الإلحاد في الأردن: تهويمات وتهويلات
فئة : مقالات
الإلحاد في الأردن:
تهويمات وتهويلات (1)
فاتحة:
ثمة تهويمات - من جهة - فيما يتعلّق بموضوعة الإلحاد في الأردن، لناحية الخلط بين:
1- الموقف العَدَمي من الإله على الإطلاق، واتخاذ موقف رفضي كامل من وجوده في هذا العالَم.[1]
2- نقد الأطروحة الدينية الإسلامية، التي موضعت الإله في أنساق دينية بعينها، واعتبرت التطاول عليها، تطاولاً على الله ذاته. فالنقد المُوجّه إلى النص الديني وتابعاته، كان قد وصم بالزندقة في فترات سابقة، لكن التقليعة السائدة اليوم أكثر من غيرها هي تقليعة الإلحاد؛ فهي من الكلمات المُحمّلة بقوة معنوية كبيرة، تجعل من الدمّ ينفر إلى عروق المتدينين، وتدفعم ناحية أفعال خطيرة ومؤذية، معنوية كانت أم مادية. والناظر في بعض الحوادث التي أثيرت مؤخراً في الأردن (مثل حادثتي: زليخة أبو ريشة وحادثة ناهض حتر) وتمّ التعامل معها على أنها حوادث إلحادية، ما هي في حقيقة الأمر إلا نقد للخطاب الديني، بما يعني أنها لم تطال النص الديني التأسيسي أصلاً. فهي لم تفكّك منظومة النص الديني وتقدّم الدليل على تهافته الإبستمولوجي، وعدم قدرته على مجاراة روح العصر، وانتهاء صلاحيته الزمكانية من ثمّ، بما ينفي وجوده من حركة العمران البشري، وحركته الدائبة. بما يؤشر على:
أ- التخبّط المعرفي الذي يعاني منه الخطاب الديني في الأردن، وعدم قدرته على التفريق بين الإلحاد ونقد النص الديني، فهو يعيش حالة من الإفلاس الإبستمولوجي، نظراً لافتقادة أية رؤية فلسفية خارج إطار ما هو جاهز وناجز سلفاً في ذهنه.
ب- ترجيح - لربما تجلّى هذا الترجيح بوعي أو بدون وعي - لاستخدام كلمة إلحاد تحديداً في وسم النقادين للنص الديني، نظراً للحمولة السلبية التي تحملها هذه الكلمة في أذهان الناس. والعمل على دفعهم ناحية ردّات فعل انتقامية فورية.
ومن جهة ثانية، ثمة تهويلات تجاه النقد الذي يُوجّه إلى الأطروحة الدينية الإسلامية، كما قرّت في الذهن الجمعي، وتعرّف الناس عليها بصفتها الأطروحة الأمثل والأصح، للدين الإسلامي في هذا العالَم. فأي نقد لهذه الأطروحة - وما تتضمنه من أحمال أحيطت حولها هالة من القداسة المتينة - بصفتها ناطقية قصوى، تخرج من أفواههم تحديداً، عن إرادة العلي القدير؛ يتطلّب تهويلاً كبيراً، بحقّ الناقدين (يصبحوا بجرّة قلم ملحدين) للنص الديني ومواضعاته في الأذهان، من أجل تعاظم النقمة عليهم من قبل الكتلة الجماهيرية الكبيرة، وجعلهم يدفعون ثمناً باهظاً، نتيجة ما اقترفت عقولهم من تفكير مضاد لما هو سائد وحاضر بقوة.
إنّ التضخّم السيكولوجي بطهارة الذات، ومنحها طابعاً طهرانياً أثناء الحديث عن الدين وما حفَّ به من الكبريات والصغريات، هوّل من حجم النقد - أيّ نقد - للخطاب الديني القائم، واعتبره بمثابة إلحاد، لا يسعى فقط إلى إفقاد المسلمين طهراتهم الروحية، بل يسعى أيضاً إلى هدم قيمتهم الأنطولوجية في هذا العالَم، وتركهم في العراء الدنيوي، دونما معين ديني يعينهم على تبصّر الحياة في بُعديها الفيزيقي والميتافيزيقي. واقتضاء لواقع هذه المعادلة العتيدة، يُوسم النقاد للنص الديني بالإلحاد مبدئياً، ثم يوصم بالعار الديني والدنيوي بعد ذلك.
