الإصلاح الشبكي بما هو إعادة تعريف العمل والموارد والعلاقة بين السوق والمجتمع
فئة : مقالات
تبدو التحولات الكبرى المصاحبة للشبكية مثل الأعمال والموارد والقيم منشئة للفوضى وضياع الأعمال وزيادة الفحوة بين الأمم والدول، وبين الفقراء والأغنياء في الدولة الواحدة، وتأتي بأغنياء جدد وفقراء جدد أيضاً، ولا تبدو الوعود المنطقية في الرخاء والازدهار الناشئين عن "الرقمنة/ الحوسبة" تلقائيةً، بل هي محاطة بالشكوك والمخاوف. لكن من المؤكد أنها مليئة بالفرص والأعمال الجديدة، كما أنها تقتضي بطبيعة الحال استجابات وتشكلات اجتماعية ثقافية جديدة، وربما تكون هذه العبارة هي مفتاح السؤال والتفكير في الإصلاح الشبكي القادم.
تركز هذه المقالة على ثلاث استجابات متوقعة أو مقترحة في المجتمعات الشبكية، وهي إعادة تنظيم العلاقة بين السوق والمجتمع في اتجاه الاقتصاد الاجتماعي الذي يعكس زيادة استقلال المدن والمجتمعات وقدرتها على المشاركة والتأثير، وإعادة تعريف الأعمال والموارد بالنظر إليها مستمدة من المعرفة والمهارات المتشكلة حول احتياجات وأولويات جديدة واختفاء موارد وأعمال مستمدة من أسواق واحتياجات انحسرت، والأخذ بالاعتبار صعود الفرد والفردية، وبالنظر إلى أن العلاقة وقيم العمل والموارد القائمة اليوم نشأت مصاحبة للثورة الصناعية، ولم تكن قبل ذلك على هذا النحو الذي نعرفه، فمن المؤكد أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية الناشئة عن الحوسبة والتشبيك ومتوالياتهما في التكنولوجيا والأعمال تغير في هذه العلاقات والقيم.
وعلى الرغم من كثرة (وتكرار) الحديث والكتابة والدراسات والتحليلات في هذا الشأن، ما زالت الأفكار الناشئة عن التحولات، ومحاولة فهمها، غامضة جدلية، وأسوأ من ذلك أنها لم تنشئ في عالم العرب جدلاً إيجابياً وكافياً للاهتمام، والاستجابة للتحديات والفرص الناشئة، .. ليس سوى الاحتجاج والتذمر، وكأن الحوسبة والعولمة يمكن التصدّي لهما، أو منعهما، بدلاً من توظيفهما واستثمارهما، .. وفي ذلك، تتضاعف الخسائر، ويزيد هدر الوقت والجهد.
لقد حلت الرأسمالية مصاحبة للصناعة من غير استئذان ولا توقع، وأصبح المجتمع الإنساني ملحقا بالنظام الاقتصادي الجديد القائم على السوق ذاتي التنظيم، لكن يمكن أيضا ملاحظة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والانهيارات والمراجعات التي تلحق اليوم بالنظام الاقتصادي والاجتماعي، لم تعد فكرة تنظيم السوق بذاتها تصلح، ويصعد رأس المال الاجتماعي، كما تصعد الفردانية، وتيارات وأفكار سياسية وفلسفية ودينية تغير كثيرا في بنية الدول والمجتمعات والأسواق. ويمكن الملاحظة أيضا، كيف حلت الحوسبة من دون إعلان ومن دون توقع كاف أيضاً، ولم تفهم بعد التأثيرات والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية للتكنولوجيا الرقمية على نحو كاف لفهم التحديات والاستجابة.
في المرحلة الصناعية، امتدت آلية السوق إلى عناصر الإنتاج؛ اليد العاملة والأرض والمال، وكانت النتيجة الحتمية لدخول نظام المصنع في المجتمع التجاري أن تكون عناصر الإنتاج معروضةً للبيع، وبما أن أصحاب الأيدي العاملة ليسوا أرباب عمل، بل هم مستخدمون، فيتبع ذلك أن تنظيم اليد العاملة هو تعبير آخر عن أشكال حياة العامة من الناس، فهذا يعني أن تطور نظام السوق يصحبه تغيّر في تنظيم المجتمع نفسه، فأصبح المجتمع الإنساني ملحقاً بالنظام الاقتصادي.
