الإلحاد وضرورة التجديد في علم الكلام الإسلامي

فئة :  مقالات

الإلحاد وضرورة التجديد في علم الكلام الإسلامي

الإلحاد وضرورة التجديد في علم الكلام الإسلامي

مقدمة

قد يزعم البعض أن الإلحاد ظاهرة آنية نظرًا لما نطالعه في وسائل الإعلام مرئية كانت أو مسموعه، من حلقات وبرامج يقصها أبطالها على أوتار الذاكرة والجهل، ولكننا إذ نرقب إشكالية الإلحاد داخل المجتمعات الإسلامية بمنظار التاريخ، نراها ضاربة بجذورها في أعماق الماضي، فهذا هو العلامة محمد أبو زهرة (1974م) يُذكرنا من خلال مؤلفه الماتع "تاريخ المذاهب الإسلامية في العقائد والسياسة وتاريخ المذاهب الفقهية" بأن الزندقة قد اندفعت في أول العصر العباسي[1]، وهذا ابن خلدون (ت808ھ) يُسجل في مقدمته تلك الملاحظة الجديرة بالاهتمام، والتي تجعل لدراستنا عضُدا في ما قد تأتى به من حلول لمعالجة الأمر، فيشير إلى انقراض الملاحدة والزنادقة في زمانه[2]. إذن، فلا مناص من احتمال تجدد تلك الظاهرة عبر الأزمان.

نضع هنا أطروحات لمعالجة هذا الأمر، لعلها تحمل لنا حلولا لما يجول في خاطرنا من تساؤلات، تجاه أمه أضناها الجهل، وعاثوا بها في لُجى الفقر وضحالة الثقافة، ونسلط الضوء في السطور التالية على هذه الظاهرة، وسمات تلك البيئة التي تماهت في فلكها، وشكلت حلقة في دوائر نقاشاته، وكيف كان لعلم الكلام أثره في تلقيها وعلاجها؟ وما هي الحاجة المُلحة لإعادة الاعتبار والتجديد في علم الكلام من خلال إعادة المفاهيم، وخلق موضوعات جديدة من شأنها إثراء الحالة الفكرية؟

التشبع الإيديولوجي للرعيل الأول

حقيقة لسنا نحن المسلمين بحاجة إلى تلك البرامج التي يدعو فيها القائمون عليها إلى اللادينية من أمثال "أولاد إبراهيم" أو "صندوق أسود"، وإنما نحن بالأحرى بحاجه لنُعرّف بأولاد إبراهيم، ولحمل معاول هدم لطواغيت شيدها جهلاء الدين على مرّ العصور؛ فعند مطالعة التاريخ نستكشف إسلامًا وكـــأننا في عالم الخلود، نجد من تجرأ في طرح الأسئلة دون حرج، نجد من جادلوا وفقًا لأدبيات الإسلام مصداقا لقول الله عز وجل: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ ۚ) [الحج: 87]، فهذا أبو رزين يسأل النبى صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أين كان ربّنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كان في عماء ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء"[3]، وذهب جماعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وسألوه عن صحة ما جاء في القرآن من أن فريقا في الجنة وفريقا في النار، ثم قالوا له: إذن فيم العمل يارسول الله؟ فأجاب: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، واستمر الحال على ذلك زمان أبى بكر وعمر[4] .... إلى غير ذلك من النصوص التي تُظهر عبقرية فائقة في التفكير كانت تعتري هؤلاء الأُول، وبراعة متميزة في طرح التساؤلات ممن تربّوا في مدرسة من قال الله عز وجل في حقه «وعلمك ما لم تكن تعلم»، وحكمة مستنيرة ترجمتها سعة أفق المصطفى صلى الله عليه وسلم.

نحن أمام تراث حافل بالبطولات والسجالات الفكرية، وفي رؤيتنا القاصرة أنه ما كان لهذا البناء الفكري أن يوطد أوتاده في قلوب الأوفياء إلا بأطروحات تنطلق في سلام، فتهوى مسرعة نحو أفئدة المتلهفين، ونقول: إن الأفكار لا تستقر في عقول الأرواح إلا بأدوات يقينية منطقية، وهذا ما اعتمد عليه فقط حكماء الأقدمين، وما من أحد يستطيع أن يقول إن آلة المنطق لم يعرفها مفكرو المسلمين، فلا داعي لإنكار ذلك، فلقد أشار القرآن الكريم إلى تلك البديهة في قول الله عز وجل: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: 111]، ولتأكيد تلك الحقيقة يذكر الشهرستانى (ت548ھ) في كتابه "الملل والنحل" هذا النص، فيقول: «ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين نُشرت أيام المأمون فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنًا من فنون العلم، وسمتها باسم الكلام، إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها، هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها، إما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان».[5]

كانت البيئة التي تشكلت فيها عقول الرعيل الأول من المسلمين فكرية باحتراف، حتى وجدنا كذلك من الملوك من كان "أعلم الخلفاء بالفقه والكلام"[6]، ويعتني بحركة علمية ربما تتطور بها عقول المسلمين، فكان المأمون (ت218ھ) وكان بيت الحكمة؛ عرين الفلسفة العربية ومهدها، الذى أنشاه ووضُع عليه أول فيلسوف في الإسلام وهو الكندي (ت256ھ)، الذي قال: «ولعمري إن قول الصادق محمد صلى الله عليه وسلم، وما أدى عن الله عز وجل، لموجود جميعا بالمقاييس العقلية، التى لا يدفعها إلا من حٌرم صورة العقل، واتحد بصورة الجهل من جميع الناس».[7]

يُصور لنا العلامه محمد زاهد الكوثري (ت1952م) هذا الواقع بما حمله من سجالات فكرية، وثراء معرفي في مقدمته لـ"تبيين كذب المفتري في ما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعرى" فيقول: «وبعد أن ابتدأ يطرأ بعض فتور على الفتوح، ازداد الناس تفرغا لتلك الآراء المبثوثة، وتغلب على عقولهم شهوة التعمق فيها، وأخذ أمثال ابن المقفع، وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس، وعبد الكريم بن أبى العوجاء، يواصلون السعي في نشر الإلحاد بين المسلمين، وترجمة كتب الملاحدة والثنوية من الفرس، حتى استفحل أمرهم، فأمر المهدى علماء الجدل من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين، فأقاموا البراهين وأزالوا الشبه، وأوضحوا الحق وخدم الدين».[8]

