التأسيس للفعل لازمة لنقد الذات وتفعيل لراهنيتها: قراءة في كتاب "فلسفة الفعل.."
فئة : قراءات في كتب
"عندما تعتبر النفس ذاتها وقدرتها على الفعل، فإنها تكون فرحة، ويكون
فرحها أشد بقدر ما يكون تخيلها لذاتها ولقدرتها على الفعل أوضح".
سبينوزا، من علم الأخلاق، ص199.
لاشكَّ أن الخطاب الفلسفي الحداثي والمعاصر، أصبح أكثر توجهًا واهتمامًا بمختلف قطاعات المجال العملي؛ الأخلاقية والسياسية والجمالية والتربوية، وهو بذلك يفتح دربًا جديدًا للاشتغال الفلسفي حتى لا يظلّ منغمسًا في التأملات الميتافيزيقية والجدالات القولية التي ترفع حجة القول على حجة الفعل، بهذا الشكل تحول الخطاب الفلسفي من البحث في منطوقات العقل النظري إلى البحث في تجليّات العقل العملي.
في هذا الإطار، يندرج كتاب "فلسفة الفعل من محاولات التأسيس إلى آفاق النقد" كإضافة مهمة للمكتبة العربية، التي تفتقد إلى طرح إشكاليات تتناول قضايا فلسفة الفعل، هذا العمل الفلسفي تبرز أهميته من زاويتين اثنتين؛ الأولى: مسؤولية الإشراف التي تحمّل أعباءها الأستاذين الباحثين: (عبد العزيز العيادي) الذي يعدّ من المتفردين بفتح حوار ونقاش فلسفي عميق حول فلسفة الفعل. والأستاذ الباحث (البشير ربوح) الذي كان له الجهد الوافر في أن يخرج هذا العمل إلى الوجود بالفعل من خلال التقديم والتنسيق لفصوله والتصويب لمتونه.
والثانية: كون هذا العمل هو ثمرة جهد أكاديمي جماعي بذله المتعاقدون في النهوض بالفعل الفلسفي والثقافي، من خلال رصد عميق لفلسفة الفعل داخل المتون الفلسفية الغربية والعربية.
بُوّب الكتاب، موضوع هذه القراءة التي تؤسس ذاتها داخل فلسفة الاعتراف والتواصل مع ثقافة الفعل، إلى ثلاثة أبواب؛ كل باب يفتح دروبًا ذات رؤى متعددة ومتنوعة، تكرس للاختلاف الذي هو فعل الأفعال؛ لأن من يختلف هو من يفعل، إضافة إلى تصدير للباحث التونسي عبد العزيز العيادي وتقديم استشكالي للباحث الجزائري البشير ربوح.
أ- تصدير الكتاب: نجد في التصدير مدخلًا يوجهنا نحو إدراك ماهية فلسفة الفعل على أنها رفض للاختزان داخل الذات؛ فالفعل على تعدد صوره وتمظهراته رفض ونقد، وتغيير ومساءلة وتأويل لمقتضيات "العالم المعيش" وإجمالًا تَمْثُلُ فلسفة الفعل، كما حددها الباحث عبد العزيز العيادي، على أنها فلسفة مفتوحة على الإنسان الكائن والفاعل (الإنسان الذي يدخل بفعله في العالم، ويشكل فعله بعدًا من أبعاد العالم)[1] وحينها يلج الإنسان بفعله إلى جوهر العالم، والعمل على المشاركة في تخليصه من أشكال الزيف والهيمنة والإقصاء، لتحلّ محلّها قيم القدرة والاستطاعة، والتحول بالإنسان من كونه كائنًا طبيعيًّا، إلى كائن اجتماعيٍّ، ولاحقًا إلى كائنٍ إيتيقي يمتلك القدرة على الإثبات وتأكيد الذات تأكيدًا واعياً؛ لأن الإنسان كي يكون وجوده وجودًا لا معاشًا فقط، عليه أن يعبّر عن قوة الإثبات في كل فعل يُقدم عليه؛ ولذلك تكون فلسفة الفعل من منظور الباحث عبد العزيز العيادي مقاومة وتضحية من أجل دحر النفوس المريضة التي تفكر في خلاصها الفردي، وتتمنى الفشل للقوى الفاعلة، وتتحدث عن النهايات وأن كل شيء محسوم، ونحن لم نسجل بعد لحظة البداية.
