الباب الخلفي للهرمينوطيقا جورج غوسدورف في "أصول التأويلية"
فئة : قراءات في كتب
يدشن مشروع التأويليات ضمن أعمال "مؤسسة مؤمنون بلا حدود" باكورة نشاطه في مشروع التأويليات بإصدار الترجمة الأولى لكتاب (أصول التأويلية) للفيلسوف الفرنسي جورج غوسدورف المولود سنة 1912 والمتوفى سنة 2000. الكتاب الذي صدر في نشرته الأولى بالعاصمة الفرنسية باريس سنة 1988، ما يدل أنه خلاصة فكر واشتغال معرفي حثيث بذله غوسدورف طيلة حياته، وترجمه - لأول مرّة - الدكتور فتحي إنقزّو.
عندما أنهيت قراءة متن الكتاب، عدت مرة أخرى إلى عنوانه، وصرت أركز على مفردة "أصول" = "Origines"، لأجد أن غوسدورف لا يستعرض مثلما هو لا يؤرخ لنظريات التأويل على طريقة غيره بقدر ما يكشف عن حراك الفكر التأويلي الغربي الذي ولجه من أبوابه الخلفية بمختلف قطاعاته من الإسكندرية حتى اليوم الذي دارت فيه فصول التفكير الهرمينوطيقي والتأويلي؛ بل قل الأرضية التي جهّزت للتفكير الهرمينوطيقي أو التأويلي لكي يبدو خلال المراحل التي اضطلع الظهور فيها وعبرها، الأرضية التي أدار غوسدورف ثراها المعرفي ببراعة الباحث الصبور المتمكّن من عمله، حتى استنهض فتحي إنقزو نقلها إلى لغة الضاد ببراعة نجيبة في صنيعه الترجمي هذا.
قدّم للترجمة الدكتور محمد محجوب على نحو وجيز، ليؤكّد أن "المسألة التأويلية قد ترسّخت اليوم بوصفها مطلباً فلسفياً في ثقافتنا" (ص 7)، ووجد في ترجمة هذا الكتاب صوب العربية أنها "استعادة موجّهة للأصول في نوع من القص الذاتي المفضي إلى اضطلاع العقل بنفسه لكون غوسدورف يدافع عن أطروحة في تكوّن العقل الهرمينوطيقي، ويستبعد، في مقابل ذلك، أطروحة قامت عليها أغلب سرديات العقل الهرمينوطيقي إلى اليوم" (ص 8). ويقول محجوب بشأن هذا الكتاب: "إن الأمر لا يتعلّق بتأريخ التأويلية إنما بتعيين أصولها التي تلتقي مع التاريخ، ولكنها لا تلتقي معه إلا لتعيّن المأتى، والمأتى عند غوسدورف هو أولاً تكوّن النص قبل مفهومه، وممارسته تمتد إلى القرن الثالث قيل الميلاد..." (ص 9)، ويستعرض أصول التأويلية وفق ذلك وكما يكتبها غوسدورف، وهي مقدمة مُهمة تضع قارئ كتاب (أصول التأويلية) عند مشارف هذا العمل الدسم.
حاضرة الإسكندرية
يأخذنا غوسدورف في الباب الأول - الفصل الأول من كتابه إلى مواقعية، ليختلف عن كل الذين كتبوا عن مجرى التأويلية في التاريخ، ويُذكر ههنا أن فتحي إنقزو آثر رسم "التأويلية" بدلاً من "الهرمينوطيقا" في تعريبه العربي الشائع، رغم أن عنوان الكتاب يلتزم الرسم الفرنسي "Herméneutique" ليحافظ إنقزو على تخفيف ثقل ملفوظ الكلمة بالفرنسية على القارئ العربي.
يعود بنا غوسدورف إلى الإسكندرية حوالى سنة 300 وما بعدها، وقبلها أحياناً، تلك التي، وكما يراها، أنتجت "ثقافة قامت للمرّة الأولى على تكوين مجال إبستمولوجي مناسب لهرمينوطيقا المحدثين" (ص 46)؛ ذلك أن "الإسكندرية ستكون إلى ما يقرب من ألف عام هي العاصمة الثقافية للغرب" (ص 45). ففي الإسكندرية شهد التاريخ ولادة أناس ينجزون شغلهم الشاغل غير بعيد عن "أعمال الآخرين" (ص 47)، وأن "مُتحف الإسكندرية هو الذي تأتى لنا منه هذا التوقير للتراث المكتوب، الذي وطّنه، للمرة الأولى، متأدبون على أيديهم نشأت في الغرب موهبة العمل الفيلولوجي والنقدي" (ص 47).
وهذا يعني أن غوسدورف يرى في التكوين المؤسساتي بالإسكندرية صاحب الشأن في ولادة القدرة على النظر في نتاج الآخرين، وأن الأنفار الذي عملوا في تلك المؤسسة، إنما هم "أشهاد وأصحاب لفضاء ذهني جديد يضع شروط الإمكان لتشكيل المعرفة التأويلية" (ص 48). وهذا العمل سيكون مقدّمة لأي تفكير تأويلي لاحق؛ فإذا كان "الفن الذي يتعلّق بفك سَنن ما هو مكتوب، لا يمكن له أن يتدخّل إلا إذا ما تكوّن مجموعٌ من النصوص المدوّنة"، فإن الداعي إلى الهرمينوطيقا أو فن التأويل، إنما "هو وجود وثائق لا تريد تقول ما تريد قوله، لا تفصح إلا عن معنى غامض أو سري" (ص 48).
هذه الوظيفة التي تبدو تاريخية ستعمل على إنقاذ الآداب الهومرية من الضياع، ففي المتحف الإسكندري وجد "تاريخ نص هوميروس (...) النجاح الأكبر الأول للهرمينوطيقا، الذي يرجع فضله إلى العمل الفيلولوجي الضخم لعلماء المُتحف" (ص 49)، والأمر طال الإلياذة وكذلك الأوديسة. وبذلك يعتقد غوسدورف أن علماء الإسكندرية "افتتحوا المشروع الكبير للفيلولوجيا بوصفها استحضاراً للمعنى" (ص 55).
