الاستملاك الرمزي للهلال
فئة : مقالات
تتنوع مع كل عام الاجتهادات في عالم الإسلام، وتتجدد الخلافات حول: ثبوت هلال رمضان، وتحديد بداية شهر الصوم، ومواعيد: عيد الفطر، وعرفة والحج وعيد الأضحى، وتحديد رأس السنة الهجرية.
وقد تطورت هذه الخلافات في العصر الحديث، تبعاً لتطور المؤسسة الدينية في الإسلام واتساعها، ومحاولاتها الحثيثة للاستئثار بكل ما هو مقدس واستملاكه، لذلك تعمل هذه المؤسسة على استرداد الهلال من مجاله الدنيوي الذي اكتشفه الفلكيون إلى المجال المقدّس الذي تتحكم به هي.
ربما تبدو هذه الخلافات عند السنة محدودة، لأن المؤسسة الدينية تقع في امتداد السلطة السياسية، وهذه السلطة تسعى على الدوام للتحكم في نفوذ هذه المؤسسة، وتعمل على تضييق احتكارها للمقدس، فتفرض رقابة عليها وتوجهها في كيفية ادارة الشأن المقدّس، لذلك لا يتخطى المفتي غالباً إرادة الحاكم.
غير أنها تظهر بوضوح لدى الشيعة، لاستقلال المؤسسة الدينية عن السلطة السياسية غالباً، منذ مأسسة المرجعية الشيعية في العصر الصفوي، واستقلالها بالتدريج بعد ذلك، إذ تحولت المرجعية بعد ذلك الوقت الى مؤسسة تحتفظ لنفسها بمسافة عن السلطة السياسية. مضافاً إلى عدم تمركز المرجعية الدينية عند الشيعة بشخص واحد أو هيئة واحدة، لتعدد هذه المرجعيات وتنوعها. وهذا الاستقلال يشي بحيوية هذه المؤسسة، وقدرتها على تكوين سياقاتها الخاصة. ومع أن غياب التمركز يمنح هذه المؤسسة ديناميكيتها المستقلة، إلا أنه يفضي أحياناً إلى مواقف متضادة، تثير التباساً وبلبلة في الاجتماع الشيعي، كما نراها عادة تتكرر سنوياً في تعدد مواعيد أهلة رمضان والأعياد.
في كل عام نحن على موعد مع دعوات ملحة للعودة إلى ما يقوله الفلكيون في ذلك، والكل يعرف أن قولهم دقيق جداً، ذلك أنه يستقي من المعطيات الحديثة في تطور علم الفلك، وتكنولوجيا التلسكوبات والمناظير الإلكترونية، والحسابات الفلكية المتقدمة، التي من خلالها يمكننا استبصار أوقات الصلاة، ومعرفة بدايات الأشهر القمرية، لآلاف السنوات القادمة.
الديني والدنيوي:
حتى منتصف العقد الثالث من عمري، كنت من أشد المتحمسين لضرورة تبني رجال الدين لما ينطق به العلم، وما يتفق عليه الفلكيون، والعودة بالهلال إلى الحيز الفلكي الدقيق. ذلك الحماس يستقي مما ترسب في ثقافتي الشخصية من مطالعات كتابات: جواهري طنطاوي، ومحمد فريد وجدي، وعبدالرزاق نوفل... وغير ذلك من كتابات مبسطة، أغرقت وعي جيلنا قبل أكثر من أربعين عاماً في هوس تطبيق قوانين ونظريات وفرضيات العلوم الطبيعية على القرآن الكريم.
هذه الكتابات توحي كلها بأن معظم ما يكشف عنه العلم اليوم قد اكتشفه الدين قبل ذلك، وأن الكثير من نظريات وقوانين العلم الحديث تحدث عنها القرآن، قبل أن يعرف علماء الغرب أي شيء من ذلك.