2- استشكال الموضوع (محاولة في التأسيس):
يقدم الباحث (البشير ربوح) لهذا العمل الذي يقع في أربعمئة وسبعة وثلاثين (437) صفحة من منظور استشكال فلسفي، يقتضي التأسيس بمواصلة مسار انفتاح التفكر الفلسفي على زوايا جديدة تحررنا من الفقر الأنطولوجي والإتيقي، والنجاة من العبودية البشرية بتعبير (سبينوزا) ولأجل هذا كله ينبه الباحث (البشير ربوح) إلى ضرورة الاشتغال على مفاهيم جديدة تحضر "على مستوى اللسان وعلى مسطح الاستعمال"[2] دون أن نقدر على تحويلها إلى انشغالات فلسفية، وبهكذا تصور، يتم استشكال مفهوم "الفعل" والانتقال به من السجل اللفظي إلى السجل الفلسفي، فيكون الفعل إثباتًا أنطولوجيًّا وليس نفيًا "لأنّ النفي لا يكون أولًا بل يكون مترتبًا أي مجرد نتيجة"[3].
وبعد عرض دواعي الانهمام بهذه الإشكالية، عمد الباحث البشير ربوح إلى التنقيب داخل المتون الفلسفية التأسيسية لمفهوم الفعل، حتى لا تكون لحظة البدء في استشكال المفهوم محصورة في النص الفلسفي الحديث والمعاصر، وإنمّا هي لحظة متجذرة داخل فعل التفلسف منذ بداياته الأولى من منطلق أن كل مقاربة تأسيسية لا تلغي ما قبلها، وإنما تحكمها "متتالية متصاعدة"[4] وبهذا يشكل الفعل أفقًا لكل فلسفة مبدعة وديمومة لكل تفكر يروم أن يكون في قلب الحياة.
ومن الإشارات والتنبيهات التي يؤكد عليها الباحث ربوح البشير، أن مفهوم الفعل لا يجب أن يُحْمَلَ على مدلول العمل، وإلا غُيّب الفاعل المؤسس للمعنى، والذي ترتسم تجليات الفعل عنده على أنها نضال ضد الكسل وكل صور الإحباط واللامسؤولية؛ لأن الفعل هو خلق للجديد وإبداع للمعنى.
ربما الدرس الفلسفي الذي تمكن تحصيله من هذه المقاربة التأسيسية لفلسفة الفعل هو أن تشجيع ثقافة الفعل من شأنه أن ينقل الإنسان من المعاش إلى الوجود، ومن الرتابة والنمطية إلى المبادرة والمقاومة، وحينها يتحرر الإنسان من عبودية ذاته وغيره؛ ففلسفة الفعل هي فلسفة الإنسان الفاعل الذي يسعى باستمرار إلى تجاوز رد الفعل إلى الفعل.
3- قراءات في فلسفة الفعل:
يتألف هذا العمل الأكاديمي الرصين من دروب متعددة، كما سبقت الإشارة، في قراءتها لمفهوم الفعل المسكون بالحيرة والسؤال، وصفها الأستاذ البشير ربوح بــ"الدروب"، وهي جمع درب يدل في لسان العرب على معنى (باب السكة الواسع) هذا يعني منذ البداية أن مفهوم الفعل تتعدد سياقاته؛ ولذلك لا يمكن اختزاله في سياق واحد، وبهذا تتحول مقولة الفعل من مفهوم إلى سؤال.
الباب الأول - مسارات وآفاق فلسفة الفعل:
في أفق هذا التمشي، يؤكد الباحث الجزائري عبد القادر بوعرفة في مقال موسوم "فلسفة الفعل؛ الماهية والعوائق" على أنه يمكن توظيف مفهوم الفعل فلسفيًّا لحمولته الأنطولوجية من حيث ارتباطه بالفاعل المحقق للمعنى، ومنه تكون علاقة الفعل بالفاعل قائمة على القدرة والاختيار، وليست مجرد علاقة سببية ميكانيكية، وبهذا يتجسد معنى الذات الفاعلة المنتجة لأفعالها، كما تجدر الإشارة هنا أن الحركة ليست فعلًا، وليست هي التي تنتج الفعل، وإنما الفعل هو من ينتج الحركة، ولكي يأخذ الفعل ماهيته الحقيقية ويتنزل من تمثلات العقل الخالص إلى المجال العملي الذي يمثل الحضن الحقيقي لفلسفة الفعل، يستدعي الباحث (عبد القادر بوعرفة) الفلسفة الأنجلوسكسونية التي انتقلت "من نقد العقل إلى نقد الفعل"[5] بحثًا عن النجاعة والكشف عن أسباب الفشل.