تمتلأ مكتبات تراثنا الإسلامي بالعديد من مؤلفات حول العقائد والفلسفات، حيث قد ثبت يقينا أن عالمنا الإسلامي وُلد مفكرا عبقريًا، وما يبيت ليلة واحدة، إلا وراودت رُوحه خواطر وتأملات، ومن تأمل القرآن الكريم يجد أن خطاباته تتنوع بين بلاغية، وجدلية، وبرهانية لتناسب كل العقول والأفهام، وفى سنتنا العطرة ساحات ومنابع مُوردة للأفكار، وحياة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم امتلأت بكثير من الأمثلة، وشهد تاريخ الأمة بزوغ ملل ونحل وتيارات، منها من نهل من فيض النور الإلهى، فكانت به البركه والنعيم، ومنها من أخطأ الحق، فكان له من نبيه الكريم العفو والجزاء الكريم، ولا ضير في هذا، فربنا عز وجل يقول في كتابه العزيز: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ..) [آل عمران: 7].

شهدت القرون الأولى من تاريخ الإسلام ظهور التوابين والبكائين، وأحرار الإسلام، والصفاتية، وأهل العدل والتوحيد، وأصحاب الحديث وأهل السنة، والعامة والحشوية، والإسماعيليه والزيدية، وفرق وتيارات فكرية شتي، وامتلأت ليالى تلك الحقب التاريخية بالمجادلات السياسية، والفقهية، والفلسفية ولكن لمؤرقات وأهواء ملَكية، انقطع مداد الأفكار عنوة، وختمت على عقول شتى تياراته، في حقبة ما، ما يسمى بالبيان القادرى[9] (433ھ)، فتركزت أنظار الأمة الإسلامية حول ما أدت به بنوده إلى وحدوية الرؤية، وموضعةُ الدين السماوي في قالب واحد، وتقديمه في نسخته الفقهية فقط، فكان لذلك أثر سلبي على ما دعت إليه كُتبنا المقدسة، من تعددية للأفكار ومن تلاقح ثقافي بين أمم مضت وأمة من شأنها أن تقدم الكل للكل، حيث كان واجبًا أن تصير رسالة عالمية، تتشبع من الماضي لتُشْبع مستقبل الشعوب والقبائل كما أخبر القرآن (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13]

إن واقعنا التيولوجي مأزموم، وأوضاعنا الحالية على تعدديتها في أحلك عصورها، وربما وفقا للدورة الحضارية التي صاغها المفكر الجزائري مالك بن نبي (ت1973م) "في شروط النهضة"، لا تزال أمتنا تقبع في سبات عميق في طورها الثاني، وهو طور الاضمحلال والانهيار كما هو أيضا طور الغزو الفكري، الذي بدأ منذ زمن بعيد، وأفكارنا خاضعة تمامًا لنظريات غربية، وقرآننا يقع تحت التلسكوب الهندسي للمستشرقين، وتراثنا في مكتبات الغرب يعيثون في أنواره، تارة تحقيقا، وتارة تزييفا للأفكار، وتارة أخرى تشويها لأحداث تاريخه، والتساؤلات التي لابد من طرحها بهذه المناسبة هي من يحفظ لنا تراثنا الآن؟ من يعمل عليه؟ أين نحن منه؟

كان هذا واقعا مجيدًا ارتأينا أن نسلط الضوء عليه، لنعلم بأننا كأمة إسلامية تداعت علينا أمم شتى بثقافاتها المادية، ولادينيتها المدمرة، وأنه لا مستقبل مالم نعمل على رد الاعتبار لتراثنا، من خلال قراءته من جديد وفقا لمقتضيات العصر، وما صلُح منه لابد أن يشكل نقطة الانطلاق، وربما ما نطرحه اليوم من ظاهرة، نراها تعبيرا جليًا وأثرا لإهمالنا وغفلتنا عن علومنا الإسلامية، قرآنية، حديثية، لغوية، كلامية، فلسفية، وعلوم صنعة من كيمياء، وعلم فلك، وطب، وهندسة .... إلخ.

