التأثيرات الموحدية في تأويل ابن رشد للشريعة
فئة : مقالات
غالبا ما يرتبط اسم ابن رشد بالتراث الإغريقي، ولا سيما الأرسطي منه، لكون فيلسوف قرطبة ترجم وحقق وحلل جل كتابات أرسطو في العصر الوسيط. ويفسر قرآن ابن رشد بالتراث الهليني بعملية ’السطو الثقافي’ التي قام بها علماء اللاهوت المسيحيين على التراجم الرشدية، بعد أن اعتبرها الخليفة الموحدي يعقوب المنصور خطرا على الثقافة الدينية الإسلامية؛ فكانت نكبة ابن رشد الدرامية الشهيرة سنة 593هـ / 1195م بداية أفول الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، وفي المقابل بداية انبلاج عصر النهضة الأوربي الذي كانت الرشدية اللاتينية إحدى أبرز روافده.
لكن هذه النهاية الدرامية لفيلسوف قرطبة، يجب ألا تحجب عنا العصر الذهبي الأول للحكم الموحدي أثناء فترتي المهدي ابن تومرت، وأبي يعقوب يوسف؛ فعبقرية ابن رشد لم تكن لتينع، لو لم يتوفر لها المناخ الثقافي والسياسي الملائمان. لهذا نعتبر أن التأثيرات التاريخية البيئية تحديدا كان لها السبق على التأثيرات الهلينية بالنسبة لفيلسوف قرطبة. والدليل أن من وجّه وأمر ابن رشد بترجمة الآثار الأرسطية هو الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف.[1] وعليه، فمن الحيف إنكار تداعيات الثورة الثقافية الموحدية على رؤية ابن رشد للشريعة، وخاصة لكيفيات تطويعها لمستجدات العصر وللثقافة الكونية عامة ، وهو ما سنراهن على إبرازه في هذا العرض الموجز.
1 - ابن تومرت والإصلاح الديني
بعد سقوط الخلافة الأموية في الأندلس سنة 1031م، حلت دويلات صغيرة محل الخلافة الأموية، وتعرف بدويلات ملوك الطوائف، وفي سنة 1086 م انقضى عهد ملوك الطوائف بعد أن انتصر يوسف بن تاشفين في واقعة الزلاقة شمالي شرق بطليموس على النصارى الذين كانوا يهددون بافتكاك دويلات الطوائف، وتم هكذا بسط نفوذ الدولة المرابطية. G.S, (n.d.) TI, pp.501-518 - Paris) . .(Collin وفي أواخر عهد هذه الدولة، شهدت الأندلس والمغرب فسادا اجتماعيا وانحلالا سياسيا وعلميا، سوف يعجل بظهور الدعوة الموحدية على يدي المهدي بن تومرت، الذي ’’قام سنة 515 هـ في سوس بصورة آمر بالمعروف وناه عن المنكر، معتمدا في ظاهر دعوته على علم الكلام للرد على فقهاء الفروع الذين سقطوا في بدع التجسيم والتشبيه، وحرفوا جوهر الشريعة، ومزقوا وحدة الأمة (المراكشي ،1949 ص. ص 172- 173). وطفق ابن تومرت يدعو الناس إلى ضرورة تأويل المتشابه من آي القرآن الكريم ومن الحديث الشريف، مظهرا النكير على علماء المغرب في عدولهم عنه، وأخذ نفسه بتدريس العلم في دائرة توضيح مذهبه، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ما استطاع. ولكن علماء المغرب لم يتقبلوا هذا المذهب بالقبول الحسن، بل قاوموا ابن تومرت بعنف، حتى لقي بسبب ذلك أذى في نفسه احتسبه من صالح عمله’’( ابن خلدون ، 1956، ص. 467)
لكن ابن تومرت استمر في دعايته ضد المرابطين، مستعملا في ذلك الوسائل النفسية والكلامية ، ولا سيما العسكرية إلى أن تم له النصر عليهم نهائيا، وبسط نفوذ عصبية جديدة تعرف بالموحدين.[2] وقد أحدث الموحدون تغييرات عميقة على المستوى السياسي والثقافي والمعرفي تجلت في ثلاثة مظاهر: ’’نماء الفلسفة بالمغرب، وانتشار المنطق، وكذلك الجدل والمناظرة ’’ (النجار، 1983، ص. 465)، وقد أثمر ذلك ظهور أبطال خالدين في عالم الفكر والثقافة انتفع بهم العالم أجمع، كابن طفيل وابن زهر وابن رشد وابن جبير ومحي الدين بن عربي وابن سبعين ..الخ’’ (علاّم، 1964، ص.323). ما هي تأثيرات الثورة الثقافية الموحدية على ابن رشد تحديدا؟
2 – تداعيات الثورة الموحدية على تفكير ابن رشد
لقد فتح الموحدون مجالا مغلقا ومحرما أمام النقد الفلسفي والعقلاني للمناهج الفقهية والكلامية، عندما ألغى ابن تومرت أسلوب القياس الفقهي المبني على "الاستدلال بالشاهد على الغائب" والمعطل للملكات الإرادية والعقلية، وعوضه بشعار التأويل والعودة الى الأصول. وقد جسد ابن رشد هذا الشعار عمليا عندما انصرف إلى فهم أرسطو من ’’ الداخل دون اللجوء إلى أية تأويلات خارجية عنه".
