الإصلاح الديني في أوروبا هروب من انسداد إلى آخر
فئة : مقالات
الإصلاح الديني في أوروبا
هروب من انسداد إلى آخر
تحضر الفكرة الدينية بشكل محوري في مختلف الحضارات القديمة ما قبل الحضارة الغربية الحديثة، والحضور هنا نقصد به المرجعيات التي تؤطر تصورات الإنسان عن ذاته وعن العالم وعن المخلوقات التي تحيط به ومختلف الظواهر الطبيعية. ففي القدم سادت العقلية الإحيائية نتيجة عجز الإنسان على فهم ماهية الظواهر الطبيعية، وعبد الشمس والقمر شكرا لهما على إزاحة ظلمة الليل، وهناك من عبد مخلوقات أخرى، مثل الكبش والبقر ومخلوقات أخرى...ولكن استلاب الإنسان الذي وقع فيه بعبادته لما يرى فيه أحقية العبادة في الطبيعة، لا يتوقف عند الطبيعة ذاتها؛ بل يتطلع إلى قوى غيبية من ورائها؛ بمعنى أنه يشرك الطبيعة وظواهرها ومختلف الأسماء التي لا سلطان لها عليه؛ في عبادة الخالق إما بوعي أو بدونه.[1]
فبالنظر إلى علم الآثار، فالإنسان والدين يشكلان ثنائية لا يمكن أن تفترق، فلا الإنسان في لحظة ما من تاريخ البشرية استغنى عن الدين وعاش دونه؛ إذ أينما حل الإنسان إلا ورافقه شيء يسمى بالمعتقد، ولا الدين بتجلياته ارتبط بمخلوق آخر غير الإنسان. ولهذا، فالدين والإنسان يشكلان جدلا لا غنى لأحدهما عن الآخر. وعليه، فلا غرابة في القول إن الإنسان كائن ديني بامتياز. وقد سادت الكثير من الآراء التي أرجعت أمر نشأت الدين إلى عوامل نفسية وعقلية ارتبطت بضعف الإنسان القديم الشيد من مختلف الظواهر الطبيعية، الأمر الذي شكل لديه شعور بعبادتها وإرضائها حتى يتقي شرها.
إلا أن "الدين لا يقوم على أساس وهمي ولا على عدد من الأفكار الخاطئة التي تم تكوينها في طفولة الإنسانية، بل إنه يقوم على أكثر الأسس صلابة في وجود الإنسان. إنه الوعي الباطني بالحقيقة. وأن كل اعتقاد ديني، إنما يقوم على اختبار نفسي للوحدة الكلية للوجود في وعي بالغيب [...] إن الدين هو الحالة المثلى للتوازن مع الكون، والعبادة كيفما كانت صيغتها، وإلى من أو ماذا يكون توجهها، هي معبر إلى البقاء في الحقيقة، وحالة وجود في الواحد، حالة الوجود الحق"؛[2] إذ بإمكاننا التمييز بشكل مجمل بين اتجاهين من الدين؛ الديانة التوحيدية، والديانة الوثنية.
يتضمن القرآن خطاطة لقصص الأنبياء والأمم الغابرة، وقد نقل إلينا طبيعة الجدل القائم على مر التاريخ بين رسل الله وأنبيائه ودعوتهم إلى عبادة الواحد الخالق، وبين مختلف تصورات أقوامهم الوثنية التي تنبني على معتقدات وممارسات تتفق على عبادة الطبيعة؛ فمشكلة الكثير منهم لا تكمن في إنكار الخالق والإعراض عنه، بل في اتخاذ الوثنية طريق مثلى إليه. فدور الأنبياء والرسل بالتتابع يتجلى في تجديد العهد والمنهاج الذي يسلكه الناس في معرفة الخالق، فمع مرور الزمن ونتيجة ما يطرأ على الإنسان من وقائع وأحداث تتسع رقعة الوثنية وتختلط بالتوحيد، ليظهر رسول أو نبي أو مصلح يدعو الناس إلى طريق الهدى. وتبعا لهذا السياق، جاءت دعوة إبراهيم وموسى وعيسى. وقد قص علينا القرآن مشكلة بني إسرائيل من بعد موسى؛ فمجيئ عيسى كان بغاية الهداية وإصلاح ما أفسده بني اسرائيل.
