكومة رفع منذ توليه للمسؤولية على حد قولهم شعار (الإصلاح في ظل الاستقرار) الذي لاقى استحسان النظام والطبقة السياسية التاريخية لطبيعته المرحلية، ورهن مجمل خطابه حول تجاوز أزمة حراك الربيع العربي الذي قد يعصف بالاستقرار الاجتماعي والسياسي، باعتبارها جزءاً من تفاقم أزمة النظام ككل، وانعكس هذا بشكل واضح في مطالباته الدستورية المحافظة وفي موقفه من حراك الشارع المغربي وفي تحالفاته السياسية وفي شكل أدائه الحكومي وفي صراعاته مع خصومه السياسيين وفي اعتماده على خطاب شعبوي في تمرير القرارات غير الشعبية، في مقابل انكساره التام أمام الفساد المستشري في دواليب الدولة والمرتبط بشكل جدلي بتوغل الرأسمال الاستعماري وتضخم الرأسمال البيروقراطي المتشكل أساساً من نهب المال العام سواء بأثر رجعي (عفا الله عما سلف)، أو بأثر مستقبلي، باعتبار أنّ اقتصاد الريع جزء من منظومة الدولة التاريخية.
الصراع من أجل البقاء الذي تخوضه الأحزاب الإسلامية المعتدلة، في ظل العجز الذاتي المزمن الذي تعاني منه على مستوى المقاربات النظرية وتعقد الشروط الموضوعية للحكم في الدول العربية، سواء تلك التي شهدت موجات الربيع العربي أم لا، سيؤدي في النهاية إلى انقراضها لتتيح المجال لصعود تيارات أخرى أكثر راديكالية ووضوحاً في مطالبها، ربما ستستثمر كل هذا الزخم لصالحها، خاصة من خلال المساحات المتوفرة لها حالياً في المجال الدعوي والعمل الاجتماعي المتحرر من الرهانات الانتخابية والسياسية.
وكإشارة فقط، فالتيارات السلفية المتواجدة في الساحة العربية، التي اختارت المشاركة في الحياة السياسية كما هو الحال في النموذجين المصري والتونسي، هي الأخرى لا زالت غير قادرة على إنتاج البدائل الحقيقية للتغيير في ظل تحكم معقد للقوى التقليدية في مؤسسات الدولة، وإن كانت ترفع شعارات واضحة بضرورة تطبيق الشريعة والقضاء على الفساد والعداء للغرب ولقيمه، كما أنّ فكرها السياسي مقتصر على تقديم الولاء لولي الأمر وعدم الخروج عليه أو معارضته.
ما يمكننا أن نقوله هو: إنّ الخيارات المحدودة أمام الأحزاب الإسلامية المعتدلة، التي فرضتها هي ذاتها على نفسها منذ البداية، سيؤدي إلى انهيارها وفقدان شرعيتها لدى شرائح كبيرة من المجتمع العربي تواقة أكثر من أي وقت مضى لرؤية البدائل الجذرية وتحقيق التنمية والتحرر من سيطرة القوى الإمبريالية سواء ديمقراطياً أو عن طريق الانتفاضات والثورات الشعبية، كما هو الحال اليوم في سوريا؛ فالمسألة مسألة وقت لا أقل ولا أكثر.
وإذا كانت العلاقة بين الإسلاميين المعتدلين والسلطة السياسية في الدول العربية هي علاقة مبهمة مشوبة بكثير من عدم الثقة، خاصة أنّ كليهما يتصارعان حول الحقل الديني، باعتباره مناط الشرعية السياسية وتقرير شرعية الحكم من عدمه خاصة بعد سقوط الخلافة العثمانية، فإنّ علاقة الإسلاميين المعتدلين بالغرب تأخذ منحى آخر مختلفاً تماماً، ليس من السهولة سبر مجمل أغوارها ومعرفة خفاياها وأسرارها في ظل التأرجح الذي عرفته خلال العشرين سنة الماضية، سواء داخل البلدان الغربية التي تتواجد فيها جاليات إسلامية مهمة أو في الدول العربية والإسلامية الحليفة للمنظومة الغربية.
