الإصلاح الديني المسيحي في أوروبا وفخ نصوص العهد القديم
فئة : مقالات
الإصلاح الديني المسيحي في أوروبا
وفخ نصوص العهد القديم
مارتن لوثر (1483م / 1546م) راهب ألماني وقس وأستاذ لاهوت، وهو مُطلق عصر الإصلاح الديني المسيحي في أوروبا، من أبرز مقومات فكر لوثر اللاهوتية أنّ الحصول على الخلاص أو غفران الخطايا هو هبة مجانيّة ونعمة من الله من خلال الإيمان بيسوع المسيح مخلصًا. ومن أبرز القضايا المنهجية التي بنى عليها لوتر موضوع الإصلاح الديني، هو العودة إلى نصوص العهد القديم، والسؤال هنا: هل لوتر على وعي بأن نصوص العهد القديم، متمركزة حول ذاتية الشعب اليهودي، الذي يرى أن إرث أنبياء بني إسرائيل إرث لليهود فقط دون غيرهم؛ فالإله إلههم ومتحيز إليهم دون غيرهم من الناس، فهم شعبه المختار؟
جاء في سفر التثنية من العهد القديم (2: 14) «لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ.» السؤال هنا إذا كان الإصلاح الديني في أوروبا، ينبني في جزء منه على العودة إلى نصوص العهد القديم، فهل فكرة الإصلاح ستكون مع هذا النص وغيره من النصوص المتمركزة حول الذات اليهودية وتاريخها وحروبها، ووعدها بالأرض التي وعدها الله إياها لنبي الله إبراهيم ونسله المتمثل في اليهود من بني إسرائيل من بعده، وهي أرض كنعان.
جاء في سفر التكوين: "7. وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا، لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك 8. وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا. وأكون إلههم".[1] السؤال هنا، هل مارتن لوتر بكونه مطلق الإصلاح، متمسك بهذا التصور، أم يرى أنه في حاجة إلى مراجعة وإصلاح؟ فتمسك الإصلاح الديني المسيحي بنصوص العهد القديم، يفهم منه أن الإصلاح الديني في أوروبا في بعض من وجوهه هو عودة إلى الوراء، بتبني تصورات خاطئة عن العهد والميثاق والفطرة في تصور الخير والإله.
تصورات مارتن لوثر التي بناها على قراءته الحرفية لنصوص العهد القديم، جعلت مواقفه مضطربة حول اليهود واليهودية، وهي تميل بشكل كبير لتبني مختلف نصوص العهد القديم، وهذا يعني أن موضوع الإصلاح الديني المسيحي في أوروبا قد دخل تحت عباءة العهد القديم وتصورات فئة من اليهود له، بشكل مباشر أو غير مباشر؛ فالمسيحية قد خرجت من انحراف المؤسسة الدينية في أوروبا، إلى درجة بيع صكوك الغفران، ودخلت تحت عباءة انحراف آخر، وهو انحراف نصوص العهد القديم.
لوتر الموقف المزدوج من اليهود
يمكن إجمال موقف لوتر وتصوره عن اليهود في قوله: "كنت قد قررت أن لا أكتب أكثر، لا عن اليهود، ولا ضد اليهود، لكن منذ أن علمت أن هؤلاء الناس الأشرار الملعونين لا يتوقفون عن الدعاية لأنفسهم ومحاولة كسبنا نحن المسيحيين أيضًا؛ فإنني نتيجة لذلك سمحت لنفسي بنشر هذا الكتيب للإعلام بأنني سأكون من الآن فصاعدًا بين أولئك الذين يقاومون مثل هذه النشاطات السامة لليهود، ولكي أنبِّه المسيحيين أن يكونوا على حذرهم منهم"[2] موقف لوتر هنا يرتبط بآخر حياته، وهو موقف لا يختلف عن موقف الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى، وإن كان موقفه من اليهود في شبابه يختلف عن الموقف التقليدي المسيحي حينها.
