الإصلاح بما هو استيعاب التحديات المصاحبة لعصر الشبكية (المعرفة)
فئة : مقالات
تسود في عالم العرب صراعات أهلية منفصلة عن التحديات القائمة الناشئة عن التحولات الكبرى في الموارد والتقنيات، وسيكون الإصلاح بطبيعة الحال هو الخروج من صراعات لم تعد متصلة بحياة الناس وأعمالهم ومصائرهم لأجل الاهتمام ببناء استجابة ملائمة للتحولات التي تجري وتغير كثيرا في الوعي والأفكار والموارد والأعمال والعلاقات والمؤسسة الناظمة للحياة العامة والخدمات.
يبدو المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم حتى عام 1990 (تقريبا) سلسلة من الاستجابات والتحولات الناشئة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكما يقول إريك هوبز باوم، بدأ القرن العشرين في عام 1914 وانتهى في عام 1990، ورغم أن عالما جديدا بدأ بالتشكل، فما زلنا في عالم العرب نخوض تداعيات الحرب العالمية الثانية وكأنها لم تتوقف بعد. الخرائط السياسية وحدود الدول، والدول الجديدة الناشئة والمستقلة، وتلك الآفلة، والتقنيات الحديثة التي أنشأت منظومة الأسواق والموارد والأسواق والموارد، والوعي والأفكار ..
إن قصة التقدم الإنساني هي التفاعل مع التقنيات والموارد والأحداث، وفي المقابل، فإن الفشل هو العجز عن الاستجابة الصحيحة والإيجابية، وفي ذلك، يمكن أن نفكر في الإصلاح، بما هو القدرة على توظيف الفرص القائمة اليوم، في الأسواق والموارد، أو نتساءل ببساطة؛ ما الذي أنشأته الأسواق والأعمال والتقنيات من إصلاح وتقدم في حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هل تعود بالفائدة على جميع المواطنين، وبقدر من العدالة والمساواة نرضى عنه، وبالطبع، فإن اللامساواة حقيقة أساسية، وهي جوهر التنافس، لكن ما نحتاج إليه هو التنافس العادل على اللامساواة، ويمكن أيضاً تقليل فجوة اللامساواة، وتحقيق قدر معقول من عدالة التوزيع والإنفاق والعدالة الاجتماعية، وببساطة، هذا هو التقدم.
يمكن النظر إلى مسار التكنولوجيا بأنه مسار التاريخ الإنساني بعامة؛ فالبشر، منذ وجدوا، وهم يحاولون أن يطوروا معرفتهم في استخدام الموارد المحيطة بهم، استخداماً فاعلاً، وقد بدأ الإنسان باتخاذ الحجارة أدوات، ونُحتت، بذكاء وبراعة، لزيادة كفاءتها، واستخدمت النار للبقاء والطهو والإنتاج، ثم أنشأ البشر نُظُماً معقدة، لاستخدام الماء في الري، ثم استخدام الماء في توليد الكهرباء، وبتطور تكنولوجيا الاتصالات، صار الناس أكثر تواصلاً بعضهم ببعض، وأسهمت تقنيات الطب والزراعة في إطالة المعدل العام للأعمار ومعالجة الأمراض، واستخدمت التقنية لأجل سعادة الإنسان، .. كذلك لقهر الشعوب الأخرى، واحتلال أراضيها، وفي تدمير البيئة وتلوثها.
تاريخ التقنية هو تاريخ الإنسانية الحقيقي، إذ يعرض كيف تشكلت المجتمعات حول الموارد والتقنيات، وكيف طورت أدواتها ومؤسساتها مع تطور التقنية، ويمنح الدارسين فهماً أعمق وأشمل للتاريخ، بدلاً من دراسة تاريخ بلد أو منطقة بالتحديد، واليوم، في مرحلة العولمة، يبدو النظر إلى تاريخ العالم، باعتباره وحدة واحدة ضرورياً ومتطابقاً مع طبيعة العولمة نفسها، ويشكل استجابة منطقية، تؤثر في الدراسات والمناهج، وفي وعي الإنسان ذاته وعالمه المحيط.