كنت وغيري من الشباب مأخوذاً بالحنين إلى الماضي، وتمجيد الهوية، والشغف بكل شيء يتضمنه الموروث، بوصفه خزانة أسرار كل العلوم والمعارف البشرية. وليس للعلم من وظيفة سوى إعادة اكتشاف ما كشف عن بعضه أسلافنا من قبل. وإن مهمتنا هي تطبيق الاكتشافات الجديدة مع ما هو مستتر في نصوصنا الدينية.
تلك كانت إحدى البداهات الراسخة في ثقافتي الدينية أمس، ومن المسلمات القطعية التي لا تقبل نقاشاً. ما أشد حرصي يومئذ على احتواء مكاسب المعارف والعلوم كافة، والاستيلاء على كل شيء جديد وجميل من منجزات العقل البشري، وكل ما راكمته الخبرة البشرية، وإسقاطها على نصوصي الدينية.
وكأني في مباراة مع الآخر، هو ينفق جهوداً شاقة، في التفكير والتجريب والعمل المتواصل، ويسلك الدروب الوعرة المنهكة، فيراكم خبرات ثرية، وينجز فتوحات عقلية مهمة، ويظفر بما يحلم به، ومهما أخفق لن يتراجع، أو تتقهقر إرادته، أو يعرف الفشل إلى عقله طريقاً. هو يكتشف ويخترع ويبتكر ويتقدم، وأنا مسكون بالاستيلاء على ذلك كله، ودمجه - بالقول لا بالفعل - في موروثي، كيما أغرق في المزيد من كوابيس أوهامي.
بدأت أستفيق بالتدريج منذ أكثر من ثلاثين عاماً، بعد سياحتي في مسالك التراث المتنوعة، والتعرف على حقوله الواسعة المتشعبة، فتبدت لي حقائق مغايرة لما كنت أتلقاه عبر الحكايات الشعبوية، المحكيات المنبرية، وأدبيات الجماعات الدينية. فما كنت أتلقاه شفاهياً عبر مسموعاتي لم يكن سوى مفاهيم وآراء سطحية، حجبت عني ما يزخر به التراث من مفاهيم تنتمي لزمانها.
منذ منتصف العقد الثالث من عمري، بدأت بمراجعة نقدية لأدبيات الجماعات الدينية، فتبدى لي بالتدريج أن هذه الأدبيات ورطتني وجيلي بمغالطات عديدة، أبرزها الإصرار على تطابق العلم والدين في كل شيء، وأن ما يقوله العلم اليوم قد قاله الدين قبل ذلك. وتمديد مساحة ما هو ديني، بدمج ما هو دنيوي في الديني؛ فالعلوم والمعارف والفنون والآداب لا تجد مشروعيتها من دون أن تولد من الدين.
بعد أن أثبت علم الفلك مواعيد ولادة الهلال وظهوره، ومنازل القمر، رأى معظم الناس أنه لم تعد هناك حاجة للعودة إلى الفقيه للحكم بثبوت الهلال. غير أن هذا الرأي لم يتبنه إلا قليل من الفقهاء، رغم أنه يحل مشكلة مزمنة، ويخلّص المسلم من الترقب الممل للهلال، والتفتيش عن ذرائع للخلاص من تذبذب الإعلان عنه، والاختلاف في رؤيته بالعين المجردة.
وقد تحمس لهذا الرأي من نشأوا وتشبعوا في مناخات أدبيات الجماعات الدينية، التي تخلط الديني بالدنيوي. لكن المفارقة هنا أن أدبيات هذه الجماعات حرصت بالتشديد على تديين كل ما هو دنيوي، ومحاولة صبغ العلوم والمعارف والأدب، بل كل شيء بصبغة دينية، إلاّ أنها في قضية الهلال تبنت موقفاً، ربما يبدو للوهلة الأولى مغايراً، وكأنها تنزع إلى إخراج هلال رمضان والأعياد من حقله الديني إلى الحقل الدنيوي، مع أن منطقها في تديين كل شيء وأسلمته يفرض أن يبقي الهلال في السياق الديني، ولا يُرحّل إلى السياق الدنيوي. لكن محاولة إخراج الهلال من مجاله الرمزي إلى مجال علمي لا يعني الكف عن استحواذهم عليه، وتركه للخبراء في علم الفلك، بل هي عملية استملاك بديلة للهلال، تمارسها هذه الجماعات بذريعة اللجوء للعلم. فهي في معركتها المفتوحة مع الفقهاء والمؤسسة الدينية التقليدية، تسعى للهيمنة على المدونة الفقهية الموروثة، وحيازة كل ما هو ديني، كي تخلع على نفسها مشروعية تمثيل الدين والنطق باسم السماء، عبر إغواء الشباب بتوظيف العلم.
