البديل الحضاري العربي: عن النصّ القرآني ونصّ العالَم
فئة : مقالات
أشيرُ ابتداءً إلى حالة الطهرانية [الطهرانية هَهُنا نتيجة، مقدماتها موجودة في الاجتماع] التي يتمثلها المُسلم العادي تجاه نصّه القرآني، لذا لا يفتأ يلوم نفسه على سوء تطبيقه لهذا النص وموضعته الموضعة الأمثل في الاجتماع الإنساني. وقد تأتت هذه الطهرانية من الإقرار الكامل بالمصدرية الإلهية للنصّ القرآني، لذا لا يمكن له أن يلوم الإله ويدخل معه في حالةٍ من التأنيب الغيري، بقدر ما سيدخل في مظلوميـة ذاتية يجلد فيها نفسه، ويستشعر فظاعة عدم قدرته -حتى بعد ألف ونيف من السنين- على فهم مراد الكلام المُحيِّر لهذا الإله فهمًا كاملًا.
ولم يكن لحفلة التطبير هذه أن تأخذ بُعدها الملحمي في العالم الإسلامي، إلا بمشاركة (العقل العالِم) جنباً إلى جنبٍ مع (العقل الشعبي)، وذلك ساعة التجأ (العقل العالِم) إلى تفكيك بنى التديِّن، أو المواضعات المفاهيمية للنص القرآني، والابتعاد قدر الإمكان عن تفكيك النصّ المؤسس، وإمكانية تحميل ما نحن عليه من سوء للنصّ وليس للأفهام. فقد نتج عن هذا الالتحام بين العقلين الشعبي والعالِم، الإبقاء -غالباً- على النصّ القرآني كنقطةٍ مرجعية قصوى يُحتَكُم إليها في التعامل ليس مع عالمنا الفيزيقي فحسب، بل مع العالَم الميتافيزيقي أيضاً.
يُشكّل النصّ عقبة كبيرة أمام الدفقة الحضارية التي يمكن للإنسان أن يجترحها بموجب العلاقة الجدلية بين مكتسباته العقلية ومادة العالَم
وإذا ما قفزنا فوق التاريخ، لكي نتمركز في ما اصطلح عليه بـ (عصر النهضة)، فسنرى أن غالبية الطروحات المعرفية التي قاربت المنظومـة الدينيـة، اشتغلت على الخطابات الحافّة بالنص القرآني، ولم تحفر عميقاً في بينة هذا النصّ، وإخضاعه لمواضعات السؤال الاستقصائي: أيّ جدوى لهذا النصّ في الاجتماع الإنساني، بعيداً عن أية قُدسية تستلزمها تلك المصدرية المُفترضة؟
وإذا كان لي -مرة أخرى- أن أؤصِّل لذلك معرفيـاً، فإني أعيد ذلك إلى ما اصْطَلِحُ عليه بالروح الخائفة للمجموع الكُلّي للأمـة [سأتحدث عنها بالتفصيل في مقام منفصل]. إذ ما زالت الروح التي تُسيطر على العقل الإسلامي لحظة اشتباكه معرفياً مع النص القرآني، هي الروح غير الواثقة؛ الروح التي تخاف أن تزلّ عن الصراط المستقيم، فتسقط في الجحيم من ثمَّ. فبدون الله، اقتضاء لواقع هذه الروح الخائفة، لا يفقد الإنسان نقطة ارتكازه التي تحقّق له توازناته في هذا العالَم فقط، بل وتفقده معناه الأنطولوجـي أيضاً. لذا، فإنه يتشرنق داخل النصّ القرآني، لكي يحتمي من خطر الفناء الأبدي؛ فهو الرَحِم المبدئي والملاذ الأقصوي.
