الإنسان الناقد: من طور المفعول به وجودياً إلى طور الفاعل الحضاري


فئة :  مقالات

الإنسان الناقد: من طور المفعول به وجودياً إلى طور الفاعل الحضاري

أول نقد للعالَم من قبل الإنسان هو بمثابة استنهاض لـ (نعم) الإيجابية على (لا) السلبية. الانتقال من (لا) السكون والصمت والخَرَس، إلى (نعم) الحركة والفاعلية والتأكّد الأقنومي للذات في هذا العالم. استنهاض (القوة الفاعلة) لدى هذا الإنسان، على حساب القوة التي (تفعل به) أو (ينفعل بها)، بما يُثبت قدرته على إدخال تعديلات على نظام العالم، من شأنها مساعدته في مسيرته الحضارية.

وعليه، فالنقد (نقد النص الوجودي متضمناً جميع أنواع النصوص أياً كانت مواضعاتها) انتهاك للعلاقة التي تربط الإنسان بسياقاته المختلفة والمتعدّدة؛ ففي علاقة الإنسان بالإله يدخل المرء في نقدٍ متواصل للمتناهي واللامتناهي. الإله إذ ينتهك خصوصية العَدَم بـ (كُن) واحدة، والإنسان إذ ينتهك خصوصية المُطْلَق بـ (كُن) تراكمية.

ما بينهما، بين (كُنْ الإلهية) و(كُنْ الإنسانية)، ثمة تجاوز للحدود؛ الله إذ يتجاوز الـ Big Bang الأولى وصولاً إلى الإنسان: النصّ الإلهي الأكبر في الزمن والمكان، والإنسان إذ يتجاوز الكون وصولاً إلى الـ Big Bang الإنساني: مرحلة الألوهة الإنسانية، إذ ينفتح الأفق على مداه، وتُنتهك جميع الحُرمات، ويصبح الإنسان سيد العالَم.

في علاقة الإنسان بالإنسان يتصل الفرد الواحد بالمجموع الكُلِّي للبشرية؛ ينتهك خصوصية فردانيته وصولاً إلى غاية التشابك والاشتباك التفاعلي مع كل الذراري الأخرى؛ وينتهك خصوصية الذراري وصولاً إلى إبداعه الفرداني: الرَحِم، الأسرة، القبيلة، المجتمع، الوطن، القومية، الأيديولوجيا، الإثنية، العقيدة، العلوم، العقول، القلوب؛ تُنتهك جميعها عبر نقودات لا نهائية لأرحام وأُسَرٍ وقبائل ومجتمعات وأوطان وقوميات وأيدلوجيات وإثنيات وعقائد وعلوم وقلوب وعقول أخرى. الكُلُّ –عبر الفعل النقدي المتواصل- في الداخل، والداخل خارجٌ غير مُتناهٍ.

وفي علاقة الإنسان بالكون، ثمة انتهاك كوني للذات وانتهاك ذاتي للكون. الذات إذ تتجلّى في الكون؛ الذَرَّةُ وما تحتها والمجرة وما فوقها في مرمى (العقل/ القلب) الإنساني. والذات إذ تُحكم السيطرة على نواميس الكون شغفاً بالوصول إلى الـ Big Bang الإنساني، والتسرمد في زمن مُطْلَق.

في العلاقة الجدلية بين الإنسان وذاته، يُنْصِت المرء إلى خفقات قلبه وهي تفرُّ من قفص الجسد، وإلى خلجات دماغه، وهي ترتجّ في جمجمته. ثمة شوق عارم لإحداث خرق بنيوي في بنية الإنسان التأسيسية؛ البنية الزمكانية، وإحداث تفجير هائل في أساساتها.

اللامتناهي الداخلي يصطدم بجدارٍ صلدٍ لحظة النقد الأولى؛ مع النقودات المُتكرّرة ينهدم بنيان العالَم، ويحدث الـ Big Bang الإنساني على المستوى الفردي داخل النفس الإنسانية، بانتظار أن يُجلَّى انفجاراً مُدوياً في الخارج على مستوى البشرية جمعاء، كمحاكاةٍ للـ Big Bang الإلهي.