هلالان لا هلال واحد:
إلى ماذا يحيل الاختلاف في تحديد ولادة هلال الأعياد ورمضان، ومن أين ينشأ تنوع المواقف في ذلك؟
لتحليل موضوع تحديد موعد ميلاد الهلال، وبيان ما تحيل إليه هذه الاختلافات، ينبغي تفكيك مفهوم الهلال إلى اثنين، وهما:
الأول: الهلال الفلكي، ومفهومه يحيل للهلال الذي ينتمي للحقل الدنيوي، بمعنى أن من يكتشف مواعيد ولادته ومنازل حركته هم الفلكيون، بكل ما يمتلكون من حسابات وجداول فلكية، وتكنولوجيا التلسكوبات وغير ذلك من الأدوات، التي تهديهم إلى نتائج علمية. هذا هلال ينتمي للفلكيين، إنهم وحدهم من ينبئنا عنه، وليس لأحد سواهم أن يرفض قولهم، بوصفهم المختصين في ذلك، ومرجعية العقلاء دائماً هي ذوو الاختصاص والخبرة، كل حسب تخصصه وخبرته.
الثاني: الهلال الديني، ومفهومه يحيل لهلال رمزي ينتمي لحقل المقدّس، الذي هو خارج الحقل الدنيوي. وإن كان منشؤه حقيقة كونية فلكية؛ أي مثلما هناك زمان ديني كرمضان والأعياد، ومكان ديني كالكعبة، هناك أيضاً الهلال الذي هو ديني لا دنيوي. وهذا الهلال هو ما يحدد مواعيد الأزمنة الدينية.
ومادام مفهوم هذا الهلال يندرج في الشأن الديني، فبيان منازله ومواعيده ليس في حيازة واختصاص الخبراء من الفلكيين، وإنما من يمتلك المشروعية الدينية للإفتاء بشأن مواعيده وميلاده المختصون بإدارة الشأن المقدّس حصراً، وهم رجال الدين والمؤسسة الدينية.
الخروج من الدنيوي إلى المقدّس:
الهلال الديني مثله في ذلك مثل أي شيء طبيعي يخرج من حقل الدنيا إلى حقل المقدّس؛ فالحجر مثلاً المستعمل في بناء الكعبة، عندما كان جزءاً في جبل أو في مقلع للحجر، قبل اقتطاعه واستعماله في بنائها، لم يكن مقدساً، غير أنه بمجرد اقتطاعه وترتيبه، ثم دخوله في البناء، يصير مقدساً، بوصفه دخل في فضاء المقدّس "الكعبة". وهكذا هو حال كل زمان أو مكان أو شيء يجري تقديسه؛ بمعنى أنه عندما كان ينتمي إلى الفضاء الدنيوي لم يكن مقدساً، لكنه بمجرد انتقاله منه إلى فضاء ديني يمسي مقدساً.
العالم مليء بالأسرار، والكائن البشري مسكون بالكشف عن هذه الأسرار. نحن نبحث عن تفاسير لكل شيء لا نعرفه في العالم. الذهن اليقظ في نشاط مستديم، إنه بمثابة مرجل يغلي إلى ما لانهاية، يظل يغلي إن لم يجد تفسيراً يستقر عنده. الإنسان يتعبه ذلك، فيلجأ عادة إلى أي شيء يمنحه الهدوء والدعة، لذلك يتشبث بأي تفسير كان، يتناسب ومحتوى ذهنه واستعداده ومسبقاته. إذا كان ذلك التفسير واضحاً، يشعر الذهن بسعادة كبيرة. وهذا ما يحصل حين نعثر على تفسير ذكي فنهدأ، وندافع عنه، ونصر عليه، ثم يصبح في مرحلة لاحقة ضمن تعريفنا لأنفسنا، حيث يدخل في تكوين كينونتنا الذاتية؛ كل عملية تفسير لنص أو ظاهرة أو شيء، نتحقق فيها بطور وجودي جديد، وهكذا.
