الانفجار الرقمي ومخاطر الخصوصية الإنسانية
فئة : مقالات
الانفجار الرقمي ومخاطر الخصوصية الإنسانية
تقديم:
لأن الإنسان كائن ثقافي بامتياز، يعيش في كنف ما يصنعه عقله، وتبدعه أنامله، وتفكر فيه إمكاناته اللامحدودة، فقد غدا كل شيء لدى هذا الكائن ممكنا، ربما هناك حسابات تمنع أشياء من الظهور أو الانتشار، ولكن ما دام العقل فهناك إمكانيات وموارد تغير من شكل الوجود بشكل يومي، وبأفق غير متوقع في الكثير من الأحيان. لا نتحدث عن العقل هنا إلا بمفهوم الربط والقدرة على اختراق المستحيل، أو على الأقل ما يبدو مستحيلا. العقل ليس مادة جاهزة كما تصور التفكير الديني في فترات متباينة، فخلقوا بذلك صراعات وحروب العقل والنقل، والنص والتأويل. هذا الواقع له سياقه التاريخي المفهوم، والمتفهم على اعتبار أن كل عقل أو لنقل كل سقف معرفي لمجتمع ما ينشئ شكل الواقع، ونوع الثقافة السائدة، والأسئلة التي يراد الإجابة عنها للسير خطوة إلى الأمام، أو خطوة إلى الوراء في حالة الإخفاق، أو عدم القدرة على فهم الواقع بشكل أفضل. في هذا السياق المشبع بالإشكاليات نحاول أن نقرأ واقعنا الثقافي ونتأمل فيه، لعلنا نقترب من ملامسة تشخيصه؛ لأن هذا الواقع فعلا غدا صعب الإدراك، ومستحيل التوقع. فكل الظواهر التي يكشف عنها الباحث أو يحاول أن يقرأ تنفلت من بين يديه، لتصدق فينا مقولة زيغمون باومان بأن هذا العالم أصبح سائلا[1]، ولم تعد الإمكانية والقدرة على التحكم في مجرياته وامتداداته قائمة ونحن نواجه أسئلة ما بعد الإنسان، والخصوصية، والذكاء الاصطناعي، ونهاية الإيديولوجيات والشموليات.
من هذا المنظور، نريد أن نقف مع إشكالية طرحها العديد من الباحثين والمفكرين والكتّاب حول قدرة التقنية اليوم على خلق واقع ثقافي ينذر بعواقب كثيرة تحتاج منا الوقوف على أسئلة يمكن أن تكون أسئلة وجودية؛ لأنها تلامس من قريب أو من بعيد سؤال الماهية أو الكينونة الإنسانية. غالبا ما يناقش المثقفون جوانب الثقافة في حدودها الكلاسيكية المرتبطة بالعلم والمعرفة والكتابات. وهذا الواقع ناتج بالأساس عن ابتعاد المثقف أو المهتم بالشأن الثقافي عن القضايا المستجدة، والنظر إليها من زاوية استعلائية تختزلها في كونها اهتمامات عامة الناس، وليست رؤية للوجود يمكن أن تغير الواقع، أو تحول النظرة إليه على المدى المتوسط والبعيد. لم تعد ثقافة التكنولوجيا وانتشار وسائل التواصل شأنا عاميا، فقد أشار أيضا علي أومليل[2] إلى هذه المعادلة، حيث في العقود الثلاثة تم اختراق المجال الثقافي جملة وتفصيلا من هذه الوسائل التقنية، وأصبح الإنسان رهينة لدى ما يسمى بالعبودية الرقمية.
إن الثقافة الرقمية اليوم لا يحجبها ابتعاد المثقف أو غير المثقف عن تداولها أو ممارستها، أو الصمت عن امتداداتها غير المرئية؛ فهي تخترق بيوتنا ومدارسنا وواقعنا وسلوكياتنا دون أن تستأذن، أو تطلب منا ذلك. إن للثقافة حسب أومليل[3] مستويين اثنين: الأول: المتعلق بالعادات والتقاليد، والثاني: تكون فيه الثقافة شأنا نخبويا، وهذا ما يهمنا هنا. أن ينخرط المثقف في صياغة أسئلة لواقعه، ويبحث عما يقلل من تداعيات ما نحن بصدد الحديث عنه، لا أن يهرب إلى الأمام ويعتقد أن بهروبه سينمحي الفراغ، أو يعجز الإنسان عن إيجاد بدائل.
