الاستشراق اليهودي في خدمة إسرائيل

فئة :  مقالات

الاستشراق اليهودي في خدمة إسرائيل

الاستشراق اليهودي في خدمة إسرائيل

صيغة "الاستشراق اليهودي"

صيغة تجمع بين مصطلحين كل منهما يحمل معه حمولة كبيرة؛ فمصطلح الاستشراق تصاحب معها حمولة حضارية ومعرفية، تعكس نظرة الغرب إلى الشرق، وقد تشكلت نتيجة الاهتمامات الكبرى لدول أوروبا لمختلف البلدان خارج السياق الجغرافي الأوروبي، بهدف التوسع، وهو أمر يتطلب معرفة المكان والإنسان والثقافة في الشرق لتسهيل عملية التوسع والاستعمار، وقد تطور الاستشراق ليشمل دراسة مختلف مجالات المعرفة في الشرق، في مجال الدين والثقافة والعلم والفن والأدب والعمارة والتاريخ وكل أوجه الحضارة في الشرق... الأمر الذي نتج عنه مدونات كبيرة في مختلف مجالات المعرفة كان من ورائها مستشرقون كبار مختصين في مجالات معرفية متعددة، تطل على الشرق وتعيد تعريفه وفهمه من خلال تصورات ونظرة الغرب، وهي تصورات ونظرة ترتبط في مجملها بالأهداف والغايات السياسية والثقافية والاقتصادية... لدى الغرب. وهو إشكال منهجي جعل من الاستشراق والمستشرقين موضع شك وريبة وحذر، فهل الاستشراق يهمه معرفة الشرق بهدف معرفي تثاقفي، أم إن معرفة الاستشراق تخدم أهداف سلطة وسياسة المحتل، وهو الأمر الذي جلب على الاستشراق الكثير من الانتقادات الكثيرة. ومن أبرز المؤلفات التي انتقدت الاستشراق في علاقته بالمركزية الغربية، كتاب الاستشراق للمفكر الفلسطيني أدوارد سعيد.

أما مصطلح "اليهودي"، فمن البديهي أنها تحمل حمولة دينية ترتبط بالديانة اليهودية، والثقافة اليهودية والعنصر اليهودي، وعندما نتحدث عن الديانة اليهودية، فإننا نتحدث عن سياق ديني وثقافي متنوع من جهة الطوائف الدينية اليهودية، وتصورها وتأويلاتها وقراءاتها المتعددة للعهد القديم. فالنص المرجعي والمؤسس للديانة اليهودية، هو العهد القديم، وهو نص مليء بمختلف التصورات والآراء عن الأنبياء والرسل وشعب إسرائيل، وعلاقتهم بالإله... الذي يرون بأنه إلههم وأنه متحيز إليهم، عن باقي البشر.

صيغة الاستشراق اليهودي، تلفت نظرنا إلى أهمية معرفة الخلفيات الدينية اليهودية التي صاحبت كبار المستشرقين اليهود منهم، مع العلم أن الثقافة الدينية اليهودية من خلال نصوص العهد القديم، تربط موضوع ما عاهد الله به نبيه إبراهيم، بفكرة مفادها الكثرة في النسل والوعد بملكية أرض كنعان. فالوارث الشرعي وفق ما جاء في نصوص العهد القديم لعهد إبراهيم، هو ابنه إسحاق الذي وعده الرب وعهد إليه بكثرة النسل ووراثة العهد بأرض كنعان عن أبيه، في مقابل أخوه إسماعيل الذي لم يعده الرب ولم يعهد له بملك الأرض، وسيعيش إلى جانب إخوته بدون ملكية، وهذا يعني أن نسل إسحاق هو الأولى بوراثة الأرض من نسل إسماعيل، وقد اتصف العهد الإلهي مع إبراهيم وكذلك مع ابنه إسحاق بصفة الثبات والديمومة في التاريخ، وهذا اعتقاد ألقى بظلاله على العقيدة الصهيونية التي اغتصبت فلسطين.

المستشرقون اليهود والطعن في القرآن

بادر البعض من المستشرقين بالطعن في القرآن الكريم، من خلفية دينية بدعوى أنه منقول من العهد القديم، دون أن يطعنوا في كتاب العهد القديم، ونذكر من هؤلاء الاتجاه الذي يدعي أن القرآن مستعار في مجمله من الكتاب المقدس[1]، وهو ادعاء تم القول به بدءاً من أواخر القرن 19م مع أبراهام غايغر (1810م-1874م) هو حَبْر يهودي ألماني، في كتابه: "اليهودية والإسلام" ومع تيودور نولدكه (1836م – 1930م) في كتابه "تاريخ القرآن"[2] لا يهم هنا هل هؤلاء المستشرقين ينتمون إلى الديان اليهودية أو الديانة المسيحية، ولكن الشاهد عندنا أنهم ينطلقون من خلفية دينية تتحيز إلى نص العهد القديم، كمصدر للحقيقة والمعلومة، على حساب نص ديني آخر، وهو القرآن الكريم، وهذا التحير استخدمته الجماعات اليهودية الصهيونية وغيرها في خدمة مصالحها السياسية، كما أنها خلقت منه جانبا دعائيا. والسؤال هنا لماذا الطعن في القرآن؟

يضعنا القرآن أمام صورتين لكثير من المواضيع؛ الصورة التي يتضمنها العهد القديم الذي ربط الكثير من المواضيع المرتبطة بتصور العالم والإنسان، بمصالح ذاتية لشعب اليهود، ويعد موضوع العهد موضوعا محوريا في العهد القديم، وقد تم ربط فكرة العهد بأشياء مادية وامتلاك أرض الأغيار...