إن هذا العالم يستوعب أشياءً لا حصر لها، لا ندرك معناها. الدين يمعنن ذلك، يفك الألغاز، أو تغدو الألغاز من منظور المتدين ذات مضمون، يفيض بمعان يستقيها من رؤيته للعالم. كل ما لا نفهمه من خلال وسائل وأدوات العلم المتاحة، مثل المبدأ والموت وما بعد الموت .. إلخ، الدين هو الذي يمنحنا تفسيراً له، يخرجنا من حالة الحيرة والارتياب، إذ إنه يخلع معنى على ما لا معنى له، المهمة المحورية للدين معننة ما لا نفهمه في الحياة.
يُعد الدين نظاما سيميائيا مكثفاً وخصباً، وإن المعاني التي ينتجها هذا النظام تشتغل على المستوى الرمزي بأعلى طاقاتها، ثم تتحول إلى مستوى الفعل في العالم الخارجي الموضوعي. الدين هنا بوصفه ذلك المعطى الحياتي الذي يتمثله الأفراد، وتظهر تعبيراته في حياة الجماعات البشرية، لتعريف وتأطير مجموعة من السلوكيات والروابط المنبثقة عن تحسس الإنسان لبعد مختلف في وجوده، ربما غير قابل للتفسير التجريبي. وهذا المعرف والمؤطر اكتسب قوة ونفوذاً من توفيره تفاسير جاهزة واضحة لظواهر في الوجود ما زالت غامضة، وبالتالي مخيفة ومربكة للكائن البشري، لكل ما يحتاجه الفرد، وما تحتاجه الجماعات لبقائها واستمرارها.
الدين غالباً ما يحمي من القلق والذعر والعدمية والعبثية والضياع والجنون. ولفرط احتياج الكائن البشري للدين، وانشغاله بتفسيراته المتنوعة، أصبح الدين باباً للسكينة والطمأنينة والأمن والسلام لدى بعض الناس، مثلما أضحى على الضد من ذلك لدى بعض آخر، بعد أن صار باباً للتسلط وللاستغلال والتعصب والعدوان. يتجلى الدين تبعاً لشخصية الكائن البشري والجهة التي تتبناه، وكيفية تصورها لله، ونمط فهمها للإنسان والعالم، ويتمثل في كيفية توظيفها للدين واستثماره في مختلف المواقف والأنشطة والعلاقات، واستغلاله في صراعات الأفراد والجماعات، والاستحواذ على الثروة والسلطة.
كيفية إنتاج الدين للمعنى:
أما كيفية إنتاج المعنى، ونمط الدلالات التي يوظفها الدين في ذلك، فإنها تتحقق عبر مجموعة من الوسائل والروافد والميكانيزمات. الرموز واحدة من أهمها، ذلك أن الإنسان بطبيعته كائن رمزي. الرمز لغة صامتة، إنه خزّان دلالات، يكتنز بكثافة وثراء مفهومي، لذلك يغدو منبعاً لتوليد المعاني. حياة الإنسان لا تستغني عن الرموز، لذلك نلاحظ الرموز تنتشر انتشاراً واسعاً في المجتمعات البشرية، بنحو لا نعثر فيه على مجتمع يخلو من الرموز.
