الإعلام الإلكتروني والتطرّف الديني لدى الشباب: بين المسؤولية والمواجهة
فئة : مقالات
الإعلام الإلكتروني والتطرّف الديني لدى الشباب(1):
بين المسؤولية والمواجهة
لطالما حازت قضية العلاقة المتداخلة بين وسائل الإعلام والخطاب المتشدد على الكثير من الجدل والبحث، والذي يدور حول أيهما محفز للآخر، هل الفكر المتشدد هو الذي يوظف تلك الوسائل لنشر خطابة وامتداد تأثيره؟ أم إن وسائل الإعلام بطبيعتها الذاتية هي من تحفز وتنشط وتجذب تلك الحركات المتشددة، لاستخدامها على النحو الذي يخدم أهدافها، أم إنها تعبر عن عملية تفاعل كل من البعدين، واللذين يرتبطان في نفس الوقت بالسياق العام والواقع المعيش بأبعاده المختلفة؟
أصبح للخطاب المتشدد فاعلية في التأثير على الجمهور المستهدف من الشباب والمراهقين، وذلك على اعتبار أنهم الفئة الأكثر فاعلية وناشطية داخل مجتمعاتهم، وتاريخيا حظيت كافة وسائل الإعلام والاتصال على اهتمام خاص من قبل الجماعات المتطرفة على اختلاف توجهاتها الفكرية، واشتركوا جميعهم في الاهتمام، ليس فقط بعدد ضحاياهم، بل بحجم وانتشار تأثير الخوف والرعب بين الرأي العام، وهو ما يطرح عدة تساؤلات حول ماهية الدور المنوط بوسائل الإعلام في مواجهة ظاهرة التطرف لدى الشباب؟ وما هو تأثير تصاعد الإعلام الإلكتروني في نمو الظاهرة؟ وإلى أي مدى ساهم ذلك في تعقد المواجهة؟ وكيف يمكن صياغة رؤية استراتيجية تجمع بين أنماط الإعلام المختلفة، سواء أكانت مسموعة أو مقروءة أم مرئية أو تقليدية أو إلكترونية في المواجهة الذكية لظاهرة التطرف؟ وكيف السبيل إلى خلق إعلام مسؤول وقادر وفاعل في معركة العقول والقلوب؟
الإعلام والرأي العام في بيئة جديدة
تعد العلاقة بين المجتمع والإعلام والرأي العام والقيم، علاقة متشابكة من منطلق مسؤولية الإعلام عن منظومة القيم السائدة داخل المجتمع، سواء أكانت تتعلق بمهمة الدفاع عنها، أو بقيادة معركة التغيير للقيم السلبية، وهو الأمر الذي يكون له تأثير إيجابي في تغيير الأفكار المغذية للسلوك المدمر للفرد وللمجتمع على حد سواء، وذلك من قبيل أن وظيفة الإعلام هي رفع الوعي والإدراك وتغيير السلوك. وأصبح دوره كعملية اتصال وفق نموذج "جاكوبسن" يتكون من ستة عناصر لأي خطاب تتكون من المرسل الذي ينشئ، والرسالة التي هي مضمون الاتصال "النص"، والمتلقي وهو هدف الرسالة "الجمهور"، والرمز وهو الطريقة التي يتم بها إعداد الرسالة، إلى جانب أداة الاتصال، وهي الوسيلة المستخدمة، ويرتبط ذلك بالسياق العام، وهو ما يساعد في فهم الرسالة على نحو أفضل من جانب المجتمع، [2]بينما يقدم نموذج "هارولد لاسويل" تفسيرات تركز على التأثيرات بالتركيز على من؟ يقول ماذا؟ وفي أية قناة؟ ولمن؟ وبأي تأثير؟ بينما يركز "ماكلوهان" على أن الوسيلة هي الرسالة، وأن الوسيلة أكثر أهمية من مضمون النص الذي تحمله، في حين أن الوسيلة لها تأثير مهم في المحتوى الذي تحمله، حيث ظهرت حالة من التطور في وسائل الإعلام والاتصال مع الثورة العلمية والتكنولوجية، والتي أثرت في طبيعة الفاعلين والقائمين بعملية الاتصال، والتحول في الإعلام الجماهيري الذي كان تحت سيطرة الحكومات، والذي كان يستخدم في عملية نقل المعلومات والأخبار وتبرير السياسات، وفي لعب دور لتأطير ونمذجة وتعبئة الرأي العام.