لقد كان عمل "المكتبي" منهم في الإسكندرية يمثل "النقيب المحصّل والفيلولوجي الجامعي [المنكب] على تفجير الروح الخفي في ثنايا الحرف" (ص 56). فأصبحت أعماله ونظراته تطال "كبرى النصوص وقد حُقّقت (...) لتيسير قراءتها" (ص 57)، وكُل ذلك مكّن من اعتبار وقراءة وتأويل هوميروس مثلاً أو "تأويل هوميروس اعتماداً على هوميروس نفسه" (ص 58) بوصف نصوصه متاحة كموروث، وبذلك تجلى الأدب في الإسكندرية كشيء مكتوب، فصار وجود الأدب مختلفاً عن كونه مشفّهاً يجري على الألسن فقط. إلا أن الأمر لم يعد فقط عملية جرد، إنما صار مُمكناً كعقيدة جمالية يمكن أن تحضر في العالم، لكن الأمر صار خاضعاً لضرورات تاريخية منها غزو المسلمين للمجنى الثقافي الإسكندري وتدميره في ظل ظهور المقدّس الديني وتناوله من جانب فيلون الإسكندري ورفاقه. وكل ذلك يؤكّد للقارئ أن غوسدورف استحضر مهنة المؤرخ في ملاقاة انبعاث القاعدة المادية والبنية التحتية والمؤسساتية لعمل المؤوّل في الثقافة الغربية.
الدين والتأويلية
ليست القاعدة المادية لتحد من حراك التأويل؛ ففي فصل تال عنوانه "ظهور التأويلية اليهودية المسيحية" يحرث غوسدورف في ثرى الغرب القديم مطالع ما جرى، ويرى بأنه "في الإسكندرية نفسها أُفتتح عصر جديد للتأويلية على مشارف العهد المسيحي" (ص 73)، وصار مفهوم الدين جديداً في دلالته بتجديد النظرة إلى الثيولوجيا بطونها انفتحت على المقدّس الديني، وهو مسار ينتظم "الكون الروحي" على غير ما كان في مدرسة الإسكندرية! ولذلك صار على "الأفق التأويلي استقبال الأشكال الجديدة من الفكر" (ص 76)، وصار "التأويل توسّطاً؛ فمنذ "القرن الثاني ق.م. تبدلت الإحداثيات الذهنية، وقد تحوّلت المعقولية الكُلية بفعل تدخل الإله الكوني وعلم اللاهوت" (ص 77)؛ لا سيما في ظل المذهب الرواقي والأفلاطونية المحدثة. ويرى غوسدورف أن "خطاب بولس" في مجمع أثينا هو "وثيقة في تأريخ التأويل" (ص 80). وهنا يرى المؤلّف بأنه ما عاد الأمر يتعلّق بمثال الدقة الفيلولوجية والنقدية، ذلك أن "التأويلية لا تتمثل ساعتها في إنصاف المؤلّف، وكشف المعنى المستغلق لعمله، بروح من الموضوعية التامة والكلية؛ إنها تتصل بترجمة اللغة الأصلية إلى لغة أخرى" (ص 81). وهنا إشارة مُهمة لكون غوسدورف يرى في هذا التحول شيئاً جديداً: فهذه "الطريقة ستُستأنف لدى المتعلّمين والمثقفين المسيحيين طوال أواخر العصرين القديم والوسيط. مدة ألف سنة ونصف، ستتولى تحديد القانون الجديد للتأويل، الذي يقوم مقام الفيلولوجيا الإسكندرية" (ص 81).
لقد ظهرت النزعة التوفيقية بين الفلسفة والدين في ظل وجود الكتب السماوية وترجمة العبرية منها إلى الإغريقية، لتصبح التأويلية "ديوان الحقيقة" (ص 86)؛ بل يذهب غوسدورف إلى أبعد من ذلك عندما يقول: "إن الكتاب المقدّس ينبغي أن يُسترجع، أو أن يوضع في دلالته، أنه كلمة حياة؛ فالظاهر هو عماد الباطن" (ص 87). ونراه يستعمل مصطلح "مؤولو الشريعة" (ص 87)، لكنه يمر عليه بسرعة! ليؤكد أن "عمل الشارح يقتضي استخلاص المعنى الخفي" (ص 88)، من دون إضاءة كثيرة، ويستخدم أيضاً مصطلح "التأويلية الكتابية" (ص 89) دون مزيد شرح! لينتهي إلى القول: "إن اليهودية إيمان، وهذا الإيمان يقوم على أساس تأويلية، على قاعدة محفوظة بحرص لدى دين كتاب، يرفض كل اتصال بالعالم الخارجي، هذا الموقف الانطوائي سيطغى على الغرب إلى نهاية القرن الثامن عشر" (ص 93). لقد بدا غوسدورف في غاية الحذر في تناوله ظهور التأويلية اليهودية المسيحية، ولعله سيكون أكثر انفتاحاً في الفصل التالي.
التأويلية البطركية
لنقل التأويلية الآبائية (البطركية)؛ فنحن سنكون بصدد التأويل في حالة وجود الدين، حتى إن غوسدورف يؤكّد لنا بأن "ظهور المسيحية تحوّل عظيم في تأريخ التأويلية" (ص 95). ويكرر - مرة أخرى - بأن "الإيمان الجديد وجد نفسه على أرض التأويلية؛ بل حبيس وضع غير متوقع" (ص 96) حتى إننا نرى غوسدورف يستخدم مصطلح "التأويلية المسيحية" (ص 98).