وكما يستقي الإنسان الدلالات من الكلمات والألفاظ في أحاديثه الشفاهية، يستقيها أيضاً من الرموز الصامتة. وتوليد ما هو صامت للمعاني يفوق ما هو ملفوظ، فضلاً على أن ما هو صامت لا يتواطأ على حجب الحقيقة وتزويرها. ففي دراسة قام بها عالم النفس الأمريكي ألبرت ميهرابين اكتشف أن: 7 % فقط من الاتصال مع الآخر يكون بالكلمات، و38 % بنبرة الصوت، و55 % بلغة الجسد. ويعتقد علماء النفس في الوقت الحاضر بأن 60 % من حالات التخاطب والتواصل بين الناس تتم بصورة غير شفهية؛ أي عن طريق الإيماءات والإيحاءات والرموز، لا عن طريق الكلام واللسان، ويقال إن هذه الطريقة ذات تأثير قوى، أقوى بخمس مرات من ذلك التأثير الذي تتركه الكلمات[1].
ولما كان الدين يهتم بنوع: اللباس، الطعام، المكان، الزمان، وبالكثير من الأشياء، ويضفي عليها دلالاته الخاصة، فيكتسي اللباس الذي يستعمل في طقس ديني دلالة خاصة، بصفته رمزاً لمعنى مقدس، وتتوّالد منه مفاهيم قدسية جديدة، يخلو منها قبل ذلك، بعد أن يتحول إلى فضاء آخر، يخرج فيه من مجاله الدنيوي الى المقدّس، ملهماً من يرتديه فيضاً من المعاني، التي تغذي مشاعره وعواطفه، وتسقي تجربته الروحية. وهكذا الحال عندما يُتخذ زمان معين عيداً، أو مناسبة دينية، أو يُتخذ مبنى أو مكان معبداً. كل ذلك يعني أن الدين منح هذا الزمان أو المكان دلالات رمزية، تفيض بإمكانات تعبيرية لمعان جديدة، وأضاف إليه دلالات تشي بأنه صار مقدساً. يمسي هذا الزمان مختلفاً عن الزمان الآخر؛ أي الزمان العادي الممل. الدين عندما يعتبر زماناً ما عيداً مثلاً، فإنه يتسامى به، ويمنحه وظيفة مختلفة، وكأنه يعيد الزمان إلى فجره، ذلك الزمان النقي، وكأنه يصبح زماناً طاهراً بعد أن كان مدنساً. العيد مناسبة يجدد فيها الإنسان الزمان، ويتخلص من رتابته المملة، وعبء تكراره، وكأنه ينتقل به من زمان بلا روح، يفتقد معناه، إلى آخر حي مشبع بالمعاني[2].
الهلال الديني الرمزي، وكذلك كل عنصر من الممتلكات المقدّسة، هو أحد المنابع التي يتغذى منها نظام إنتاج المعنى المقدّس في المجتمعات الدينية، والاستحواذ عليه هو امتلاك رافد يغذي هذه الحياة، ويعمل على بناء نمط السلطة الروحية في المجتمع، ويحدد مديات اتساع نفوذها.
الاستملاك الرمزي للهلال:
من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى يمتلك السلطة. هناك علاقة جدلية بين امتلاك أنظمة إنتاج المعنى وامتلاك السلطة؛ فكل سلطة تنتج معرفة من جنسها، سواء كانت سياسية، أو عسكرية، أو روحية. المعرفة كما يقول فوكو تنتج سلطة، والسلطة تنتج معرفة، تعززها وترسخها وتغذيها على الدوام. كل سلطة تحرص على امتلاك كافة منابع المعرفة. وكما تعمل السلطة على إنتاج المعرفة، المعرفة بطبيعتها تحدد نوع السلطة.
وبتعبير آخر، التأثير متبادل بين السلطة ونظام إنتاج المعنى، كل منهما يؤثر في الآخر، ويتأثر به. فكل من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى يمتلك السلطة. وكل من يمتلك السلطة يمتلك أنظمة إنتاج المعنى، أو يحتكر أنظمة إنتاج المعنى. من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى الروحي يمتلك تبعاً لذلك السلطة الروحية، ومن يمتلك السلطة الروحية يعمل على احتكار أنظمة إنتاج المعنى الروحي. وهكذا من يمتلك أنظمة إنتاج المعنى السياسي يمتلك تبعاً لذلك السلطة السياسية. ومن يمتلك السلطة السياسية يعمل على احتكار أنظمة إنتاج المعنى السياسي، بل يسعى للهيمنة على غيرها، وتوظيفها كلها من أجل ترسيخ سلطته.