السؤال نفسه الذي نسأله اليوم عن التحولات والاستجابات لعصر الشبكية شغل المفكرين في القرن الثامن عشر، عندما بدأت الآلة تأخذ مكانها في العمل والإنتاج والسوق، ومن الملفت أن جون لوك لاحظ في منتصف القرن السابع عشر في كتابه "الحكم المدني" أن المطبعة غيرت علاقة الإنسان بالدين والمؤسسة الدينية.
تتشكل تقنيات المعرفة حول تزويد الحاسوب بالمهارات الإنسانية، وبذلك، فإن التقدم التقني، متبوعاً بالاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة، يمكن فهمه وتقدير مساراته ومستقبلاته، اعتماداً على التقدّم العلمي في معرفة الإنسان، ثم حوسبة هذه المعرفة، .. وكل ما لدينا اليوم من تقدم يقوم على الحوسبة القائمة، أو التي أُنجزت، وما لدينا من وعود وتوقعات للمستقبل، تقوم على وعود الحوسبة، .. هكذا تطورت الأعمال والمؤسسات، بناء على برامج المحاسبة والتصميم والتحكم والمحاكاة... ماذا يمكن أن يحدث، إذا أمكن حوسبة مهارات الإنسان في الإدراك والتداعيات، على سبيل المثال؟
في الحوسبة "الإدراكية"، إن صحت العبارة، يمكن بناء متوالية غير منتهية من التوقعات، عندما يتقدم الحاسوب، نحو مزيد من الأعمال، فيحل محل الإنسان في التفكير وتنظيم الأفكار، فهذا الجهاز/ الكائن، القادر على تخزين واسترجاع قدر هائل وغير محدود من المعلومات، سوف يكون في مقدوره معالجتها معالجة متقدمة، وإنتاج معرفة إضافية، .. سوف يكون منتجاً للمعرفة، وليس مجرد قاعدة معلومات.
وبدأت عمليات التقييم الآلي للبيانات المتاحة في قواعد البيانات، وتفسيرها وتقديم استنتاجات منطقية واقتراحات ذكية حولها.. ثم يعلم الحاسوب نفسه، وفقاً لهذه المعالجات والتقنيات، ويكتسب مزيداً من المهارات والقدرات المعرفية الجديدة، ويمكن، أيضاً، أن يعلم المستخدم (البشري)، ويعدل في سلوكه ومهاراته. وفي هذا التفاعل، أو العلاقة الجديدة بين الحاسوب والإنسان، يمكن تصور تداعيات بلا حدود. وبالطبع، بدأت تطبيقات في هذا المجال منذ زمن، في اتخاذ القرارات والبيع والشراء والمقايضة وفي مراقبة السلوك والقرار الإنساني نفسه، بل والسلطة عليه، وفي اتجاه العلاج النفسي إلى تغيير السلوك، يمكن للحاسوب أن يكون فاعلاً في تنظيم المحفزات العصبية والكيميائية ومعالجتها في اتجاه السلوك المرغوب أو المطلوب. وحتى في العلاج النفسي التقليدي، يمكن للحاسوب أن يستمع إلى المستخدم/ المريض ويقدم تحليلاً وتفسيراً معمقاً واستشارات واقتراحات طبية ذكية، لا تقل إن لم تتفوق على ما يمكن أن يقدمه الطبيب.
وتوجد اليوم بالفعل منصات على الإنترنت، تقدم خدمات علاجية نفسية، أو لقاءات ومشورات دينية (الاعتراف والنصيحة)، ويقدم البرنامج تحليلاً للشخصية من شبكة واسعة من المدخلات والبيانات المتاحة، أو التي يحصل عليها، ثم استخدامها في العلاج، ويمكن، أيضاً، أن يقدم الحاسوب إنذارات مبكرة حول الاكتئاب والانتحار واحتمالات الجريمة، أو التعرض لنوبات وإصابات صحية خطيرة. وتقدم، اليوم، شركات في تكنولوجيا الحوسبة الإدراكية خدمات لمنع تسرب المعلومات، أو مراقبتها، من خلال تنظيم قواعد الاتصالات وضبطها، ويمكن أن تقدم معلومات وإنذارات ذكية، بتحليل البيانات في عمليات استخدام الحاسوب والشبكة والبريد الإلكتروني والاتصالات الهاتفية، وملاحظة الاستخدامات المختلفة والشاذة.