وصورة موضوع العهد التي يحث عليها القرآن وهي الصواب، وهي صورة ربطت موضوع بما هو قيمي وأخلاقي، وما من شأنه أن يقيم الأمن والأمان بين الناس، ففكرة العهد في القرآن تأخذ بمبدأ العناية بالمشترك الإنساني وبالتعددية الدينية؛ فالناس بالرغم من تعدد انتماءاتهم الدينية والثقافية، فهم يعودون إلى أصل واحد، فالإله إلههم جميعا، لا يتحيز لبعضهم عن البعض الآخر، فخلاصة موضوع العهد في القرآن تدون في مدار التعايش بين الناس، فأكرم الناس عند الله أتقاهم، وليس من ينتمي إلى شعب إسرائيل.

فكرة العهد في نصوص العهد القديم

يعد إبراهيم شخصية مهمة في أسفار العهد القديم، فإليه ينتسب أنبياء بني إسرائيل ويعتبرون أنفسهم من ورثة عهده وأولى بالانتساب إليه من غيرهم. فعندما صار عمر إبراهيم 99 سنة، ظهر له الرب وأخبره بأنه هو الله الذي ظهر له، وجعل العهد بينهما، والغاية والهدف من هذا العهد الذي صار بين الله وإبراهيم، هو الكثرة التي ستتجلى في ملك إبراهيم وفي نسله الذي سينمو ويكثر، ويصير له أبناء كثر وحفدة، ويتحول بذلك إبراهيم إلى أب لجمهور واسع من الأمم والملوك التي تخرج من نسله. جاء في سفر التكوين: "1. ولما كان أبرام، ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام، وقال له أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملا، 2. فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيراً جدًّا 3. فسقط أبرام على وجهه. وتكلم الله معه قائلا 4. أما أنا، فهو ذا عهدي معك وتكون أبا لجمهور من الأمم 5. فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم. لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم 6. وأثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما. وملوك منك يخرجون".[3]

ومن أهم مقتضيات العهد الذي عهد الله به إلى إبراهيم حيازة أرض كنعان ملكا أبديا لإبراهيم ولنسله من بعده، وكذلك الألوهية الأبدية (من طرف لله) لإبراهيم ولنسله من بعده. ولكون هذا الحدث يعد حدثا مفصليا في حياة إبراهيم، غير الله اسمه من أبرام إلى إبراهيم. جاء في سفر التكوين: "7. وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدا أبديا، لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك 8. وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا. وأكون إلههم".[4]

فكرة العهد في القرآن الكريم

قال تعالى: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)". (البقرة/ 124-132)

نلفت النظر هنا إلى أن الاستشراق اليهودي انطلق متأثرا بخلفيته الدينية، وهي خلفية ترى في الإله بأنه إله شعب إسرائيل، وقد عاهد إليها بامتلاك أرض كنعان، التي تقع الآن في الشرق الأوسط، بدءا من فلسطين، فإسرائيل اليوم دولة دينية في المنطقة، تبرر وجودها من خلفية دينية، والغريب أن المسيحية البروتستانتية متورطة مع إسرائيل في كثير من هذه التصورات كما هي في العهد القديم، فإبراهام غايغر ومن تبعه بنى كل تصوراته على فكرة متحيزة للديانة اليهودية كما يتصورها اليهود، وليس كما هي في الأصل، فالقرآن يميز بين يهودية اليهود، واليهودية كما كانت عليه في الأصل. وهذه مسألة تقتضي وتتطلب منا إعادة قراءة النصوص الدينية في علاقة بعضها مع البعض الآخر، مع وعي منهجي بأهمية منهج التصديق والهيمنة في القرآن، في تحرير العقل الجمعي من كثير من الانحرافات باسم اليهودية أو المسحية أو ما تشكل طيلة التاريخ الإسلامي.[5]

[1] انظر: اليهودية والإسلام، أبراهام غايغر، ترجمة نبيل فياض، دار الرافدين، بغداد، بيروت، ط1، 2018م

[2] تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، تعديل، فريدريش شفالي، ترجمة، جورج تامر، منشورات الجمل، بغداد، العراق، (د.ع. ط) 2008م علق الدكتور رضوان السيد على ترجمة كتاب، تاريخ القرآن، لنولدكه إلى اللغة العربية لأول مرة سنة 2004م، بالقول: "وهي ترجمة جيدة، لكن الفيلولوجيا المشرذمة لنولدكه تستثير النفور، وما عادت ملائمة أو صالحة لتقديم جديد مفيد للقارئ العربي وللدراسات القرآنية" أنظر: المستشرقون الألمان، النشوء والتأثير، م. س. ص90

[3] سفر التكوين، 17: من 1 إلى 6

[4] سفر التكوين، 17: 6

[5] انظر بهذا الصدد كتاب: منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم سورة البقرة نموذجا، صابر مولاي أحمد، منشورات دار مؤمنون بلا حدود.