تعتقد المسيحية بكون اليهود متورطين في قتل المسيح، وهذا سبب رئيس في كره اليهود ونبذهم من لدن المسيحية ورجال الكنيسة، مما كان سببا في مآسي إنسانية داخل أوروبا؛ فالتاريخ يحفظ لنا محنة اليهود إلى جانب محنة المسلمين زمن محاكم التفتيش في الجزيرة الإيبيرية وقد طردوا منها، وكانت وجهتهم دول شمال إفريقيا، بعد سقوط الاندلس 1492م؛ ولم يستثنهم قرار طرد أحفاد المسلمين الذين عملت إسبانيا على تنصيرهم 1609م، الشاهد عندنا هنا هو أن اليهود كانوا منبوذين في أوروبا قبل القرن 15م، والسؤال كيف تجاوزت أوروبا معضلة كراهية اليهود؟
من البديهي أن فكرة الإصلاح الديني في أوروبا لها دور كبير في هذا الأمر، بالنظر إلى مواقف مارتن لوتر (-1546م)؛ فالجديد الذي جاء به لوتر يرتبط بدعوته رجال الدين المسيحيين بأن يحسنوا التعامل مع اليهود، بهدف تقريبهم من الديانة المسيحية وتحبيبها إليهمن ولكن موقف لوتر هذا موقف مبني على مصلحة مفادها العمل على مسيحية اليهود، فضلا على كون القراءة المباشرة للكتاب بشقيه (العهد القديم والعهد الجيد) جعلت لوتر يتبنى مواقف مخالفة للكنيسة المسحية في نظرتها وتعاملها مع اليهود، وقد اعتبرت دعوته حينها انقلابا على مواقف الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تنظر إلى اليهود على أنهم حملة لدم المسيح عيسى بعدما صلبوه.[3] فبالعودة إلى كتاب لوتر بعنوان: "عيسى ولد يهوديا" سنة 1523م نجد فيه مواقف تختلف عن الموقف التقليدي، فهو يرى أن اليهود هم أبناء الله وإن المسيحيين هم الغرباء.
صحيح أن لوتر يعود له الفضل في زرع فكرة الإصلاح الديني في المسيحية الأوروبية، ولكن المشكلة هنا عند لوتر تكمن في عودته لتراث ديني في حاجة إلى إصلاح يرتبط بتراث العهد القديم، وهو إرث يعتريه النقص من كل جانب ولا يرقى ليكون كتابا مفتوح على الوجود والإنسان فحاله "حال مؤلف جماعي يلخص الأعمال والعادات، القواعد والأعراف، الأمثال والأشعار، القصص والمواعظ، أو بكلمة واحدة هي موسوعة محمولة، مكتبة في كتاب، تلبي حاجات مجموعة من قبائل الرحل. تتكلم عن رب خاص بها، ملك مملوك لها تصوره، وهو يخاطب شعبه الذي تعاقد معه بعهد لا يفتأ يذكّر به ويحذّر من مغبة تجاهله أو نقضه. فلا يزيد التذكير أتباعه ومواليه إلا تنطّعاً وعقوقاً".[4]
الرهان في فكرة الإصلاح على (العهد القديم) المؤلف الجماعي بتعبير عبد الله العروي ورط فكرة الإصلاح به كان سببا من بين الأسباب الأساسية في ولادة تكتل وتحالف عنصري بين المسيحية واليهودية، تحت عباءة المذهب البروتستانتي، رغم أن مارتن لوثر في آخر أيامه كتب كتاب "اليهود وأكاذيبهم" وعبر فيه عن خيبة أمله من اليهود وأقر بالفشل في استقطابهم لعقيدته الجديدة. ولكن ثقته بنصوص العهد القديم، جعلته يرى أن دخول اليهود في الدين المسيحي لن يتم إلا عبر عودتهم إلى القدس؛ فعودة المسيح هناك كفيلة بدخولهم في الدين المسيحي، وهذا طموح مستقبلي قد يتحقق في نظر لوتر بطرد اليهود من العالم المسيحي[5]، قوله: "غريبة الغرائب أننا إلى اليوم لا نعلم السبب في حلول اليهود بيننا، وأي شيطان جلبهم إلينا. فنحن لم نأت بهم من بيت المقدس، وفوق كل ذلك لا أحد منا يأخذ بحُجُزاتهم اليوم ليقيموا عندنا وفي أرضنا، فالطرق السريعة مفتوحة لهم إلى أي مكان يريدون أن يرحلوا إليه، ويمكنهم الانتقال إلى بلدهم في أي وقت يشاءون. وإذا هم اختاروا الرحيل عنا، فنحن مستعدون أن نقدم إليهم حسن المعونة، حتى نتخلص منهم. فهم عبء ثقيل علينا في وطننا، بل هم أشبه بالوباء والطاعون، وما رأينا منهم إلا النكبات!"[6] وبهذا يكون لوتر من جهة يكره اليهود ومن جهة ثانية يرى فيهم آمال المستقبل لظهور وعودة المسيح، وقد تقوت بذرة العنصرية المسيحية اليهودية تجاه الآخر، في المذهب البروتستانتي بعد لوثر، بفعل عوامل متعددة من بينها انخراط الكثير من اليهود في تعزيز فكرة الإصلاح الديني. ومع الأسف لم تبد البروتستانتية قطيعة قوية مع فكرة النظر إلى اليهود وهجرتهم إلى القدس كأمل كبير في ظهور المسيح في بيت المقدس.