وهكذا نصبح بصدد سرد رجالات الكنيسة من البطاركة الذين انفتحوا على مَهمة تأويلية في عصر الثقافة الكتابية المتحالف مع التراث اليهودي - المسيحي. ولا مندوحة من التأويل؛ إذ سيجد "تأويل الكتب المقدّسة نفسه في وضع غالب" (ص 109)، ولكن ضمن محاولة "وضع العلم الوثني داخل الروحانية الكتابية" (ص 109)، ولذلك، يذهب غوسدورف إلى كليمنس الإسكندري (140 - 120) الذي وجد نفسه "منهمكاً (...) بالمطابقة بين اللوغوس الأفلاطوني والكلمة المتجسّدة للوحي المسيحي"، وبالتالي أوريجانوس (185 - 254) الذي استدرج مناهج بعض الفيلولوجيين الإسكندريين في تأويل الكتاب المقدّس حتى صاغ ثلاثة أضرب من التأويل هي: "حواش، (...) تعليقات مطولة؛ وأخيراً مذاكرات ومواعظ" (ص 111–112).
وبذلك، فتح أوريجانوس أفقاً للتأويل مستعيناً بأسلافه الإسكندرانيين من حيث المنهج. لكن القديس أوغسطين (354 - 430) لا يمكن نسيانه في هذه المعطيات، لاسيما أن أوغسطين فرض قواعد للتأويل في شرح الكتب المقدّسة، ولذلك يقول غوسدورف: "إن متشابهات الكتاب لا يمكن إيضاحها من دون قواعد، الأمر الذي يعني أن ثمّة علماً بالتأويل، وأن غرض أوغسطين في رسالته (في تعاليم المسيحية) هو عرض هذا العلم" (ص 106). ولهذا كُله، يرى غوسدورف "أن الثقافة البطركية مجهولة في الغرب على وجه العموم" (ص 116)، ومع ذلك لم يتوسّع في تناول الموضوع بشكل أكثر تفصيلا.
الشرح الوسيط
بدا التأويل البطركي أو الآبائي أنه يمضي في طريقه بالعصر الوسيط على نحو عميق، لا سيما ذهاب التأويل إلى الكتب المقدّسة، وهو ما دفع غوسدورف إلى استعمال مصطلح "التأويلية الوسيطة" (ص 119) في محاولة منه لتخصيص هو غاية من الأهمية في ظل تواتر العودة، السرية أحياناً، إلى أعمال مدرسة الإسكندرية، خصوصاً الناحية المنهجية الفيلولوجية، لكن التوجّه نحو الكتب المقدّسة من الناحية التأويلية أصبح حقلياً، لا سيما أن غوسدورف يقول: "إن مسألة الحقل الموحّد للكتب المقدّسة تحكم بحكمها على كل تأويل" (ص 121)، حيث صار التأويل يتوسّل العلامة والرمز والسرد وفق ثنائية الباطن والظاهر؛ فالتأويل "يتعيّن عليه أن يمر بالمعنى الظاهري، ولكنه لا يمكن أن يتخذه مُقاماً وإلا وقع عليه إثم التدنيس السيميولوجي" (ص 123)، لكن غوسدورف يتحدّث عن "تأويل ذاتي" (ص 123)، وها هنا تتدخّل الذات الإنسانية في ظل كلام غوسدورف نفسه عن "نظرية الرمزية الكونية" (ص 125)، ثم "التأويل الرمزي" (ص 126).
وإذا كان غوسدورف استخدم ثنائية الظاهر والباطن، كما رأينا، فإنه يستخدم مصطلح "القراءة الباطنية للكتاب" (ص 127) من دون نأيه عن البُعد الرمزي في حراك التأويل الوسيط الذي استمر حتى القرن الرابع عشر الميلادي ليشهد العالم "تحلل النظام الذهني للعصر الوسيط شيئاً فشيئاً" (ص 147) ويبدأ عصر جديد يتناوله غوسدورف تحت عنوان "الفيلولوجيا الكلاسيكية والفيلولوجيا المقدّسة في عصر النهضة"، وترانا بذلك ندخل إلى تأويلية العصر الحديث.
تأويلية عصر النهضة
ولّى العصر الوسيط وشروحه وتأويلاته للمتن اللاهوتي، ما دعا غوسدورف إلى القول إن "التأويلية الحديثة ترجع بأصولها إلى عصر النهضة" (ص 149). وهذا التجديد قام على تحلّل المنظومة المدرسية، حيث "بلغ التشكيك الجهاز الفكري الذي ركبه الفقهاء" (ص 149)، والبحث عن الحقيقة والمعنى سيتخذ طريقاً جديدة فصار "عصر النهضة يستعرض عودة قوية لروح الوثنية" (ص 153)، ذلك أن "تأويلية العصر الوسيط، وقد استنفدت مصادرها، وجدت نفسها، وقد حلّ محلها انبعاث الفيلولوجيا الإسكندرية، التي ترسّخت في عصور أمجاد المتحف" (ص 153).
يقدم غوسدورف عرضاً شائقاً لانبثاق النزعة الإنسية في ظل "التصالح التاريخي بين الثقافة المسيحية والثقافة الوثنية" (ص155)، ولذلك يشير إلى أجيال أولى للإنسانيين، وهم قساوسة ليظهروا في "البيضة المتوسطية؛ حيث أثينا وروما، هما معقلان لها" (ص 157)؛ إذ "إن نهضة الإنسانيين هي نقلةٌ تعليميةٌ، انتقال للمركز الثقافي من بيزنطة إلى الغرب" (ص 158) في وقت "كف [فيه] الفن الفيلولوجي عن أن يكون خادماً للاهوت" (ص 158)، لتنتقل التأويلية، بانشقاق جديد، صوب "الفضاء الذهني للفيلولوجيا" بما يجعل من هذا الفضاء "سنداً ومرجعاً للقيم الجديدة للمذهب الإنساني" (ص 158)، وراحت السلطة السياسية (الملكية) تدعم ذلك عملياً؛ فكان في باريس "معهد القراء الملكيين" سنة 1530 ميلادية لدراسة الفيلولوجيا واللغات القديمة، فعادت طريقة تحقيق النصوص القديمة وترجمة عيونها الفلسفية، منها متون أفلاطون، وصارت الفيلولوجيا طريقاً للتأويلية وقد "بلغت [الفيلولوجيا] سن النضج" (ص 160)، ما أدّى إلى أن يستعين التأويل بها في اتساع رقعة المذهب الإنساني الذي احتفى بقراءة وتأويل النصوص القديمة من دون الباعث الديني فيها، وذلك "لتخليص التأويل من البنيات الفوقية المتراكمة بفعل الجهل الوسيط والتشويهات المدرسية" (ص 164) في ظل شيوع الاحتفاء بثقافة النص والبحث عن أصالته، لتولد مساحة ثقافية يتشاطر فيها التأويل مع الفيلولوجيا على نحو أكثر جدية من حيث ثنائية المقدّس والدنيوي معًا.