نعود إلى أزمتنا المعاصرة، وظاهرتنا المؤلمة، والتي أُفضّل أن أضعها بين اختيارين، لأكون منصفا عند معالجة الأمر (ملحدونا بين الفطرة الفائقة والفراغ الإيديولوجي)، حيث تطالعنا أجهزة الإعلام المحلية والعالمية بمن يُثيرون لغطًا حول الإسلام وقضاياه، وهذا مُبرر بالتأكيد، فما يعانيه العالم العربى والغربى، من قماءات الإرهاب والتطرف لهو شاهد على الأحداث، ولكن أخذني تيار كنت قد اقتنعت تمامًا وعبرتُ عنه بظاهرة الملحد المفكر، ولربما تحمل تلك السطور القليلة القادمة ما يبرر لنا تبنينا لهذا التعبير، ولم لا؟ فهؤلاء الملحدون الجدد ألسنتهم مفوهة، أيديهم راسخة في العلم، وعباراتهم متقنة، ويعرفون عن الإسلام الكثير نظرًا لتحولهم أو لتحول البعض عنه، فكان منطقى جدًا أن نرى بعضا منهم عالم بعلوم القرآن والحديث، وأصول الفقه، مترمسًا فطنا لشتى أنواع التفاسير، وعلم الكلام والمنطق، بل وحتى تيارات الفكر المعاصرة وملمًا بخبرات الدول، وسياساتها الإقتصادية، هم فئة مثقفة وجديرة بالاهتمام لاشك، يأخذون الألباب من إشكال ما يطرحون، ويستأهلون حقا ما وصفناهم به من حدة الذكاء وسعة الاطلاع والبراعة، ففطرتهم فائقة، وأخذتني طريقة محاوراتهم، وذكرتني بمناظرات واصل بن عطاء المعتزلي مع سمنية الهند، وما كان بين أبي الأشعري (ت324ھ) وأستاذه أبي علي الجبائي (ت303ھ) عن حقيقة التوبة، وما حدث مع الإمام أحمد (ت241ھ) في محنته، ومحاورات النظام المعتزلي، كما أن أحاديثهم مختلفة عما يجري في أيامنا هذه من دعوات تجديد للخطاب الدينى، وما تنقله البرامج الدينية غير المبرر كثرتها على الإطلاق، من فتاوى معاصرة أو حديث فقهى سقيم، لا تناسب لغته الواقع المعيش، ولا يخضع لاعتبار الفهمين؛ فهم الواقع وما يجب في هذا الواقع، وربما يتناغم هذا مع التكريس لقالب الدين الجديد، الذي صنعته وشدت أعوداه أيادي السلطوية المتغلبة بسواعد حراس المعبد، فكانت النتيحة فراغا إيديولوجيا، عقولا متحجرة، تيارات سلفية متكلسة، وتيارات سياسية لا تعرف من الدين الحنيف غير سيف وغصنيْ نخيل، ومن المفارقات الغريبة أنه في ما مضى، كان المسلمون إذا فرغوا من الفتوحات يبدؤون بالتفكير حتى في ما قد يندر حضوره في الأذهان من المسائل الفلسفية ومثيلاتها، ككونهم مثلا أحرارًا أم مجبرين؟ أما نحن مسلمي اليوم، فقد جذبتنا ضحالة الفكر إلى عالم المجهول، إلى عالم الجريمة، وإلى ظلمات التخلف والجهل.

يتناول هؤلاء الملحدون طبيعة الإله، وهل ما بين أيدينا كلام إلهي أم خلق بشري؟ وعن نفي صفات الإله، وعن التشبيه والتجسيم، وعما في القرآن من متناقضات، وعن حديث الحور العين الذي تؤكده الآيات القرآنية وعدد من الأحاديث النبوية، وعن القرآن والحقائق العلمية عن النجوم والفلك، وعن لغة القرآن التي لا تناسب العقول، وعن تاريخانية النص القرآني، وعن الجنة وأهوال النار التي لا تتناسب مع الطبيعة الخيرة للإله، وهذا بحق جدير بالرصد والتحليل.

لقد شهد تاريخ المسلمين في القرون الأولى توالد العديد من الملل والنحل التي توافدت على مجتمعاتنا بفعل انتشار الإسلام، ويخبرنا "جوستاف ڤون جرونباوم" في كتابه "حضارة الإسلام" بأنه كانت هناك قوتان عظيمتان قبل الإسلام في شبه جزيرة العرب؛ قوة الروم والتي أقامت لها مملكة الغساسنة، وكانت دولة مسيحية في بلاد الشام، وقوة الفرس والتي اتخذت لها دويلة اللخميين في العراق وعاصمتها الحيرة، وكما هو معروف أن تلك الأخيرة كانت تدين بالثنوية، القائلين بخالقين اثنين: النور خالق الخير، والظلمة خالق الشر، على اختلاف فرقهم من مانوية وديصانية ومزدقية وغيرها، كما يذكر الإمام الكوثري: «ووراء تلك الأمم أمم أخرى على أشكال في الغواية كالدهريين والطبيعيين نفاة الصانع، وهم آفة الفضيلة والعمران في كل جيل، وكالسمنية والبراهمة القائلين بنفي ما وراء الحس، والمنكرين للنبوة، ولم تزل فلسفتهم أم الهوان والذلة»[10]، وآخرين على اختلاف عقائدهم وتياراتهم ولغاتهم وثقافتهم، ولم يكن أمام الإسلام إلا حمل هذه الأمانه للذود عن دين الله بالحجج والبراهين، ولم يكن من المنطقي أن يركن المسلمون فقط إلى ما بين أيديهم من آيات قرآنية، أو بعض من أقوال نبيهم للدفاع عن عقائد الإسلام ضد ما يتسلل إلى دولتهم، ويهدد استقرار عقيدتهم الربانية، وسريعا جدًا ظهر ما يسمى بتيار المتكلمين والكلام الذي يُعّرفه الفارابي (339ھ)، الملقب بالمعلم الثاني ومؤسس الفلسفة الإسلامية، فيقول: «وصناعة الكلام ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التى صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل»[11]، وهؤلاء المتكلمون كان لهم الفضل الكبير في الدفاع عن الإسلام في الداخل والخارج، وينبغي أن نؤكد هنا إشادة العديد من علماء الإسلام بدورهم، فهذا هو الإمام أبي حامد الغزالي (ت505ھ)، يذكر في "المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال" قائلا: "ثم ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورًا مخالفة للسنة، فلهجوا بها وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها، فأنشأ الله تعالى طائفة المتكلمين، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب، يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة".[12]

إن ما يثيره تيار الملحدين الجدد من أفكار ليس بجديد، فهي ليست إلا إحياءً لأفكار قد حُكم عليها أن تندثر منذ زمن بعيد، وإن كان هناك ثمة مسؤولية، فإنما تقع على عاتق المسلمين أنفسهم، ممن جهلوا ماضيهم العريق، وعلى مفكري المسلمين مزيدًا من لفت الانتباه وإعادة الاعتبار لهذا العلم.

ينبغى أن نعلم أيضًا أن تلك الأفكار التى يثيرها هؤلاء الآن، بالإضافة إلى كونها استعادة لمناظرات قديمة، ليست من البراعة والذكاء، إذا ما قورنت بفلسفة حدوث العالم لدى الجعد بن درهم، وبمبدأ الشك والتناسح، والطفرة، والظهور والكمون، وتعريف الإنسان عند النظام، ونظرية والجوهر الفرد، والمرُكب البسيط عند أبى الهذيل العلاف، والتناسخ للفضل الحدثي، ونظرية الذر للإمام أبي الحسن الأشعري، وكيف أن العالم قديم بالزمان حادث بالذات عند الفارابي، والبعث الروحي عند ابن سينا ..إلخ من نظريات وفلسفات في مجال الميتافيزيقا عرفها المسلمون الأوائل في بداية عصر الإسلام.