برزت أنماط جديدة من الإعلام كان لها الدور في بروز فاعلين جدد في تشكيل الرأي العام، وذلك مع التغير في أنماط ملكية وسائل الإعلام، خصاصة مع ظهور القنوات الفضائية، حيث أصبحت لديهم قدرات على التعبئة والحشد للرأي العام، وبرز دور الفرد والجماعة في نقل وتبادل وإنتاج المعلومات ونشرها بين قطاع عريض من الجمهور، وهو ما ساهم في نشأة "المجتمع الافتراضي" للأشخاص الذين لديهم مصالح واهتمامات مشتركة، ما يفتح ذلك المجال للتأثير على أولويات القضايا لدى الرأي العام. ومكن الإعلام الإلكتروني كذلك، الأفراد من صنع وسيلة إعلام خاصة بهم، سهلة الانتشار ورخيصة التكلفة، تميزت بالتنوع الإعلامي على شكل نص أو صوت أو صورة أو فيديو، بما ينعكس بشكل إيجابي على صياغة الرسالة الإعلامية فيما عرف بصحافة "المواطن"، والتي تظهر عبر الشبكات الاجتماعية أو عبر المنصات الأخرى.
أثرت الثورة التكنولوجية وتطبيقاتها المختلفة على منظومة القيم بكافة أنماطها، مثل منظومة القيم الاجتماعية والدينية والذاتية للفرد
ودفعت تلك الأدوات الجديدة إلى استخدامها بشكل إيجابي في تحقيق نوع من التواصل الإنساني بين العديد من التجمعات البشرية والأفراد من كافة أنحاء العالم، وأصبحوا يجتمعون حول قضايا مشتركة تؤثر فيهم ويؤثرون في انتشارها ودعمها، وذلك في ظل حوار ندّي بين العديد من الأفراد حول العديد من القضايا المحلية والعالمية، ومن جانب آخر كان لاستخدام تلك الأدوات جانب سيئ في استغلال طابع الإعلام الإلكتروني الفردي في تغذية العنف والكراهية، وبث الشائعات والحرب النفسية وتضليل الرأي العام ونشر الأخبار الزائفة.
وجاء ذلك مع المساعدة في توفير أدوات للرأي والتعبير أمام الجمهور، تتميز جميعها بالسهولة والانتشار وقلة التكلفة، سواء أكانت في شكل إنشاء مواقع على الأنترنيت، أو الرسائل النصية القصيرة، أو المدونات، أو غرف الدردشة، أو المجموعات البريدية، أو استخدام الهاتف المحمول، أو استطلاعات الرأي الإلكترونية، أو التعليقات الإلكترونية على الأخبار، أو الأحداث، أو عن طريق نشر المقالات عبر الفضاء الإلكتروني، أو ما يتعلق بالتطور في تقنية استطلاعات الرأي العام عبر الاستثمارات الإلكترونية، أو الاستطلاع عبر المواقع. وعبرت تلك الأدوات عن ثورة في الأداء الديمقراطي ما بين الحاكم والمحكوم، أو ما بين الرأي العام المحلي والآخر الدولي، أو حتى ما بين المختلفين عرقيا، أو دينيا، أو ثقافيا، بشكل يعكس ثورة معلومات متدفقة مقابل رأى عام سريع التلقي والتأثير.
الإعلام والقيم والشباب: أيهما يؤثر في البناء الاجتماعي؟
أثرت الثورة التكنولوجية وتطبيقاتها المختلفة على منظومة القيم بكافة أنماطها، مثل منظومة القيم الاجتماعية والدينية والذاتية للفرد؛ أي ما يتعلق برؤية الفرد لذاته ومجتمعه ونظرته إلى الله والدين. وفي ظل ثورة المعلومات والأفكار، تتم عملية الانتقال والانتشار العابر للحدود وللثقافات، وهو ما يعكس حالة التفاعل التحتي بين الشعوب، وهذا قد يؤثر في أنماط الاستجابة لتيار العولمة، حيث ينشأ تيار يقابل تيارا آخر مضاد للقيم الدخيلة بدعوى الحفاظ على القيم الأصيلة، وتؤدي حالة الاستقطاب تلك إلى حالة من الاحتقان والتطرف، وذلك دون التفكير في رؤية موضوعية لما يصلح وما لا يصلح لتنمية المجتمع والفرد.
