الاستبداد ينتج نمطه الخاص للتدين
فئة : مقالات
الاستبداد ينتج نمطه الخاص للتدين
تدين هو ضد للتدين والحياة الروحية والأخلاقية الحقيقية الأصيلة
بعد ربع قرن تقريبا من العيش في المنفى، عدت إلى وطني العراق أواخر حزيران 2003، فوجئت بحجم الخراب الذي أنهك بلدي، لم أعثر على العراق الذي ولدت ونشأت وأمضيت طفولتي وفتوتي ومراهقتي وبدايه شبابي فيه... كل شيء جميل اختفى، كل شيء متميز تلاشى، كل شيء مضيء انطفأ،كل شيء منظم تبعثر، كل شيء عميق تسطح، كل شيء عقلاني أمسى لا عقلانيا، كل شيء إنساني لم يعد إنسانيا...الفكر لم يعد فكرا، الشعر لم يعد شعرا، الأدب لم يعد أدبا، الفن لم يعد فنا، الثقافة لم تعد ثقافة، الاقتصاد لم يعد اقتصادا، السياسة لم تعد سياسة..لكن ما أذهلني وأحزنني: أن التدين لم يعد تدينا؛ مكرسا بالإيمان، ومُلهما لقيم المحبة والتراحم والجمال، والأخلاق لم تعد أخلاقا، تنتج فضاء سليما للأمن والسلام في حياة البيت والمجتمع، يحمي الكرامة الشخصية، ويعزز مكانة الكائن البشري، ويؤطر العلاقات في العائلة بالسكينة والمودة، ويبني أسس العيش المشترك في المجتمع.
وقتئذ أدركت شيئا من خطايا الاستبداد، والآثار التدميرية الفتاكة للأنظمة التسلطية الشمولية، وتخريبها لبنى الحياة الروحية والأخلاقية والعقلية. وكيف عمل صدام حسين على تشويه كل شيء في العراق وإفساده، من أجل أن يضمن ديمومة بقائه في السلطة.
لقد عمل صدام – كما هو كل طاغية مستبد - على إنتاج شبكة مفاهيم تنفي كل ما لا يتطابق معها، ويمثّل نسخة مكررة عنها، وتشكّل هذه الشبكة نظاما ذهنيا، يتجلى في عقلية ونمط تفكير أُحادي اختزالي، تكرّست في ظله بنية نفسية معاقة، تستسيغ الخنوع والانسحاق، والتهرب من أية مسؤولية، إنها نفسية عبيد، أبرز سماتها الشعور بالدونية والحقارة، والتبعية وعدم الاستقلال في التفكير، والعجز عن اتخاذ أي رأي، وغياب المبادرة والموقف الشخصي، وتعيش نفسية العبيد حياة نيابية مستعارة، وكأن صاحبها يمثل دورا آخر في حياته، لا يعبّر عن شخصيته، ولا يمثّل ملكاته وإمكاناته، وما أودعته الطبيعة البشرية فيه، إنما يعيش على غرار ما يريده المستبد، وما جرى تدجينه عليه في الأسرة، ثم المدرسة والمجتمع. إذا ترسّخ شعور الإنسان بأنه بلا كرامة، وأنه شخصية تافهة، فإنه يعجز عن المساهمة بأية عملية بناء، أو الاضطلاع بمهمة مميزة في الحياة، كما ينطفئ كل ما يمكن أن يحلم به، وتذبل كل أمنية وأمل يستشرف من خلاله المستقبل، والإنسان كائن لا يمكنه العيش والمشاركة في صياغة العالم مالم يحلم، ويتطلع إلى غد بديل، ترتسم فيه صورة مغايرة لواقعه الراهن. وكما يقول إيريك فروم: "لا شيء أكثر تأثيرا وفاعلية في سحق معنويات الفرد من إقناعه بأنه تافه ورديء". حرص صدام، مثل كل طاغية؛ على تكريس ثقافة استبداد تكبّل المجتمع، وتشلّ فاعليته، وقد تفشت هذه الثقافة في: مقررات التربية والتعليم، ووسائل الإعلام، والخطاب السياسي، والهياكل الإدارية في المؤسسات، والآداب والفنون، واللغة، وكافة الرموز والعلامات المستعملة في المجال التداولي، والتدين، وأنماط العلاقات السائدة في العائلة والمجتمع. واهتم ببناء نظام سيميائي خاص، يعمل على الهيمنة على مجال المتخيل، ويشدد على تحويل كل ذلك إلى بنية راسخة في وعي المجتمع ولا وعيه.