وهناك تطبيقات بدأت منذ فترة طويلة (نسبياً) في مساعدة المرضى، وربطهم بالأطباء، على مدى الزمان والمكان الذي ينشط ويعيش فيه الأطباء والمرضى، ويمكن إجراء التدخلات الضرورية للمساعدة والإسعاف، وتلقي المشورة والتعليمات الطبية، .. تقوم بذلك، اليوم، أجهزة صغيرة مرافقة للإنسان في جسمه أو ملابسه. وفي نمو المعلومات والمعارف الطبية وتراكمها، فإن الحواسيب بما تزوّدت به من قدرات معرفية وتعلمية وتعليمية، فإنها تكون قادرة على أداء أعمال واستشارات وتدخلات طبية وعلاجية، لكن الأنظمة الحاسوبية الإدراكية يمكن أن تتقدم في اتجاه تصميم أجهزة الرعاية الصحية وتصنيعها، بل وأن تبتكر في ذلك.
ويمكن أن نواصل، لو تسمح المساحة المتاحة في استقصاء هذا السيناريو الواقعي والمنطقي لوعود الحاسوب في التجارة والطاقة والنقل والإعلام والترجمة والتعليم والبناء والصيانة والتسويق، والمشاركة الواسعة على مستوى العالم، في التأثير والتجارة والعمل.
ثم، وفي اتجاه آخر من التفكير، نتساءل عن مصير الأعمال والمهن والمؤسسات والأدوات في ظل القدرات الجديدة للحاسوب، ويمكن، ببساطة، أن نضع أربع قوائم: المنقرضة والمتغيرة والصاعدة التي تزيد أهميتها، وأخرى جديدة ليست موجودة اليوم، أو هي في بداياتها، وكما اختفت مهن في المرحلة الصناعية؛ ستختفي أو تتغير مهن وأعمال ومؤسسات قائمة.
في صعود الفردية والفرص والإمكانات التي أتيحت للفرد، يمكن التوقع صعود وزيادة أهمية الأعمال التي يمكن أن يؤديها الإنسان بنفسه، ولنفسه، في الزراعة والصيانة والبناء والغذاء واللباس والدواء، ويمكن توقع تحولات جوهرية في أعمال ومهن ومؤسسات، إن لم تنحسر، أو لم تكن، في تغيرها، وكأنها اختفت، مثل الصحافة والتعليم والطب والصيدلة والصيانة والمحاماة، وكذا المدارس والمستشفيات والمجمعات التجارية والمباني والشوارع والبيوت، .. وبطبيعة الحال، يمكن التقدير أنه سوف تقود المؤسسات والمجتمعات والأسواق الأعمال والعقول الإبداعية والمهارات والمواهب المتقدمة. وسوف تقوم الموارد والفرص على الخيال والإبداع. وفي ذلك، سوف تصعد تخصصات وحقول، مثل الشعر والفلسفة وعلم النفس وعلم الحياة والموسيقى والفنون والعمارة والتصميم، ...
تبدو "الروبتة"، بما هي مشاركة الروبوت في الحياة، والعمل في تحولاتها وتأثيراتها الاجتماعية، صعوداً للفرد، على الرغم من صحة ما يقال، من منظور آخر، إنها تهديد للفرد في العمل والفرص. ولكن، ما من شك في أن الفرد يصعد اليوم مستقلاً عن الدولة والمجتمع والشركات، بل متحدياً لها، كما لو أنه الإنسان "السوبر" الذي بشر به نيتشه، أو ببساطة أجمل وأوضح، "الإنسان الذي يعمل بنفسه ولنفسه، ويعلم نفسه بنفسه، ويداوي نفسه بنفسه". وقد تبدو طرافة مؤلمة أن الإرهاب نفسه يتطور إلى حالة فردية، ولم يعد فقط جماعات منظمة، وهي الظاهرة التي تسمى، اليوم، في دوائر الإعلام والدراسات "الذئب المتوحد"، وقد تكون مثالاً على صعود الفرد والفردية، والحال أن الإرهاب كان دائماً أكثر التقاطاً وإدراكاً لفرص التقنية وتحولاتها؛ فالجماعات الإرهابية من أكثر، إن لم تكن أكثر، القطاعات توظيفاً للحوسبة والإنترنت والتقنيات الحديثة الفائقة.