وعلى الرغم من أن الإعلام بطبعه قد يكون عاكسا للقيم المحلية الأصيلة، فإنه في حالات أخرى يكون هو الذي يملك الريادة في تغيير القيم، وتبقى مسألة الحكم على القيم التي تتغير والأخرى التي لا تتغير أو تقع ضمن النسق العقيدي للجماعة متوقفا في الأخير، على درجة تماسك النخبة ومستويات التعليم والثقافة داخل المجتمع، وحالة رأس المال الثقافي أو الإعلامي وموقفه من قيم المجتمع، والتي تتشكل على اعتبار أنها "مجموع المعايير والأحكام التي تتكون لدى الفرد من خلال تفاعله مع المواقف والخبرات الفردية والاجتماعية، حيث تمكنه من اختيار أهداف وتوجهات لحياته، يراها جديرة بتوظيف إمكانياته، وتتجسد من خلال الاهتمامات أو الاتجاهات أو السلوك العلمي أو اللفظي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة".[3]
وتساهم القيم في لعب عدة وظائف لعل أهمها:
أولا: تشكيل شخصية الفرد وتحديد أهدافها والقدرة على التكيف والتوافق وتحسين القدرة على الإدراك ومعتقداته لاتضاح الرؤية.
ثانيا: المحافظة على تماسك المجتمع وتحديد أهدافه ومواجهة المتغيرات التي تحدث.
وثالثا: القدرة على التعبير عن الهوية والمصلحة الوطنية.
وعند الحديث عن علاقة القيم بوسائل الإعلام، فإنه يتعين الحديث عن طبيعة السلطة التي يتوجب أن تخضع لها، في ظل تراجع دور الدولة وكيفية فرض القيود أمام تناول قيم بعينها أو الحد من استغلالها، لبث قيم سلبية دخيلة، وهو ما يرتبط بالأزمة الفعلية - وفي العمق هي أزمة القيم - وأزمة غياب منظومة فكرية متكاملة، منظومة ترجع إلى أصل ثابت، قادرة على تقديم درجة معينة من الحصانة الفكرية للإنسان، تمكنه من إدراك أبعاد خطاب الإعلام.[4]
تواجه القيم والمؤسسات التي تدافع عنها، تحديات تتعلق بحرية انتقال الأفكار والمعلومات والرموز ما بين الداخل والخارج، ودرجة التعاطي الإيجابي لها مع تلك الثورة المعرفية وقدرتها على تسويق قيمها وتطوير خطابها في ظل السيل الجارف. وبقيت مناعة المجتمعات من التأثير المتصاعد لذلك التيار، متوقفة على إدراك القيادة السياسية والنخبة ومؤسسات المجتمع لمعطيات الثورة المعرفية الجديدة، فأصبحت كلما امتلكت القدرة على التحديث والسرعة والاستجابة للتحديات، كلما كانت لها القدرة على الحفاظ على الأمن الثقافي، والسيطرة على المحاور الرئيسة للتوافق المجتمعي على الأقل، وهو ما يتعلق بخطورة انعكاس ذلك في عنصرين مهمين في البناء الاجتماعي؛ وهما عنصرا الشباب والنسق القيمي للمجتمع، وذلك من خلال ما يتم رصده من علاقة بين الشبكات الاجتماعية، كمتغير مستقل والنسق القيمي الأخلاقي كمتغير تابع، إلى جانب علاقة ذلك بمتغيرات وسيطة تتعلق بدوافع تعرض الشباب والفجوة الديموغرافية ومعدل ثقتهم في المؤسسات الحكومية.
وعلى النقيض، فإنه في حالة العجز وفقدان الصلة بين حجم التغييرات على الأرض، وملاءمة السياسات المتبعة من الحكومات، تحدث القطيعة الثقافية بين المواطن والمؤسسات ذاتها، وتعزيز حالة الانعزال والغربة الثقافية وتدهور القيم المحلية وتراجعها في مقابل إدخال أنماط جديدة لا تعمل على استقرار المجتمع، بل على تفككه بنيويا وقيميا، ويظهر تأثير ذلك في عجز المجتمع عن التوصل إلى بوصلة توجهه نحو الطريق الصحيح في ظل موجات العولمة الثقافية العاتية، والتي تعمل على الاستفادة الإيجابية مع المعطيات الجديدة، والتخلي عن القيم السلبية، والعمل من جهة أخرى، على تبني قيم جديدة ترتكز على الانفتاح والتسامح والإبداع والعمل وغيرها.[5]
وهو ما يفسر الأثر الكبير للشبكات الاجتماعية والإعلام البديل بشكل عام في المجتمعات التقليدية، وذلك نتيجة حالة الضعف في الثقافة العامة، ولا شك، فإن الظروف الاقتصادية إلى جانب الظروف الاتصالية تؤثر كذلك على القيم، خاصة في ظل حالات الانتقال والتحول التي تمر بها المجتمعات - كحالة الانتقال من المجتمع الزراعي إلى الصناعي -. وتحدث حالة التغير في القيم نتيجة عمليات التحول الاقتصادي والاجتماعي، والتي تظهر في تدهور حالة القيم داخل معينها وخزينها الأول، ألا وهو الريف، والذي شكل دوما خط الدفاع الأول للحفاظ على القيم المحلية داخل المدن، ولكن ما اعترى الريف من تشوهات اقتصادية وتدهور حالة الزراعة، دفع إلى الهجرة، سواء إلى الخارج أو إلى المدن الحضرية، وهو ما ساهم بشكل لا يستهان به في هذا التدهور.