الجزء الأول: أو في التهويمات حول الإلحاد
أولاً: ليس ثمة موقف عَدَمي (فردي/ جمعي) من الإله على الإطلاق - أعني موقفاً يتأسّس على أطروحة إبستمولوجية ماكنة ومانعة - في الأردن، لعديد أسباب، منها:
أ- الافتقار إلى تنظيرات فلسفية كبرى، تُعيد إنتاج مصطلح الإله، وتمنحه مفاهيمية جديدة، في العقلين الفردي والجمعي، خارج السياقات التي أنتجها الدين الإسلامي لهذا الإله. حيث يمكن لهذه التنظيرات أن تملأ الفراغ الذي يمكن أن يُحدّثه التخلّي عن الأطروحة الدينية، ومواضعاتها للإله بشكل كامل ونهائي. لربما وجدت - وهذا ما يُعتمد عليه في أحيان كثيرة، ليس في الأردن فحسب، بل في مختلف البلدان العربية والإسلامية - جملة هنا أو عبارة هناك، يتم تأويلها على أساس أنها جملة أو عبارة إلحادية. لكن ليس ثمة أطروحة معرفية - بحدود ما أعلم - تُنظِّر لمفهوم جديد للإله، خارج إطار مواضعات الإله الإسلامي.
ب- الخوف الشديد من الإعلان عن تكتّلات إلحادية على الملأ، نظراً للتعبئة الدينية الجاهزة لدى مجموع الكتلة البشرية في الأردن، القادرة على الفتك (على المستويين الرسمي والشعبي) بأيّ تكتّل، يمكن أن يتجرّأ ويعلن عن نفسه بصفته تكتّلاً إلحادياً. وعندما أرى الدفاع المستميت الذي يمكن أن يخوضه أستاذ جامعي يُدرّس النقد الأدبي، والذي يفترض أن تكون مهمته الأساسية تفكيك النصوص تفكيكاً معرفياً، لا التسليم بها تسليماً إيمانياً، في الدفاع عن ثوابت المجتمع الإيمانية التي قرّت منذ قرون طويلة، وعندما أرى حماس الشباب المُتديّن في الأردن على مواقع التواصل الاجتماعي (أغلبهم طلاب دراسات عليا، ومن تخصصات مختلفة) في الدفاع السيكولوجي الشرس عمّا يعتقدون أنه الحقّ المبين، فإني أعي تماماً خطورة انتقال المُلحد من المرحلة الباطنية إلى مرحلة الظهور والعلن، نظراً للخطورة الكبيرة، التي يمكن أن تنطوي عليها هكذا مغامرة، إذ سيتم الاحتكام ساعتها، في التعامل مع الملحدين، إلى الحالة الغرائزية التي تعتمد على فكرة الانتقام السيكولوجي، لا إلى الحالة العقلية التي تسعى إلى تفكيك الحالة الإلحادية تفكيكاً نقدياً.
ت- الرفض الرسمي (الدستور: المادة الثانية من الدستور الأردني تنصّ على: "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية"/ دائرة قاضي القضاة: وهي هيئة قضائية عليا مرجعيتها الأساسية هي الأحكام الشرعية الإسلامية/ دائرة الإفتاء العام، ومن مهامها الأساسية البتّ فيما هو حلال وحرام، استناداً إلى الأحكام الفقهية الإسلامية/ وزارة الأوقاف، وهي إحدى الوزارات الأساسية في الحكومة الأردنية، التي تعمل على بثّ الثقافة الدينية الإسلامية/ كليات الشريعة، التي تُدرّس الفقه الإسلامي من جهة وأصول العقيدة الإسلامية من جهة ثانية، ومن فترة قصيرة تمّ استحداث بعض التفرّعات الجديدة، مثل: الإعلام الإسلامي، والمصارف الإسلامية/ دور تحفيظ القرآن، التي تعمل على تحفيظ القرآن للنشء الجديد/ الأحزاب والمراكز الإسلامية، التي تتخذ من التشريعات الإسلامية مرجعية وحيدة لها) والرفض الشعبي (فكلمة إلحاد في أذهان الناس مثل كلمة سرطان أو إيدز) للإلحاد، واعتباره تجاسراً على قيم المجتمع، ونيلاً من مرتكزاته الدينية العميقة.
لذا، ربما كان ثمة وجود لحالات إلحادية فردية في الأردن، تتخذ موقفاً عَدَمياً من الإله على الإطلاق، لكن لا سبيل إلى رصدها في الوقت الحالي، نظراً لعدم توافر أطروحات ظاهرة بشكل كامل عن الإلحاد الكُلّي.