يبقى غوسدورف في عصر الأنوار، ويراقب مجريات الحال الثقافي والفكري، ويرى أن "انحلال الإيمان في فرنسا عصر الأنوار لا شأن له بفهم أفضل للوحي الكتابي" (ص 172)، ما يعني أنه "في أوروبا الإصلاح سيدين الولاء الديني الجديد بأصله للعودة إلى النصوص الكتابية وقد استُعيدت في أصالتها" (ص 172)، وأن "الطفرة الروحية متصلة بطفرة معرفية، انتصاراً للفيلولوجيا العبرية واليونانية" (ص 174). لكن هذه التطلّع وغيره لم يمنع من نمو التأويل، "ولسوف "تكون جامعة برلين، في العصر الرومنطيقي، مكان ولادة التأويلية الجديدة؛ [عبر] الوساطة بين فيلولوجيا الأنوار والفهم الرومنطيقي للنصوص" (ص 176)، وراح إنسانيو النهضة يستشعرون "المغزى المُحرر للدراسات القديمة" (ص 177).
الشرح والهرمينوطيقا
إن ما قدمه غوسدورف، في الفصل الخامس، مادة دسمة عن حراك الثقافة في ذلك العصر، حيث يُعدّ متابعة حثيثة للأرضية التي نما فيها التأويل من دون الإشارة التفصيلية والمتبحرة إلى مؤوِّل واحد بعينه (كما سنرى ذلك لاحقاً مع شلايرماخر نهاية الباب الثاني) لينتقل غوسدورف، في الفصل السادس، إلى "التأويلية الكتابية في القرنين السابع عشر والثامن عشر"، وهنا سنجد مصطلح الهرمينوطيقا آخذاً بالتوارد؛ فقد "تأكدت، منذ القرن السابع عشر، إلهامات ثورية بخصوص تأويل الكتاب" (ص 183)، ليمر غوسدورف على هوغو دي غروت أو "غروتسيوس وهو فيلولوجي مرموق" (ص 183)، وعلى توماس هوبز، وباروخ سبينوزا، وريتشارد سيمون، وهؤلاء نظر إليهم - غوسدورف - على أنهم شراح متعمّقون، حتى يكاد أن يقول إن هؤلاء طرحوا "قضايا النص وتحقيقه وترجمته وتأويله" (ص 193). لكن غوسدورف سرعان ما سيأخذنا إلى الفرق بين "الشرح" و"الهرمينوطيقا"؛ إذ يسعى الشرح إلى "تحقيق الحقيقة المادية للوثيقة، إلى تبيّن الثغرات وتقويمها؛ تثبيت المتن الصحيح؛ دلالة الألفاظ والجمل، المبنى النحوي، والمسلمات. إنه عمل شبيه بعمل الأركيولوجي، الذي ينكب على صرح عتيق، ويعيد بناء تخطيطه، وإقامته، والحضور الكامل لمجموع لم تبق منه غير أطلال دارسة" (ص 195)، بمعنى الرجوع "بالوثيقة الكتابية إلى حالتها الأصلية، منبهاً، إلى النقائص والثغرات" (ص 197). وهنا يصف غوسدورف الشارح نفسه بأنه شخص "جريء" (ص 196).
يصطفي غوسدورف مَهمة تعريف الشرح أنه "يضع منهجية علمية بحسب اللغة الموضوعية لضمير الغائب" (ص 204)، والناقد "يضع نفسه بين قوسين، من أجل بلوغ حقيقة لا تمس حياته الشخصية" (ص 204 - 205). أما الهرمينوطيقي، فإنه "يصرف همّه إلى المشكل الجُملي للحقيقة؛ فالحقيقة المطلوبة لا تتميز عن نمط استملاك الحقيقة، وهي تستلزم وجود الباحث عنها بعينه؛ ولا تقدر أن تدّعي لنفسها صحة كلية، ولكنها تغنم بالاشتداد ما تخسر بالتعميم؛ إذ تتخذ دلالة الإنجاز الشخصي" (ص 205).
ومع شلايرماخر ستتضح "نظرية الفهم شيئاً فشيئاً لتنطبق على المجال الجُملي (= الإجمالي أو الكلي) للعلوم الإنسانية، مؤدية إلى طفرة في فقه العلم. فالفضل يرجع إلى شلايرماخر" (ص 205)؛ بل يذهب غوسدورف إلى أبعد من ذلك بشأن ظهور التأويل فيقول: "إن تأويلية شلايرماخر هي حاصل اعتمال بطيء، حدث على طول القرن الثامن عشر، بوساطة أهل الصناعة من جامعات ألمانيا، حيث الفيلولوجيا الدنيوية، والفيلولوجيا المقدّسة، يتقدّمان بخطى واحدة" (ص 205).
ومنذ سنة 1599، حيث ظهور كتاب (في دلائل التأويل) لهومفري، صار لفظ (Interpretatio) رديفاً للفظة الإغريقية (Hermeneia) بمعنى فن الترجمة. ولكن في سنة 1630 سيظهر كتاب (فكرة المؤول الحسن) لكونراد دانهاور. وصار التأويل أحد ضروب المعرفة، وصارت الهرمينوطيقا "تمكّن من تمييز المعنى الصحيح من الكاذب" (ص 207). لينشر دانهاور كتابه (التأويلية المقدّسة أو في منهج عرض الكتاب المقدّس) في سنة 1654، وهنا يرى غوسدورف أن هذا المصنّف "سيكون الأول الذي سيرفع اسم الفن الجديد إلى رتبة عنوان" (ص 207)، ويضيف بأن أول استخدام للعبارة، حسب المصادر المعجمية، يرجع إلى سنة 1777 (اُنظر: هامش 2، ص 207). وهذا الإيضاح يشعر به غوسدورف نفسه الذي قال عن غموض كان حالاً في حينه؛ إذ إن "ألفاظاً مثل [تأويل] (Interpretatio) و[تأويلية] (hermeneutica) و[فن التأويل] (Auslegungskunst)، يمكن أن تدل إما على مُجرد الترجمة، وإما على تأويل أو شرح يمكن أن ينطبق على وثيقة دينية أو تاريخية أو قانونية" (ص 208).