علم الكلام ومطلب التجديد

تزامن كتابة هذا المقال مع حضور شخصية بارزة في العالم العربي، وهو الدكتور عبد الجبار الرفاعي، مفكر وفيلسوف عراقي، ضمن قائمة المحاضرين بكرسي قناوتي، بمعهد الآباء الدومنيكان للدراسات الشرقية بالقاهرة، والذي ألقى محاضرة ثرية جدَا جاءت بعنوان "الدين أمام مستجدات العلوم الإنسانية من أجل علم كلام جديد"، فخطر ببالي للوهلة الأولى أن المحاضرة ستدور محاورها الرئيسة حول ضرورة إعادة الاعتبار لعلم الكلام، والتجديد فيه وفي مباحثه، كونه ضرورةً ملحةً في وقتنا الحالي، من أجل وأد ظواهر قد استشرت في زماننا كالتكفير وعدم قبول الآخر، والإلحاد الذي أصبح ظاهرة يراها الجميع، والتطرف والإرهاب الذي تسبب في تقليص دائرة الحوار بين طوائف الملة الوحدة وبين المجتمعات، كما كان نقطة الانطلاق في سفك المزيد من الدماء، وإثقال كاهل العالم الذي يجابه بالفعل كوراث لا سابقة لها عبر التاريخ.

لقد ظهر منذ قرنين علم اصطُلح على تسميته علم الكلام الجديد، من أجل التجديد في موضوعاته، وإعادة النظر في أهدافه ومراميه، كي تناسب متطلبات العصر، فكما أن القدماء من المتكلمين صاغوا تعريفات عدة لعلم الكلام على أنه «صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل»[13]، وقعدوا موضوعاته لتكون النظر في أسماء الله عز جل وصفاته من خلال ركيزة التوحيد، وإرادة العبد واختياره من منظر العدل الإلهي، والنص الإلهي وحقيقته، وقضايا الوحي والنبوة، وموضوعات الميتافيزيقا، ومحور الإيمان والكفر، وماهية الإنسان كخليفة الله في أرضه، والمحرك الأول في صناعة فردانيته ومجتمعه؛ فمن واجبنا كذلك التجديد في تلك الموضوعات، فلكل زمان منطلقاته الفكرية، ووعائه الفكري- الذي تتراكم معارفه بتجدد الأزمان وتبدل الظروف المعيشية المحيطة به.

كان ظهور هذا المصطلح لأول مرة مع الكاتب الهندي أحمد سيد خان، الذي قال في خطاب له عام 1286̸1869م: «إننا نحتاج اليوم إلى علم كلام جديد، نستعين به على إبطال التعاليم الجديدة، أو إثبات مطابقتها لمراتب الإيمان في الإسلام»[14]، ثم بعد ذلك استخدم المصطلح في كتابات العالم الهندي شبلي النعماني 1332̸1914م الذي جعله عنوانا لأحد كتبه، قاصدًا منه الرد على الشبهات الحديثة والدفاع عن الشريعة، يقول في مطلعه: «إن علم الكلام القديم يٌعنى ببحث العقائد الإسلامية؛ لأن شبهات الخصوم كانت ترتكز على العقائد فقط، بينما يجري التأكيد هذا اليوم على الأبعاد الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية في الدين، وتتمحور الشبهات حول المسائل الأخلاقية والقانونية من الدين، وليس حول العقائد، فإن الباحثين الأوروبيين يعدّون الدليل الأقوى على بطلان الدين مسائل تعدد الزوجات، والطلاق، والرق، والجهاد. وبناء على ذلك سيدور البحث في علم الكلام الجديد حول مسائل من هذا القيبل، حيث تعد هذه المسائل من اختصاص علم الكلام الجديد»[15].

توالت المحاولات والكتابة في هذا العلم الجديد مع أمين الخولي، ومحمد إقبال في كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، كما كان لنصر حامد حظه من التجديد في علم الكلام في كتابيه "مفهوم النص" و"نقد الخطاب الديني"، كما عُني المفكر عبد الجبار الرفاعي بهذا المشروع الرائد في مؤلفه الماتع "مقدمة في علم الكلام الجديد" الذي كان موضوع محاضرته بمعهد الآباء الدومنيكان المؤرخة 17 مايو 2024.

إذن فلابد من التجديد، ولابد من فتح آفاق جديدة من أجل التغيير وإعادة النظر، فهذا حق أمة العصر؛ فالنص الإلهي ليس حكرًا لجيل دون جيل، أو لفرد دون فرد، فالكل في إطار (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].

لكن وبالتأكيد على كل هذا من قبل مفكرنا عبد الجبار الرفاعي، والذي جاء عرضه لموضوع علم الكلام الجديد أكثر من رائع، وبسط محاولاته في تجديد موضوعات الدين، الوحي والنبوة، الإنسان، إلا أن مشروعه خلا من أي رؤية جديدة لمفهومي الجنة والنار، بل ومن أي فلسفة جديدة لرؤية العالم (الكوسموجونيا) داخل إطار علم الكلام الجديد، إلا أن منطلقاته في بناء علم الكلام الجديد كانت مختلفة بعض الشئ، حيث إنه ذكر أن الدافع في بناء علم الكلام الجديد هو أن تراث علم الكلام القديم كُفري ويعج بالتكفير، كما أنه اتهمه بأنه تراث الأمة الناجية، ثم أطنب فقال إن سمة الكثير من هذا التراث قاتل، وما تبقى منه مسموم، كما قال إن هذا التراث ليس قيميًا، وأنه يخلو من أي دوائر للأخلاق، كما أنه لا يُعنى بالإنسان، ولا بقيمة كونه مركز الأرض وخليفة الله في أرضه.