يترك المستبد ّكلّ شيء حطاما بعد هلاكه، ويفشل أي نظام بديل – مهما كانت نزاهته وإخلاصه - في الانطلاق بعميلة بناء جديدة؛ مالم يهتم بمعالجة التشوهات الحادة والرضوض العميقة في شخصية الفرد والمجتمع، وهو ما نراه ماثلا في الأنظمة البديلة في العراق وبلدان ما يسمى "الربيع لعربي"، بل إن كلّ ما يجري من انهيار مريع في أشباه الدول في تلك البلدان، وما صار يمارسه النظام البديل من فوضى وفساد، إنما هو امتداد لتركة النظام الماضي، ولتلك البنية الراسخة للاستبداد؛ التي لا يتوالد منها سوى الفشل والفوضى والعجز المزمن؛ أي إن الأمطار السوداء اليوم، إنما هي من غيوم استبداد الأمس.
إن المنبع العميق الذي ينهل منه الاستبداد في تراثنا، هو الرؤية الكونية في الإلهيات التقليدية؛ المبنية على مفاهيم العبودية، وترسيخها للتصور الرأسي للعالم، الذي يؤسّس لشبكة من مقولات التركيع والخضوع، وتكريس التسلط في المجتمع، إذ تكون العلاقات في المجتمع علاقات عمودية ، ليست أفقية، بمعنى أن تصور العلاقة بين الله والانسان دائما يتخذ نمطا عموديا، يكون فيه الانسان خانعا ذليلا، فيما يبدو الإله قهّارا متكبرا؛ يبطش ويعذّب وينتقم. لا تحضر في هذه العلاقة صورة الله الرحمن الرحيم، الذي "كتب على نفسه الرحمة"، و "وسعت رحمته كل شيء"، و "سبقت رحمته غضبه"، والذي لخص مهمة رسوله الكريم "ص"، بقوله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، فهو رحمة مهداة لكل العالمين، وليس لفئة أو جماعة أو طبقة أو طائفة أو فرقة أو مذهب أو شعب مختار...إلخ.
حين تكون صورة الله في اللاهوت التقليدي هي صورة السيد المتعالي المخيف المرعب، المتمرّس في البطش والتنكيل والعقاب والعذاب، يمثّل الخوف أرضية خصبة لنشأة وتفشي الاستبداد، ويجد تعبيره الاجتماعي في: الخوف من الحرية، الخوف من الفردية، الخوف من التفكير النقدي، الخوف من التفكير العقلاني، الخوف من الحداثة، الخوف من الاختلاف، الخوف من الخطأ، ذلك أن الاستبداد يبحث دائما عن الإجماع الشعبي، ويخشى التمايزات والمغايرة.