هل نحن أمام انفجار رقمي سيؤثر على شكل علاقاتنا ونظرتنا للكون والذات؟
وما هو مصير خصوصياتنا في عالم رقمي يجعل كل شيء قابل للتداول والكشف؟
الانفجار الرقمي والتأثير على حياتنا اليومية:
في دراسة قام بها باحثون وطبعت في شكل كتاب معنون بالطوفان الرقمي: كيف يؤثر على حياتنا وحريتنا وسعادتنا؟[4]. أكد الكتاب على حقائق مثيرة ولكنها خطيرة في الوقت نفسه، توحي بأن العالم قد تغير بشكل كلي مع هذا الانفجار الرقمي الذي لا يريد أن يتوقف، بل لا يريد للإنسان أن يلتقط أنفاسه. فحسب هذه الدراسات المنجزة كل شيء تقريبًا مسجل على جهاز كمبيوتر يقبع في مكان ما من هذا العالم، وهذا يشمل سجلات المحاكم، والمحلات التجارية، والمعاهد، والمواقع الإلكترونية... هذا الكم الهائل من المعلومات المسجلة، والوثائق المدونة عبارة عن مجموعة من البِتات مكدسة على أقراص أجهزة الكمبيوتر المنزلية، وفي مراكز بيانات الشركات الكبرى والوكالات الحكومية، ولتلك الأقراص سعة هائلة تغنينا عن انتقاء واختيار ما علينا تذكره.
قد يبدو الأمر مربكا؛ لأن النظرة إليه من زاوية أنه سهل على الإنسان حياته وعيشه تظهر الأمر على أنه شيء إيجابي ومحمود. فيما يتمثل الخطر الأكبر في أن كل شيء أصبح مفضوحا في عالم اليوم، ولم تعد القدرة على التحكم في معلوماتنا وخصوصياتنا أمرا ممكنا. وهنا بدأ الإنسان يطرح مجموعة من الإشكالات المعرفية الناتجة عن هذه التحولات من قبيل الحرية، والخصوصية، والقوانين، والسياسات المتبعة، وغير ذلك من الأمور التي تحتاج إلى وقفات تأملية. ولعل السؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا وهو أيضا ما طرحه الكتاب السابق كيف يغير الانفجار كل شيء من حولنا؟، وسنتحدث عن ذلك بشكل موجز فيما يلي:
- إن الانفجار الرقمي كما أنه أتاح للإنسان إمكانيات لم يكن بمقدوره الوصول إليها، فإنه أيضا ولد مخاطر جديدة، وكثيرا من تلك الفرص والمخاطر سيختفي بطريقة أو بأخرى في غضون عقد من الزمن.
- الأجهزة الإلكترونية تخلق لك وهمًا بأنها تحتوي على صور فوتوغرافية أو رسائل وأغانٍ وأفلام، وفي الحقيقة ليس به إلا الكثير من البِتات منظومة بطرق معينة لا يمكنك رؤيتها.
- البِتات نوع غريب من الممتلكات، فما إن تنشرها حتى تصير بأيدي الجميع، وإذا أعطيتَها لغيرك فلن يُنقِص ذلك مما لديك شيئًا.
- بعد خمس سنوات من الآن، ستتضاعف تلك القدرة التخزينية عشر مرات، لكن من قبيل المفارقة أن هذه الطفرة المعلوماتية تعني فقدان المعلومات التي ليست على شبكة الإنترنيت.
هذا جانب من جوانب ما تحمله هذه التقنية من مخاطر ومشاكل على مستقبل البشرية، بالرغم من الإيجابيات التي تحملها. ولكن هذا هو قدر الإنسان كل شيء يوظف بالطريقة التي يريدها ويمضي فيها صاحبها. ولعل أخطر ما يواجه الإنسانية اليوم هو مسألة الخصوصية. فماذا عنها؟. هنا يمكن الإشارة إلى دراسة مثيرة أجراها إريك جوردون: أستاذٌ مساعِد في مادة «الوسائط الجديدة» بكلية إيمرسون بولاية بوسطن. وأدريانا دي سوزا إي سيلفا: أستاذةٌ مُساعِدة بجامعة كوبنهاجن لتكنولوجيا المعلومات، وأستاذةٌ مُساعِدة في مجال الاتصالات بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، وقد تمت عنونة الدراسة بـ "المكانية الرقمية: أهمية الموقع في عالم متشابك".[5]
فما الخصوصية؟
لم يعد إنسان اليوم بالضرورة هو إنسان أمس ليس فقط بحكم البديهة التي تجعلنا مختلفين عن غيرنا، بل أيضا لطبيعة التحولات والتغيرات التي طرأت على عالم الإنسانية. كلنا نتحدث اليوم عن الخصوصية وعلاقتنا بمواقع الويب والتواصل الاجتماعي، حتى إن البعض من فرط انتهاك هذه الخصوصيات أطلق علينا اسم الإنسان العاري كما فعل مارك دوغان في كتاب له باسم: الإنسان العاري الديكتاتورية الخفية للعالم الرقمي. كذلك اهتم بهذا الموضوع الحساس زيغمونت باومان في مجموعة من كتبه خاصة كتاب المراقبة السائلة.