الحق أن هذا الخطاب يُشعر بنوع من الدهشة، وربما يتعدى إلى خيبة أمل، حيث إن أمثال تلك الدعوات تهدف إلى تجاوز تراث علم أصيل من العلوم الإسلامية، والذي استغرق في بنائه أكثر من ثمانية قرون من حياة المسلمين، والذي ظل مجالًا تموج فيه الأفكار والرؤى الكلامية عبر قرون وقرون، وتشكلت بداخله مدارس كان لها النصيب الأكبر، فنرى الواصلية، والعلافية، والنظامية، والأشعرية، والماتردية، والزيدية، والإسماعلية وغيرها من المدراس الكثير والكثير، ويرجع هذا الثراء الفكري في نظرنا إلى عاملين رئيسين: الوقت الذي أتيح للأجيال الأولى في القرون الأولى، وانقراض الملاحدة على حد تعبير ابن خلدون.

يذكر أحمد فؤاد الأهواني في تصديره لكتاب شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ت415ه): «وكان المسلمون في شغل عن الجدال في الدين والخوض في المباحث الكلامية بالفتوحات الكبري. فلما انتهى غزو فارس والشام ومصر واستقرت الفتوحات، وتدفقت الأموال على عاصمة الخلافة، أخذ المسلمون مع الفراغ من جهة، والتطلعات السياسية من جهة أخرى، ينظرون في دقائق أصول الدين التي تعرف بالمباحث الكلامية، وبدأوا بالتفكير في الإنسان أحرٌ هو في أفعاله أو مجبر عليها؟ فإذا كان حرا فهو مسؤول، وهو بمقتضى ذلك مستحق للوعد والوعيد؛ أي للثواب والعقاب».[16]

كما يشير النص التالي لابن خلدون إلى أن مهمة علم الكلام تكمن في الحجاج عن العقائد الإيمانية في السياسة والعقائد بالأدلة العقلية، والرد على المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة.[17]

يقول ابن خلدون: «وعلى الجملة، فينبغي أن يٌعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم؛ إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا. والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنَزّه البارئ عن كثير إيهاماته وإطلاقه».[18]

إن اتهام تراث علم الكلام بأنه كفري ومسموم، وأن هذا دافعه في بناء علم كلام جديد، لم يأت به، إلى حدود علمنا من مفكرينا العرب سوى المفكر عبد الجبار الرفاعي، وهذا مردود عليه بلا شك، فلقد نوقشت منذ أسبوعين تقريبًا مناقشة رسالة لنيل درجة الدكتوراه، حملت عنوان (عقيدة الأشعري من منظور المستشرقين الفرنسيين-دانيال جيماريه أنموذجا)، للباحث السيد عبد الهادي أحمد محمد، حيث أكد الباحث أن هذا المفكر الفرنسي قضى حياته في بحث عقائد الأشعرية، دراسة وتحقيقًا، وما أخبرنا هذا المستشرق الفرنسي أن هذا التراث الأشعري كان كفريًا، بل على العكس تمامًا، فلقد أشاد بهذا التراث، ودعا إلى إعادة الاعتبار له.

ولم لا؟ فلقد كان لأبي الحسن الأشعري عبارة شهيرة قبيل وفاته لا تزال الأجيال تتناقلها حتى وقتنا الحالي، وتصلح كذلك لأن تكون نقطة الانطلاق في تأسيس منهج يقوم على التسامح ونبذ العنف، فقد قال الإمام أبو الحسن الأشعري لأحد تلامذته في بغداد قبيل وفاته: «أشهد عليّ أني لا أكفر أحدًا من أهل هذه القبلة؛ لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات»[19].

كما أن المستشرق الفرنسي إرنست رينان (ت1892م) كان قد ألقى محاضرة بجامعة السوربون بباريس عام 1883، اتهم فيها المسلمين بأنه ليس له أي علاقة بالفلسفة، لكن استثنى من ذلك علم الكلام، كونه المنتج الحقيقي لتلك الأمة الإسلامية، ولم يتهم فيها هذا التراث الإنساني بما تفضل به المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي، كما أن هناك كرسيا بتلك الجامعة الباريسية العريقة يحمل عنوان كرسي علم الكلام الإسلامي والفلسفة، يؤطره زياد بو عقل، وقضيت في حضور محاضراته الثرية ستة أشهر أدرس فيها آراء تيارات ونحل المسلمين في علم الكلام، ولم يتهم أحد هذا العلم بأنه قاتل ومسموم.

يذكر الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور نقلا عن كتاب "ابن رشد والرشدية" لإرنست رينان: «ومن قبل وقف المستشرق الفرنسي رينان من الفسلفة الإسلامية المشائية موقفا نقديًا حادًا، جرّدها فيه من أي أصالة، وحكم عليها بأنها لم تكن عند أصحابها إلا استعارة خارجية صرفا، وأنها خالية من كثير من الخصب، وأنها ليست إلا تقليدا للفلسفة اليونانية، بل إنها فلسفة يونانية كُتبت باللغة العربية، وعلى الرغم مما تتسم به هذه الآراء من حدة، وما تفتقده من إنصاف، وما تكشف عنه من نقص نسبي في المعلومات عن هذه الفلسفة، بسبب قلة النصوص المنشورة والمعروفة في عصره، على الرغم من هذا كله نجده يقول: "والفرق الكلامية هي التي يجب أن يبحث فيها عن الحركة الفلسفية في الإسلام"، ثم يقول: "وفي الفرق الدينية التي صدرت عن الإسلام ما يجب أن يبحث فيه عن تفنن العرب وشخصيتهم وعبقريتهم" (ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر ط2̸1957، صفحات 14، 15، 23، 105، 106، 116، إلخ»[20].

وكما هو معروف، فإن الغزالي في كتابه -المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال- قد كفر الفارابي وابن سينا لقولهم بقدم العالم، والبعث الروحي دون البدني، والعلم بالجزئيات دون الكليات، لكن لم يحكم على تراث المتكلمين الذي درسه هو بنفسه، لكن لم يتهم تراثه بأنه كفري ويبنغي تجاوزه، بل على العكس تماما، فلقد أشاد به وبدور متكلميه كما أشرنا سابقا.