كان السؤال المحرك للألمان كيف نمنع تكرار ما حدث؟ كيف نضمن ألا يظهر هتلر جديد مرة أخرى؟ وبالنسبة إلى الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أسست الحرب العالمية الثانية لعمليات بحوث وتجارب كثيرة جداً. يقول دانيال ار هيدريك، في كتابه "تاريخ التكنولوجيا": حصلنا، بفضل الحرب، على سلسلة من المنجزات التقنية المدهشة، مثل الرادار لتقصي الطائرات، والطائرات النفاثة، والكمبيوتر، والصواريخ، والمضادات الحيوية، والمركبات الفضائية، والترانزستور، والتقنيات الزراعية والحيوية والإنترنت والتلفزيون والكمبيوتر الشخصي والمحاصيل المعدلة جينياً، وفي المقابل، وعلى غرار التقنيات الأخرى التي أدخلت منذ الثورة الصناعية، تستهلك تلك التقنيات كثيراً من الطاقة والمواد الخام والأرض، وتلوث البيئة وتدمرها وتستنزفها، وتلحق الضرر بالعالم الطبيعي، ولم تعد التكنولوجيا وسيلة للبقاء في وجه طبيعة مادية، بل صارت رحلة سعيدة على حساب الطبيعة، إلى متى تستطيع هذه الرحلة السعيدة أن تدوم؟ يتساءل هيدريك، ويقول إنه سؤال لن يجيب عنه سوى الجيل المقبل.
وفي جميع الأحوال، وكما أنشأ الألمان تقدمهم حول سؤال الدروس والعبر من الحرب العالمية الثانية، فإننا، في أزمتنا العربية، وكل ما ينشأ عنها من تحديات تهدد وجودنا ومصائرنا، في حاجة إلى سؤال دائم، يطرحه العرب على أنفسهم فرادى وجماعات ودولاً، كيف نوقف هذا الهدر والنزف والتدمير؟ كيف نغادر الصراعات التاريخية، ونواجه التحديات المعاصرة والمستقبلية؟
صعود المدن والمجتمعات المستقلة
إلى أي مدى يمكن أن تنشأ حول الإنترنت، ومن خلالها، أسواق وفرص جديدة للموارد، تساعد الأفراد والمدن والمجتمعات على تشكّل جديد مستقل بها حول هذه المصالح والأسواق الجديدة؟ لقد بدا واضحاً وممكناً أن تنشئ المدن والتجمعات والمصالح والاتجاهات الإصلاحية إعلاماً مستقلاً بها، يخدم أهدافها ومصالحها وبرامجها، وأن تؤثر على السلطة والأسواق باتجاه هذه الأهداف والمصالح، وأن تحصل على المعلومات والمعرفة التي تطور بها أعمالها ومصالحها. ولكن، ما الفرص والمجالات الممكنة لموارد جديدة مستقلة، تستعين بها الاتجاهات الاجتماعية القائمة على استقلال المدن والمجتمعات؟ وهناك، أيضاً، سؤال تلقائي وبدهي، كيف ستكون طبيعة وملامح هذه المدن والمجتمعات القائمة حول العالمية المتاحة تقنياً؟ وما الفلسفة والمبادئ والقيم الاجتماعية والثقافية الجديدة لهذه المدن والمجتمعات؟
تبدو واضحة الفرص التي تحققت لشركات عالمية، في بناء أسواق عملاقة لمنتجاتها وسلعها الجديدة، مثل غوغل وفيسبوك وميكروسوفت وآبل وأمازون، ... وكيف استطاعت هذه الشركات أن تبيع برامج وتطبيقات ومواد وخدمات وإعلانات تجارية ومساحات افتراضية للأعمال والإعلام، وتجني من ذلك ثروات هائلة. ولكن، ما يحتاج إلى توضيح وتفكير وعمل جديد هو فرص الأفراد والمؤسسات والمدن والمجتمعات لبناء مواردها وأسواقها ومصالحها كما فعلت هذه الشركات، وهنا، بطبيعة الحال، سيكون واحداً من الاتجاهات والأعمال والجهود الإصلاحية التي يجب بذلها للمساعدة في بناء هذه الموارد وتشكيلها، ففي ذلك ينشأ الأساس المادي للإصلاح، فعندما تملك المجتمعات مواردها، تستطيع أن تؤثر أو تتقدم باتجاه أهدافها ومصالحها!