إن الواقع الفعلي اليوم يؤكد أننا نعيش عالما فيه نوعا من الانفصال والفصام والتناقض. ففي الوقت الذي نشعر فيه بالفرح والأمان والطمأنينة لما قد حققته التكنولوجيات الحديثة بالنسبة إلينا، نجد أنفسنا أيضا أمام مجموعة من الإشكالات والمآزق الفكرية والروحية والفكرية. وقد نجمل ذلك فيما يلي:
- تعزِّز الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة من سيطرة المرء على موضعه داخل الشبكة، ولكنها توفر أيضًا ظروفًا؛ لأن يكون المرء تحت سيطرة الشبكة.
- بينما نشعر براحة أكبر حيال انتشار الشبكات في حياتنا، نشعر بفقدان راحة أكبر حيال فقدان الاتصال بها.
- إن ظهور الأمكنة الرَّقْمِيَّة يشير إلى تحوُّلٍ في طريقة فهمنا للويب: من شبكةٍ رقمية تعمل خارج القيود المادية للعالَم، إلى شبكةٍ توجد في فضاءات الحياة اليومية منظَّمة حول المواقع الفعلية.
- بينما يتحوَّل الموقع الفعلي إلى مجموعة من البيانات الأساسية اللازمة لبناء الشبكات الرَّقْمِيَّة والمحافظة على بقائها، فإن التساؤلات المتعلقة بالتحكم في تلك البيانات وإمكانية النفاذ إليها تصبح محوريةً.
- وجود قلق مصاحِب للكشف عن المعلومات الشخصية؛ فغالبًا ما يصاحب جعْلَ المعلومات الشخصية علنيةً تصورا حول إمكانية الخضوع للمراقبة التامة.
- المفارَقةُ الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة؛ تقول بوجود علاقة شخصية بالموقع المادي تهدِّد سيطرةَ المرء على الفضاء المادي وتؤمِّنها في نفس الوقت.
- تنبع مخاوفُ فقدان الخصوصية من القلق بشأن فقدان السيطرة على معلومات موقع الفرد الشخصية.
لكن مشكلتنا أمام هذه المفارقات أننا دوما نجد من يحذرنا من «فقدان الخصوصية» بسبب الاستخدام المفرط للتكنولوجيات الحديثة والمحددة لأمكنتنا وأزمنتنا، وكأننا في سجن رقمي محاصرون من كل جانب. شعور رهيب يشعر به أي واحد منا وهو يرى نفسه محاطا بتقنيات تحصي أنفاسه كل يوم، بل وكل ثانية. فهل نحن محاصرون ومنتهكون على مستوى أمكنتنا؟. للجواب عن هذا السؤال يقترح أحد الباحثين أن ننظر إلى الأمر من زاوية أخرى، وهي أنه يجب علينا التمييز بين الخاص والعام؛ لأن الخاص والعام قائمٌ على نظرة المجتمع لهذا الأمر، فما يراه مجتمع شأنا خاصأ، قد لا يراه مجتمع آخر كذلك، هناك متغيرات، وهناك تعدد زوايا النظر للقضية الواحدة، والظاهرة الواحدة، والسلوك الواحد. ومن هنا نفهم نسبية الفهم، والتفكير والاعتقاد. ويضرب مثالا بالمجتمع الإغريقي، كان العام هو مكان ممارسة السياسة، مثل الساحة العامة «أجورا»، حيث «يستطيع الجميع رؤية كل شيء وسماعه» من ناحيةٍ أخرى، وكان الخاص هو المكان الذي يكون غالبا في ملكية الأسرة، ويكون مغلقا أو منعزلا عن الفضاء العام والمفتوح. هذه النظرة كانت هي السائدة فيما مضى إلى حدود ما نصت عليه هذه نُظُمُ القرن الثامن عشر الاقتصادية، استولَتِ الأمورُ التي كانت خاصة في السابق - مثل ضرورات «الحياة، والعمل، والتناسل» - على المجال العام، محوِّلة إياه إلى "مجالٍ يُرضِي احتياجاتنا".