(الجابري، 1986، ص.158). وتطبيقا لهذا الشعار نفسه، يدخل إحراق كتب الفقه المقلدة، وفي تقسيمه الشريعة إلى قسمين: ظاهر ومؤول(ابن رشد،1935،ص 40)، ينحو ابن رشد منحى ابن تومرت الذي كان ’’معتزليا وأشعريا في تأويل الآيات المتشابهات في القرآن الكريم ’’ (علاّم، 1964، ص 159 )؛ لأن الوقوف عند ظاهر النص وحرفيته، قد أدى في عصر الدولة المرابطية إلى انتشار بدع التجسيم والتشبيه والانصراف إلى العناية بالشكليات والفروع دون الأصول. وقد تبين أن الظاهر هو الفرع وأن المؤول هو الأصل، وهما لا ينفيان بعضهما البعض، بل يشكلان حقيقتين لا تختلفان في الطبيعة بل في الدرجة. وهذا الاختلاف لا يجب طمسه كما فعل ذلك المتكلمون وخصوصا الأشاعرة، بل يجب الإقرار به حتى نعطي للعقل شرعية التفلسف خارج المجال المعرفي الظاهر للشريعة. وفضلا عن هذا، يبرز تأثير ابن تومرت في ابن رشد في رفض الأخير أسلوب القياس الفقهي، باعتباره قياسا ظنيا ( ابن رشد، 1935، ص 16) لا يرقى إلى مستوى القياس البرهاني. ولعل حكام الدولة الموحدية، أدركوا خطورة تداول واستهلاك المناهج الجاهزة والجامدة في مدارسهم على مستقبل النشاط العقلي. ولهذا، فليس من باب المصادفة أن يكلف المنصور الموحدي ابن رشد سنة 548 ه / 1153 م بترتيب المدارس المغربية بين قرطبة ومراكش لأنه أدرك بعمق أبعاد الدعوة الموحدية، ومارس جل شعاراتها بحماس ووعي وأسهم من موقعه كقاض في تطبيق شعار ابن تومرت المحوري ’’ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر’’. .(Arnaldez, p.934. n.d.)
وقد عبر ابن رشد عن اعترافه لمجهودات حكام الدولة الموحدية الذين فتحوا عهدا ثقافيا جديدا ورفع الله على أياديهم ’’ كثيرا من الشرور والجهالات والمسالك المضلات بهذا الأمر الغالب، وطرق به إلى كثير من الخير وبخاصة على هذا الصنف الذي سلك مسلك النظر ورغب في معرفة الحق وذلك أنه دعا الجمهور إلى معرفة الله عن طريق وسط ارتفع عن حضيض المقلدين وانحط عن تشغيب المتكلمين ’’ (ابن رشد،1935، ص 36).