مع ذلك، راح غوسدورف يبحث بين مطاوي التآليف ليستخدم ثنائية الهرمينوطيقا والتأويل، والعلم التأويلي بالإشارة إلى ديلتاي، والقراءة بوصفها هرمينوطيقا، والهرمينوطيقا الجديدة، وجُماع التأويل، لينسرح إلى عناوين كتب تضمُّ مصطلح التأويل وكذلك التفسير، مثل: فرانز (رسالة لاهوتية جديدة وواضحة في تأويل الكتاب المقدّس على قاعدة شرعية) 1619. وغلاسيوس (الفيلولوجيا المقدّسة) 1623. ودو راكي (أفكار في التأويل) 1697. ومايستر (رسالة في التأويل) 1698. وإرنستي (مختصر الهرمينوطيقا الدنيوية) 1699، (كان هذا الكتاب جزءاً من مصادر شلايرماخر؛ ص 233). وهيرمان هارت: (مبادئ التفسير العام) 1702. وبفايفر: (مبادئ الهرمينوطيقا العامة) 1743. وغروش (الهرمينوطيقا في الفنون كافة) 1756. (انظر: ص 214 – 215). ويتواصل هذا الجمع بين الهرمينوطيقا الدنيوية والهرمينوطيقا القدسية في عناوين أخرى لا يبخل غوسدورف عن ذكرها مثل: رمباخ في كتابه (أصول الهرمينوطيقا المقدّسة) 1723. وسيغموند باومغارتن في كتابه (الهرمينوطيقا الكتابية) 1769. وكل هذه المؤلّفات وغيرها تمثل أرضية معرفية كشف عنها غوسدورف، ربما دون غيره، لتؤكّد حجم العمل الدؤوب الذي كان جارياً في بناء المعرفة التأويلية التي كانت بدورها "الطريق المفتوحة نحو انبعاث جمام المعنى" (ص 233)، حتى يمكن القول - بحسب غوسدورف - إنه قد "مُهّد طريق جديدة للهرمينوطيقا" (ص 235).
التأويلية الرومنطيقية
مع الفصل السادس يأخذنا غوسدورف في سياحة مع فيكو، ومونتسكيو، وليسنغ، وشفايتزر. ويتوقف كثيراً عند هردر الذي رأى "أن المحورين الروحيين الكبيرين، التاريخي والعلمي من جهة، والشخصي من جهة ثانية، يمكن أن يُصار إلى المطابقة بينهما من دون أن يضطر أحد المقتضيين إلى التخلي عن مبادئه" (ص 268)، وهذا برأيه هو الذي جعل "شلايرماخر يعيد تأكيد هذا الموقف، الذي يجاهد للاعتراف بمطالب المعرفة الموضوعية من دون الإخلال بمطالب الذاتية، فتاريخية الإيمان لا تنفصل عن حاضريته" (ص 269).
هذه العلاقة بين الإنسان والإيمان (الله) ستؤدي - بحسب غوسدورف - إلى التأويلية الرومنطيقية؛ بل إلى "هرمينوطيقا للإنسان في حال الإنسانية" (ص 254)، وهي من أعمال الباب الثاني الذي جاء، في فصله الأول، إلى معلومات قيمة استعرضها غوسدورف وهو الذي يميل إلى الألمان، عكس الفرنسيين، في حراك الخطاب الرومنطيقي الذي صار "يطرح استفهاماً أنثروبولوجيا" (ص 301)، في ظل توسّع الجامعات الألمانية به، لا سيما جامعة برلين التي يصفها غوسدورف بأنها "جامعة لعلم إنساني" (ص 298)، ليمضي نحو "قراءة النصوص" في الفصل الثاني - الباب الأول الذي راح يمتد لنحو ستين صفحة عابقة بجوانيات الاشتغال في فن قراءة النصوص.
أصبحت "الهرمينوطيقا دنيوية" (ص 303)؛ بل صارت، "بعد أن طارت بجناحيها، الآلة الجديدة لعقيدة تأمليّة تحتكر لنفسها المعقولية الفلسفية بحثاً عن أساس أنطولوجي جديد" (ص 305). ويلاحظ في الفصل الثاني من الباب الثاني نأي غوسدورف عن مارتن هيدغر! ويذكر غادامير الذي يحيل على ديلتاي، والذي يحيل على شلايرماخر، وهو "المفكّر الديني للرومنطيقية الألمانية الذي لم يخترع الهرمينوطيقا اختراعاً، ولكنه، إذ استأنف معطيات التراث، أحدث طفرة في المعنى مكّنت لبداية جديدة" (ص 304–305). لكن غوسدورف يستخدم مصطلح "السذاجة التأويلية" (ص 305)، فهو يرى أننا "إذا عرّفنا الهرمينوطيقا بأنها جُملة الإجراءات المجعولة للإبانة عن معنى وثيقة مكتوبة أو مرسومة، فإنه يجوز لنا أن نقر أنه إلى غاية القرن الثامن عشر، كان العارفون من أهل الصناعة في هذا الجنس من البحث يحيون تحت طائلة السذاجة لتأويلية" (ص 305). وسيكرر تباعاً مصطلح "السذاجة التأويلية" من دون مزيد تعريف متكامل بالتزامن مع التأكيد على دلالة ما يعتبره مقاماً للتأويلية "مهمته تحقيق حرف النص" (ص 309)، ونراه يستخدم مصطلح "المؤول" (ص 310)، ومن ثم "شخصية المؤول" (ص 313)، ولكنه سيعود ليقول إنه في نهاية القرن الثامن عشر "انقضى زمن السذاجة التأويلية" (ص 312)، مع تأكيده بأن "الطفرة الرومنطيقية للهرمينوطيقا تستلزم فتحاً لجبهة إبستمولوجية جديدة" (ص 324)، ليصل إلى القول مستأنفاً حديثاً عن "الهرمينوطيقا التامّة، التي تهدف إلى استصلاح المعنى، والتي تعمل بحسب بُعد إبستمولوجي مختلف" (ص 325)، ويبدو لي أن غوسدورف لا يريد التحرّر من سطوة الفيلولوجيا التي خرج من رحمها التفكير التأويلي؛ إذ إن "المؤول يتحرّك لينفذ إلى الفضاء الذهني للموضوع المطلوب تأويله" (ص 326)، ويشيّد مصطلحاً ينم عن حراك التأويل، ألا هو "الصورة الإهليلجية" للتأويلية باعتبار أن "الفهم يقدّم على شاكلة صورة إهليلجية" (ص 327)، ليبتعد عن ظننا باستخدام "وهم التأويل الكلي" (ص 330)؛ إذ يعتقد غوسدورف أن "تأويل الوقائع يبقى مُرسلاً" (ص 333)، وهكذا ينظر إلى ما يسميه "اللولب الهرمينوطيقي [الذي] يُحدث من جيل إلى جيل، تشكيكاً في الدلالات المتداولة" (ص 337)، وبكل جدارة يستخدم مصطلح "التأويلية الرومنطيقية" (ص 350)، وهو الذي يخوض تجربة جلاء الغبار عن تأريخ حراك التأويلية في زمن ولى.