من الناحية التعريفية فأغلب الباحثين الغربيين في مجال الإسلام السياسي l’islamisme خاصة المدرسة الفرنسية لم يعيروا اهتماماً كبيراً لمصطلح الإسلام المعتدل أو الحركات الإسلامية المعتدلة واقتصرت تعريفاتهم للحركة الإسلامية عموماً على الاصطلاحات الشمولية التي لم تميز بين الاعتدال والتطرف في توصيف حركة الإسلام السياسي، حيث يذهب الباحثان دومينيك وجانين سورديل Janine sourdel- Dominique sourفي كتابهما القاموس التاريخي للإسلام Dictionnaire historique de l’islam إلى تعريف الحركة الإسلامية على أنها "الإسلام السياسي حالياً هو عبارة عن توجه يهدف إلى التطبيق الحرفي لقواعد القانون الإسلامي (الشريعة)... والإسلاميون هم من يتبنون من جهة الجهاد داخل أوطانهم ضد المسلمين غير الملتزمين والحكومات الفاسدة من أجل تأسيس الدولة الإسلامية، ومن جهة أخرى ضد القيم العلمانية التي تسود بالعالم غير المسلم"، وبالتالي نلاحظ أنّالتعريف لا يميز تماماً بين الحركات الإسلامية المعتدلة التي تتخذ من العمل السياسي السلمي إطاراً لنشاطها وبين الحركات الجهادية المسلحة، وهو التعريف الذي يجمع أغلب الباحثين الغربيين على تبنيه في مقاربة ظاهرة الإسلام السياسي كما يتبناه الباحثون العرب المستغربون المعادون للحركة الإسلامية بوصفها حركة عنيفة أو حركة ضد الحداثة.
لذلك يذهب برينو إيتيان Bruno Étienne صاحب كتاب الإسلام السياسي كإيديولوجيا وقوة سياسية L’islamisme comme idéologie et comme force politique - إلى اعتبار أنّ الإسلام السياسي هو عبارة "عن الاستخدام السياسي للقيم الإسلامية كرد فعل ضد سياسة التغريب المعادية للهوية العربية الإسلامية"، أو أنها "حركة ضد الحداثة" بصفة إجمالية لا يمكن أن نميز فيها بين الاعتدال والتطرف، وهذا ما عبّر عنه الكاتب الروسي فلاديمير فيدوروفسكي fédorovski صاحب الكتاب المشترك مع الباحث الفرنسي ألكسندر أدلر Alexandre Adler هل سينتصر الإسلام السياسي - L'Islamisme va-t-il gagner، حيث استبعد وجود حركات إسلامية معتدلة، وعقد مقارنة سريالية بينها وبين الحركة البولشيفية قائلاً: "هل يوجد بلاشفة معتدلون"؟. ويكفي أنّه أصبح شبه تقليد أكاديمي أن يتم التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين بصفتها تياراً راديكالياً بالرغم من قبولها بممارسة العمل السياسي في إطار اللعبة الديمقراطية.
الإشكال الذي واجهه مصطلح الإسلام السياسي أكاديمياً، منذ بروزه في فترة السبعينيات داخل الجامعات ومراكز الدراسات الغربية، انعكس على طبيعة السياسات التي اتبعتها الدول الغربية طيلة العقود الماضية في التعامل مع التيارات الإسلامية، سواء من خلال توظيف النزعات الراديكالية لدى الحركات الأصولية في مواجهة المد الاشتراكي والشيوعي (حرب أفغانستان نموذجاً)، وتشجيع الأنظمة العربية والإسلامية على استخدامهم لمواجهة المد اليساري والشيوعي داخلها، أو بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث ظهرت كمكون جديد وفاعل في الحقل الاجتماعي من خلال الدعوة الإسلامية والنشاط التضامني في صفوف الجاليات الإسلامية المنتشرة بكثافة في الدول الأوروبية على الخصوص، التي وفرت بدورها طيلة العقود الماضية الأرضيات الملائمة لنشاط الجمعيات والمنظمات الإسلامية، وتساهلت مع الدعم الذي كان يصل من بعض الأنظمة الإسلامية المحافظة (السعودية ودول الخليج)، كما استضافت عدداً من القيادات الإسلامية كلاجئين سياسيين (نموذج بريطانيا) سواء أولئك الذين عادوا من أفغانستان أو الذين فروا من معتقلات الأنظمة العربية، إلا أنّ ذلك لن يدوم كثيراً خاصة مع أزمة الانتخابات الجزائرية 1992 التي أفرزت إسلاميي جبهة الإنقاذ كقوة سياسية جديدة تهدد المصالح الغربية والفرنسية على الخصوص في الجزائر وتبعاتها العنيفة التي مسّت فرنسا ذاتها من خلال عمليات مترو سان ميشيل واختطاف الرهبان الفرنسيين.