الفرصة الأولى والمهمة التي يمكن، ويجب، توظيفها والتقاطها هي بناء المعرفة والمهارات والتدريب، والوصول إلى مصادر مهمة ومتقدمة في ذلك، مثل الجامعات ومراكز الدراسات والتدريب والشبكات والمواقع المتخصصة في تقديم خدمات ومعرفة مهمة وضرورية مجاناً، أو بتكلفة معقولة، ويكون دور الاتجاهات والمجموعات الإصلاحية هو التعريف والتدريب للأفراد والمجتمعات، للوصول إلى هذه المصادر، وتسهيل عمليات التواصل، بالتعريف بها.
سوف يتمكن المواطنون بذلك من تحسين قدراتهم ومهاراتهم في العمل والمهن والقدرة على المنافسة على الفرص القيادية والمواقع المتقدمة في الأعمال والمؤسسات، ويكسرون احتكار النخب لهذه الفرص، ويجسّرون الفجوة المعرفية والاجتماعية، ويؤثرون على تشكيل النخب القيادية والمؤثرة في الأسواق والمؤسسات، ويحيّدون، بنسبة معقولة، إن لم تكن حاسمة، عامل الثروة المالية والنفوذ والانحياز المتبع لدى النخب المهيمنة في تشكيل النخب.
وهنا، تتحقق، بطبيعة الحال، عدة إنجازات إصلاحية مؤثرة ومهمة، منها تدوير النخب بعدالة وكفاءة، إذ سوف يخرج من دوائرها العاجزون عن امتلاك المهارات والمؤهلات اللازمة لمواقعهم، وتدخل إليها عناصر جديدة ذات كفاءة عالية، وقادمة من أوساط اجتماعية ومهنية، تتطلع إلى المساواة وتحسين فرصها وكسر الاحتكارات والامتيازات التي تتمتع بها فئة من الناس على نحو غير عادل، وتكرس العدالة في التنافس، وتتشكل قوة اجتماعية تأثيرية ورقابية جديدة على الفرص والتنافس عليها، تمتد إلى قطاعات أوسع في الأعمال والمجتمعات.
وبالطبع، تؤدي زيادة المعرفة والكفاءة إلى زيادة الموارد، وهذه مسألة جوهرية في الإصلاح، أن تستطيع المجتمعات تحسين حياتها ومواردها بنفسها وتأثيرها، وتكسر إرادة الهيمنة والإفقار، وتنشأ في ذلك متوالية ازدهار وإصلاح جديدة، ففي الفائض الممكن في الموارد، سوف تبني المجتمعات مؤسسات وبرامج جديدة كانت محرمة عليها، على الرغم من أنها من حقوقها الأساسية، مثل تحسين التعليم والرعاية الاجتماعية والصحية والبرامج الثقافية والفنية التي ترتقي بالأفراد والمجتمعات، ثم تنشأ موارد وأعمال جديدة، أو تتطور وتتحسن الموارد والأعمال القائمة..
وسوف يكون بمقدور المجتمعات والتجمعات المهنية والإصلاحية بناء شبكات إعلامية وتواصلية لمراقبة الأسواق والمؤسسات العامة وقرارات وسياسات الحكومات والشركات المؤثرة على حياة الناس وفرصهم، مثل العطاءات والتوريدات والجودة والمواصفات والمقاييس وحماية المستهلك... وبذلك، تتحسن كفاءة الأسواق والسلع والخدمات، ويمكن مواجهة حلقة الاحتكار والامتيازات القائمة على إخفاء المعرفة والمعلومات، .. وبطبيعة الحال، سوف تتحسن كفاءة الأفراد والمجتمعات في معرفة وتقييم السلع والخدمات ومراقبتها، وتتحسن فرصها أيضاً في مراقبة وتطوير المشروعات والأعمال المتعلقة بحياتها اليومية والعامة، ويمكنها الحصول على مستوى أفضل من الحياة بتكاليف أقل، وتدوّر الموارد والأموال في دائرة أوسع من الدائرة الضيقة التي تهيمن عليها فئة احتكارية قليلة من المقاولين والمتنفذين، .. وأهم من ذلك كله، تتكرس قاعدة الثقة في الأسواق، بدلاً من الإذعان والابتزاز؛ إذ ستكون قدرة الموردين والمنتجين على الانتشار والتسويق قائمة على الثقة المتبادلة بين المستهلك والمورّد، وهي (الثقة) القاعدة الأساسية للإصلاح، وقيام أسواق جديدة تحسن حياة المستهلكين، بدلاً من أن تكون أداة لامتصاص مواردهم وأموالهم، لصالح أقلية فاسدة مهيمنة.
