التأويليات وتاريخها: نحو بدايات أخرى
فئة : قراءات في كتب
التأويليات وتاريخها: نحو بدايات أخرى
التعريف بالكتاب
صدر عن دار مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2023م، كتاب "التأويليات وتاريخها: نحو بدايات أخرى"، ويضم الكتاب أعمال الملتقى الذي كان قد تقرر انعقاده في نطاق الأنشطة العلمية لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث عام 2020م، وقد نسق أعماله الدكتور فتحي إنقزو، وهي أعمال مهداة إلى المثقف التونسي والمختص في التأويليات الدكتور محمد أبو هاشم محجوب، وقد لقب بشيخ التأويلية العربية، تكريماً له على ما بذل من جهد تدريساً وبحثاً وكتابة وترجمة في مختلف الحقول الفكرية التي تعنى بالدرس التأويلي، وهو أحد كبار مترجمي أعمال مارتن هيدغر. ولد محمد محجوب في 1953م. درس الفلسفة على يد فاطمة حداد الشامخ وعلوما أخرى على يد عبد الوهاب بوحديبة. عمل أستاذا جامعيا في الفلسفة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، ثم عمل عميدا لنفس الكلية. اشتغل بعد ذلك مديرا للمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس ومديرا لدار المعلمين العليا بتونس ومديرا للمركز الوطني للترجمة. وترأس من 2011 إلى 2012 المجمع التونسي للعلوم والفنون والآداب (بيت الحكمة). يتقن عدة لغات من بينها العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية واليونانية القديمة.
أهمية هذا الكتاب، أنه يجمع حزمة من الدراسات، ينتمي أصحابها إلى حقول معرفية وتخصصات متعددة، من بينها تخصص الفلسفة والأدب والفكر الإسلامي والتاريخ...بهذا التعدد من جهة التخصص جمع لنا الكتاب عصارة مختلف وجهات النظر، حول المعرفة التأويلية في القديم والحديث، في الثقافة الإسلامية وفي الثقافة الغربية؛ فالقارئ سيجد في الكتاب رؤية تكاملية لموضوع التأويل، وهو موضوع لا هروب عنه في حل الكثير من إشكالات المعرفة المعاصرة، سواء في نظرة كل من الشرق والغرب لبعضهما البعض، أو من جهة ماضي الشرق وحاضره، أو ماضي الغرب وحاضره، وبشكل أعم في نظرة الإنسان لحاضره وماضيه وسؤال المستقبل لديه.
فعناوين الأبحاث التي يضمها الكتاب كالتالي: أهاليج هرمينوتيقية: المختصر في الهرمينوتيقا على الطريقة الهندسية (جان غرايش فتحي إنقزّو)، العنصر الإغريقي في أنطولوجيا هايدغر الأساسية: من أرسطو إلى برمانيدس (محمد أبو هاشم محجوب)، تأويليات الحدثية: مدخل أساسي إلى فكر هايدغر (عماد عماري)، حقيقة ما بعد الحقيقة (فتحي التريكي)، أسئلة الترجمة بين الإبدال النسقي والإبدال السياقي (محمد الحيرش)، التأويل والترجمة في أفق الغيرية (عبد العزيز بومسهولي)، السيرة الذاتية الفلسفية بوصفها تأويلاً فينومينولوجيا (سعيد توفيق)، تأويلية الحداثة: بحث في الممكنات والحدود (محمد البوبكري)، حدس المفرد بين التجربة الدينية والتجربة الفلسفية: قراءة في «أحاديث» شلايرماخر (فتحي إنقزو)، إعادة بناء التجربة التأويلية في القرن الأول الهجري: استئنافات لبدايات أخرى (رسول محمد رسول)، القصص القرآني ورهانات المؤولين (فيصل الشطي)، التأويل: رؤية قرآنية (صابر مولاي أحمد)، تأويلية النص القرآني: القراءات القرآنية والفرق الإسلامية أنموذجاً (المنجي الأسود).