من طبائع السلطة السياسية، بل كل سلطة، أنها تتمدد وتتسع باستمرار، تتغلغل وتخترق كل شيء تتمكن من اختراقه والاستيلاء عليه. لذلك تحاول التهام المال والحريات والحقوق، بل كل ما تستطيع أن تطاله وتصل اليه، أياً كان. مما يكرس سطوتها على حياة الناس. فما لم تضع السلطة لنفسها دائرة نفوذ مرسومة بوضوح، وتضبط ذلك بقوانين صارمة، فلن يحد من تغولها أي شيء سواها.
تلك هي آلية اشتغال السلطة، حيثما كانت، كيفما كانت، أينما كانت. طبيعة السلطة نسيج متشعب عميق مركب معقد، متغلغل في كل ما هو: كبير وصغير، جزئي وكلي. إنها تتشكل عادة مما هو: ظاهر ومستتر، مباشر وغير مباشر، معلن ومضمر، جلي وخفي، حاضر وغائب، معلوم ومجهول.
لا أريد أن أتحدث أكثر عن شباك وشراك أنماط السلطة التي حفر في أعماقها، وكشف وجوهها المتنوعة، وفضح أقنعتها المختلفة، فلاسفةٌ غربيون أمثال فوكو ومن قبله نيتشه، وإنما فقط وددت الإشارة بإيجاز إلى شيء من طبائع مختلف أشكال السلطة ومدياتها وآليات اشتغالها، بغية الكشف عن الرأسمال الذي تتداوله، ونوع الأسهم التي تستثمرها، وكيفية تنميتها وتوالدها، وتشعب نسيجها.
الذين يصرون على التوكؤ على آراء الفلكيين، والاستناد إليهم كمرجعية وحيدة نهائية في كل ما يتصل بالهلال، ومواعيد الأعياد، وشهر رمضان، إنما يحاولون الاستئثار بأحد ممتلكات المؤسسة الدينية، ذات التأثير المهم في إنتاج المعنى الروحي، وتغذية البنية التحتية للسلطة الروحية. إنهم يعملون على إخراج الهلال المؤطر بمضمون قدسي، وانتزاعه من حقله الخاص، وتفريغه من محتواه. حين يجردونه من مضمونه القدسي، ويرحلونه إلى السياق الفلكي، يغدو هلالاً مختلفاً، لا علاقة له بمجال إنتاج المعنى الديني. بمعنى آخر إنهم يتعاطون معه بوصفه الهلال الكوني، الذي يقع في حيز الخبير الفلكي، والملحق بالشأن الدنيوي؛ أي ينقلونه من مجاله الخاص ووظيفته في إنتاج معنى ديني إلى مجال لا يمت بصلة للشأن الديني.
وطبقاً لما تقوله أصول الفقه، فإن فعلية الحكم الشرعي تدور مدار توفر تمام عناصر موضوعه، وهذه العناصر هي: عبارة عن كافة المواصفات والقيود والشروط المأخوذة في موضوع الحكم، والتي بمجموعها تمثل الموضوع. وذلك ما تقرره القاعدة المعروفة في الأصول: "المشروط عدم عند عدم شرطه، أو المقيد عدم عند عدم قيده". وما يقع موضوعاً للحكم الشرعي هنا بغرة شهر رمضان، وتصرمه وبدء العيد في اليوم الأول من شهر شوال، وهكذا أهلة الحج والأشهر القمرية، إنما هو الهلال الديني الرمزي؛ أي الهلال الذي تؤطره المواصفات والشروط والقيود المنصوص عليها في المدونة الفقهية. وليس الهلال الكوني الفلكي، العاري من تلك المواصفات والشروط والقيود، ذلك أن الهلال الفلكي ليس هو موضوع الحكم الذي يتمسك به مشهور الفقهاء، ممن لا يقبلون توظيف الحسابات الفلكية والتكنولوجيا الجديدة في تحديد ولادة الهلال، وهو ما يدعوهم للتشبث بالرؤية البصرية المباشرة، وقول بعضهم بتعدد الأعياد، تبعاً لتعدد الآفاق جغرافياً، حتى وإن لم يتطابق ذلك مع ما يكتشفه علماء الفلك، وحساباتهم العلمية، وأدواتهم الرصدية.