ويمكن بناء سيناريو طويل ومعقد للإصلاح والازدهار، بناء على متوالية العدالة والكفاءة والثقة والمعرفة الممكن بناؤها وتكريسها في المجتمعات والأسواق والمؤسسات، لكن المتوالية تبدأ ببناء مدن ومجتمعات مستقلة يجري تنظيمها وتشكيلها حول أولوياتها ومصالحا وأفكارها الجديدة. وفي ذلك تتشكل تجمعات وبرامج سياسية واجتماعية، تتجادل فيما بينها أو تجادل السلطة والشركات، وتنشأ أيضا أحزاب وحركات سياسية واجتماعية، تؤثر على الحكومات والبرلمانات والشركات والسوق والاستهلاك واتجاهات العرض والطلب، وبرامج لإدارة الخدمات والمؤسسات وإصلاحها وتطويرها، وكل عناصر ومكونات العمل العام الديمقراطي... فالديمقراطية تحميها قواعد اجتماعية، تؤمن بها وتجد فيها مصالحها!
الدرس البديهي والممكن ملاحظة في الربيع العربي هو عدم وجود أحزاب وجماعات سياسية واجتماعية، قادرة على بناء برامج تتمتع بتأييد وتمويل قواعد اجتماعية حقيقية ومتماسكة، فلا يمكن الحديث عن إعلام حرّ ومستقل من غير مجتمعات ومدن مستقلة، ولا يمكن، أيضاً، الحديث عن العدالة والديمقراطية والتنافس السلمي العادل على الفرص، وعلى السلطة أيضاً، من غير وجود قواعد اجتماعية من الشباب والطبقات وأصحاب المصالح والمهن والأعمال، .. وهذا يفسر، أيضاً، ببساطة، لماذا تصعد الجماعات الدينية والعشائرية، ففي غياب المدن والجماعات التي تتشكل وراء أهدافها ومصالحها، يلجأ الناس إلى الروابط القرابية والدينية لحماية أنفسهم ومصالحهم.
تقوم فكرة المدن والمجتمعات المستقلة على النظر إليها، باعتبارها قوة ثالثة وشريكة في الدول، إلى جانب الحكومات (القطاع العام) والشركات (القطاع الخاص) لتحقيق توازن بين مراكز القوى والتأثير ورفع مستوى الخدمات الحكومية والشركاتية، ولتتمكن المجتمعات من تحقيق واجبات المواطنة في علاقتها مع السلطة التنفيذية، وحماية نفسها كمستهلك في علاقتها مع القطاع الخاص، ولتجنب الشراكة والتحالف بين السلطة التنفيذية والشركات في مواجهة المجتمعات.
وتسمى الفكرة، أحياناً، في الدراسات والتقارير التنموية "تمكين المجتمعات"، باعتبار أن التنمية تكمن في مساعدة المجتمعات/ تمكينها، لتكون قادرة على تنظيم نفسها وإدارة مواردها وحقوقها واحتياجاتها الأساسية والقدرة على التأثير والمشاركة في الحكم والسياسات والتشريعات على النحو الذي يوسّع خياراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويجعل مؤسسات الحكم والإدارة العامة أمينة وقادرة على التعامل مع التفويض الذي منحه المواطنون لها، للتصرف في الموارد والضرائب العامة، وفق مصالح المواطنين واتجاهاتهم، ويمكّنها (المجتمعات) من تحقيق توازن مع السلطات والمؤسسات، ومن محاسبة هذه المؤسسات ومراقبتها وتوجيهها، ويجعل مؤسسات القطاع الخاص التي تورد الخدمات الأساسية والاستهلاكية، كالتعليم والكهرباء والاتصالات والصحة والتأمين والسلع الأساسية، وغيرها، تورد خدماتها إلى المستهلك (المجتمعات)، في أفضل مستوى، يتفق مع الثمن الذي تحصل عليه.
وفي الوقت نفسه، تعطي التحولات والتغيرات العالمية، القائمة على أساس المعرفة والمعلوماتية والاتصالات، المجتمعات والطبقات الوسطى، فرصا جديدة، تجعلها قادرة على التحرك والمشاركة وحماية نفسها من استغلال السلطات التنفيذية والشركات واعتداءاتها على المجتمعات والأفراد.