ثانياً: ثمة حالة من نقد الخطاب الديني في الأردن، وفي هذه المنطقة تحديداً، تحدث عملية التهويم في نقد الأطروحة الإلحادية، إذ يُعتبر الناقد للخطاب الديني - من وجهة نظر المتدينين - ليس ناقداً لتفسيرات وتأويلات البشر للنص الديني، بل (ناقداً/ ناقماً) على النص الديني بشقّيه: القرآن والسُنّة النبوية. ولطالما واجه أشخاص في الأردن حملات تكفير من قبل المتدينين، لمجرد أنهم انتقدوا سلوكيات دينية أدّت إلى تأخرّنا الحضاري، وحشرنا في مأزق ثقافي كبير، لا قدرة له على مجاراة دفقات الحياة المُتتالية والمتتابعة.
السؤال: هل يجوز لأحد في الأردن أن ينتقل من مرحلة نقد الخطاب الديني كما تتمثّله بعض التفسيرات والتأويلات، إلى مرحلة نقد النص الديني تحديداً؟.
هذا سؤال محفوف بالمخاطر، لعديد اعتبارات منها:
أ- الصعوبة الكبيرة التي تواجه عموم العالَم الإسلامي - والأردن جزء من هذه المنظومة العتيدة - في الانتقال من مرحلة نقد الأسانيد إلى مرحلة نقد المتون، سواء ما تعلّق بالسُنّة النبوية أو بالنصّ القرآني.
ب- الخلط الكبير الحاصل لدى المُتدينين بين (خطابهم الديني) و(النص الديني)، فنصٌّ قرآني مثل: {إنَّ الله وملائكته يُصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليما} (سورة الأحزاب/ الآية 56)، سيخضع لنمطٍ من الخطاب الديني يفترض أن الصلاة على النبي الوراد في الآية، هي صلاة لفظية حصراً، تفترض بالمسلم ساعة قراءة أو سماع هذه الآية أن يُردّد: "اللهم صلّ وسلّم على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم". بما يجعل المُتديّن يستقرّ في خطابه استقراراً إيمانياً ساكناً، ويُقرّ - من ثمّ - بانسجام خطابه التديّني مع النص الديني، إلى درجة الحلول حلولاً كاملاً، فيصير الخروج عليه خروجاً على الله بالتالي!.
نظرياً، حسمت الآية القرآنية {لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغي...} (سورة البقرة/ الآية 256) موضوعة الإيمان بالدين الإسلامي من عدمه، حتى بالنسبة لمن ولدوا لأب مسلم وأمّ مسلمة، فحرف الجر [في] كان قد حسم مسألة الإيمان بالدين من عدمه، من الداخل.[2]
عملياً، التديّن في الأردن، حالة إكراهية بامتياز، بما يؤكد ما ذهبت إليه توّاً من تقدّم (الخطاب الديني) على (النص الديني)، و(أسبقية/ أحقّية) التديِّن على الدين، بما يجعل من التهويم عنواناً بارزاً في التعامل مع قضية الإلحاد في الأردن.
إذن، تحفّ بالإلحاد حالة من التهويم في الأردن، فالإلحاد المُتداول ما هو إلا نقد للخطاب الديني (أحياناً للنصّ الديني، وهي حالات قليلة، وقد لا تجد لها موطئ قدم للنشر في الأردن)، في عموميته. وما حالات التكفير التي تطال الناقدين لهذا الخطاب، إلا حالات تهويلية (وهذا ما سأتحدث عنه تباعاً) تعمل السلطة الدينية في الأردن - ما كان منها شعبياً أو رسمياً - على تضخيمها، وتحويل حبّتها الصغيرة إلى قُبّة كبيرة، لغاية إفشال أي محاولة تجديدية للتعامل مع النص الديني الإسلامي. فتلك الرؤية المحافظة، هي بلا شكّ - كما تروّج لها المؤسسة الرسمية والشعبية - هي الرؤية الأكثر قُرباً لله، وتلك الرؤية التجديدية، هي رؤية تجديفية بالضرورة، لذا ينبغي القضاء عليها واجتثاثها من الجذور، قبل أن تتحوّل بذرتها الدنسة إلى نبتة شيطانية تُهدّد الطمأنينة الدينية، التي يعيشها المسلم في الأردن!.
[1] كنت قد فصلّت في هذه الموضوعة في مقالتي (الإنسان والعَدَم: عن الإلحاد ورفض النص الديني)، المنشورة على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، بتاريخ 23/ أبريل/ 2016
أيضاً، يمكن الاطلاع على البحث الموسوم بـ (سوسيولوجيا الإلحاد في العالَم العربي) لـ عبد الصمد الديالمي، المنشور في مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، بتاريخ 21/ يوليو/ 2016
[2] كنت قد بسطت في هذه المسألة في مقالة: إكراهات التديّن في العالَم الإسلامي، المنشورة في جريدة الغد الأردنية، بتاريخ 15/ 8/ 2015