كذلك يجد النمط العمودي للعلاقة بين الإله والعبد مدلوله الاجتماعي في مختلف أشكال العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، فالحاكم غير المحكوم، الحاكم يأمر بما يشاء، وليس للمحكوم الا السمع والطاعة، من حق الحاكم أن يفعل ما يريد في رعيته، إرادته إرادة مطلقة لا يضبطها قانون أو تقيّدها تشريعات، هو في القمة والرعية في القاعدة، لا يرتقي شخص الى مقامه السامي، إلا حينما يفيض عليه بمننه وعطاياه، فيدنيه من قربه، ويمنحه من مكرماته. ذلك أن رعاياه كافة هم ممتلكاته يتصرف بهم بما يحلو له. أما العلاقة بين الأب والابن، والمعلم والتلميذ، والضابط والجندي، والتاجر والعامل، والإقطاعي والفلاح، والرجل والمرأة، فهي دائما علاقة تبعية وخضوع، علاقة امتلاك، الأعلى يمتلك الأدنى، يدربه باستمرار على الانصياع والانقياد، ويتفنن في تربيته على الرضوخ، ويتوسل بمختلف الأساليب من أجل تدجينه على التنازل عن حريته.
ويسود فضاء الاستبداد أسلوب التلقين في التربية والتعليم، فيجري التعامل مع الطفل في الأسرة، وهكذا التلميذ في المدرسة، بوصفه وعاء نملؤه بمصفوفة نصوص وشعارات، ونحرص على أن يستظهر هذه النصوص، ويحفظ تلك الشعارات، من دون أن يبذل أي مجهود عقلي بتدبر أو فهم مضمونها. التربية تتحول إلى تدجين متواصل، والتعليم يتحول الى تنميط وخلق نسخ متشابهة، والعلم هو الحفظ والتكرار، حتى أضحى العلماء هم حفظة النصوص، وليس المجتهدون النقاد الذين يغربلون الأفكار، ويقتلون القديم بحثا. ويفضي أسلوب التلقين الى ترويض المجتمع، فتتخذ العلاقات فيه شكلا عموديا، يمارس فيها الأعلى الاستبداد على من هو أدنى منه، ويغيب الشكل الأفقي للعلاقات الذي يُبنى على المساواة والحرية.
تختنق الحياة السياسية بالاستبداد، بنحو يصبح فيه الكل اما مستبدا يمارس الاستبداد، أو يقع عليه الاستبداد، ويصير الكل ممارسا للاستبداد على من هو أدنى منه، الزعيم السياسي على مرؤوسيه من وزراء وغيرهم، وهؤلاء يسقطون الاستبداد على من يليهم في مراتبهم الوظيفية، بنحو يُمسي التسلط نسيجا متفشيا في طبقات المجتمع ومؤسساته كافة، فالتسلط تنتجه السلطة المستبدة، وتصوغ شخصية رعايا وأتباع مجردين من كل إرادة في الاختيار، إلاّ إرادة التسلط التي يسقطونها على من هم دونهم، كما أن هؤلاء الأفراد الذين أنتجتهم السلطة المستبدّة يمدّون هذه السلطة على الدوام بحياتها وكيانها، الذي يفتقر وجودُها واستمرارُها عليه. فلو لم تصنع السلطة هذا النمط من الرعايا لما تواصل بقاؤها، بمعنى أن الأتباع تتشكل شخصياتهم في فضاء الاستبداد والتسلط، وهم أثر من آثار السلطة ونتيجة لها، مثلما هم المادة الأولى التي يشتق منها تسلط المستبد، وبه تتكرس سطوته، ذلك أن السلطة تشكّل بنية عامة شاملة، يتشبع بها المجتمع بأسره، ويعاد تكوينها باستمرار، في إطار المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وحسب تعبير فوكو فإن "السلطة ليست في مكان واحد، إنها في الحارس الذي يراقب السجن بحرص شديد، في صاحب الفرن الذي يبيع الخبز للسجن، ويشعر بالفرح لأن السجن موجود".