وجاء ذلك مع فقدان مؤسسات ثقافية واجتماعية مهمتها نتيجة لبروز جيل جديد تمرد على تلك المؤسسات، من منطلق أنها لم تعد هي مصدر الإلهام المعرفي والقيمي بعد الأنترنيت، ومن جهة أخرى تراجعت مؤسسات التنشئة الاجتماعية عن القيام بدورها والطابع التقليدي لخطابها، وهو ما أدى إلى انفصالها عن طموحات وقضايا الجيل الجديد، وفي مواجهة تحديات جديدة أمام قدرتها على بسط نفوذها القيمي والولائي على الفرد، وهو ما يشهده تراجع دور المدرسة ودور العبادة والأسرة في تشكيل الوعي الثقافي والمعرفي.
وأثرت التكنولوجيا في قضية تسليع القيم، خاصة ذات الطبيعة الدينية؛ أي اعتبار القيم سلعا يتم الترويج لها والإنفاق على تبنيها من قبل أباطرة من رجال الأعمال والإعلام، حيث يتم الترويج للقيم الاستهلاكية للمزيد من تحقيق المكاسب لأصحاب رؤوس الأموال، ودون النظر إلى السلام الاجتماعي والسياسات الاحتوائية لمعدلات الفقر والبطالة في المجتمع. ويتم تقريب "القيم" بـ "السلع والمنتجات"، ويتم ترويجها ضمن حسابات الربح والخسارة، وبناءً على تقدير الكلفة والمردود على الوضع الاجتماعي والرمزي داخل المجتمع.[6]
التطرف من الإعلام التقليدي إلى الجديد
يعد الإعلام من الركائز الأساسية في فكر وممارسة الجماعات المتطرفة لانتشار خطابها المتطرف ولعملياتها العدوانية، وقد تطور الإعلام في فكر التنظيمات المتطرفة، وذلك تبعا للتغير الحاصل في التطبيقات التكنولوجية، والتي أثرت دون شك في نمو واتساع تأثير ظاهرة التطرف والتشدد والإرهاب، مثل ذلك التأثير الذي كشفه التحول من جيل المنتديات إلى المواقع الإلكترونية، ومن المدونات وغرف الدردشة إلى الشبكات الاجتماعية والهواتف الذكية.
اكتسب الإعلام الإلكتروني شعبية بين الشباب، لما يتميز به من خصائص ذاتية وقلة التكلفة، واتساع المشاركة وسهولة الاستخدام، وهو ما يعزز من أن تكون المسؤولية تجاه مكافحة التطرف والتشدد تتم أخذا بعين الاعتبار التوازي والتكامل الوظيفي بين الإعلام التقليدي والجديد.
ويتميز الإعلام الإلكتروني بدور مهم وحيوي في التأثير في الرأي العام، وذلك عبر ثلاثة مسارات: الأول يتعلق بنقل التأثير من الفضاء الإلكتروني إلى الواقع، والثاني بنقل ما يجري على أرض الواقع إلى الإعلام الإلكتروني، وثالثا عبر تحول الإعلام الإلكتروني إلى وسيط وناقل للحدث فقط.
لقد تحولت تطبيقات الإعلام الإلكتروني إلى مصدر للأخبار للصحف التقليدية والقنوات الفضائية، وتحول نشطاء الإعلام الإلكتروني إلى ضيوف ومتحدثين لوسائل الإعلام التقليدية، وقامت الصحف والفضائيات بتخصيص أقسام لتغطية ما يجري عبر تطبيقات الإعلام الإلكتروني وخاصة الشبكات الاجتماعية.
إن عجز الإعلام الرسمي عن التعبير عن أولويات الرأي العام، أو التوقف عن كونه متنفسا للمطالب الجماهيرية، أو بالعجز عن كونه قناة وسيطة بين الحاكم والمحكوم، هو ما يوفر أرضا خصبة لصناعة الحقد والكراهية المولدة لآلة التطرف. وإن معالجة وسائل الإعلام للخطاب الديني والتراث والعرف الاجتماعي عبر تشجيع الأفكار المضادة، مثل تشجيع سياسات العلمانية في ظل مجتمع محافظ، أو العمل على العلاج بالصدمة للمشكلات الثقافية أو الدينية، يمكن أن يسهم كل ذلك في بروز موجة تطرف وعنف مضاد لتلك التوجهات، خاصة أن عملية التغيير الفكري هي عملية ذات طبيعة اجتماعية ممتدة.