كما كان علم الكلام وتراثه موضوعًا وعناوين كتب لمفكرين ألمان وفرنسيين وغيرهم، من أمثال ت.ج. ديبور، جوستاف لوبون، هنري كوربان، ڤان إس، جوستاف دوجا، دانيال جيماريه، كاسبار وغيرهم ممن أولوا بهذا التراث اهتماما خاصًا.

نشير أيضا إلى أن هذا المفكر الفرنسي الأخير له بحث نُشر في مجلة معهد الآباء الدومنيكان تحت عنوان تجديد المعتزلة، وأشاد بدور الإمام محمد عبده في هذا التجديد، كما أن هناك مفارقة غريبة، وهو أن عنوان تلك الدورة التي أدلى فيها المفكر عبد الجبار ياسين محاضرته تحمل اسم كرسي قناواتي؛ جورج شحاته قناواتي (1905-1994)، مدير معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومنيكان الكاثوليك، الذي ألف كتابا مهما، وهو (المدخل إلى علم الكلام)، ثلاثة أجزاء، بالاشتراك مع الفرنسي لويس جارديه، استعرض فيه آراء المتكلمين المسلمين وإسهامتهم في حقل المعرفة الإنسانية، كما أن الحلقة الأولى من حلقات الفلسفة العربية، ترتكز على علم الكلام، وكما هو معروف فإن الكندي، والذي عنون الإمام الفيلسوف الشيخ مصطفي عبد الرازق كتابه ب-فيلسوف العرب والمعلم الثاني- أكد أن الكندي كان متكلما معتزليا، كما أن النهج الفلسفي في تصور الأسماء والصفات عند فلاسفة العرب في النفي السلبي للصفات جاء على النمط الاعتزالي.

علم الكلام والمحور الأكسيولوجي

يتهم الدكتور عبد الجبار الرفاعي علم الكلام القديم بأنه يخلو من أي دعوة لقيمية أخلاقية، ومن أي تعريف لمفهوم الإنسان، ولهذا يتحتم علينا إرساء دعائم علم الكلام الجديد على هذين المفهومين، وحقيقة أن الأمر لا يحتاج إلى إمعان نظر في كتب تراث علم الكلام من أجل تفنيد هذا الزعم، ولكن يكفي تصفح بضع ورقات منه، كي نصل إلى تصورات علماء الكلام للإنسان، وكيف أن هذه التعريفات جاءت في معظمها على إثر خلفية ذاتية، والقليل منه تأثرًا بفلاسفة اليونان، وعلى رأسهم أرسطو الذي يعرف الإنسان على أنه حيوان ناطق، وهو نفس التعريف الذي سيتبناه بعد ذلك الفارابي وابن سينا عند تقسيمهما لمراتب الموجودات.

ولنتأمل حديث الشهرستاني عن تعريف النظام (ت229ھ) للإنسان، فيقول: «وافقهم أيضا في قولهم: إن الإنسان في الحقيقة هو النفس، والروح، والبدن آلتها وقالبها، غير أنه تقاصر عن إدراك مذهبهم، فمال إلى قول الطبيعيين منهم: «إن الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقلب بأجزائه مداخلة المائية في الورد والدهنية في السمسم والسمنية في اللبن، وقال: إن الروح هي التي لها: قوة، واستطاعة، وحياة ومشيئة، وهي مستطيعة بنفسها والاستطاعة قبل الفعل».[21]

كما أن الإمام أبا الحسن الأشعري كان قد كرّس فصلا كاملا بعنوان "واختلف الناس في الإنسان: ما هو" نقل فيه تعريفات علماء الكلام المسلمين وتصوراتهم عن الإنسان في مؤلفه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، يتلوه فصل آخر بعنون -واختلف الناس في الروح والنفس والحياة، وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل الروح جسم أم لا؟[22]، وسنرى تصورات لأبي الهذيل العلاف، وبشر بن المعتمر، وعباد بن سليمان، وابن الرواندي، وغيرهم، كل هذا داخل حقل علم الكلام القديم، وإذا انتقلنا إلى فلاسفة العرب، سنجد منطلقات أخرى وركائز أخرى في تصور البناء المفاهيمي للإنسان، من أمثال الفارابي وابن سينا (ت427ھ) وابن طفيل (ت581ھ) وغيرهم.

أما عن المنظومة القيمية، فهذا مما يجب التوقف عنده، فقضية الحرية الإنسانية أو كما يتم تناولها في علم الكلام على أنها الإرادة والاختيار، لم تُدرس في علوم المسلمين دراسة نظرية -تقوم على النظر البرهاني- إلا من خلال علم الكلام الإسلامي في العصور الأولى للإسلام، وهي لا غرو قضية معروفة، وتم تناولها بين تيارات الجبرية، والقدرية الأول، وأصحاب الحديث وأهل السنة؛ أي قبل أن تتسع دائرة الجدل حولها بين المعتزلة والأشاعرة، بين الإرادة والاختيار وبين الكسب.

ينقل المسعودي في "مروج الذهب ومعادن الجوهر" عقيدة المعتزلة في الإرادة والاختيار، فيقول: «أن الله عز وجل لا يحب الفساد ولا يخلق أفعال العباد، وأنهم يفعلون ما أمروا به أو نهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركبها فيهم، وأنه لم يأمر إلا بما أراد، ولم ينه إلا عما كره، وأنه وليُّ كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم ما لا يطيقونه، ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه، وأن أحداً لا يقدر على قبْض ولا بَسْط إلا بقدرة الله التي أعطاهم إياها، وهو المالك لها دونهم، يُفنيها إذا شاء، ويُبقيها إذا شاء، ولو شاء لجبر الخلق على طاعته، ومعهم اضطرارياً عن معصيته ولكان على ذلك قادراً، غير أنه لا يفعل، إذ كان في ذلك رفع للمحنة، وإزالة البلوى»[23]، ولا شك في أن تلك المسألة لا تهدف إلا إلى وضع الإنسان أمام مسؤليته الفردية، وأمام ما يرتكب من كبائر ومعاصي، حفاظا على أمن واستقرار الإنسان على المستوى الفردي والجماعي من ناحية، وكي يستأهل ثوابا أو عقابا في الدار الآخرة من ناحية أخرى.