بعد هزة الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتداعياتها الخطيرة على المشهد الدولي فتحت ملفات الإسلام السياسي على مصراعيها في المجال الأكاديمي والإعلامي الغربي، وظهر فجأة جيش كبير من المحللين ومراكز الدراسات والتفكير في الظاهرة الأصولية والحركات الإسلامية، وتحولت معظم سهام الباحثين نحو الإرهاب الأصولي والتنظيمات الجهادية وعلى رأسها القاعدة، وأصبح التعامل مع الإسلام السياسي، باعتباره خطراً داهماً يهدد نظام الحياة الغربية والقيم الديمقراطية، واختفى تماماً مصطلح الحركات الإسلامية المعتدلة من المشهد التداولي الغربي، حتى أن حركة الإخوان المسلمين كانت تقدم في كثير من الأحيان وكأنها ربيبة تنظيم القاعدة، وأنها المسؤولةتنظيمياً عن تفريخ التنظيمات الجهادية، بالقدر نفسه الذي تمّ التعامل به مع المنهج السلفي والوهابية، باعتبارهما المسؤولين فكرياً عن الإيديولوجيا الجهادية.
خيار البدائل المتعددة هو الذي سمح بإعادة توصيف الحركات الإسلامية وتصنيفها وتقسيمها غربياً إلى متشددة وأخرى معتدلة، وذلك لكي يتم خلق المواءمة في الحرب الكونية على الإرهاب بين استخدام القوة العسكرية وتصاعد الهاجس الأمني وضرورة تقديم المقاربات الفكرية لإشكال تنامي الالتزام الديني في العالم الإسلامي، وظهر هذا في عملية الحوار الواسعة التي أطلقتها الولايات المتحدة بعد غزوها لأفغانستان والعراق مع الحركات الإسلامية غير المسلحة على طول العالم الإسلامي، وذلك من أجل سحب البساط من تحت أرجل الحركات الجهادية والراديكالية التي تعتبر الولايات المتحدة والغرب عدوها الأول، وإتاحة المجال لها لكي تساهم في الحياة السياسية بشكل طبيعي في الدول التي تحكمها أنظمة عربية موالية للغرب، هذا الأمر هو الذي دفع بالكثيرين إلى اعتبار صعودها الكبير إبان الربيع العربي أنّه ما كان ليتم لولا الدعم الأمريكي.
الباحث الفرنسي أوليفيه روا olivier Roy صاحب كتاب l'echec de l'islam politique "فشل الإسلام السياسي"، وإن كان لا يزال متمسكاً برأيه بأنّ الإسلام السياسي قد انتهى كحل سياسي وإيديولوجي، إلا أنّه يقف مصدوماً أمام الوجود الصاخب للإسلاميين الذين اغتنموا فرصة الربيع العربي للقفز نحو السلطة، ويحصر الخيارات أمامهم في نموذجين: إمّا الحل التركي؛ أي القبول بالممارسة الديمقراطية في إطار نظام علماني، وبالتالي الاندماج في النظام العالمي، أو الاتجاه نحو الخيار الآخر، وهو التوجه نحو تطبيق القواعد الدينية دون أي اعتبار لقواعد اللعبة السياسية، مما يعني التحول نحو السلفية؛ أي عدم القدرة على مواجهة تحديات إدارة الدولة المعاصرة.