وإن قيادة عملية تغيير القيم المعيقة للاستقرار يجب أن تتم وفق إجماع من قبل كافة المؤسسات المعنية، بالإضافة إلى تأهيل وتمهيد تقبل الناس لتلك المتغيرات، سواء من خلال الإقناع أو التحفيز، وتغيير قناعات أو سلوك الشباب يجب أن يتم في ظل فهم تلك المتغيرات الجديدة، وتصاعد دور الإعلام الإلكتروني في صناعة وتشكيل الرأي العام ليس فقط على المستوى المحلي، بل العالمي كذلك، وزيادة حجم الانتشار والنفاذ داخل المجتمعات العربية، حيث تضاعفت جراء السياسات التي اتخذتها بعض الحكومات، ومن ثم تعززت العلاقة بين حركة المواطن وتلك الأدوات التكنولوجية التي أصبحت منصة له، ومعبرا عن توجهاته وثقافاته.
وهنا تكون لوسائل الإعلام مسؤولية أمام الرأي العام، وذلك باعتبارها مؤشرا مهما لقياس مدى رضى القاعدة الشعبية عن السياسات العامة للدولة، بالإضافة إلى دورها في تشكيل وتحديد توجهات المواقف الشعبية المختلفة حول القضايا الداخلية والخارجية على حد سواء. وتتيح عملية تدفق المعلومات وتفاعلاتها عبر وسائل الإعلام المختلفة إلى الدفع بتكوين معرفي جديد لدى الأفراد ونقل الأحداث والقضايا.
وقد اكتسب التطرف عدة مكاسب مقارنة بالإعلام التقليدي، ولعل أهمها فرصة الالتحام بشكل مباشر مع الجمهور المستهدف من الشباب، وتعزيز فرص التجنيد والتعبئة والتأثير فيهم ومن خلالهم، وتوفير منصة إعلامية غير مسبوقة ورخيصة التكلفة، وإمكانية قبول مساهمات من أعضاء عابرين للحدود، وإمكانية تلقي التمويل اللازم دون مراقبة السلطات المحلية، وإمكانية تكوين مجموعات سرية لتبادل الخبرات وتنسيق العمليات الإرهابية، وفرص المراوغة والكر والفر من خلال الانتقال السريع، سواء من منصة إلى أخرى، أو تدشين حسابات أخرى على الشبكات الاجتماعية في حالة الحذف.
التواصل الاجتماعي في مواجهة القيم المحلية للشباب
يمثل الإعلام الجديد تحدّياً ثقافياً غير مسبوق، يقوم على الاجتياح الثقافي، حيث تفقد الدول الصغيرة ثقافتها تحت ضغط اجتياح التيار الثقافي العالمي، وتبدأ في التخلي تدريجياً عن خصائصها الثقافية لصالح الثقافة العالمية.[7]
لقد برزت إلى السطح قيم جديدة على المجتمع من أهم مفرداتها الكراهية والعنف المجتمعي واللفظي، وأصبح الصراع الاجتماعي في حقيقته صراعا قيميا بين ما يفرضه الواقع والمؤسسات التقليدية من قيم، وما يفد من القيم من الخارج، وسواء أكانت من خارج النسق العقيدي للفرد أو من خارج الحدود الجغرافية للدولة، وما نشهده من تجاذبات عبر الشبكات الاجتماعية، هو في الحقيقة كذلك انعكاس لحالة التردي الراهن في منظومة القيم ونتيجة لتراكمات عهود سابقة من سياسات تعليمية وثقافية ماضية، خاصة مع افتقاد الشبكات الاجتماعية لعنصر المركزية في التوجيه، وطغيان الفردية والعشوائية في نقل المعلومات والأفكار والقيم والرموز الثقافية.
وأصبحت المضامين الثقافية تستخدم في شحن الكراهية والعنف على النحو الذي يضر في النهاية بكل مكونات المجتمع، كما أن إقدام أي طرف على استخدام الشبكات الاجتماعية على نحو سلبي، يؤثر في نشر القيم السلبية من جهة، ويؤثر على خلخلة السلام الاجتماعي من جهة أخرى، ويزيد من الاحتقان الاجتماعي والثقافي، ويزيد من الهوة بين الفرقاء من جهة ثالثة.