وعندما بدأت الدولة تتخلى عن خدماتٍ وأعمال كثيرة كانت تؤديها، وتسندها إلى القطاع الخاص، كالمناجم والتعدين والكهرباء والاتصالات والنقل والبريد، وأفسحت المجال للقطاع الخاص للاستثمار في الخدمات التي تؤديها، مثل التعليم والصحة والسكن، تبع ذلك تحولات عميقة في قوانين العمل والعلاقات مع السلطة والعلاقة بين المجتمعات والشركات والعلاقة بين السلطة والشركات. وكانت التحولات، في مجملها، إضعافا للمجتمعات، وقدرتها على إيصال صوتها والتأثير في القرارات العامة، المتعلقة بحياتها ومشاركتها السياسية والعامة، وتعرض مستوى المعيشة والدخل لتراجع كبير، فقد أضعفت (ربما عمداً) المؤسسات الحكومية الخدماتية، وتوقف الكثير منها، وصار لزاماً على الطبقة الوسطى أن تلجأ إلى القطاع الخاص للحصول على الخدمات التعليمية والصحية، وتراجع مستوى جودة ونوعية خدمات وسلع كثيرة، وارتفعت تكاليف الحياة والسلع والخدمات الأساسية. وفي الوقت نفسه، وجدت المجتمعات أنها معزولة بلا حول ولا قوة، في مواجهتها مع التحالف النخبوي والفوقي للشركات والحكومات. وتضاءلت فرص الابتعاث والتدريب في العمل والتنافس العادل على الوظائف والأعمال والفرص والترقية، والحصول على مستوى كريم من العيش والاحتياجات والخدمات الأساسية ضمن الدخول المفترضة والمتوقعة لهذه الفئات من المجتمع.
وصارت "الديمقراطية"، بطبيعة الحال، غير حقيقية، أو فوقية، تتدافع حولها النخب السياسية، وليست عقداً اجتماعياً تقوم عليه مصالح والتزامات الحكومات والمجتمعات والمؤسسات، وهذا سيجعلها خاضعة لمصالح النخب السياسية، ويعطيها فرصة تصميمها وضبطها والسيطرة عليها وتوجيهها، وربما إجهاضها وخنقها.
كيف يمكن توظيف التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتحقيق العدالة الاجتماعية؟ وكيف يمكن مواجهة التحديات الناشئة عن هذه التحولات؟
ربما يكون السؤال بالتحديد هو: كيف تستطيع المجتمعات أن تكون شريكاً للحكومات والشركات على قدم المساواة، حيث تكون قوة اقتصادية وسياسية واجتماعية، تؤثر في السياسات والقرارات، وفي تحديد خياراتها وتنويعها وتعددها؟
والحال أن التحولات التكنولوجية الجارية تمنح فرصاً كبيرة وجديدة، تضيف إلى ضرورة وجود مجتمعات فاعلة وقادرة على تحقيق توازن عادل، يحمي الحاجات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، أهمية قصوى تتعلق بمصير الحاجات والحقوق الأساسية، كالتعليم والرعاية الصحية والاجتماعية والعمل والسكن والانتماء والمشاركة والثقافة الوطنية والمجتمعية، فتتكون اليوم أدوات جديدة لفهم المجتمعات واستقرارها وتسييرها، تختلف عن السيطرة والتسويات مع النخب والقيادات السياسية والاجتماعية ورشوتها.
يدور الإصلاح حول وعي الطبقة الوسطى للفرق بين ما تحب أَن تكون عليه والواقع القائم، وهي في ذلك، تبحث عن وسائل تؤثر بها على السياسات العامة والأسواق. لماذا الطبقة الوسطى هي التي تقود الإصلاح؟ لأنها، ببساطة ووضوح، تملك الوعي بما تحب أن تكون عليه، وما يجب فعله لتحقيق ذلك، ولها مصالح أساسية في الإصلاح، لا تتحقق من دونه، فهي لا تملك الموارد التي تستغني بها عن إصلاح الخدمات العامة الأساسية التي يجب أن تقدمها الدولة، فلأجل حماية نفسها، ومصالحها، من الدولة والشركات، تلجأ إلى تنظيم نفسها، والبحث عن وسائل، وقوة تؤثر بها على الأسواق والحكومات .. وهذا هو الإصلاح ببساطة.