يستطلع غوسدورف في الفصل الثالث - الباب الثاني حراك العلاقة بين التأويل والفهم الإنسي، فيذهب إلى منبع المعنى الذي يتداركه الإنسان عبر ذهنه وفهمه، وإذا كانت الرومنطيقية تنقل إشكالية المكان الخارجي إلى المكان الداخلي، (...) فمجال الخارج هو مجال التفسير بالمأثور، التفسير التاريخي والنقدي، (...) أما فضاء الداخل فهو الفضاء الذي تجري فيه عملية الفهم" (ص 366–367). والى هذا الفهم يمضي غوسدورف، في هذا الفصل الدقيق، لاستمكان تلابيبه؛ "فأساس الفهم لم يعد في موضوع المعرفة، والمعنى لم يعد حاضراً في الموضوع كأنه كنز مخفي أو كأنه نواة حبّة اللوز" (ص 372). لكنه مع ذلك يُبقي على ثنائية الذات والموضوع، ويعتبر "كل تأويلية إنما تصدر عن خلاف بدئي يكرّسه ازدواج الذات والموضوع" (ص 377). ولذلك يستعين غوسدورف بفحوى قول فرانز فون بادر "إن الإنسان يجب أن يفسر ما يحيط به انطلاقاً من نفسه، لا أن يفسر نفسه بالنظر إلى ما يحيط به" (ص 379)، وهذا يعني أنه يولي موجودية الإنسان أولوية عبر الفهم، ولذلك سيقول: "إن الهرمينوطيقا تدل على البحث عن المعنى في مجال معرفة على المقاس البشري، (...) ولا يكفي أن نعلم ما يقول النص؛ بل يجب أن نتبين ما يريد قوله، وأي قصد هو وراء تدوينه، ثم نتساءل عن المزاج الذي قرأه به أولئك الذين كان قد كُتب إليهم. إن معنى النص ليس متضمناً في النص؛ فهو يوجد منبثاً في حواشيه وأطرافه" (ص 385). وهذا هو الفضاء الداخلي الذي تنصرف إليه أهمية عملية الفهم، فغوسدورف يؤكّد بأن "التأويلية تقيم بحثاً أساسياً غاية همّه بيان المعنى البشري للواقع البشري" (ص 387)؛ وذلك لفك الغرابة بين الإنسان ونفسه؛ بل وما يحيط به. ليختم قوله، في هذا الفصل: "إن ميدان الفهم هو منطقة مفضلة للتأويلية الرومنطيقية" (ص 411). بيد أن ما فعله غوسدورف هو أنه توقف عندما يشبه نظرية المعرفة التي تسيّر الحركة الرومنطيقية في القرن التاسع عشر من دون الإشارة إلى أمهات النظريات في هذا الشأن، لا سيما أن نظرية المعرفة النقدية الكانطية التي وازنت، كما تمنّت الرومنطيقية، بين الخارج والداخل في الوجود الإنساني رغم ميلها إلى هذا الأخير!
تحقيق المعنى أو فريدريش شليغل
ظل الإنجاز الفيلولوجي يلاحق فصول الكتاب تباعاً، ولا يمل من ذلك غوسدورف أبداً، الذي راح يطوف، في الفصل الرابع من الباب الثاني، حول عناوين كتب ومؤلّفات في مجال الأدب وليس الفلسفة فقط. ونراه يعود - مرة أخرى - إلى المعنى؛ ولأجل "فهم أثر أو إنسان لا يمكن بلوغه بضرب من الحرفية السطحية؛ فالتأويل الصحيح يتعين عليه أن ينفذ إلى قلب الأثر أو الشخصية" (ص 425). وبذلك يُعد "الميدان الخاص بالهرمينوطيقا هو معرفة الإنسان بالإنسان، حيث تحيل الأعمال المكتوبة دوماً على صاحبها في نهاية المطاف، فالفهم لا يحصُل إلا بفضل أخذٍ للمعنى" (ص 425).
وراح غوسدورف يتحدّث عن التأويل الجمالي، ويستعيد الفرق بكون "الفيلولوجيا هي فن قراءة النصوص؛ أما الهرمينوطيقا فهي فن قراءة الوثائق باسترجاع قصد الحياة الذي يبعث فيها الروح؛ فالاستصلاح ضربٌ من الاستحضار" (ص 442). وبذلك لا بد أن نكون مع التأويل أمام مفاهيم من قبيل: "استرجاع"، و"استصلاح"، ومن ثم "استحضار" لكي يمهد غوسدورف لقوله إن "الهرمينوطيقا تكشف عن انزياح في المنظور الأنثروبولوجي" (ص 444).