يُلحّ عليّ هَهُنا سؤال إشكالي: هل هناك خطر حضاري على الإنسان في أن يُحدّد رؤيته للعالَم، وفقا لنصٍّ بعينه، حيث لا يعود ثمة شيء خارجي في العالَم، الفيزيقي والميتافيزيقي، إلا وله أصل داخل ذلك النصّ؟
في معرض إجابتي عن هذا السؤال، أشير إلى نوعين من النصوص كان لهما دور رئيس في الضغط على تشكيل الرؤية الإنسانية للعالَم:
أولهما: ناعم نظراً لعدم انطواء بنيته التكوينية على إكراهات أو استلابات، من شأنها التأثير السلبي على خيار المُتلقي في رؤيته للعالَم، بل يتدفق النص إليه بسهولة ويسر، دون أن يكون ثمة عقاب من نوعٍ ما في حال عدم الاقتناع به، أو الأخذ بمقتضياته، بل هناك أريحية في التعامل معه، سواء في مرحلة القراءة أو في مرحلة النقد، إذ لا إلزام أو التزام مبدئي يُخضع القارئ إلى شرط مُسبق سيجعل منه رهيناً لتلك النصوص. وهنا أمكنني التأشير على عديد نصوص منها: أوديب ملكا لسوفوكلوس/ ألياذة هوميروس/ منطق أرسطو/ محاورات أفلاطون/ ألف ليلة وليلة/ جوستين للمركيز دو ساد/ فرانكشتاين لماري شيلي/ تأملات ديكارت/ أحدب نوتردام لفكتور هوغو/ مطر بدر شاكر السيّاب/ الجريمة والعقاب لدوستويفسكي/ مقدمة ابن خلدون/ أولاد حارتنا لنجيب محفوظ...الخ.
فمثل هذه النصوص تشكل هاجساً قوياً للقارئ لكنها غير مطبوعة بطابع إكراهي ابتداءً، فهي لا تحمل لغة الوعد والوعيد لمن يخالف شرعتها أو تعاليمها. بل تحافظ على مسافة مع القارئ، رغم قدرتها أو قدرة بعضها على المساهمة في تشكيل جزء من رؤية الإنسان للعالَم. فنصّ مثل (أوديب ملكا) لسوفوكلوس كان قد ساهم في تطوير مفهوم عقدة أوديب في مدرسة التحليل النفسي، لكن هذا التطوير لا يحمل في طياته إكراهاً أو عقاباً -مادياً كان أم معنوياً- في حال عدم الأخذ بالنظرية أصلاً، بل عدم الأخذ بالنصّ أساساً. فقراءة النص هنا ودوره في (تشكيل/ عدم تشكيل) رؤيةٍ للعالم، لا تندرج ضمن ما اصْطَلِحُ عيله بـ "القراءة الإيمانية للنص"، والتأويل له لا يندرج -هو الآخر- ضمن ما اصْطَلِحُ عليه بـ "التأويل الإيماني للنصّ"، بل يُتعامل معه تعاملاً أريحياً، نظراً لعدم انطواء بنيته الأصلية على تشريع إكراهي، فهو لا يدعّي أنه نقطة انطلاق في رؤية الإنسان للعالَم، بل هو محض مُساهِم مساهمة إيجابية في تشكيل رؤية الإنسان العالم، دونما حَجْر عليه في مقاربة العالم مقاربة نصّية بالأساس؛ فالأمر مرهون لإرادة الإنسان أولاً وأخيراً، وليس لأي إملاءات مبدئية.
ثانيهما: خشنٌ يحتملُ إكراهاً أو/و استلاباً مبدئياً، فهو إذ يقول للقارئ اقرأ -كمرحلةٍ أولى- فإنه يُهدّده بتعبات هذه القراءة، إذا لم تُشكّل رؤيته الكُليّة للعالَم، لذا يصبح العالَم الخارجي موجوداً ضمناً داخل هذه النصوص. ويصبح -أيضاً- الخروج على تعاليم هذه النصوص أمراً محفوفاً بالمخاطر، نظراً للحمولة التحذيرية المبدئية من عدم الأخذ بتعاليم هذه النصوص أثناء مقاربة العالَم. فهي ليست متجاوزة للعالم فحسب بل وصانعة له أيضاً، فهي بمثابة الصفر المعرفي الذي تنبني عليه معادلة الوجود الإنساني من مبتداه إلى منتهاه. فهو إذ يرى نجمة أو فراشة أو نهراً أو ناراً أو حصاناً أو امرأة...إلخ، فإنه يراها وفقاً لاعتبارت النصّ، لا كما هي موجودة في العالَم أصلاً.