إن الشبكات الاجتماعية صارت تستخدم في التأثير القيمي داخل المجتمع، عبر بث حالة من الاغتراب الاجتماعي والتأثير السلبي على القيم الدينية أو قيم اجتماعية كقيم الأسرة والزواج والعائلة والجيرة، وساهمت في بروز خطابات العنف والكراهية ضد الآخر ليس فقط ذي الطبيعة العرقية والمذهبية، بل كذلك لاختلافات سياسية، وحتى في وجهات النظر حول بعض القضايا على النحو الذي أثر في تحول تلك الشبكات الاجتماعية إلى أدوات للإقصاء والاحتقان، وليس للانفتاح والتسامح وبناء الحوار، واستخدمت منصات الشبكات الاجتماعية في بث الكراهية والعنف ضد التنوع العرقي والمذهبي والديني داخل المجتمع، على الرغم من وجود تلك المكونات قبل ظهور الأنترنيت والشبكات الاجتماعية.
وظهرت أنماط جديدة من الجريمة داخل المجتمع تعكس حالة التغير في القيم، كجرائم العنف المنظم، والعنف المجتمعي، والتحرش الجنسي، واستغلال الأطفال والأعمال المنافية للآداب العامة، كما برزت توجهات قيميه جديدة لدى فئة محدودة، كالدعوة للإلحاد أو اعتناق مذاهب دينية مختلفة أو جديدة أو التحلل التام من قيود المجتمع، وذلك في مقابل استقطاب آخر تقوده قوى التطرف والإرهاب ونشر الكراهية والاقصائية.
وعلى الرغم من أن تلك الحالات قد تكون فردية، إلا أن طبيعة التواصل الاجتماعي تجعل منها قضية كبرى بسبب التغطية الواسعة لها داخل الشبكات الاجتماعية، ووجود آليات الإعجاب والمشاركة، ما يعمل على زيادة تأثيرها، وتحولها إلى مادة خبرية للصحف والفضائيات، بما يعمل على اتساع نطاق التأثير من الأنترنيت إلى الشارع.
ولعل فهم منظومة التغيير في القيم ثم السلوك، وتعلم تكتيكات التجنيد كانت من ضمن التطبيقات الأبرز من قبل الجماعات الإرهابية لجذب الشباب عبر الشبكات الاجتماعية، حيث ارتكزت على ثلاث مراحل؛ تعلقت الأولى منها، بمرحلة التأثير الوجداني، من خلال إثارة العاطفة والنعرة والغيرة الدينية بحجة الدفاع عن القيم المقدسة الدينية، أو البحث عن عالم مثالي لا يمت للواقع بصلة، كفكرة "الخلافة" أو "المدينة الفاضلة"، ويتم توظيف النصوص الدينية عبر كافة الوسائط الإعلامية.
وارتبطت المرحلة الثانية، بالتأثير المعرفي عن طريق دور الشبكات الاجتماعية في نقل المعلومات والبيانات التي تعبر فقط عن وجهة نظر الجماعات الجهادية. وفي تلك المرحلة، تحولت الصفحات والحسابات على شبكات التواصل إلى بوق للتطرف ونقل وجهات النظر الأحادية تجاه الآخر.
ثم جاءت المرحلة الثالثة، وهي أخطر المراحل، لأنها عملت على تحويل الفكر إلى سلوك، عن طريق التغيير السلوكي لدى المنتمي، حيث تحول من مجرد متعاطف، إلى فاعل ومشارك فعلي في التغيير بالقوة والعنف، وهو ما يظهر في التغيير السلوكي، وهي مرحلة تتم عبر المشاركة في أرض القتال الفعلي، أو القيام بعمليات انتحارية بعد عملية التعرض لغسيل المخ، تحت دعوى رفعة الجماعة والانتقال إلى العالم الأفضل.
تستخدم الشبكات الاجتماعية في التأثير القيمي داخل المجتمع، عبر بث حالة من الاغتراب الاجتماعي والتأثير السلبي على القيم الدينية أو قيم اجتماعية
هذا إلى جانب عدد من العوامل والمتغيرات، لعل أهمها [8]، ما يتعلق: أولا، بالبعد الجيلي: إن الشباب هم القاعدة العريضة من المجتمع السكاني، وهم الأكثر استخداما للإعلام البديل والشبكات الاجتماعي، وثانيا، البعد المؤسسي: ضعف دور الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والمؤسسات السياسية في القيام بدورها كمؤسسات وسيطة، وثالثا، البعد التكنولوجي: الانتشار والدخول الكثيف لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات، خاصة بين الشباب، ورابعا، البعد التنموي: إن الشباب الأكثر معاناة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية والفجوة وعدم المساواة، وخامسا، تراجع دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية ودور العبادة والمدارس والجامعات والأسرة ووسائل الإعلام، وسادسا، ضعف سيادة القانون وسوء حالة التشريعات القانونية القادرة على مواكبة تطورات العصر، والمعاناة من البطالة والفقر وضعف فرص العمل.