الانفجار الرقمي وحرية التعبير
مع انتشار هذا الانفجار الرقمي وسيادة وسائل التواصل صار في مقدور الكل أن يقول ما شاء ومتى شاء، وكلما شددت الشركات والمؤسسات من سياسات الخصوصية واحترام شروط النشر إلا وانفلت كل شيء من يديها، ما دام الهاجس الوحيد لأغلبها هو تحقيق الأرباح والاستحواذ على الساحة، وخلق فضاءات بشروط أحسن وأفضل بالنسبة إليها. وهنا تبرز إشكالية التعبير والحرية الفردية في أن يقول الإنسان ما شاء ما دام يمتلك حسابا هنا أو قناة هناك. هنا يمكننا أن نناقش موضوع حرية التعبير، وهو موضوع شائك تحدث عنه القدماء والمحدثين، ولا زال يثير الكثير من المخاوف والصعوبات. هناك قولة مشهورة تنسب لفولتير مفادها: أكره ما تقول، لكني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله. مبينا أن حرية الكلام والتعبير عن القناعات والمعتقدات والأفكار شيء يستحق كل النضال والدفاع والمقاومة والمواجهة؛ فهل نحن أحرار فيما نعبر به أو عليه؟ وهل حقا يمكننا أن نكون أحرارا دون أن نتجاوز أيضا حقوق وحريات الآخرين؟ وهل هناك حدود ومن يرسمها؟. كل هذه الأسئلة نحاول أن نقف معها ومع أدلة القائلين بها أو المعارضين لها مستعينين بكتاب مختصر ومفيد موسوم ب حرية التعبير مقدمة قصيرة جدا لنايجل ووربيرتن[6].
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك الكثير من الفلاسفة الكبار الذين اشتهروا بدفاعهم عن حرية التعبير من أهمهم الفيلسوف جون ستيورات مل في كتابه. «عن الحرية»، لكن ما هي حجج مِل في التعبير المطلق على الحرية؟ باختصار شديد.
لمعرفة ذلك نقترح العناصر التالية:
مبدأ الضرر لمِل
ويعني هذا المبدأ أن الأفراد البالغين ينبغي أن تكون لهم حرية القيام بما يشاؤون، حتى يصلوا إلى المرحلة التي يعرضون فيها غيرهم للضرر؛ أي أنت حر ما دمت لا تلحق الضرر بالآخرين. وقد كان يميل مل من خلال هذا التصور إلى أنه من خلال الحفاظ على الحرية وتقبل الاختلاف ستزيد سعادة المجتمع إلى أقصى حد وسينتج عن هذا أفضل النتائج.
حجة العصمة من الخطأ
تعني هذه الحجة بحسب ستيوارت مِل أن أي شخص يُسكت شخصًا آخر؛ لأنه يرى رأيه خطأً فهو يفترض في نفسه العصمة من الخطأ، فيكون على يقين تام بأنه على صواب بشأن هذا الأمر. هذه الحالة النفسية من اليقين التام لا تعني في واقع الأمر أن ما نشعر بالتأكد منه صواب أو حقيقي، فعلى المستوى الفردي، نحن نرتكب أخطاءً حتى في المسائل التي لا جدال فيها.
حجة العقائد الميتة
العقائد الميتة هي كارثة على العقول الإنسانية، وتعني أنه حينما أُومِن بأن رأيي صائب، وأثق تمامًا في صحته، فهذا سيؤدي بي إلى اعتناقه كعقيدة ميتة غير قابلة للنقاش والجدال.