إذن، النقد عملية استبصارية واعية، ينتقل الإنسان بموجبها من طور المفعول به وجودياً، إلى طور الفاعل الحضاري في هذا العالَم؛ فهو ينقد ليس للتموضع النهائي في الفعل النقدي، بل ليعبر من منطقة السلب الانفعالي إلى منطقة الإيجاب الحضاري، من (لا) السلبية إلى (نعم) الإيجابية، بصفته - الفعل النقدي، أعني - عملية هدم لما هو قائم، وإجراء تعديل جوهري على هذا القائم، وهذه المرة بشرطٍ إنساني صرف.

ويمكنني الحديث هَهُنا عن (نقد وجودي) بما يتجاوز طروحات النقد الأدبي أو النقد المعرفي؛ فالإنسان إذ يُعمل عقله أو قلبه في هذا العالَم إعمالاً واعياً، فإنه يدخل في حِراك (هدمي/ بنائي) لما هو قائم بفعل فاعل - سواء أكانَ إلهاً أم إنساناً - ويجري تعديلاً آجلاً/ عاجلاً على بنيته التكوينية، حيث لا يعود بعد ذلك كما كان عليه قبل مرحلة النقد.

وللتأسيس للنقد تأسيساً ماكناً ومتيناً، فلا بُدّ له من عملية قرائية أولاً، وأمكنني هنا التأشير على نوعين من القراءة، كمقدمة ضرورية للعملية النقدية، وانتقال الإنسان من مرحلة المفعول به وجودياً إلى مرحلة الفاعل الحضاري:

1-  القراءة الفردية، إذ تضطلع بها ذات واحدة، وتمارس حقّها في استبصار معالَم النص الوجودي، وهي إذ تفعل ذلك - مستخدمة حواسها وعقلها - فإنها تؤكد حضورها الأقنومي في هذا العالَم، فهي مشاركة حقيقية في استجلاء معالم هذا الوجود، بما يمنحها فرادةً لا تتأتّى لغيرها، ولا يمكن - في الوقت نفسه - أن تنوب عن غيرها، فهي - والحالة هذه - مُتحقّقة كذاتٍ فردية على المستوى الأنطولوجي. فالذات إذ تقرأ هذا العالَم، فإنها تكون قد شقَّت صدفة سلبيتها الأنطولوجية، وشقشقت لتعاين العالَم كما هو كمرحلةٍ أولى عبر التلقي الحواسي، وإجراء تعديلات عقلية على البنى القائمة كمرحلةٍ ثانية، فالصيغة التي يتموضع بها العالَم تتصادم مع مرحلة ما بعد التلقي القرائي. ولربما كانت مرحلة القراءة الفردية هي أول صيغة احتجاجية على ما هو قائم، لغاية نقله إلى ما يجب أن يكون.

2-  القراءة الجمعية، إذ تضطلع الذات الجمعية، في قراءة معالم هذا العالم، والدخول في حِراك تفاعلي معه. وعدم الركون إلى الرضا بما هو قائم. فالنجمة القائمة في أعالي السماء، هي مثار قراءة أساساً، بطريقة التأمّل والسؤال، حيث لا يُنْتهَى من فعل القراءة إلا وتكون معالم هذه النجمة قد تبدّلت في الذهن الجمعي، وانتقلت من طور أقل حضوراً لهذه الذات الجمعية، إلى طور أكثر حضور لها. وكلّما استطاعت أمة من الأمم تعزيز فكرة قراءة العالَم على المستوى الفردي، كلما كانت قراءاتها الجمعية أكثر جدوى، وأكثر تحريراً لهذه الذات. فالوعي المُتحصّل بفعل قراءات كثيرة وواعية، غير تلك القراءات التي تُغرّد في أرضٍ غير ذي زرع أو حصاد.

من هنا تتولّد الرغبة بنقد العالَم، وإجراء تعديلات على ما هو عليه. وإذا كانت قراءة العالَم بمثابة الهيكل العظمي، فإن النقد بمثابة اللحم الذي يكسو هذا الهيكل، ويمنحه القدرة للوقوف على رجليه والدبّ على الأرض. فالبنية التحتية إذ تتوفّر يصبح شرط البناء أكثر يسراً وسهولة. لذا من الضروري التأسيس للفعل النقدي بفعل قرائي. فنقد نظام الكواكب والمجرات، وإجراء تعديلات عليه، بما يخدم مسيرة الحضارة الإنسانية، لا يتأتّ إلا عقب قراءة لهذا المتن. ونقد النص الديني أو الفلسفي أو الأدبي، لغاية مُواكبة الشرط الزمكاني للإنسان، لا يتأتَّ هو الآخر إلا عقب عملية قرائية. وكلما كانت العملية القرائية أعمق وأشمل، كلما كان ثمر العملية النقدية أنضج وألذ.