لا نقصد هنا أن العنصرية المسيحية تجاه اليهود قد انتهت بعد أفكار لوثر، بل بقيت داخل أوروبا، وقد ظهرت مشكلة العنصر والعرق اليهودي عند اندلاع فكرة العرق والقومية داخل أوروبا في القرن التاسع عشر، وظهرت مشكلة اليهود في أوروبا وامتدت حتى القرن العشرين، ولا نظن أنها حلت بالكامل؛ ففي عام 1896م، نشر تيودور هرتزل (يهودي) نشر النص الأساسيّ للصهيونيّة السياسيّة بكتاب تحت عنوان "الدولة اليهودية" وقد أكَّد في هذا الكتاب أن الحل الوحيد للمسألة اليهوديّة في أوروبا، هو تأسيس دولة لليهود. وقد تعززت القناعات الدينية البروتستانتية وتحولت إلى واقع سياسي مع وعد بلفور 1917م. فمشكلة اليهود مشكلة أوروبية بالأساس تم تصديرها إلى خارج أوروبا، بعد اختزال الديانة اليهودية في الصهيونية المتحالفة مع الأصولية البروتستانتية، مع العلم أن اليهود في بدء الأمر كانوا ضد الصهيونية والوطن القومي.[7] في هذا السياق، نفهم مقولة الرئيس الأمريكي بايدن في 18 اكتوبر "إن لم تكن إسرائيل لأوجدناها"، وهي مقولة تعود في جذورها للعقيدة البروتستانتية في الغرب. أما اليهود والديانة اليهودية في الحضارة الإسلامية، فلم تعترضها مشكلة عبر التاريخ الإسلامي.
ففكرة الإصلاح الديني في أوروبا كرست فكرة الهروب من مشكلة واقعية حينها لليهود، إلى مشكلة أخرى تشكلت عبر الزمن مفادها طرد اليهود وتهجيرهم إلى بيت المقدس، وهي فكرة تعود إلى مارتن لوتر (-1546م) وتنسجم مع قرار تهجير حفدة المسلمين من إسبانيا 1609م، وهذا يعني أن فكرة الطرد فكرة حاضرة ومتداولة في السياق الأوروبي حينها، وهي الفكرة نفسها التي جسدها اليهود في بيت المقدس وما حوله، وكذلك هي نفس الفكرة التي أقبل عليها الغرب في تعامله مع السكان الأصليين للقارة الأمريكية.
ليس هناك فكرة واضحة عن اليوم الآخر ويوم البعث في العهد القديم، بقدر ما هناك حديث مستفيض عن علاقة الإله وتحيزه لشعبه من بني إسرائيل، وحديث عن تاريخ وملاحم هذا الشعب وأنبيائه؛ فمجمل مدارات الخطاب في العهد القديم لا تفضي إلى الإيمان بعالم آخر، وقد توقف القرآن الكريم عند هذا الموضوع في حوار مع الكتاب المقدس في مواطن عديدة؛ وأنكر على اليهود عملية إخفاء وتغييب الحديث عن ما بعد هذا العالم، الشاهد عندنا هنا أن العهد القديم يحمل بين طياته بذور الإيمان بعالم واحد، وهو العالم الذي نحن فيه دون غيره من العوالم، وهي فكرة تجسدت مع الفكر المادي وفق الأيدلوجية الماركسية.
[1] قوله تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)" (الزمر) صحيح بكون هذه الآية تنقل لنا وضع المشركين من العرب، فهم لا ينكرون الخالق بقدر ما يتقربون إليه من خلال ما يشكونه في عبادته.
[2] فراس السواح، دين الإنسان، بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، الطبعة الرابعة 2002 دار علاء الدين للنشر والتوزيع.ص.391
[3] القرآن له موقف آخر مفاده قوله تعالى: "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)" (النساء)
[4] العروي عبد الله، السنة والإصلاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط I، 2008م، ص. 79
[5] مارتن لوتر؛ اليهود وأكاذيبهم (-1546م) ترجمة محمود النجيري، مكتبة النافذة، مصر، الطبعة الأولى 2007م ص.157
[6] نفسه؛ ص.113
[7] آلان دييكوف، الصهيونية المادية لم تجذب اليهود المتدينين في البداية، ترجمة، عز الدين عناية/ نقلا عن موقع: https://alwatannews.net/ampArticle/494731