وهو إذ يقول للقارئ ذاته تأؤل -كمرحلةٍ ثانية- فإنه يسعى إلى تثبيت ما أقرّهُ في مرحلة القراءة، لناحية اعتبار أي تعامل تأويلي مع العالَم بمثابة تأكيد لما أُقِرَّ في مرحلة القراءة. فمثل هذه النصوص لا تشكّل هاجساً قوياً فحسب، يمكن للمرء أن يقبله أو يرفضه بسهولة، بل تعمل على طبعه بطابعها إطلاقاً.
وقد أثبتت التجربة التاريخية وما زالت حجم الضغط الكبير الذي تُمثّله النصوص الدينية -كمثال على النمط الثاني- على أتباعها، فهي تحتمل إكراها مبدئياً، لانطوائها على شبكة كبيرة من التعاليم والشرائع التي تضع الإنسان أمام خيار: (إفعل/ لا تفعل) مستخدمة نظامي الترغيب والترهيب؛ مرة للأتباع ومرة للمُخالفين. فالخيار المبدئي (إفعل/ لا تفعل) لا يمثّل حالة إكراه فحسب، بل وحالة مصيرية أيضاً. فالدخول في النصّ لا يتضمن خروجاً إلى العالَم، إلا بالمقدار الذي تسمح به تلك النصوص، فأي نأمة أو حركة في تقاطعات الإنسان مع العالم ينبغي عليها ان تنسجم مع تعاليم تلك النصوص بشكلٍ قاطع ونهائي. وفي حال عدم الامتثال لذلك يصير العقاب في بُعديه الفيزيقي والميتافيزيقي أمراً مشروعاً ومرغوباً. فالمؤمن بالنصّ الديني إيماناً تسليمياً، يرتهنُ ابتداءً في علاقته بالعالم لهذا النص، لذا يصير البحث عن دعائم أو روافض لعلاقة الإنسان بالعالم أمراً مصيرياً. فالمؤمن الحقّ لا معنى له في هذا العالَم إلا بما يقره له نصّه الديني.
بالعودة إلى الخلف دعونا نتساءل مرة أخرى: هل ثمة خطر حضاري على الإنسان في بقائه داخل النص وعدم خروجه إلى العالَم؟
أنا أقول: قد يُشكّل النصّ عقبة كبيرة أمام الدفقة الحضارية التي يمكن للإنسان أن يجترحها بموجب العلاقة الجدلية بين مكتسباته العقلية ومادة العالَم؛ تحديدًا إذا ما حاصر النصّ الإنسان ابتداءً بجملةٍ من الأوامر والنواهي التي تجعله خائفاً ومستريباً من مقاربة العالم والدخول في جدلٍ دائم ومُتنامٍ مع مادته، إلا بموجب تلك الأوامر والنواهي. فهو إذ يريد أن يقارب مادة هذا العالَم فإنه يخضع لاعتبارين قد يهلكانه حضارياً:
1- استفتاء النص واستطلاع أمره قبل الشروع في مقاربة هذه المادة، خشية من الوقوع في المحظور.
2- إخضاع المقاربة لمراقبة نصّية أساساً، حيث لا تخرج المقاربة عن تعاليم النص ونواميسه.
إن التموضع في النصّ بصفته رَحِماً يُنْظَر من خلال شقوقه إلى العالَم، قد يخلق حالة من اللذة لدى الجنين الموجود داخله، لكن مع أول خروج له إلى العالَم سيجعله ينتحب ويبكي بكاء مريراً، فتلك اللذاذة والطمأنينة التي اعْتُقِدَ أنها غاية قصوى؛ ها هي تفقد بريقها مع أول معاينة للعالم خارج النص.
من هُنا، سيكون على المسلم عبور برزخين لكي ينتقل من إنسان موجود داخل النصّ القرآني إلى إنسان حضاري:
البرزخ الأول: برزخ الخروج من التديّن لغاية العبور إلى الدين. [الجدل بين النصّ القرآني والمُدونـة الحديثية وتابعاتها].
البرزخ الثاني: برزخ الخروج من الدين لغاية العبور إلى الحضارة. [الجدل بين النصّ القرآني والطبيعة]
بلغة أخرى، الخروج من التدين التاريخي إلى النصّ القرآني في العبور الأول، وهذا لربما كان هذا الخروج مثار أبرز الدراسات التي أشرتُ إليها أعلاه، والمُتعلقة بالمقاربات الجديدة للحالة الدينية، مع الحفاظ على النصّ القرآني كإطار مرجعي، أو بالأحرى إخضاع حالة التديّن للنص القرآني أو ما أسماه محمد أبو القاسم حاج حمد "التبيين بالقرآن"، واشتغل عليه جُملة من الدعاة الجدد.