أَما النخب القائمة والمهيمنة (النخب بمعنى القادة السياسيين والاقتصاديين) فلا مصلحة لها (غالباً) في الإصلاح والتغيير، باعتبارها مستفيدة من الواقع القائم، أو لأنها، غالباً، تخشى من التغيير أو ضياع مصالحها ومكتسباتها القائمة. وفي أحيان كثيرة، تقوم مصالحها ومواردها على الفساد والاستبداد وغياب العدالة والحريات، فبغير الاحتكار وتهميش المجتمعات، لم تكن نخب كثيرة لتحصل على ما حصلت عليه من فرص ومكاسب.
والفقراء والأَقل تعليماً، وإن كانوا يتطلعون إلى الإصلاح، أَو تحسين حياتهم وفرصهم، في الغالب، لا يملكون الوعي الكافي لتمييز مصالحهم، ويتوهمونها، في أَحيان كثيرة، بتأييد النخب القائمة، والسعي إلى اكتساب حمايتها ورعايتها، أَو أَنهم يعيشون في حالة من التهميش المتراكم والراسخ، ما أورثهم سلبية وعزلة عن العالم المحيط، أَو أَنهم يشعرون بالضعف والخوف، إلى درجة تمنعهم من المشاركة في الإصلاح، والسعي إليه، أَو أَنهم يقدرون أن فرصهم الاقتصادية والمعيشية سوف تبقى كما هي، في جميع الأحوال، ولا يرون أفقاً أو أملاً ممكناً في الإصلاح والتغيير، .. تذكر حالهم بالآية القرآنية الكريمة "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً"
ويمثل الشباب، وبخاصة الفئة العمرية بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، القاعدة الأساسية والصلبة لأية عملية تغيير، لكنهم، غالباً يتحركون ويفكرون بدوافع الغضب والتمرد، وهذا مورد اجتماعي وثقافي جميل ومهم، بل هو قاعدة رأس المال الإصلاحي في المجتمعات والمبادرات، لكنهم في ذلك تستهويهم الجماعات والجهات التي تقدم الآمال والوعود الكبرى، ولا تكاد تلهمهم الأفكار والبرامج الإصلاحية، بما هي تحسين الحياة والفرص وتكريس قيم العدالة والحياة الكريمة!
وفي هيمنة النخب على المجتمعات ومؤسساتها ومواردها الثقافية والإعلامية، فقدت الطبقة الوسطى قدرتها على التأثير وإيجاد التوازن بين السلطة والمجتمعات والأسواق، بل إِنها فقدت، أيضاً، قدرتها على إنشاء قيمها وثقافتها المستقلة والمتشكلة حول مواردها، وفرصها وأحلامها وتطلعاتها، وفرص توريثها، ونقلها إلى الأجيال التالية، فالشباب ممن ولدوا ونشأوا في الطبقات الوسطى لم يحملوا، في غالب الأحيان، قيم الآباء وثقافتهم القائمة على تقدير الحياة الكريمة، والتمييز بين الأولويات والمصالح الحقيقية والأساسية، وغيرها من الوعود والأفكار المنفصلة عن الإصلاح الحقيقي، أو الإصلاح كما تراه وتؤمن به، وتسعى إليه الطبقات الوسطى، وأَسوأ من ذلك أن فئة واسعة وغالبة من الطبقات الوسطى، وقياداتها وجدت مصالحها في التحالف مع النخب ضد طبقاتها، أو ما يسمى في أدبيات النضال والعمل "خيانة الطبقة" وأَلحقت (تقريبا) بالدولة والشركات الثقافة والفنون والرياضة والبلديات والنقابات والاتحادات المهنية والعمالية ومنظمات المجتمع المدني.
وهكذا، تحول الإصلاح باعتباره صراعاً (بالمعنى السلمي الاجتماعي)، أو "تدافع" بين المصالح والطبقات والحلول والأفكار والمبادرات، إلى صراع وجودي صفري مع السلطة والنخب، وهذا أَسوأ ما أُصيب به حراك المجتمعات والطبقات، فقد تحولت النخب إِلى مجموعات مغلقة، تحمي وتحتكر مجموعة كبرى من المصالح والموارد والفرص، بكل الوسائل والقوة الممكنة، بما في ذلك تهميش المجتمعات، وتغييبها، ورفض العدالة في الفرص والتنافس؛ ولأن الطبقة الوسطى، غالباً ما يتشكل وعيها لمصالحها ولذاتها ووجودها حول مجموعات وقيادات في منتصف العمر، فإنها، بطبيعة الحال تنزع إلى السلبية والانسحاب، فهي غير مستعدة، ولا راغبة في معارضة أو صراع يضر بمصالحها ومكتسباتها، أو يعرضها لأذى جسدي ونفسي، لم تعد مستعدة لتحمله، إن كانت تقدر على ذلك ابتداء...