ويسري التسلط من الحياة السياسية إلى العائلة، فتتغلغل مفاهيمه في القيم الأبوية وعلاقات القربى، بين الزوج وزوجته، والأب وأبنائه، ويتفنّن ربّ الأسرة في مهارات ترويض وإخضاع أفراد أسرته، حتى يمسخ شخصية الطفل، ويطمس ما لديه من تلقائية وعفوية، ويقضي على روح التساؤل الفطري، والنواة الجنينية للنزوع النقدي في تفكيره، ويستأصل ممكنات الإبداع والابتكار في عقله، وتتواصل عملية الترويض والتلقين متوسلة بشتى الأساليب، وطالما تتوكأ على العنف الجسدي، والعنف اللفظي، ومختلف ألوان العنف الرمزي، ويستحيل الناشئة الى وعاء معبأ بمقولات الخضوع والاستسلام، ورفض كل ماله صلة بالحرية، وتبني أيديولوجيا الاستبداد المناهضة للحرية والدفاع عنها.
يهتم الاستبداد باللغة اهتماما بالغا، ويحرص على افقارها، وتحويرها وتشويهها، ويغرقها بفائض معاني، ويمدّها بقاموس مفردات، وعبارات، وجمل، وشعارات، تشوّه اللغة وتهشم تراكيبها وصياغاتها وبنيتها، وتغذّي كراهية الآخر، وتثير الاشمئزاز والفزع منه، وتعطل الوعي النقدي، وتسدّ أفق الرؤيا المتفائلة للكون والوجود، وتغرق الذهن بكوابيس مرعبة لأعداء مفتعلين، متربصين به كل حين، ويعمم مسخ اللغة وتشويهها إلى المقررات الدراسية، فإن "كل الكتب المدرسية للفاشية والنازية استخدمت طريقة في الإفقار اللغوي، وإفقار القدرة الابتدائية على بناء الجمل بطريقة صحيحة، هادفة من ذلك إلى تحديد أدوات التفكير المعقد والانتقادي"، حسب تعبير أمبرتو إيكو.
البيئة الفقيرة لغويا فقيرة عقليا، خصوبة اللغة وثراؤها؛ بقدر ما تقتل التفكير الساذج البسيط، فإنها تحيي وتنمي التفكير المركب، ولا يمكن الوثوق بولادة أفكار تنفتح على ما يعاندها؛ إلا حين تغتني اللغة بمعجم يرفدها باستمرار بألفاظ ومصطلحات، تنفتح على فضاء عقلي، يتسع باستمرار لاستيعاب وتمثّل كل ما هو جديد، في العلوم والفنون والآداب، ويواكب حركة التطور والإبداع في مختلف مجالات المعرفة، ويساهم في رفدها على الدوام.
لقد واصل اللاهوت التقليدي تأمين الرؤية للعالم الملائمة لإنتاج الاستبداد، وإعادة إنتاجه باستمرار. كما عمل الاستبداد أيضا على صياغة قراءةٍ للنص الديني والتراث والماضي، تتفشى فيها ثقافته ومفهوماته، وتشكّل نسيجا متشابكا؛ تُشاد في سياقه الحياة الدينية للفرد والمجتمع، ولا يفلت من شباكه أحد، إلا بمشقة بالغة، ومن ينفلت منه يصبح عرضة للنفي والملاحقة والتشرد.
يصنع الاستبدادُ نمطَه الخاص للتدين والحياة الدينية، وهو نمط تدين يمثل ضدا للتدين والحياة الروحية والأخلاقية الصحية السليمة. تدين ممسوخ؛ يشبه كل شيء إلا التدين الحقيقي الأصيل. تدين مسموم يفتك بالحياة الروحية والأخلاقية للفرد والمجتمع، ويكوّن بيئة يتوالد فيها على الدوام التطرف والتعصب والإرهاب؛ بغطاء وقناع يخلع عليه شكلا دينيا. تدين يفزع من الاختلاف والتعددية، ويشدّد على نفي الآخر واستبعاده. تدين لا يعرف التسامح واحترام كرامة الكائن البشري. تدين مسكون بطمس الذات وتفريغها من كينونتها وهويتها الشخصية. تدين فقير؛ لا صلة له بوظيفة الدين العميقة في حياة الشخص البشري، ورسالة الدين في منح الحياة معنى، وإرواء الظمأ الأنطولوجي.