الدور المطلوب في معركة العقول والقلوب
لاشك أن عملية الدخول في معركة كسب العقول والقلوب لدى الشباب تتطلب أن يكون لدى وسائل الإعلام والقائمين على الاتصال والفاعلين الثقافيين وغيرهم، القدرة أولا، على فهم دوافع هؤلاء الشباب للنزوع إلى العنف، وفهم السياق الاجتماعي والسياسي، وتعزيز القدرة على طرح البدائل والحلول للمشكلات الاقتصادية، ومن ثم فإن تفعيل الخطاب الإعلامي في مواجهة التطرف يحتاج إلى رؤية واستراتيجية شاملة تعمل بشكل متوازي داخل الدولة، وتشارك فيها كافة المؤسسات المعنية بالشباب والثقافة وبالإعلام والمؤسسات الدينية ومؤسسات التنشئة الاجتماعية وغيرها، والعمل على تحديث المنصات الإعلامية لمؤسسات الدولة للعمل على مخاطبة الشباب بشكل أسرع، ومواجهة خطابات التحريض والكراهية بالمعلومات الصحيحة، والارتباط المباشر بين المسؤولين والشباب ومعرفة احتياجاتهم ومشكلاتهم. إن ترك الساحة خالية أمام تسويق الخطاب المتطرف يقع على مسؤولية مؤسسات الدولة، ومن ثم فإن الدور المنوط بها يجب أن يرتكز على ملئ الفراغ، سواء عند الشباب أو في وسائل الإعلام التقليدي أو الإلكتروني.
إن تنمية ثقافة الحوار والتسامح وحل الخلافات، أمر مهم وضروري، لأنها أساس معالجة ما يعتري مجتمعنا من مشكلات، وبإمكانها وقف تدهور الطاقة البشرية وقيمة الوقت للعمل على استخدام الإعلام في إحداث تغيير قيمي ثم سلوكي على النحو الذي يؤدي إلى تعزز القيم المحفزة على التنمية، مثل قيمة العمل والإنجاز والتطوع.
إن من شأن طبيعة شبكات التواصل الاجتماعي، إذا ما جرى استخدامها في مجتمع صحي، أن تسهم في الحوار البناء، والتعاضد الاجتماعي، وتعزيز ثقافة التسامح، إلى جانب تنمية رأس المال الاجتماعي، والذي من شأنه أن يحول تلك العلاقات المتكونة عبر الشبكات الاجتماعية إلى حالة إيجابية يتم توظيفها في المجال الاقتصادي، وتنمية الإبداع والابتكار، والتسامح وغيرها، وهو ما يستوجب الدفع بالترادف بتيار مدني قوي، عبر تنشيط دور المنظمات الأهلية والمؤسسات الثقافية، ودعم الاهتمام بتنوير الشباب والمواطنين، ورفع الوعي والمعرفة، وتحديث الدور والأدوات والآليات التي تتبعها الحكومات من أجل مواكبة التغيير، ورفع التحديات، وتعزيز فرص الاستفادة من الثورة المعلوماتية والاتصالية.
ولا شك أن العامل الاقتصادي لا يمكن تجاهله، خاصة أن الضغط المادي يؤثر نفسيا على المواطن وعلى الجماعة بشكل عام، ومن ثم فإن العمل على تحسين الدخل والمستوى المعيشي جزء مهم في عملية الحد من تدهور القيم الاجتماعية. ولا ينفصل ذلك عن أهمية مكافحة الفقر والبطالة بين الشباب، لأنهم هم الكتلة الحرجة داخل المجتمع، وهم الأكثر استخداما لها، والأكثر ناشطية ومعاناة في الوقت نفسه من ظروف الواقع المعيش.
إن عملية إنقاذ الفرد والمجتمع والدولة من تدمير القيم الأصيلة عبر تلك الوسائط الإعلامية الجديدة، تتطلب أن يكون الشاب هو منصة الانطلاق في تلك المواجهة، عبر تعزيز ثقافته العامة، ورفع مستويات الخطاب الثقافي للمؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، ليكون لها الدور الحاضن للشباب. ومن الضروري أن تلتزم وسائل الإعلام بالشفافية والمصداقية في طرح المعلومات، وتقوم بتشجيع روح التسامح والحوار والابتكار والإبداع، وذلك لأن ثقافة المستخدم هي السبيل الوحيد للوقاية الذاتية من مخاطر التعرض للخطاب المتطرف.