وبإفلاس التدافع/ الصراع السلمي، أصبح المجال مفتوحاً للمواجهة العنيفة والمعارضة الجذرية مع السلطة والنخب، وهو ما يقدر عليه، ويؤمن به شباب مشحونون بالغضب، ومزودون بقيم أيديولوجية تقدس الموت، وترحب به؛ ما أَدخل الإصلاح في خيارات مضادة ومحزنة، .. المجتمعات والطبقات تعمل ضد نفسها، وتدمر نفسها لأجل أن تدمر خصومها "علي وعلى أعدائي".
لكن الإنترنت تتيح اليوم، فرصاً جديدة للطبقة الوسطى للعمل والتشكل، ففي هذه الشبكية للموارد والفرص والأعمال، تنشأ فرص جديدة وأعمال جديدة وقدرات جديدة للتأثير، فلم تكن التقنية، في التاريخ الإنساني بعامة، مجرد تطبيق لاكتشاف علمي، لكنها تنشئ متوالية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، تغير في العلاقات والموارد والفرص والقيادات والتأثير.. والثقافة والقيم!
ما الذي أَنشأته شبكة الإنترنت من قيم وثقافات وفرص جديدة؟ ماذا غيرت/ تغير في تشكلات الطبقة الوسطى، وسعيها الدائم إلى الإصلاح؟
تهبط الكوارث والأحداث الكبرى بلا استئذان، وتصحبها آثارها وتداعياتها أيضا بتلقائية. لكن استيعابها إيجابيا والبحث في الفرص والبدائل المتاحة والممكنة ليس عفويا ولا تلقائيا، وفي ذلك تتشكل وفي سرعة متوالية من الظواهر والحالات التي لا تقل ضررا عن الكارثة نفسها، الخوف والصراعات والإذعان والابتزاز وانهيار القيم الاجتماعية والثقة وسلوك البقاء، وصعود طبقة جديدة من الشطار تحول الكارثة إلى مصالح واحتكارات فاسدة تفيد أقلية من الناس وتزيد الضرر عليهم، ثم ترتد المجتمعات في مواجهة الخوف إلى الخرافة وقيم وثقافات وروابط وعلاقات سابقة للتمدن، فتتحول المدن والأسواق والمؤسسات إلى ساحة متقدمة لتكريس التخلف والاعتداء والهيمنة على المستضعفين. وبالطبع، تنهار القوانين باعتبارها الرابط الأساسي للمدن والدول، ويتقدم ويصعد شرار الناس وينزوي خيارهم، وأسوأ ما يحدث في مواجهة الأزمات هو التأخر في استيعابها ومواجهتها، لأنها في ذلك تتكرس في واقع اقتصادي اجتماعي ثقافي يجد من يدافع عنه من النخب والجامعات والمؤسسات الأكاديمية والمصالح، .. ويتحول الفشل والفساد إلى قيم متقبلة تشتغل على تأصيلها علميا وفلسفيا ودينيا خبرات وهيئات متقدمة!
الحال أن التطور العلمي والتقني، كان في مساره العام ومحصلته يعمل لصالح تحسين الحياة والارتقاء بالدول والمجتمعات والأفراد والأسواق والخدمات والسلع؛ رغم صحة ما يقال عن الآثار السلبية والأضرار التي لحقت بالمجتمعات والأسواق والموارد والصناعات التي كانت قائمة قبل التطور العلمي والتقني والتعولم في السوق والسلع والأفكار والاتجاهات والهويات، فمن المؤكد أنها حالة يمكن أن تكون مفيدة جدا وفرصة مهمة للتطور والنمو والإصلاح؛ بدليل ما تحققه اليوم دول ومجتمعات من تقدم، ونشوء شبكة واسعة من الأعمال والشركات الجديدة.