كما أن قيمة التسامح وتصور السعادة بين البشر، دونما تمييز ومحايدة، تم تناولها كذلك من خلال الرؤية الكونية للإنسان عند الفارابي، حيث إن الأخير يرى أن الإنسان قد يبلغ السعادة تحت أي ملة، وهنا نوصي بمطالعة كتاب الأستاذ إبراهيم العاتي في هذا الصدد، فكتابه جاء بعنوان "الإنسان في الفلسفة الإسلامية، نموذج الفارابي".

يؤكد الفارابي، كما أكد من جاء بعده من فلاسفة المسلمين العرب من أمثال ابن باجه وابن رشد وابن خلدون في مقدمته، على ثلاثة أمور مهمة، ينبغي على الإنسان التزامها من أجل نيل سعادته، وهم:

أ-أن الإنسان كائن مدني بطبعه، وأن ضرورة الإنسان للاجتماع حالة ملحة، من أجل صلاح ذاته من ناحية، ومن أجل صلاح المجتمع وانضباطه من ناحية أخرى:

عن هذا يقول الفارابي: «والإنسان من الأنواع التي لا يمكن أن يتّم الضروري من أمورها ولا تنال الأفضل من أحوالها إلّا باجتماع جماعات منها كثيرة في مسكنٍ واحد. والجماعات الإنسانيّة منها عظمى ومنها وسطى ومنها صغرى. والجماعة العظمى هي جماعة أمم كثيرة تجتمع وتتعاون. والوسطى هي الأمّة. والصغرى هي التي تحوزها المدينة. وهذه الثلاثة هي الجماعات الكاملة. فالمدينة هي أوّل مراتب الكمالات. وأمّا الاجتماعات في القرى والمحّال والسكك والبيوت، فهي الاجتماعات الناقصة. وهذه منها ما هو أنقص جدّا وهو الاجتماع المنزلي، وهو جزء للاجتماع في السكّة. والاجتماع في السكّة هو جزء للاجتماع في المحلّة، وهذا الاجتماع هو جزء للاجتماع المدنّي، والاجتماعات في المحالّ والاجتماعات في القرى كلتاهما لأجل المدينة، غير أنّ الفرق بينهما أن المحالّ أجزاء للمدينة والقرى خادمة للمدينة. والجماعة المدنيّة هي جزء للأمة والأمّة تنقسم مدنًا»[24].

ب-أن الإنسان له إرادة واختيار تدفعه لاختيار المحمود ونبذ المذموم:

«فإن الإرادة إنما هي أولًا شوق عن إحساس. والشوق يكون بالجزء النزوعي والإحساس بالجزء الحاس، ثم أن يحصل من بعد ذلك الجزء المتخيل من النفس والشوق التابع له، فتحصل إرادة ثانية بعد الأولى. فإن هذه الإرادة هي شوق عن تخيل. فمن بعد أن يحصل هذان يمكن أن تحصل المعارف الأول التي تحصل من العقل الفعال في الجزء الناطق. فيحدث حينئذ في الإنسان نوع من الإرادة ثالث وهو الشوق عن نطق، وهذا هو المخصوص باسم الاختيار. وهذا هو الذي يكون في الإنسان خاصة دون سائر الحيوان. وبهذا يقدر الإنسان أن يفعل المحمود والمذموم، والجميل والقبيح، ولأجل هذا يكون الثواب والعقاب»[25].

ج-أن السعادة تكمن في التخلص من المادة والتفاني في فعل الخير:

يقول الفارابي عن هذا: «فالرئيس الأول للمدينة الفاضلة هو إذا فيلسوف أو نبي، يعتمد على المعرفة التي حصلت له بهذه الكيفية، لينظم المدينة الفاضلة ويرشد أهلها ويوجههم، كلًا حسب مرتبته، لنيل السعادة القصوى أو الحقة. ويتم ذلك، عندما تصبح الأنفس مفارقة للمادة، وتنفصل عن الأجسام، لتلتقي في حياة أخرى غير هذه، وتسعد بلقائها وبقائها على ذلك إلى الأبد. فالمدينة الفاضلة هي أداة لتخليص أهلها، تحت رئاسة رئيسهم الفاضل، الذي هو فيلسوف أو نبي، من الأغراض الجاهلية أو المادية (من يسار أو طلب للذة أو للغلبة، أو للكرامة) والزجّ بهم على طريق الفضيلة؛ أي التدرب على اجتناب المادة والتخلص منها، والتفاني في فعل الخير، والقيام على أحسن وجه بالوظائف التي أسندت إليهم حسب مراتبهم، إلى أن تحصل نفوسهم متبرئة كليًا من المادة وأغراضها، فيكون لها الخلود في الدار الأخرى وتلك هي السعادة»[26].

وبهذا الطرح الفارابي للسؤال الإنساني الأنطولوجي، يمكن أن نستبط أن دائرة الأخلاق كانت ولا تزال من أهم الموضوعات الكلامية والفلسفية في تراث المسلمين، ولا ندري كيف تجاوز المفكر عبد الجبار الرفاعي، وأغمض الطرف عن هذا التراث بقوله: تراث المسلمين في علم الكلام تكفيري، وأنه يخلو من قيمية؟

خاتمة

ينبغي التأكيد أن علم الكلام، تعريفا وأدوات وأهدافا وموضوعات، لا تزال حاضرة في واقعنا المعاصر، وإن كان قد أصبناها نحن المسلمين بسهم الجمود، فأرى أنه لا بد من إعادة إحيائها، وإعادة موضعتها داخل مناهج الدراسة في معاهدنا وجامعتنا، من خلال فتح أبواب النقاش فيها، كونها سبيلا لمحاربة حقيقة الإلحاد، وظواهر كالتطرف والإرهاب والعنف الذي أصاب العالم أجمع، ولم يستثن أحدا.