ولهذا يأخذنا غوسدورف إلى نتيجة أخرى قوامها "أن التاريخ الفعلي هو التاريخ بالفعل في فكر بشري، غير أن الاستحضار؛ أي التأويل، في الفنون الهرمينوطيقية، هو من عمل الإبداع" (ص 445). ولهذا سار توجّه غوسدورف، في هذا الفصل، إلى التآليف الأدبية والجمالية في ظل هواجس الهرمينوطيقا الفيلولوجية ليس بعيداً عن سِيَر ومَعيش فلاسفة ألمانيا وفرنسا الكبار؛ فهو يعتقد أن "النقد الرومنطيقي ابتنى منطقاً للتأويل يجاهد لإدراك التناسق الداخلي للأعمال والأشخاص" (ص 467). ولهذا نرى غوسدورف، في هذا الفصل، يركّز على فريدريش شليغل لكونه تميّز بالعمل على أحد أهم مفاهيم التأويلية الألمانية، والمقصود به الفهم (Verstehen). أما في الفصل التالي فسينصرف إلى تأويلية شلايرماخر في تخصيص واضح المعالِم.
فريدريش شلايرماخر
يظهر غوسدورف ذائقة سردية لذيذة في حديثه عن فقيه الإصلاح الرومنطيقي فريدريش شلايرماخر، وقد قرأ سيرة هذا التأويلي الفذ بلسان ديلتاي (حياة شلايرماخر) في أحيان غالبة، ليس بعيداً عن كارل بارت، الذي احتفى بشلايرماخر، فراح ينضّد حديثه بمحبة يُحسد عليها شلايرماخر نفسه، ليعود إلى جذوره ودراسته وعشقه ورفقته مع رفاق الدرب الفكري والأدبي مثمرة معرفياً مع زملاء له. وفي خلال ذلك، بدت مؤلّفات شلايرماخر ابنة للسرد الغوسدورفي ليرى، كما رأى ذلك ديلتاي، بأن الفهم والعيش هما دالة نابضة على حياة هذا الرومنطيقي، وعلاقته مع صديقه فريدريش شليغل الذي "أحدث في العقل البطيء للقروي [شلايرماخر] مفعول الإخصاب" (ص 487).
وهنا يرى غوسدورف أن "الوعي الديني للرومنطيقية صاغ أول بيان له بقلم راع في الثلاثين من عمره" (ص 488)، ويقصد بالراعي "شلايرماخر" نفسه عبر كتابه (أحاديث في الدين إلى المثقفين من بين منكريه)، المنشور سنة 1799. ولهذا يتوافق غوسدورف مع شلايرماخر كفقيه في الدين والإيمان.
أما الترجمة، فيراها غوسدورف أنها تدل على "المظاهر الكبرى للتأويلية" (ص 492)، ويبدو هذا الكلام تمهيداً لمشروع شلايرماخر في ترجمة متون أفلاطون ابتداء من سنة 1804 إلى سنة 1828، وقوام ذلك بعث الروح، فضلاً عن العودة إلى المنابع.
ويعتقد غوسدورف أن "مراس الترجمة كان، عند شلايرماخر خاصة، تجربة عيانيّة للتأويلية بالفعل" (ص 495)؛ بل الترجمة هي ضربٌ من ضروب إبداء "كفاءة لصاحب صناعة مقتدر" (ص 495)، وهو ما ينطبق على شلايرماخر نفسه.
ومن ناحية أخرى، نلاحظ أن غوسدورف يرى أن "التجربة الأفلاطونية لشلايرماخر تدل على الصلة الوثيقة بين الهرمينوطيقا الجديدة والأنثروبولوجيا؛ وهو من التجليات الكبرى للطفرة الرومنطيقية؛ ذلك أن التقليد المتقادم للهرمينوطيقا، منذ إنسانيي عصر النهضة، لم يكن ليختص بغير قراءة النصوص وتأويلها" (ص 497)، والقراءة لا يقوم بها سوى الإنسان. ولهذا "تستوجب التأويلية المرجع الأنثروبولوجي؛ حيث ألحقت الأنثروبولوجيا التأويلية بجُملة علوم الإنسان" (ص 498)، ولكي يبين غوسدورف ذلك يستعين بشذرة لشلايرماخر نقرأ فيها: "كل طفل لا يبلغ اكتشاف معنى الألفاظ إلا بالتأويلية" (ص 498).
وفي كتاب شلايرماخر (أحاديث النفس) يستعين غوسدورف بنص جاء فيه: "كُل امرئ يجب عليه أن يستظهر الإنسانية بنحو مخصوص" (ص 501)، وبروح رومنطيقية يقول شلايرماخر: "أن أصير دوماً ما أنا عليه أكثر فأكثر، تلك هي إرادتي الوحيدة" (ص 501). وهذا سبب ملازمة أستاذ التأويلية للعالم، ورفضه نسيانه.
إن العمل الفيلولوجي والترجمي يترافق مع العمل الديني؛ فالتأويلية "تشغل، في صلب الكنيسة، ديواناً ذا أهمية قصوى" (ص 504)، هكذا هي تجربة شلايرماخر، فالقصد الأول للتأويل هو "إخراج الحدْس الديني من قبر الحرف، حيث يجد نفسه حبيس الغلو والفساد الكهنوتي؛ بل الناسوتي، وحده انبعاث المعنى يمكن له أن يسوّغ إيماناً حيًّا" (ص 504). ومن شأن التأويلية أن "تراقب إقبالات الإنسان على حقيقة الله، فالطائفة التي ترى في التأويلية عملاً لا أهمية له، كما هو الشأن في الكنيسة الكاثوليكية، تقع في شبهة التعتيم على الحقيقة" (ص 504)، حتى نلاحظ على غوسدورف قوله، استناداً إلى رؤية شلايرماخر، إن "النص المُستعاد لا يتكلّم بنفسه، وإنما يجب تخليصه من الغمامات الفيلولوجية والتاريخية، التي احتجبت تحتها، من العهود الغابرة، حضورية المعنى" (ص 504). وهذا كلامٌ في غاية الأهمية لدور التأويل بعد الفيلولوجيا أو الفيلولوجيا الدنيوية والفيلولوجيا المقدّسة.