لقد أتاحت الشبكية فرصة هائلة لتطوير التعليم والمشاركة في الأسواق والمنجزات العالمية بتكاليف قليلة، وفي ذلك فرصة كبيرة لدول ومجتمعات ومواطني الجنوب لاكتساب المهارات والمعارف المتقدمة، لكن ذلك يحتاج إلى تحول اجتماعي وثقافي ومؤسسي جذري قائم على التعلم الذاتي والتعلم عن بعد، كما تتيح الشبكة فرصا واسعة للعمل من بعد والعمل في المنازل وتسويق المنتجات والخدمات من غير مكاتب ومحلات تجارية، ويمكن الوصول إلى أسواق وزبائن في جميع أنحاء العالم، ويمكن للمجتمعات وجماعات المصالح والرأي أن تعمل معا في شبكات وهيئات مؤثرة من غير حاجة إلى مباني وجهود في السفر والتحرك وإنفاق كبير، وفي ذلك فإن الأفراد والمجتمعات تمتلك فرصة جيدة للتأثير باتجاه مصالحها وأولوياتها والحصول على حقوقها، وتحقيق مزيد من المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، والمشاركة العامة والسياسية والاجتماعية.
تبدأ الاستجابة بالتعليم لإكساب الأجيال وجميع الناس المهارات الأساسية التي تمكنهم من المشاركة في الاقتصاد الجديد، وإعادة تأهيلهم من جديد ليكونوا قادرين على المشاركة الاقتصادية والإنتاج، وكل لحظة تمضي دون إعادة تنظيم المؤسسات والعمليات التعليمية تزيد التأخر في الاستجابة والتقاط اللحظة والفرص، وقد تختفي الفرصة إلى الأبد؛ ففي التأخر في التقاط لحظة المطبعة والآلة البخارية تأخر الشرق والجنوب قرونا طويلة، ودخل في فجوة هائلة مع العالم المتقدم.
إن المعرفة بما هي المورد الأساسي للاقتصاد والحياة تشكل جوهر التقدم والفشل والإصلاح والتنمية والاحتكار، ويدور حولها بطبيعة الحال الصراع والجدل الاجتماعي، وفي ذلك يفترض في الجماعات والطبقات والمصالح والأعمال والمدن والمجتمعات أن تحدد على نحو عملي واضح خريطة عملها.
وربما تكون من الأهداف الاجتماعية التي يجد النضال لأجلها هي مشاعية الإنترنت بما هي خدمة عامة ومرفق أساسي مثل الطرق والمدارس والمستشفيات، إذ يفترض أن يكون متاحاً لكل فرد ومؤسسة فرصة الوصول إلى الشبكة بالقدر الذي يتاح له أن يسير على الشوارع والأرصفة ويرتاد الحدائق العامة، وتكون هذه المشاعية المفترض أن ترعاها الحكومات والبلديات والشركات في سياق مسؤوليتها الاجتماعية القاعدة الأساسية للعمل والتشكل الاجتماعي والاقتصادي.
وتكون الخطوة التالية لمشاعية الإنترنت بناء المؤسسات الاجتماعية والمهنية والاقتصادية من خلال الشبكة لأجل التعليم والرعاية والتأثير في السياسات والأسواق، وتخفيض الهدر في الإنفاق والمشاركة في الأسواق المتاحة وطنياً وعالمياً- فالعولمة التي أنتجتها الشبكية تتيح موارد جديدة وتستولي على موارد قائمة - وتقديم ما يمكن تقديمه من خلال الشبكة لأجل الحصول وعلى أفضل وجه ممكن على الخدمات الأساسية وبناء المعارف والمهارات، وتطوير الأسواق والجماعات والمدن والأحياء باتجاه ما تحب أن تكون عليه.
في استقلال المجتمعات والمدن يكون في مقدور المواطنين أن يكتسبوا المعارف والمهارات التي يحتاجون إليها، وسوف تكون وظيفة مزودي المعرفة مثل المؤسسات الإعلامية والتعليمية والثقافية تقديمها وتطويرها وليس حجبها أو تشويهها كما يحدث اليوم بالفعل في المؤسسات القائمة، ولكن لن يحدث ذلك إلا في مؤسسات مستقلة تملكها المجتمعات أو شركات تجد مصلحتها في استقلال المجتمعات وفي اكتساب الناس للمعرفة الجيدة والملائمة، وسوف يكون بطبيعة الحال لدينا نخب وقيادات اجتماعية وإبداعية ومعرفية جديدة تستمد وجودها وتأثيرها من هذه الاستقلالية ومن الطموحات المعرفية الجديدة للأفراد والمجتمعات والأسواق.