يكاد الروبوت، اليوم، يحل مكان مهن وأشخاص كثيرين، إن لم يكن يشارك فيها بنسبة كبيرة غالبة، ويمثل تهديداً للأطباء والمحامين والمعلمين والصحفيين والمصممين والمبرمجين والطيارين والباحثين والمترجمين والممثلين والمخرجين، إضافة إلى الأعمال الأقل مهارة في الأمن والحراسة والمراقبة والتسلية والمجالسة والمساعدة في العمل المنزلي. ويمكن أن نمعن في التغير والتقدير في مصير وتحولات الجيوش والأجهزة الأمنية الاستخبارية والحروب والصراعات والسينما والنقل وقيادة المركبات والطائرات والقطارات.
لكن الإنسان ينشئ بذلك اليوم موارد وأعمالاً وفرصاً جديدة، ويحسن حياته، ثم يستقل بنفسه، ليجعل من بيته وذاته مجالاً للعمل والتواصل والتأثير والتعلم والمشاركة، وكما كانت التقنية غالباً تعمل لصالح الإنسان، فإن "الروبتة" وبطبيعة الحال "الفردية" ليست بالضرورة أمراً سيئاً، بل تبدو أمراً مفضلاً وملائماً أكثر للطبيعة الإنسانية ونزعة التفرد والخصوصية، .. لقد كانت الفردية تبدو ضريبة مؤلمة لعصر الصناعة، لكنها تبدو اليوم مطلباً وفضيلة لعصر المعرفة.
يمكن التقدير أن البشرية تدخل في مرحلة من القدرات الجديدة ترقى بالإنسان وتطيل عمره وتحسن أداءه وصحته وعمله، ويمكن على هذا الأساس النظر في التحدي القائم اليوم في صعود الإرهاب الفردي، والذي ينشئ مخاطر وأفكاراً وربما قوانين وأنظمة جديدة، فقد كان الصراع تاريخياً بين الدول، وكان ينظمه القانون الدولي والمصالح والعلاقات الدولية وموازين القوة والصراع بين الدول، لكنه تحول إلى صراع مع جماعاتٍ لا تنطبق عليها قوانين الدول ومؤسساتها وجيوشها. اختفت الحروب بين الدول، ولكن الصراع، وخصوصاً في الشرق الأوسط زاد حدة وخطورة. وها نحن ندخل اليوم في صراع جديد بين الدول والأفراد؛ كأن الفرد يتحول إلى كيان مستقل يشبه الدولة أو الجماعة، ولم يعد ثمة مجال سوى بناء تفاهمات وتوازنات جديدة بين الدولة والأفراد، وبين المجتمع والأفراد، وبين الشركات والأفراد، وبين الأفراد بعضهم بعضا. وعلى نحو عملي واضح، فإن المواطنة تمضي نحو تعريف جديد، يغير جوهرياً في دور السلطة وعلاقتها بمواطنيها، ويمنح للجغرافيا معنى جديداً.
وفي التفكير للإصلاح في ظل هذه المعطيات والفرص وبالنظر إليه (الإصلاح) صراع سلمي أو تسويات بين القوى والأطراف والطبقات المؤثرة في الحياة والموارد، يكون السؤال ببداهة ما الذي يجب فعله وما الذي يجب تركه؟
إن التحول الأساسي الذي يجب الوصول إليه في هذا الصراع هو التأكيد على قاعدة عدم الاستبعاد والإقصاء وحاجة جميع الأطراف إلى بعضها بعضا، وفي ذلك يجب أن تتخلى النخب المهيمنة عن سياسات الاحتكار والامتيازات والتهميش، وأن تسعى في المقابل إلى تسويات وشراكات جديدة مع المجتمعات. كيف تدير المجتمعات صراعها مع النخب السائدة اليوم، وتنتزع منها تنازلات ومكاسب؟ يمكن الملاحظة على سبيل المثال كيف تحول التدوين والتواصل الشبكي إلى أداة مؤثرة بيد الأفراد والمجتمعات، ويمكن أيضا الملاحظة كيف تظهر النخب المهيمنة نفسها حريصة على الدين والقيم لأجل التضييق على فرص التشبيك، ولتحييدها أو تقليل أثرها في الصراع.