حجة الصواب الجزئي
استخدم مِل حجة أخرى وهي احتمال وجود عناصر من الحقيقة ضمن رأي خاطئ في المجمل، إن لم نستمع لهذا الرأي، فربما نفقد عناصر الحقيقة الموجودة بها؟
إذا كانت هذه حجج فيلسوف رائد كجون ستيوارت مل يعبر من خلالها على الحرية المطلقة للإنسان في أن يعبر عما يراه صائبا أو حقيقيا. فما هي حجج الآخرين المعارضين لمثل هذا التصور المطلق لحرية التعبير. فأين نضع الحدود؟
سنسوق هنا بالنسبة إلى من يؤمن بحرية التعبير بشكل مطلق ما أورده نايجل ووربيرتن في نقاشه لحجج جون ستيوارت مل. ولنتأمل مثالًا تخيليًّا طرحه الفيلسوف توماس سكانلون يقول فيه: ماذا تقول في مخترع كاره للبشر اكتشف طريقة سهلة لإعداد غاز أعصاب ذي فعالية عالية من منتجات محلية يسهل العثور عليها؟ بالتأكيد في هذا الموقف سيكون من الصائب منعه من إعطاء الوصفة لأحد أو نشرها بأي طريقة أخرى. إذا بدا لك مثال مخترع غاز الأعصاب خياليًّا، فإليك مثال حقيقي لكتاب بعنوان: «القاتل المأجور: دليل فني للقتلة المأجورين المستقلين.» يقدم هذا الكتاب - الذي يقال إنه أدب خيالي - إرشادات مفصلة لكيفية القتل بحذر والتخلص من الجثث، نُشر هذا الكتاب عام 1973 في الولايات المتحدة، وزادت شهرة الكتاب عندما استأجر لورنس هورن قاتلًا مأجورًا لقتل ابنه وزوجته السابقة وممرضة ابنه من أجل الحصول على أموال التأمين، اتبع القاتل حرفيًّا التعليمات الواردة في الكتاب عن كيفية جعل المسدس صعب التعقب، واستخدام كاتم صوت منزلي الصنع، وإطلاق النار من مسافة قريبة، وما إلى ذلك. حُكم على القاتل بالإعدام، وعلى هورن بالسجن مدى الحياة، ورُفعت دعوى قضائية ضد ناشري الكتاب، وأعد الناشرون دفاعًا معتمدًا على التعديل الأول، انتهت القضية أخيرًا بتسوية مالية من جانب الناشرين.
ختاما يمكننا طرح التساؤل التالي: هل هناك حرية مطلقة في عصر الانفجار الرقمي وثورة التكنولوجيات المتسارعة؟
لا يمكننا أن نجزم بجواب قاطع عن هذا السؤال بشكل مطلق؛ فبالرغم من هذه الطفرة العلمية والثورة التكنولوجية الضخمة، غير أن عالمنا ما زال يفرض الكثير من القيود على الحريات بما في ذلك حرية التعبير. والدليل أننا ما زلنا نرى قنوات تفرض شروطا صارمة على التعبير، والنشر، والكتابة. وهذا الأمر يتجاوز الدول النامية إلى أرقى وأعتى الديمقراطيات، حيث يخرج ملايين المحتجين، والمناهضين لدعوات التقييد والمنع. وإذا نظرنا إلى أشهر مواقع التواصل الرقمي كاليوتيوب أو الفيسبوك أو التيك توك، فسنجدها تتفاوت من حيث شروط وسياسات النشر من دعوات دائمة لحظر المواد الإباحية، وخطاب الكراهية، وإنكار الهولوكوست.
[1]- لزيغمون باومان مجموعة من الكتب تتحدث عن واقع السيولة، مثل الحداثة السائلة والمراقبة السائلة والشر السائل والحب السائل. والسيولة في مختلف كتابات باومان تعني حالة ثقافية وفكرية واجتماعية تذيب كل الكيانات التي تبدو صلبة أو ثابتة أو غير قابلة للتغيير.
[2]- على، أومليل. سؤال الثقافة. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 2005، ص: 6
[3]- المرجع نفسه. ص: 9
[4]- هل إبلسون، هاري لويس، كين ليدين. الطوفان الرقمي كيف يؤثر على حياتنا وحريتنا وسعادتنا؟. ترجمة أشرف عامر. مؤسسة هنداوي. ط1، 2017، ص: 19
[5]- إريك، جوردان. وادريانا دي سوزا إي سيلفا، المكانية الرقمية أهمية الموقع في عالم متشابك. ترجمة. محمد حامد درويش. مؤسسة هنداوي، ط1، 2017. ص: 19
[6]- نايجل ووربيرتن. حرية التعبير مقدمة قصيرة. ترجمة زينب عاطف. مؤسسة هنداوي، ط1، 2017، ص: 7