الحضور الكبير هو للعلاقة الجدلية بين الذات ونصّ العالَم الزمني، وليس للعلاقة الثابتة بين الذات والنصّ القرآني الأبدي
وفي العبور الثاني، الخروج من النصّ القرآني إلى نصّ العالَم. وهذا مجال حقل معرفي كبير سيُحرّر النصّ القرآني كمرحلةٍ أولى من قُدسياته المُفترضة، بما يعني أن لا يتعامل معه العقل تعاملاً تاريخانياً فحسب، بل وتعاملاً تأويلياً أيضاً، بما يفضي إلى مقاربات جديدة لهذا النص المجهول!. وفي المرحلة الثانية لن يتم رهن العالَم وموجوداته لمقتضيات النصّ القرآني، فالنجمة في السماء ينبغي دراستها كما هي بعيداً عن اعتبار ما ورد في النصّ القرآني مرجعية للتعامل مع هذه النجمة، أو بطريقة أكثر خطورة التموقع في النصّ أثناء التعامل مع هذه النجمة والاكتفاء بترديد آياته والامتلاء السيكولوجي بها، دون اجتراح أية علاقة جدلية مع هذه النجمة، بل التحرّر من لبوسات النصّ القرآني احتراماً لسياقاته غير المكتشفة من جهة والاشتغال عليها بما يعيد إليه الألق على المستوى المعرفي، بصفته أحد النصوص التأسيسية في الثقافة الإنسانية. ومن جهة ثانية تحرير الإنسان من ضغوطات هذا النصّ والإمكان الرهباني الذي ينطوي عليه، بفعل متونه من ناحية، وبفعل أيضاً القداسات التي تمّ ضخها عبر قرون طويلة من قبل الأتباع والمريدين. وفي هذه المرحلة التحررية من الحِمْل الكبير، سيتفرغ المسلم لوضع النصّ القرآني على طاولة البحث ومساجلته مساجلة حُرّة غير خاضعة لشروط مسبقة، إلا ما يقتضيه الطابع البحثي من شروط، لكي يكون المُنجَز مُنجزاً متيناً وجديداً.
لكن، واقتضاءً لواقع الروح الخائفة التي أشرت إليها أعلاه، سيختنق المسلم في العبور الأول (اختناقاً لاهوتياً)، إذ سيكون عليه أن يخوض غمار التيه الروحي، فعمره قد ضاع وهو يدافع عن أسئلته الوجودية الكبرى حول الله والكون والإنسان بإجابات غيره. فالجدل بين النصّ القرآني والمُدونة الحديثية وتابعاتها من أقوال ومأثورات ومسلكيات، سيجعله يعود إلى الأساس ليُعيد صياغة معماره الروحي وفقاً لاجتهاد شخصي فردي، لا وفقاً لاجتهاد غيري جمعي. في حين أنه سيختنق (اختناقاً ناسوتياً) في العبور الثاني، إذ سيكون عليه ردم هوّة كبيرة من الأسئلة الشائكة والشائقة، التي كان النصّ الديني قد أجاب عليها، وجعله رهنا لحيثياتها. فهو بإزاء تفجير حقول:
1- الدراسات المعرفيـة بكافة تمظهراتها العلمية والفلسفية والأدبية.
2- الدراسات الأخلاقية بكافة تمظهراتها القيمية.
3- الدراسات الجمالية بكافة تمظهراتها الفنية والموسيقية والهندسية.
لغاية إبداع كتاب حضاري شامل ومنفصل عن يقينيات مبدئية تتحكّم بنتائج تمثّلاته في الواقع المعيش، فالحضور الكبير هو للعلاقة الجدلية بين الذات ونصّ العالَم الزمني، وليس للعلاقة الثابتة بين الذات والنصّ القرآني الأبدي. ففي نهاية المطاف، الأبد هو شيء مضاد لسياقات النسق الحضاري الإنساني، الذي يتجلى تجلياته الكبرى في الزمن.