ولهذا، يجب العمل على تحديث الإطار التشريعي المنظم لوسائل الإعلام التقليدية، وتلك الخاصة بالإعلام الإلكتروني، وتبني تشريعات لمواجهة الجريمة الإلكترونية ونشر الكراهية والعنف عبر وسائل الإعلام، خاصة في ظل مجتمعات تمر بحالة انتقالية مثل المجتمعات العربية، وهو ما يستتبع أهمية دور الدولة بالتعاون مع غيرها بالتنسيق في الرؤى والخطط في المكافحة، فهو أمر مهم وحيوي سيمكن من سلك طريق النجاح لمكافحة التطرف والعنف، حيث إنه لا يمكن أن تقود الجزر المنعزلة حربا منفردة ضد الإرهاب والتطرف، بل يجب أن يتم ذلك في إطار التعاون الشامل والأمين والمهني في المكافحة.
كما أنه من الأهمية بمكان، رصد ظواهر الإرهاب وكشف الفاعلين والمتورطين، وطبيعة الممارسات الأمنية ضدهم أمام الرأي العام، وكشف زيف أفكارهم وخطابهم المتطرف، والعمل على تحسين القدرة على مواجهة العمليات النفسية عبر وسائل الإعلام، وعبر تعزيز الأمن الفكري، والعمل على تشجيع روح الاعتدال والوسطية، والحوار الهادئ، والتسامح وقبول الآخر، سواء داخل المؤسسات التعليمية أو الثقافية أو الدينية، والعمل على تغيير المناهج التعليمية بشكل يجعلها قائمة على الفهم والنقد البناء، وليس الحفظ والتلقين، وذلك من أجل المساهمة في خلق جيل جديد قادر على بناء الحوار والفهم، الذي هو ركيزة لتنمية الإبداع والابتكار عند الشباب، الذين هم عماد الأمة وأساس نهضتها الحديثة. كما يجب العمل على تعزيز التكاثف الشعبي مع المؤسسات الأمنية في مكافحة الإرهاب وإطلاع الرأي العام على حجم المخاطر الناتجة عن ظاهرة الإرهاب، ورفع الوعي، باتخاذ كافة التدابير اللازمة في مواجهة التطرف والعنف، والعمل على تعزيز قيم المواطنة، وتدبير الوقت لدى الشباب، لأنها قيم لازمة للنهضة الاجتماعية والاقتصادية. وتعزيز قدرة وسائل الإعلام على اكتساب الأفراد - خاصة الشباب - جملة من الخصائص السلوكية، والاجتماعية، وذلك من خلال العديد من المؤثرات والحوافز والدوافع، لأن الإعلام يعد منصة مهمة وضرورية للعمل على تنوير الرأي العام، وتحديد أولويات المجتمع في مجال التنمية، وغربلة القيم المحلية التقليدية بشكل يجعلها قادرة على تعزيز التنمية والتقدم، ومن جهة أخرى أهمية العمل على تفسير السياسات والتطبيقات التي يقوم بها صانع القرار أمام الرأي العام، بما يجعله شريكا، سواء بالمراقبة أو بالمساهمة الفعلية في عملية التنمية، والتي تحتاج إلى وعي جماهيري- شعبي.
[1] نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 51
[2] آرثر آىسا بيرجر، وسائل الإعلام والمجتمع: وجهة نظر نقدية، ترجمة، صالح خليل أبو أصبع، سلسلة عالم المعرفة، العدد 386، مارس/ آذار 2012، ص 35
[3] تعريف القيم لغة واصطلاحا، موقع "موضوع"، https://mawdoo3.com، آخر زيارة 12/9/2018
[4] محمد جكيب، أزمة القيم في عصر الإعلام، قضايا فكرية، مجلة حراء، العدد 61 - 05/08/2017
[5]عادل خميس الزهراني، هل يغير الإعلام الجديد في منظومة القيم الاجتماعية؟ مجلة المدينة، السعودية، 18 / 05 / 2017
[6] محمد مصباح، الإعلام الجديد: العولمة وتحدي "خصخصة" القيم، قسم الدين وقضايا المجتمع الراهنة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، مارس/ آذار 2014
[7] د. خالد حربي، الإعلام الجديد.. تحدي القيم، المجلة العربية، 14/8/2015
[8] عادل عبد الصادق، الفضاء الإلكتروني والرأي العام: تغير المجتمع والأدوات والتأثير، قضايا استراتيجية، المركز العربي لأبحاث الفضاء الإلكتروني، العدد 12، 2013