فبالعودة إلى كتاب لوتر بعنوان: "عيسى ولد يهوديا" سنة 1523م، نجد فيه مواقف تختلف عن الموقف التقليدي؛ فهو يرى أن اليهود هم أبناء الله، وأن المسيحيين هم الغرباء، ويعتبر الكثير من الكتاب والمؤرخين أن هذه الفترة تعد الولادة الحقيقية والفعلية للمسيحية اليهودية، رغم أن مارتن لوثر في آخر أيامه كتب الكتاب الذي نحن بصدده "اليهود وأكاذيبهم" وعبّر فيه عن خيبة أمله من اليهود، وأقر بالفشل في استقطابهم لعقيدته الجديدة، وهو يرى أن دخول اليهود في الدين المسيحي لن يتم إلا عبر عودتهم إلى القدس؛ فعودة المسيح هناك كفيلة بدخولهم في الدين المسيحي وهذا طموح مستقبلي قد يتحقق في نظر لوتر بطرد اليهود من العالم المسيحي[3]، قوله: "غريبة الغرائب أننا إلى اليوم لا نعلم السبب في حلول اليهود بيننا، وأي شيطان جلبهم إلينا. فنحن لم نأت بهم من بيت المقدس، وفوق كل ذلك لا أحد منا يأخذ بحُجُزاتهم اليوم ليقيموا عندنا وفي أرضنا، فالطرق السريعة مفتوحة لهم إلى أي مكان يريدون أن يرحلوا إليه، ويمكنهم الانتقال إلى بلدهم في أي وقت يشاؤون. وإذا هم اختاروا الرحيل عنا، فنحن مستعدون أن نقدم إليهم حسن المعونة، حتى نتخلص منهم. فهم عبء ثقيل علينا في وطننا، بل هم أشبه بالوباء والطاعون، وما رأينا منهم إلا النكبات!"[4] وبهذا يكون لوتر من جهة، يكره اليهود، ومن جهة ثانية يرى فيهم آمال المستقبل لظهور وعودة المسيح، فضلا عن أن هذا النص يعكس طبيعة واقع المركزية الغربية على المستوى السياسي في نظرتها لليهود ولإسرائيل في الشرق الأوسط.
أبرز أخطاء لوتر
أبرز الأخطاء التي وقع فيها لوتر في نظرته لليهود ومستقبلهم قوله، إن بيت المقدس بيت لليهود وقال بتهجيرهم إليه[5]، بالرغم من أنه يصفهم بأنهم لا صلة لهم بالله ولا بالتوراة ولا بفلسطين؛ وبهذا القول يكون لوثر فتح ثغرة في زمانه بدأت تتسع وتكبر من بعده؛ ففكرة تهجير اليهود هذه إلى القدس التقطتها الصهيونية في ما بعد، وبنت عليها تصورًا إيديولوجيا في قراءة نصوص الكتاب المقدس مثلا: القول بالأرض الموعودة بناء على ما جاء في سفر التكوين "وفي ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام عهدًا، وقال: "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات—أرض القينيين، القنزيين، القدمونيين والحثيين والفرزيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين"[6]، والذي يجعل من هذه القراءة أكثر حضورًا هو اعتقاد البروتستانت بأن عودة المسيح ترتبط وتتحقق بعودة اليهود إلى أرض الميعاد؛ أي القدس كما قال لوتر، فعندما يعود سيتكفل بإدخالهم في دين المسيحية، فمسيحية اليهود كانت حلم يحلم به لوتر في شبابه، وتبعا لهذا الترابط المصلحي، قد تشكل ما بعد لوتر عبر الزمن، نوع من الحلف والتقارب المصلحي في الاعتقاد بين تصورات المذهب البروتستانتي والكثير من طوائف الديانة اليهودية، والذي ساعد على انتشار هذا الطرح هي مقولة الإصلاح الديني التي تبناها وعمل من أجلها لوتر، وليس من العجيب أن نجد اليوم مقولة لوتر "المسيح ولد يهوديا" لها أثر كبير في التقريب بين المسيحيين البروتستانت واليهود في الغرب؛ لأنها مقولة تبعد النصوص التي تتهم اليهود بقتل المسيح، فاليهود أدركوا جيدًا قيمة الفكرة التي قال بها لوتر وأنها فتحت لهم آفاقا جديدة في نظرة المسيحيين لليهود وللديانة اليهودية خاصة البروتستانت منهم. ففي سياق التحالف بين اليهودية الصهيونية، وبين البروتستانت نفهم قول الرئيس الأمريكي مؤخرا "حتى ولم توجد إسرائيل لأوجدناها". أما الكتاب الذي نحن بصدده، فقد تم تجاهله "اليهود وأكاذيبهم".
والقارئ للأحداث والوقائع المتصلة باليهود واليهودية في أوروبا خاصة في القرن 19 والقرن 20، ستتضح له طبيعة استثمار ما هو ديني في سياق ما هو سياسي بالتعاطي مع مشكلة اليهود في أوروبا؛ فالقول بالأرض الموعودة كان حلًّا مثاليا للمسألة اليهودية في الغرب؛ وذلك بالتخلص الكامل من مواطنيه اليهود، والعمل على تهجيرهم إلى بيت المقدس. أما بلاد المشرق على طول التاريخ، فلم تعرف شيئا اسمه المسألة اليهودية[7]، ففي سياق الحضارة الإسلامية عاشت كل الأديان والطوائف بمن فيهم اليهود جنبا إلى جنب مع المسلمين؛ وهذا وضع وأمر بديهي ومعروف حتى في وقتنا الحاضر.
[1] سفر التكوين، 17: 6
[2] مارتن لوتر؛ اليهود وأكاذيبهم (-1546م) ترجمة محمود النجيري، مكتبة النافذة، مصر، الطبعة الأولى 2007م ص.51
[3] نفسه؛ ص.157
[4] نفسه؛ ص.113
[5] نفسه؛ ص.13
[6] 15: 18-21: سفر التكوين
[7] نفسه؛ ص.14