لكن التنزل بالفعل إلى مستوى الواقع العملي يطرح سلسلة من العوائق والصعوبات يأتي في مقدمتها المزاج والعادة والرغبة، إلى جانب الخوف من الموت والتفكير فيه، هذه كلّها تؤدي إلى أن يكون الإنسان منفعلًا لا فاعلًا، ومنه يقترح الباحث عبد القادر بوعرفة أنّه بدل هدر الجهود في التأمل والنظر المجرد، وجب أن تشتغل فلسفة الفعل على نقد الفعل ذاته.
كما يضم هذا الباب دروبًا أخرى دشن بدايتها مجموعة من الباحثين من شأنها أن تعمق البحث حول ماهية "فلسفة الفعل" منها؛ مقال كريم محمد بن يمينة، توفيق بن ولهة، عبد الله موسى، عبد الله بن صفية، ونضال البغدادي.
الباب الثاني - فلسفة الفعل في الفكر الغربي:
اللافت للانتباه أن للفلسفة الغربية فضل السبق في طرح سؤال الفعل، ومنه يستوقفنا مقال بعنوان "الفعل السياسي ومشكلة الحرية، حنا أرندت والخروج من الذاتية" للباحث المغربي (نبيل فازيو)، حيث يؤكد أن فلسفة الفعل من منظور هذه الفيلسوفة، هي المعبّرة عن الوجود السياسي للإنسان؛ لأن الشرط الإنساني المحدد للفعل، إنما يتمظهر في النشاط السياسي بعيدًا عن التأملات الميتافيزيقية، من هذا المنطلق يكون وجود الإنسان مرهونًا بالقدرة على الفعل، وتجسيد الحرية ضمن فضاء عمومي يتيح له التميز والتفرد، فـ "يكشف الفعل عن الكينونة الإنسانية في أرقى مستويات وجودها، فيعبّر بذلك عن ارتباط الحرية بالطبيعة الإنسانية نفسها، باعتبارها مركوزة في الشرط الإنساني".[6]
الفرضية التي رام الباحث نبيل فازيو إثباتها هو أن الفعل يشكل مفهومًا مركزيًّا في فلسفة حنا أرندت، كما أن مفهوم الفعل لا يأخذ مدلوله الحقيقي إلا في تعالقه مع مفهومي الحرية والسياسة، كون أن الحرية والسياسة لا يمكن فهمهما إلا في ظل الشرط الإنساني الذي لا يمكن توطينه إلا داخل فضاء الفعل.
وإذا كان السياق الما بعد حداثي هو ما يحكم نصوص حنا أرندت، يغيب فيه الإنسان الفاعل ليحل محله الإنسان العامل الموجّه لنشاطاته نحو تحقيق السعادة المشروطة بالرفاهية المادية، فإن الفضاء العمومي المشترك من منظور أرندت هو ما يوفر الخروج من الذاتية، والانتقال من النشاط إلى الفعل فتكون الحرية هي العلة التأسيسية لفلسفة الفعل، ومنه يكتسب الفعل مدلوله الإنساني، ويخلص الباحث نبيل فازيو إلى أن الفيلسوفة حنا أرندت صاحبة رؤية متفردة، تحمل على عاتقها البحث عن الإنسان الفاعل الحرّ حيث تكون حريته شرطًا إنسانيًّا للسياسة.
وفي ذات الأفق الغربي يذهب الباحث التونسي زهير الخويلدي في مقال مطول بعنوان "مسار الفعل من الوصف والسرد إلى الاقتدار والالتزام" إلى استنطاق مدونة الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، مبينًا أن تناول مفهوم الفعل في مجال الفلسفة هو عرض لتجربة إنسانية تقوم أساسًا على القصدية والفعالية والتواصلية والمسؤولية التاريخية، من هنا تتبوأ الذات الفاعلة منزلة أنطولوجية ومرتبة إتيقيّة "وكيان يفيض بالمعنى والقيمة"[7].