التأويل أيضاً ليس ابناً للحاضر فحسب، حاضر الاتصال الفوري بين العقول، وحاضر الفهم لما ينطق به الغير، وحاضر التزامن الفعلي بين الناس في حياتهم، تربط بينهم آصرة الجمع البشري لما فيهم من احتياج لذلك في معاشهم ومحياهم، وإنما هو تاريخ أو له نسبه إلى التاريخ بأكثر من وجه: وجه التاريخ العام للإنسانية الذي يحفل بالمادة والرصيد مما ترك السابقون، ووجه تاريخه هو من حيث تنتظم الأقاويل التأويلية والنظريات والمقالات في سياق نموذجي موحد.[1]
من بين طروحات الكتاب
البحث المعنون بـ: تأويليات الحدثية: مدخل أساسي إلى فكر هايدغر، بين من خلاله عماد عماري، وهو يتحدث بلسان هايدغر، بأن الإشارات التي ينبغي التقاطها، هي تلك التي تتعلّق بدلالة الهرمينوتيقا ذاتها، بما هي تمرين فلسفي ودربة فينومينولوجية شاقة ودقيقة تساعد على رؤية الحياة في حدثيتها وتكشفّها. أجل إننا أمام تجربة فريدة تزرع القلق بداخلنا من أجل اليقظة والتيقظ، وستظل الهرمينوطيقا بغير ما جدوى طالما لم يكن هذا التيقظ للحدثية الذي ينبغي عليها تعهده. وعليه، سيكون على عبارة الهرمينوتيقا أن تُفهم هنا بما هي توجه ومساءلة وإبانة عن الحدثية وكيفية أساسية في تذوقها ومعاشرتها. وفعلا، فإنّ الانشغال الهرمينوتيقي عند هايدغر لا يمكن أن يكون مجال «استدلالات عامة ولا موضوع لنقاشات عمومية. لقد صارت الهرمينوتيقا معه يقظة وجدانية متأهبة، لا تهدف إلى المعرفة، بل إلى التعرّف الذي يدفع الموجد إلى ملاقاة نفسه. أجل إن «التحير الأساسي في الهرمينوطيقا وفي مشوفها: الموضوع: لا يكون الموجد إلا في نفسه.[2]
أما البحث المعنون بـ: حقيقة ما بعد الحقيقة، فتحي التريكي، فهو يرى فكرة «ما بعد الحقيقة»، ظهرت في سياق الانتقاد الجذري وغير المسبوق لنمط إنتاج الحقيقة وُلدت، حيث يجتهد بعض المفكرين والفلاسفة ليرفعوها إلى درجة المفهوم كما يجتهد آخرون على دحضها واعتبارها مرادفة للكذب والبهتان. ولكنّنا في تحديدنا لهذه الفكرة، يجب أن نؤكّد الوضعية الجديدة للحقيقة بعد أن مرت بالمراحل والأنظمة التي ذكرناها سابقا. طبعا، قد يضطر من يستعمل «ما بعد الحقيقة» للكذب والبهتان لدعم أفكاره ونظرته الإيديولوجية للعالم، ولاسيما إذا كان هذا الكذب ناجعاً وفعالاً. ولكن تصور «ما بعد الحقيقة» أكثر خبثاً؛ فهو يصل إلى عامّة النّاس لابساً لباس الحقيقة التي يمكننا تدقيقها وتصديقها على المستوى الوجداني، بينما الكذب يكون قابلاً للـفضح عقلاً ووجداناً.
على هذا الأساس، يمكننا تأكيد الصبغة الوجدانية لفكرة «ما بعد الحقيقة». فالناشطون السياسيون الآن يزعمون في كثير من الأحيان أنهم يقولون الحق، ويبحثون عن الحقيقة الصافية والآنية دون واسطة المفكرين والمثقفين دون اللجوء إلى التحقق والتدقيق؛ أي دون مرجع علمي؛ وذلك لا يمكن أن يكون إلا على الصعيد الوجداني. أما العقل، فهو يتطلب حتما استعمال القوانين والقواعد المنطقية للتحقق من تماسك القول وتطابقه مع موضوعه.[3]
ويرى محمد الحرش من خلال بحث، أسئلة الترجمة بين الإبدال النسقي والإبدال السياقي، أن اللغة هي أن تعرب كل جماعة متكلمة عن هويتها وعن تجليات علاقتها بالآخر وحاجتها إليه. إنها ذلك المتاحُ الذي في كنفه يتأتى لجماعة لغوية محددة اجتماعياً وثقافياً أن تخوض تجربة العالم وتوجدَ فيه لا على نحو من الأحادية والانطواء، وإنما على نحو من الانفتاح الذي يتحقق ضمن وجود بالمعية تتفاعل فيه اللغات وتتبادل فيما بينها أواصر الجوار والتواصل. لذلك ما كانت الترجمة قرينة الأحادية اللغوية أو الانطواء الفكري والثقافي، بل كانت ولا تزال قرينة التعدد تحيا بين اختلاف اللغات وتتناقل «خبرات متفاوتة من الفكر» وتجارب متنوعة من الخلق والإبداع.[4]