إننا يجب أن نثمن تلك المحاولات في مجال علم الكلام، ونشجع على إعادة الاستثمار داخل هذا الحقل المعرفي، وإعادة النظر في موضوعاته وفقا لمقتضيات عصرنا، وهنا أنتهز الفرصة للإشادة بهذا المشروع الفكري للأستاذ عبد الجبار الرفاعي وغيره، كما أدعو كافة المؤسسات الدينية والفكرية والعملية من أجل نشر التوعية بهذا العلم الذي لا يعترف إلا بلغة الحوار العقلي، وعلى المؤسسات السيادية في عالمنا العربي الدعوة إلى ذلك، دونما أي تخوف وفي حرية مطلقة، فلا تقاس الأمم إلا بمعيار درجة الحرية فيها.

[1] أبو زهرة، محمد، تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية، دار الفكر العربى، بدون تاريخ، ص122.

[2] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، تحقيق شرح وفهرسة سعيد محمود عقيل، دار الجيل، الطبعة الأولي، 1426ه-2005م، ص 399

[3] روى الدار قطنى في "الصفات" (57) –بسند صحيح- عن العباس بن محمد الدورى، قال: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام –وذكر الباب الذي يروى في الرؤية، والكرسى، وموضع القدمين، وضحك ربنا من قنوت عباده، وقرب غيره، وأين كان ربنا قبل أن يخلق السماء، وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك عز وجل قدمه فيها، فتقول قط قط، وأشباه هذه الأحاديث – فقال: "هذه الأحاديث صحاح، حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسره ". _بن حنبل، أحمد، أصول السنة، مكتبة دار السلام، الطبعة الخامسة، 1434 -2013، ص39، 40

[4] الهمذانى، عبد الجبار بن أحمد، شرح الأصول الخمسة، تعليق الإمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، حققه وقدم له الدكتور عبد الكريم عثمان، تصدير الدكتور أحمد فؤاد الاهواني، مكتبة وهبه، الطبعة الثانية، 2010، ص 8

[5] الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم، الملل والنحل، تحقيق أبي محمد محمد بن فريد، المكتبة التوفيقية، 2003، ص48

[6] ابن النديم، محمد بن إسحاق، الفهرست، المكتبة التوفيقية، تحقيق محمد أحمد أحمد، بدون تاريخ، ص136

[7] الكندى، الرسائل 1/244

[8] الكوثرى، محمد زاهد، مقدمات الإمام الكوثرى، مكتبة دار السلام، الطبعة الثانية، 2015م/1436ه، ص44

[9] انظر بنود البيان في كتاب الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة لابن رشد، المنشور ضمن مشروع سلسلة التراث الفلسفي العربي، مؤلفات ابن رشد، مقدمة تحليلية وشروح للمشرف على المشروع الدكتور محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1998، ص 28، 29

[10] الكوثرى، محمد زاهد، مقدمات الإمام الكوثرى، مرجع سابق، ص38

[11] أبو نصر الفارابى، إحصاء العلوم، تحقيق د / عثمان أمين، دار الفكر العربى، الطبعة الثانية، ص 107، 108

[12] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال والموصل إلى ذى العزة والجلال، ص4

[13] الفارابي، أبو نصر، إحصاء العلوم، قدم له وشرحه وبوبه الدكتور علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولي 1996، ص86

[14] مقال بعنوان: علم الكلام الجديد كآلية من آليات إصلاح وتجديد الخطاب الديني، سعيد العبيدي، ص368

رابط المقال.

https://search.emarefa.net/ar/detail/BIM-1422306-%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D9%83%D8%A2%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A2%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A5%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D9%88-%D8%AA%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A

تاريخ النشر 30-6-2020

[15] نفس المصدر، ص369

[16] الهمذاني، عبد الجبار بن أحمد، شرح الأصول الخمسة، مرجع سابق، ص8

[17] نود أن نشير إلي أن تلك الرؤية غير الحيادية في النظر إلي مهمة علم الكلام، حيث يوقف ابن خلدون دائرة عملها عند حدود الرد علي المخالفين المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة، وهذا غير مجمع عليه، حيث يذهب التهانوي في كتابه كشاف اصطلاحات الفنون، والفارابي في إحصاء العلوم، وعضد الدين الإيجي في كتابه المواقف في علم الكلام، والإمام محمد عبده إلى أن علم الكلام يهدف إلى المحاورة العقلية مع غير المسلمين، ويؤكد هذا أيضا ما ورد في مقدمة المستشرق الألماني نيبرج لكتاب الانتصار للخياط، والذي أكد دور المعتزلة في الدفاع عن الإسلام في شتي بقاء الأرض.

[18] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، تحقيق شرح وفهرسة سعيد محمود عقيل، دار الجيل، الطبعة الأولي، 1426ه-2005م، ص 398، 399

[19] موسوعة الفرق والمذاهب في العالم الإسلامي، إشراف وتقديم الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق، سلسلة الموسوعات الإسلامية المتخصصة، الطبعة الثالثة، 2011، مقال الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور، ص 99

[20] مدكور، عبد الحميد، تمهيد لدراسة علم الكلام، دار الهاني للطباعة والنشر، 2010، ص4

[21] الشهرستاني، الملل والنحل، سابق، ص 74

[22] الأشعري، أبو الحسن، مقالات الإسلاميين واختلاف المصليين، تقديم وتحقيق الدكتور نواف الجراح، دار صادر بيروت، الطبعة الأولي، 2006 ص 189، 190، 191، 192

[23] https://ito.lib.eshia.ir/81454/3/222

[24] الفارابي، أبو نصر، السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات، ص136، 137

[25] الفارابي، أبو نصر، السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات، ص141، 143

[26] أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات، ص 135