من هذا التحليل المستفيض، يستخلص الباحث زهير الخويلدي مفهوم الذات الفاعلة على أنّها ذات تمتلك قوة الاقتدار، بما هي إرادة تنامي المقدرة والنزوع إلى خلق المعنى، فتؤسس لفلسفة حياة تقوم على الفعل المؤسس بدوره للتفاهم والتواصل.
كما نجد ضمن هذا الباب دروبًا أخرى كان لها من التنقيب والبحث في النصوص الفلسفية الغربية الجهد الوافر، ونخص بالذكر كل من: المولدي عزديني، وبوالسكك عبد الغني، وبثينة النصيري، وشراد فايزة، ونبيل محمد الصغير.
الباب الثالث - فلسفة الفعل في الفكر العربي:
إن مساءلة مفهوم الفعل في المتون الفلسفية العربية والإسلامية تكاد تكون مجازفة من دون طائل، على اعتبار أننا استغرقنا وقتًا طويلًا في القول دون ولوج عالم الفعل، وكذا هيمنة قوى النفي ورد الفعل على قوى الإثبات والفعل، ومع ذلك نجد بعض الفاعلين ممن ناب بالفعل لأجل الكف عن التأملات المشحونة بالأحلام السخيفة، والاشتغال على بعث فلسفة وثقافة للفعل.
يضم الكتاب جملة من الأبحاث تتناول منظورية عربية معاصرة لفلسفة الفعل من بينها، مقال عنوانه "الفعل التاريخي والوعي التحرري، قراءة في مفهوم الإصلاح عند علي شريعتي" للباحث الجزائري (الحاج أوحمنه دواق) يكشف فيه أن الفعل لازمة من لوازم التاريخ، بل أكثر من ذلك أنه (لا فعل خارج التاريخ ولا تاريخ قبل الفعل) فتبدأ لحظة الوجود المرتهن بالوعي أشد الارتهان؛ لأن الوعي طاقة نابعة من قوة الذات "تنتهي إلى صياغة وإعادة صياغة كل شيء وفق منظورها"[8] ومنه يكون الوعي هو المحقق للفعل التاريخي، باعتباره مسيرة أنطولوجية يحقق فيها الإنسان ذاته، ويشارك الآخرين في بناء العالم، كما يشير الباحث (الحاج دواق) إلى لازمة ضرورية (أن الوعي يجعل الذات حاضرة في العالم وفاعلة فيه، وإلا كانت ذاتًا منفعلة تعيش لحظة زمانية لا نبضة تاريخية).
كما لا يفوتنا أن ننوّه ضمن هذا الأفق العربي والإسلامي بأبحاث كلٍّ من محمد الشريف الطاهر، رشيدة السمين، عمر بدري، وسامي غابري.
لا نجانب الصواب أن نختتم هذه القراءة بأن التأسيس لفلسفة الفعل هو ما يقود إلى إثبات الذات، وبالأحرى إثبات اختلافها، وعندها ينتصر الفعل على رد الفعل والحرية على العبودية؛ لأن "الأحرار فقط يكونون في غاية عرفان الجميل في ما بينهم"[9].
[1] عبد العزيز العيادي، "فلسفة الفعل: من محاولات التأسيس إلى آفاق النقد" منشورات الاختلاف، الجزائر، ط01، 2015، ص 12
[2] البشير ربوح، فلسفة الفعل، المرجع السابق، ص 17
[3] فاطمة حداد الشامخ، الفلسفة النسقية ونسق الفلسفة السياسية عند سبينوزا، تر جلال الدين سعيد، دار سيناترا، تونس 1980، ص 89
[4] البشير ربوح، المرجع السابق، ص 20
[5] عبد القادر بوعرفة، فلسفة الفعل، الماهية والعوائق، ص 46
[6] نبيل فازيو، الفعل السياسي ومشكلة الحرية (حنة أرندت والخروج من الذاتية)، ص 209
[7] زهير الخويلدي، مسار الفعل من الوصف والسرد إلى الاقتدار والالتزام، ص 261
[8] الحاج دواق، الفعل التاريخي والوعي التحرري...، ص 374
[9] سبينوزا، علم الأخلاق، تر جلال الدين سعيد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط01، 2009، ص 299