وفي بحث، التأويل والترجمة في أفق الغيرية، يرى عبد العزيز بومسهولي، الترجمة ليست ممكنة؛ لأنها تأويل يتمّ من خلاله تجاوز الهوة الفاصلة بين اللغات؛ وذلك بنقل عمل الغير في عالم لغة ما، إلى عالم لغة أخرى؛ والأكثر من ذلك، أن الترجمة ممكنة حتى في اللغة الواحدة عينها، إذ لو كانت الترجمة غير ممكنة في اللغة عينها، لما كانت هناك حاجة لتأويل هذه اللغة عينها ضمن حدود مجالها التداولي الخاص؛ أي لما كان هناك تعبير قط، من حيث إن التعبير ترجمة للعالم بامتياز تتم على نحو مباشر. لذلك نحن نحتاج في كل لحظة وحين أن نؤول معاني وجودنا، فنترجمها إلى تعبير؛ والإنسان ليس هو ما يعبر عنه فقط، بل هو بحد ذاته تعبير. ومعنى ذلك أن التعبير ليس مجرد وسيلة لترجمة مشاعر الإنسان المتدفقة، وتمثلاته الذهنية، وحدوساته الشخصية، وأفكاره العقلية، ومواقفه المستجدة، إلى سلوك لغوي بوصفه معبراً عنه؛ أي إلى لغة للتواصل تعبر عن مستوى إدراكه للعالم فقط، بل إن التعبير أيضاً هو صفة جوهرية للإنسان، حيث إن كينونته لا تنكشف في العالم إلا كتعبير، وبما هي كذلك، فإنها تعبر بالمقابل عن العالم برمته، بالمفهوم اللايبنتيسي، وهو ما سنعود له لاحقاً.[5]
ويرى سعيد توفيق، من خلال بحث، السيرة الذاتية الفلسفية بوصفها، تأويلاً فينومينولوجياً، أن من المدهش أن فن رواية السيرة الذاتية الفلسفية، هو نفسه نوع من ممارسة التأويل الفينومينولوجي، ومفاهيم الفينومينولوجيا وطرائقها في البحث والنظر تكون هنا بمثابة أصل كل تأويل يمارسه المؤلف في تناوله للحياة ولعالمه المعيش، حتى إذا لم يكن المؤلف نفسه واعيا بذلك. [6]
أما بحث، إعادة بناء التجربة التأويلية في القرن الأول الهجري، يرى محمد رسول، أن تأصيل التأويل في التاريخ العربي الإسلامي، غالباً ما يتجنّب الباحثون المتخصصون في التأويل والتفسير الكلام عن نشأة التأويل في القرن الأول الهجري بدعوى غيابه وغموضه، ويذهبون إلى القرون التالية عليه، حيث ظهور بعض تفاسير كتاب الله (القرآن) مدوّنة.
ومع ذلك، لا يكاد أمر التأويل يعود إلى نهاية القرن الأول الهجري فحسب، إنما يعود إلى بدايات ذلك القرن، وفي رأينا أنه بدأ مع شروق آيات وسور (القرآن) متبوعاً بالتجربة النبوية المحمديّة؛ ولاسيما أن كتاب الله (القرآن) تضمن تجارب تأويلية في غير سورة فيه، كما أن الرسول عزز حالة التأويل في غير واقعة وحديث شريف له، ولم يكن يستغرب ملفوظ «تأويل»، عندما ترد حروفه على سطح لسانه لكون هذا الملفوظ كان مذكوراً في المتن القرآني أصلاً. ومن هنا نعتقد أن تجديد النظر في بدايات التأويل في القرن الأول الهجري يعدُّ منحى مرغوباً فيه من أجل قراءة جادّة في هذا المجال عبر إعادة بناء معالم التأويل كبداية أخرى.[7]
[1] مقدمة الكتاب
[2] انظر: بحث، تأويليات الحديثة: مدخل أساسي إلى فكر هايدغر، من الكتاب
[3] انظر بحث، حقيقة ما بعد الحقيقة، من الكتاب
[4] بحث، أسئلة الترجمة بين الإبدال النسقي والإبدال السياقي، من الكتاب
[5] أنظر: بحث، التأويل والترجمة في أفق الغيرية، من الكتاب
[6] انظر: بحث، السيرة الذاتية الفلسفية بوصفها، تأويلاً فينومينولوجياً، من الكتاب
[7] انظر: بحث، إعادة بناء التجربة التأويلية في القرن الأول الهجري، من الكتاب.