شغف الموحدون بتحصيل العلوم والمعارف وشجعوا كسبها واستقطبوا رموزها آنذاك على غرار ابن طفيل وابن رشد. ويذكر المراكشي في شهادته ’’ أن الأمير يوسف بعد أن درس اللغة والنحو والحديث طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة، وبدأ بعلم الطب وأمر بجمع كتبها إلى أن اجتمع له منها ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك المغرب ’’ (المراكشي، 1949، ص 238 ). وقد كان ابن رشد من أخلص المقربين للأمير يوسف وجليسه، وكان يقضي معه ساعات طويلة يتحاور معه في قضايا العلم والفلسفة. وقد أثمرت هذه الحظوة تكليف ابن رشد بترجمة نصوص أرسطو (,p.934 Arnaldez) وبقبوله الإشراف بنفسه على هذا المشروع الفلسفي الضخم وعدم التعويل على التأويلات المشرقية سواء الموجبة منها والتي يمثلها الفارابي أو السالبة والتي يتزعمها الغزالي بالخصوص. ازدادت مكانة ابن رشد لدى البلاط الموحدي؛ فأصبح سنة 578 هـ / 1182م الطبيب الخاص لأبي يعقوب يوسف عوضا عن ابن طفيل (,p.934 Arnaldez). وفي عهد يعقوب المنصور الذي حكم بين 1184 – 1199 / 580 -595 هـ، أصبح قاضي القضاة في قرطبة، ولا يزال يحظى بامتيازات والبلاط حتى وقعت نكبته في هذا العهد سنة 593هـ / 1195م.
وتفسر هذه النكبة بالضغط المستمر الذي مارسه رجال الدين من الفقهاء والمتصوفة على البلاط الموحدي في عصر يعقوب المنصور لثنيه عن اتباع مسلك سلفه، ولا سيما أبو يوسف الذي سمح بترجمة وتعلم العلوم الإغريقية، الشيء الذي اعتبروه تهديدا للشريعة من الثقافات الدخيلة؛ فقرروا التخلص من دعاة الانفتاح على الثقافة الكونية وبالتحديد ابن رشد وأتباعه. يقول المراكشي في هذا الصدد: ’’ ثم إن قوما ممن يناوئه من أهل قرطبة ويدعي معه الكفاءة في البيت وشرف السلف سعوا به عند أبي يوسف، ووجدوا إلى ذلك طرقا بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص التي كان يكتبها، فوجدوا فيها بخطه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة بعد كلام تقدم: ’’فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة". فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة فاستدعاه وقال له بعد أن نبذ إليه الأوراق: أخطك هذا؟ فأنكر، فقال أمير المؤمنين: لعن الله كاتب هذا الخط وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أمر بإخراجه على حال سيئة وإبعاده وإبعاد من يتكلم في شيء من هذه العلوم، وكتب عنه الكتب إلى البلاد بالتقدم إلى الناس في ترك هذه العلوم جملة واحدة، وإحراق كتب الفلسفة كلها. (المراكشي، 1949، ص 305).
* د.مصطـــفى بن تمســك كلية الآداب والعلوم الإنسانية - تونس
[1] يتحدث المراكشي في المعجب ( 1949، ص.243) قائلا: ’’ استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي سمعت أمير المؤمنين يشتكي من قلق عبارة أرسطو طاليس أو عبارة المترجمين عنه ويذكر غموض أغراضه، ويقول لو وقعت لهذه من الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس.’’
[2] يقول المراكشي في المعجب ( 1949 ص. 130) ’’ سمي محمد بن تومرت وأتباعه بـ ’الموحدين’ قيل استنكارا منه لتفكير القائلين بالتجسيم الذي يؤدي إليه الوقوف عند الظاهر ، وقيل لانشغالهم بعلم الكلام وخوضهم فيه’’ .
قائمة المصادر والمراجع
1 ابن رشد أبو الوليد( 1935)، فصل المقال، (ط 2)، دار العلم للجميع، بيروت
2 ابن رشد ابو الوليد،(1935) الكشف عن مناهج الأدلة، (ط 2)، دار العلم للجميع، بيروت
3 المراكشي عبد الواحد ( 1949 ) المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحقيق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، القاهرة (د.ن)
4 ابن خلدون عبد الرحمان (1956) كتاب العبر، الجزء 2، بيروت ن.ت)
5 النجار عبد المجيد (1983 )، المهدي ابن تومرت، بيروت
6 علاّم ، عبد الله علي، 1964، الدعوة الموحدية بالمغرب،( ط 1)، القاهرة (د.ن)
7 الجابري، محمد عابد،( 1986)، نحن والتراث، ط 5، المركز الثقافي العربي، المغرب
8 . (Arnaldez, R. Ibn Rushd, in Encyclopédie Universalis, Tome 3, p.934. n.d.)
9 .(Collin, G.S, (n.d.) « Al –Andalus » in Encyclopédie universalis, (TI, pp.501-518) Paris.