حاولنا أن ندرس الخلاف على الهلال في ضوء "فلسفة الفقه". وفلسفة الفقه علم يُنقّب عمّا هو غاطس في عملية الاستدلال الفقهي، ويعمل على عبور عناصر هذا الاستدلال المعروفة، ليصل إلى تشريح الخلفيات غير المرئية في استنباط الأحكام الشرعية، ويسعى للتعرف على مختلف العناصر الخفية المؤثرة في إنتاج الفتوى.
فلسفة الفقه لا تتوقف عند السطح، بل تنشغل بالنظر إلى الأعماق، في محاولة للكشف عن البنية التحتية العميقة للتفكير الفقهي؛ أي أن هذا العلم يحاول أن يتوغل بعيداً ليكتشف الأحكام المسبقة للفقيه، وتأثير رؤيته للعالم، وما هو غاطس في لا وعيه من مؤثرات متنوعة، توجّه تفكيرَه وفقاً لبوصلتها.
حاولنا أن نستعين بمثال تطبيقي لفلسفة الفقه بغية إضاءة ما هو مستور في النزاع على الهلال، فخلصنا إلى أن الخلاف على الهلال يعود لمحاولة استملاكه الرمزي، واحتكاره بغية إثراء رأس المال المقدّس؛ أي أن الخلاف هو على هلالين وليس على هلال واحد، فهلال الفقهاء غير هلال الفلكيين، هلالهم مؤطر بمعنى ديني، في حين هلال الفلكيين ظاهرة كونية، يكتشفها العلم، وهي محايدة وليست مؤطرة بشيء.
لا يختص اتساع ظاهرة المقدّس بديانة خاصة، بل هي ظاهرة عامة تشترك فيها كلّ الأديان؛ فلا توجد ديانة يعتنقها الناس في الأرض لا يتمدّد فيها المقدّس في المجال العام بمرور الزمن.
المقدّس يمثل موقفاً حيال العالم، وطريقة خاصة للتعامل معه، بشكل لا يتطابق دائماً مع الدنيوي، والتعرف على ذلك يتطلب دراسات متنوعة، لا تكرّر ما هو موروث، وإنما تنفتح على المناهج الحديثة في العلوم والمعارف الإنسانية وتطبيقها على النصوص والظواهر الدينية، لتكتشف كيفية توالد المقدّس وأنماط صيروته وتمثلاته في المجتمع، والصلة العضوية بين حدوده وجغرافيا السلطة الروحية ومديات نفوذها في الحياة البشرية.
تبني هذا اللون من القراءة وتطويرها ضرورة للكشف عن تمثلات المقدّس، ومعرفة ما يختبئ خلفها، وأساليب توظيفها في: صراعات الهيمنة والسلطة والثروة، وكيفية إدارة السلطة الروحية للشأن الديني، عبر استملاك المجال العام رمزياً، وتنمية رصيد المقدّس، والعمل على تمديده أفقياً وتعميقه عمودياً. جغرافيا المقدّس جغرافيا السلطة الروحية، كلما اتسعت جغرافيا المقدّس اتسعت جغرافيا السلطة الروحية.
نتمنى أن يهتم الباحثون والدارسون بدراسة فلسفة الفقه، ويعملون على تطبيقها على مدونة الفقهاء، عسى أن ينفتح الفقه الإسلامي على فضاء رحب، يتحرر فيه من الأسوار الموروثة التي فرضت عليه نمطاً من التفكير التكراري المزمن، الذي توقف معه تطوره كيفياً، وظل ينمو ويتراكم كمياً، ولا يكف عن الحركة في مدارات مغلقة.
[1]ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
[2] الرفاعي، عبدالجبار. إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين. بيروت: دار التنوير ومركز دراسات فلسفة الدين، 2013، ص ص 21 - 22