لم يؤلّف شلايرماخر في التأويلية كتاباً؛ بل له محاضرتان فقط (سنة 1829)، والباقي تدوينات لتلامذته، في وقت اعتقد فيه أن التأويلية تتطلّب نسقاً قائماّ على مبادئ، حيث لا توجد أسبقية للواقع على التأويل؛ بل "التأويل واهبٌ للوقائع" (ص 510)؛ يقول: "لا يمكن لنا أبداً أن ندرك الواقع مباشرةً؛ وإنما نحن نواجهه مغلفاً بطبقات متراتبة من الدلالات، التي تخفي غيرها، هي أشبه بقُلافة البصلة" (ص 511)؛ فالتأويل "يحيط بكل فهم لخطاب الغير"، ولذلك يقول غوسدورف: "إن مشروع شلايرماخر، على نقيض السابقين، يقصد تكوين هرمينوطيقا أساسية متقدمة على الفنون التخصصية" (ص 512).
وبهذه الطريقة "يجوب التأويل الشوارع؛ إذ هو وظيفة حاسمة في مخالطة الناس، ويتدخّل في كل الحالات، حيثما تكون معرفة الإنسان بالإنسان. إن كل فهم يفترض تشكيل حقل تأويلي" (ص 512). وهو ما يكشف عن "لا محدودية الحقل التأويلي" (ص 514)؛ بل ويعتبر التأويل "مبادرة خلاقة" (ص 518). ليمضي غوسدورف مع شلايرماخر إلى مضان التأويل اللساني، والتأويل النفسي، (التأويل الفني)، ثم التأويل التاريخي. وفي كل ذلك يرى غوسدورف بأن "شلايرماخر إذ أعرض عن كتابة تأويليته قد أتى بأكثر مما لو كتبها، فقد صار واحداً من المسؤولين الكبار عن النُقلة الرومنطيقية في معنى الحقيقة" (ص 534). ومع ذلك، بدت كتابة غوسدورف عن شلايرماخر، في هذا الفصل، ممتعة لكونه يضع هذا اللاهوتي العبقري في سياقه التاريخي الذي له على نحو مخصوص.
المنوال الحياوي (البيولوجي)
بهذا العنوان يبدأ غوسدورف الباب الثالث من كتابه، ليدرس في فصل أول "مقولة الحياة في العلوم الإنسانية"، وهذا الفصل، والذي سيليه، هما مغامرة جديدة في أصول التأويلية لعله لم يتطرق إليها أحد من ذي قبل، لكون غوسدورف يذهب إلى نظرية العلم من خلال تجلياتها في القرن التاسع عشر؛ فمنطلق "الفهم الرومنطيقي هو الحلف الدائم بين الذات العارفة والواقع المعروف" (ص 542). والواقع يحفل بتجربة العلم وتأملات الفلسفة. ولا يتردّد غوسدورف بالقول: "إن النزعة العضوية الرومنطيقية تولد معقولية كُلية حاوية للعضوي وللروحاني في مجموع ذي قوة عليا" (ص 547). وبوازع من مفهوم "فهم المعيش" يركّز الفكر "الرومنطيقي تأمله على التجربة العيانية للحي البشري في وحدته الصميمة" (ص 561).
يرى غوسدورف "أن فلسفة الحياة تناسب الأنموذج البيولوجي المميز للمعقولية الرومنطيقية" (ص 589). ولذلك يعتقد، في الفصل الثاني، الذي جاء إلى عنوان "التأويلية العضوانية"، بأن "التطوّر البيولوجي للواقع يعرض المادة الأولى التي تتشكّل منها الظواهر التاريخية بأنواعها من أشكال وبنيات مقومة للحضارة بدرجاتها كلها" (ص 560). ليدخل غوسدورف إلى فلسفة ديلتاي والجانب التاريخي فيها؛ بل ومفهوم الحياة فيها أو تأويلية الحياة عبر الانتقال إلى فلاسفة الوضعية ابتداء من أوغست كونت، وجون ستيوارت مل، وغيرهم الكثير ممن انخرط في مجال فلسفة الطبيعة من أعلام القرن التاسع عشر احتفاء بمنجز الفلسفة الوضعية وما تشترك به مع الرومنطيقية وأثرهما في التأويلية.
***
أما بشأن الصنيع الترجمي الذي امتشقه الدكتور فتحي إنقزو في التعامل مع هذا الأثر الضخم، فيكفي المبادرة فيه، مبادرة تتقدّم على كل هبات هذه الترجمة، فهو بدا حريصاً على مواكبة صنيعه في لغة ترجمية صافية التلقائية، كما أنه ظهر وفياً لتثبيت المصطلحات الألمانية في أغلب الأحيان، رغم أن الكتاب تم إنشاؤه بالفرنسية إلا أن رحلة غوسدورف مع الفلاسفة الألمان بدت غالبة. ناهيك عن المحافظة على تعريب وترجمة الأسماء والمصطلحات التي ترد في متن الكتاب؛ بل والعبارات التأويلية – الهرمينوطيقية، خصوصاً أن "المشار إليهم" في فصول الكتاب لم تُترجم كُل أعمالهم بتمامها، ما دعا إنقزو إلى العمل بروح الاجتهاد والمغامرة والريادة في صنيعه الترجمي هذا. على أنني أرى في هذه الترجمة أنها واكبت ما يريد قوله هذا المنجز فيما لم يقله تأريخ التأويلية كما حاولنا قراءته - نحن العرب - ليأتي هذا الكتاب إلى ذلك، وهو ما صبر عليه فتحي إنقزو بعزيمة رائقة. إنها ترجمةٌ لكتاب تضمّن ما لم يقله الآخرون عن تأريخ الهرمينوطيقا.