وكما أن القراءة على مستويين، كذا النقد:

1-  النقد الفردي، وفي هذا المستوى يبرز السؤال الأنطولوجي: لماذا أنا موجود؟ إلى الواجهة الأمامية، ويفرض نفسه على السياق المُتداول، بصفته سؤالاً تأسيسياً في علاقة الذات الفردية بالوجود كاملاً، والدور المُناط بها تحديداً من دون غيرها من بني البشر. والتمهيد لهذا السؤال بعملية قرائية للنص الوجودي - أياً كانت مواضعاته - سيجعل من النقد الفردي لهذا النص، بمثابة انتقال من طور المفعول به أو حتى طور المُنفعل به، إلى طور الفاعل في هذا العالَم. فالذات إذ تنقد، فإنها تنفصل عن مشيمة هذا العالَم، وتصبح أدواتها العقلية بمثابة المقص الذي يقص هذه اللُحمة التي تجمعهما سوية، لغاية الابتعاد عن المشهدية، ومعاينتها معاينة فاحصة، وإجراء تعديلات عليها من ثمَّ، بما يخدم المشروع الحضاري الإنساني، ويدفع به قدماً ناحية الأمام.

2-  النقد الجمعي. وإذا كان للذوات الفردية أن تتشارك الهمّ الأنطولوجي عبر مكابدات معرفية وتأمّلية، فمن شأن السؤال السابق: لماذا أنا موجود؟ أن يُمايِز بين الذوات إلى حدّ إبداع مُنمنمة الحضارة الإنسانية، بصفتها نُتفاً صغيرة لذواتٍ لا حصر لها. فالذات الفردية إذ تقرأ نصاً بعينه، وتنقده نقداً عقلياً وفقاً لمقتضيات تلك القراءة، فإنها تفسح المجال أمام الذوات الأخرى لقراءة بقية النصوص وإجراء اللازم نقدياً عليها. بما يفكّ احتكار المعرفة على ذواتٍ بعينها من جهة، وما يعني قدرةً على تخليقِ مجال حيوي لذوات كثيرة أن تفعل بالوجود بدل أن تنفعل به أو يُفعل بها. فالخبرات النقدية الفردية، إذ تتراكم جنباً إلى جنب، وتأخذ بُعداً أفقياً يسعى إلى الصالح الإنساني، لا بُعداً عمودياً يسعى إلى الاستئثار بالسماء ونواميسها؛ فإنها تُساهم في بلورة نسق جمعي هائل، لديه القدرة على إحداث نقلة نوعية ليس في البِنَى الذهنية فحسب، بل في البِنَى الواقعية أيضاً، بما يعني تحوّل الإنسان –على المستويين الفردي والجمعي- إلى إنسان لديه القدرة على تمثّل (كُنْ) وتحويلها من (كُنْ) خارج الشرط الزماني، إلى (كُنْ) تراكمية، انبنائية خاضعة لشرط الاجتهاد (القرائي/ النقدي) وفاعليته الزمكانية.

وهكذا، تتشكّل معالم الإنسان الناقد، وتتخلّق بصمته الأنطولوجية، بصفته قادراً على اجتراح جديد في هذا العالَم، بعد أن يكون قد قرأ شفرته الأساسية ونقد منظومته، وأدخل تعديلات عليها، بطريقة تنقله من مرحلة السلب الوجودي إلى مرحلة الفعل الحضاري. فهو الآن –مرحلة ما بعد النقد- لم يعد طاهراً، ولم يعد يحتفظ بناموس براءته الأصلية التي تجعل منه كائناً مفعولاً به وجودياً أو منفعلاً بالوجود، بل هو الآن مُدنّساً ولا يليق به إلا أن يفعل بالوجود، ويفعّله حضارياً، بما يليق به ككائنٍ جسور وطموح وأساسي في هذا العالَم.