الفرص والموارد الأساسية المتاحة في الشبكة اليوم هي بناء المعرفة والمهارات وكسر احتكارها وتقليل كلفة الحصول عليها، وفي ذلك يجب أن ينشغل الإصلاح بتحويل الشبكة إلى مورد معرفي وتعليمي أكثر من الانسياق في غواية التأثير والجدل السياسي والثقافي، على أهمية وضرورة الجدل في التأثير المتبادل.
وفي ذلك، فإن العمل الإصلاحي يفترض أن ينشئ ويطور رؤية عقلانية في المسؤولية وحدودها، لتنتقل الأفكار من حالة الفوضى إلى التأثير بالفعل في السياسة والفكر والمجتمعات. وفي المحصلة، دفع النخب على القبول بحرية الرأي والتعبير والمشاركة، .. السؤال بالنسبة إلى الإصلاحيين هو كيف نحمي الحقوق العامة، ولا نلحق الضرر بأنفسنا.. وكيف نحافظ أيضا على فرص الشبكية في العمل والتعبير والتعلم والتواصل الجيد؟ ثمّة خشية حقيقية أن نضيّع فوائد الشبكة وفرصها، ومؤكد بالطبع أن فئة في الدول والمجتمعات تتربص بها، وتتمنى احتكارها.
صحيح أن الشبكة خرجت عن السيطرة.. ولكن نحتاج إلى وقت، حتى نستوعب الشبكية القائمة، ونجعلها تعمل ذاتياً في اتجاه إيجابي.. وأن نصبر على عجرفة النخب وتسلطها، ولكننا ندفعها ايضا على أن تنسجم وتكيف نفسها مع الاتجاهات الجديدة في الأجيال، وقبول نزعتها إلى الحرية والكرامة، وأن تدرك عمق التحولات الجارية في الأفكار والموارد.
الأوليغاركيا محقة من وجهة نظرها في مخاوفها، وسوف تتضرّر بالتأكيد، لكنها أقدر على التكيف وإعادة تنظيم نفسها، ويمكنها أن تكون الرابح الرئيس، .. وبعض الأوليغاركيين سوف يخرجون من اللعبة؛ فليس كل ملّاكي الأراضي والمواشي تحولوا إلى رجال أعمال، وليس كل المرابين تحولوا إلى مصرفيين، وليس كل التجار التقليديين استوعبوا سوق المعلوماتية والحوسبة، وليس كل المخاتير صاروا نواباً وأعياناً.. ولكنْ، هناك مسألتان على الأقل بجب أن تدركها المجتمعات والنخب؛ الأولى، لا مناص من تغيير قواعد الصراع والتنافس، لأن اللعبة نفسها تغيرت. وفي ذلك، فإن المجتمعات في حاجة للنضال من أجل التنافس العادل، وأن تتنازل النخب المهيمنة عن امتيازات كثيرة غير عادلة، إن لم تكن جميعها، وأن تدخل في اللعبة، بما اكتسبته من مكاسب وفرص مقبولة في اللعبة العادلة (نسبياً) والثانية، إعادة تحديد وتعريف الموارد والفرص التي يجري التنافس والصراع حولها. تدرك الأوليغاركيا، بالطبع، أكثر من المجتمعات والجماهير، أبعاد اللحظة وفرصها، ولا بأس في ذلك. هي تملك القدرة على المبادرة والسبق. ولكن، يجب ألا تواصل الاحتكار والإغلاق القاسي والظالم للفرص والموارد الجديدة، وعلى المجتمعات والجماهير أيضا أن تدرك اللحظة، وتسأل نفسها بعقلانية وهدوء، ما الذي تريده وما الذي لا تريده، وماذا يمكنها أن تحقق وماذا لا يمكنها.